تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 182 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 182

182 : تفسير الصفحة رقم 182 من القرآن الكريم

** وَاعْلَمُوَا أَنّمَا غَنِمْتُمْ مّن شَيْءٍ فَأَنّ للّهِ خُمُسَهُ وَلِلرّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىَ وَالْيَتَامَىَ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّهِ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَىَ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
يبين تعالى تفصيل ما شرعه مخصصاً لهذه الأمة الشريفة, من بين سائر الأمم المتقدمة بإحلال الغنائم. والغنيمة هي المال المأخوذ من الكفار, بإيجاف الخيل والركاب, والفيء ما أخذ منهم بغير ذلك, كالأموال التي يصالحون عليها أو يتوفون عنها, ولا وارث لهم, والجزية والخراج ونحو ذلك, هذا مذهب الإمام الشافعي في طائفة من علماء السلف والخلف. ومن العلماء من يطلق الفيء على ما تطلق عليه الغنيمة, وبالعكس أيضاً, ولهذا ذهب قتادة إلى أن هذه الاَية ناسخة لاَية الحشر {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى} الاَية, قال فنسخت آية الأنفال تلك, وجعلت الغنائم أربعة أخماس للمجاهدين, وخمساً منها لهؤلاء المذكورين, وهذا الذي قاله بعيد, لأن هذه الاَية نزلت بعد وقعة بدر, وتلك نزلت في بني النضير, ولا خلاف بين علماء السير والمغازي قاطبة, أن بني النضير بعد بدر, وهذا أمر لا يشك فيه ولا يرتاب, فمن يفرق بين معنى الفيء والغنيمة, يقول تلك نزلت في أموال الفيء, وهذه في الغنائم, ومن يجعل أمر الغنائم والفيء راجعاً إلى رأي الإمام, يقول: لا منافاة بين آية الحشر وبين التخميس, إذا رآه الإمام والله أعلم. فقوله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} توكيد لتخميس كل قليل وكثير حتى الخيط والمخيط, قال الله تعالى: {ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون}, وقوله {فأن لله خمسه وللرسول} اختلف المفسرون ههنا, فقال بعضهم: لله نصيب من الخمس يجعل في الكعبة. قال أبو جعفر الرازي, عن الربيع عن أبي العالية الرياحي, قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم, يؤتى بالغنيمة فيخمسها على خمسة, تكون أربعة أخماس لمن شهدها, ثم يأخذ الخمس فيضرب بيده فيه, فيأخذ منه الذي قبض كفه فيجعله للكعبة وهو سهم الله, ثم يقسم ما بقي على خمسة أسهم فيكون سهم للرسول, وسهم لذوي القربى, وسهم لليتامى, وسهم للمساكين, وسهم لابن السبيل, وقال آخرون: ذكر الله ههنا استفتاح كلام للتبرك, وسهم لرسوله عليه السلام, قال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما, كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية فغنموا خمس الغنيمة, فضرب ذلك الخمس في خمسة, ثم قرأ {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول} فأن لله خمسه, مفتاح كلام {لله ما في السموات وما في الأرض} فجعل سهم الله وسهم الرسول صلى الله عليه وسلم واحداً, وهكذا قال إبراهيم النخعي والحسن بن محمد بن الحنفية, والحسن البصري والشعبي وعطاء بن أبي رباح, وعبد الله بن بريدة وقتادة ومغيرة وغير واحد, أن سهم الله ورسوله واحد. ويؤيد هذا ما رواه الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي, بإسناد صحيح, عن عبد الله بن شقيق, عن رجل, قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى, وهو يعرض فرساً, فقلت يا رسول الله, ما تقول في الغنيمة ؟ فقال: «لله خمسها وأربعة أخماسها للجيش» قلت فما أحدأولى به من أحد ؟ قال: «لا ولا السهم تستخرجه من جيبك ليس أنت أحق به من أخيك المسلم».
وقال ابن جرير: حدثنا عمران بن موسى, حدثنا عبد الوارث, حدثنا أبان عن الحسن, قال: أوصى الحسن بالخمس من ماله, وقال ألا أرضى من مالي بما رضي الله لنفسه, ثم اختلف قائلوا هذا القول, فروى علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قال: كانت الغنيمة تخمس على خمسة أخماس, فأربعة منها بين من قاتل عليها, وخمس واحد يقسم على أربعة أخماس, فربع لله وللرسول صلى الله عليه وسلم, فما كان لله وللرسول فهو لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم, ولم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم من الخمس شيئاً, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو معمر المنقري, حدثنا عبد الوارث بن سعيد, عن حسين المعلم عن عبد الله بن بريدة في قوله {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول}, قال: الذي لله فلنبيه, والذي للرسول لأزواجه. وقال عبد الملك بن أبي سليمان, عن عطاء بن أبي رباح, قال: خمس الله والرسول واحد, يحمل منه ويصنع فيه ما شاء, يعني النبي صلى الله عليه وسلم, وهذا أعم وأشمل, وهو أنه صلى الله عليه وسلم يتصرف في الخمس الذي جعله الله بما شاء, ويرده في أمته كيف شاء, ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد حيث قال: حدثنا إسحاق بن عيسى, حدثنا إسماعيل بن عياش, عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم, عن أبي سلام الأعرج, عن المقدام بن معد يكرب الكندي, أنه جلس مع عبادة بن الصامت, وأبي الدرداء والحارث بن معاوية الكندي رضي الله عنهم, فتذاكروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال أبو الدرداء لعبادة: يا عبادة كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة كذا وكذا في شأن الأخماس, فقال عبادة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم في غزوة إلى بعير من المغنم, فلما سلم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتناول وبرة بين أنملتيه, فقال: «إن هذه من غنائمكم وإنه ليس لي فيها إلا نصيبي معكم الخمس, والخمس مردود عليكم, فأدوا الخيط والمخيط, وأكبر من ذلك وأصغر, ولا تغلوا فإن الغلول عار ونار على أصحابه في الدنيا والاَخرة, وجاهدوا الناس في الله القريب والبعيد, ولا تبالوا في الله لومة لائم, وأقيموا حدود الله في السفر والحضر, وجاهدوا في الله, فإن الجهاد باب من أبواب الجنة عظيم, ينجي الله به من الهم والغم», هذا حديث حسن عظيم, ولم أره في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه. ولكن روى الإمام أحمد أيضاً وأبو داود والنسائي, من حديث عمرو بن شعيب, عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه في قصة الخمس والنهي عن الغلول. وعن عمرو بن عنبسة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم إلى بعير من المغنم, فلما سلم أخذ وبرة من هذا البعير, ثم قال: «ولا يحل لي من غنائمكم مثل هذه إلا الخمس, والخمس مردود عليكم» رواه أبو داود والنسائي, وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم من الغنائم شيء يصطفيه لنفسه, عبد أو أمة أو فرس أو سيف أو نحو ذلك كما نص عليه محمد بن سيرين وعامر الشعبي, وتبعهما على ذلك أكثر العلماء. وروى الإمام أحمد والترمذي وحسنه عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تنفل سيفه ذا الفقار يوم بدر, وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد, وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت صفية من الصفي, رواه أبو داود في سننه, وروى أيضاً بإسناده والنسائي أيضاً عن يزيد بن عبد الله قال: كنا بالمربد إذ دخل رجل معه قطعة أديم, فقرأناها فإذا فيها «من محمد رسول الله إلى بني زهير بن قيس إنكم إن شهدتم أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأقمتم الصلاة, وآتيتم الزكاة, وأديتم الخمس من المغنم, وسهم النبي صلى الله عليه وسلم, وسهم الصفي, أنتم آمنون بأمان الله ورسوله» فقلنا من كتب هذا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم, فهذه أحاديث جيدة تدل على تقرير هذا وثبوته, ولهذا جعل ذلك كثيرون من الخصائص له صلوات الله وسلامه عليه, وقال آخرون: إن الخمس يتصرف فيه الإمام بالمصلحة للمسلمين, كما يتصرف في مال الفيء, وقال شيخنا الإمام العلامة ابن تيمية رحمه الله: وهذا قول مالك وأكثر السلف,)وهو أصح الأقوال. فإذا ثبت هذا وعلم, فقد اختلف أيضاً في الذي كان يناله عليه السلام من الخمس, ماذا يصنع به من بعده, فقال قائلون يكون لمن يلي الأمر من بعده, روي هذا عن أبي بكر وعلي وقتادة وجماعة. وجاء فيه حديث مرفوع, وقال آخرون: يصرف في مصالح المسلمين, وقال آخرون: بل هو مردود على بقية الأصناف, ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل, اختاره ابن جرير, وقال آخرون: بل سهم النبي صلى الله عليه وسلم وسهم ذوي القربى, مردودان على اليتامى والمساكين وابن السبيل. قال ابن جرير: وذلك قول جماعة من أهل العراق, وقيل إن الخمس جميعه لذوي القربى, كما رواه ابن جرير, حدثنا الحارث, حدثنا عبد العزيز, حدثنا عبد الغفار, حدثنا المنهال بن عمرو, سألت عبد الله بن محمد بن علي, وعلي بن الحسين عن الخمس, فقالا: هو لنا, فقلت لعلي: فإن الله يقول {واليتامى والمساكين وابن السبيل} فقالا: يتامانا ومساكيننا, وقال سفيان الثوري وأبو نعيم وأبو أسامة, عن قيس بن مسلم, سألت الحسن بن محمد بن الحنفية رحمه الله تعالى, عن قول الله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول} فقال: هذا مفتاح كلام, لله الدنيا والاَخرة, ثم اختلف الناس في هذين السهمين, بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال قائلون: سهم النبي صلى الله عليه وسلم تسليماً للخليفة من بعده, وقال آخرون لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم وقال آخرون: سهم القرابة لقرابة الخليفة, واجتمع رأيهم أن يجعلوا هذين السهمين في الخيل والعدة في سبيل الله, فكانا على ذلك في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما, قال الأعمش عن إبراهيم: كان أبو بكر وعمر يجعلان سهم النبي صلى الله عليه وسلم في الكراع والسلاح, فقلت لإبراهيم ما كان علي يقول فيه ؟ قال: كان أشدهم فيه, وهذا قول طائفة كثيرة من العلماء رحمهم الله, وأما سهم ذوي القربى, فإنه يصرف إلى بني هاشم وبني المطلب, لأن بني المطلب وازروا بني هاشم في الجاهلية وفي أول الإسلام, ودخلوا معهم في الشعب غضباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحماية له, مسلمهم طاعة لله ولرسوله, وكافرهم حمية للعشيرة وأنفة وطاعة لأبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأما بنو عبد شمس وبنو نوفل, وإن كانوا بني عمهم, فلم يوافقوهم على ذلك, بل حاربوهم ونابذوهم ومالؤوا بطون قريش على حرب الرسول, ولهذا كان ذم أبي طالب لهم في قصيدته اللامية أشد من غيرهم, لشدة قربهم, ولهذا يقول في أثناء قصيدته:
جزى الله عنّا عبد شمس ونوفلاعقوبة شر عاجل غير آجل
بميزان قسط لا يخيس شعيرةله شاهد من نفسه غير عائل
لقد سفهت أحلام قوم تبدلوابني خلف قيضاً بنا والعياطل
ونحن الصميم من ذؤابة هاشموآل قصي في الخطوب الأوائل
وقال جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل: مشيت أنا وعثمان بن عفان, يعني ابن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس, إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله أعطيت بني المطلب من خمس خيبر وتركتنا, ونحن وهم منك بمنزلة واحدة, فقال: «إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد» رواه مسلم. وفي بعض روايات هذا الحديث, «إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام», وهذا قول جمهور العلماء, إنهم بنو هاشم وبنو المطلب. قال ابن جرير وقال آخرون: هم بنو هاشم, ثم روي عن خصيف عن مجاهد, قال: علم الله أن في بني هاشم فقراء, فجعل لهم الخمس مكان الصدقة, وفي رواية عنه قال: هم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين لا تحل لهم الصدقة, ثم روى عن علي بن الحسين نحو ذلك, قال ابن جرير وقال آخرون: بل هم قريش كلها, حدثني يونس بن عبد الأعلى, حدثني عبد الله بن نافع, عن أبي معشر, عن سعيد المقبري, قال: كتب نجدة إلى عبد الله بن عباس يسأله عن ذوي القربى, فكتب إليه ابن عباس, كنا نقول: إنا هم, فأبى علينا ذلك قومنا, وقالوا قريش كلها ذوو قربى وهذا الحديث صحيح, رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث سعيد المقبري, عن يزيد بن هرمز أن نجدة كتب إلى ابن عباس يسأله عن ذوي القربى, فذكره إلى قوله: فأبى ذلك علينا قومنا, والزيادة من أفراد أبي معشر نجيح بن عبد الرحمن المدني, وفيه ضعف, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا إبراهيم بن مهدي المصيصي, حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه عن حنش عن عكرمة عن ابن عباس, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رغبت لكم عن غسالة الأيدي, لأن لكم من خمس الخمس ما يغنيكم أو يكفيكم», هذا حديث حسن الإسناد, وإبراهيم بن مهدي هذا وثقه أبو حاتم, وقال يحيى بن معين: يأتي بمناكير, والله أعلم. وقوله {واليتامى} أي أيتام المسلمين, واختلف العلماء هل يختص بالأيتام الفقراء, أو يعم الأغنياء والفقراء ؟ على قولين, والمساكين هم المحاويج الذين لا يجدون ما يسد خلتهم ومسكنتهم, {وابن السبيل} هو المسافر أو المريد للسفر إلى مسافة تقصر فيها الصلاة, وليس له ما ينفقه في سفره ذلك, وسيأتي تفسير ذلك في آية الصدقات من سورة براءة إن شاء الله تعالى, وبه الثقة وعليه التكلان.
وقوله {إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدن} أي امتثلوا ما شرعنا لكم من الخمس في الغنائم, إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الاَخر, وما أنزل على رسوله, ولهذا جاء في الصحيحين من حديث عبد الله بن عباس في حديث وفد عبد القيس, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: «وآمركم بأربع, وأنهاكم عن أربع. آمركم بالإيمان بالله ـ ثم قال ـ هل تدرون ما الإيمان بالله ؟ شهادة أن لا إله إلا الله, وأن محمداً رسول الله, وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة, وأن تؤدوا الخمس من المغنم», الحديث بطوله, فجعل أداء الخمس من جملة الإيمان, وقد بوب البخاري على ذلك في كتاب الإيمان من صحيحه, فقال: (باب أداء الخمس من الإيمان) ثم أورد حديث ابن عباس هذا, وقد بسطنا الكلام عليه في شرح البخاري, ولله الحمد والمنة, وقال مقاتل بن حيان: {وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان} أي في القسمة, وقوله {يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير}, ينبه تعالى على نعمته وإحسانه إلى خلقه, بما فرق به بين الحق والباطل ببدر, ويسمى الفرقان, لأن الله أعلى فيه كلمة الإيمان على كلمة الباطل وأظهر دينه ونصر نبيه وحزبه, قال علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس: يوم الفرقان يوم بدر, فرق الله فيه بين الحق والباطل, رواه الحاكم, وكذا قال مجاهد ومقسم وعبيد الله بن عبد الله والضحاك وقتادة ومقاتل بن حيان وغير واحد أنه يوم بدر, وقال عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير في قوله {يوم الفرقان} يوم فرق الله بين الحق والباطل, وهو يوم بدر, وهو أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان رأس المشركين عتبة بن ربيعة, فالتقوا يوم الجمعة لتسع عشرة أو سبع عشرة مضت من رمضان, وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً, والمشركون ما بين الألف والتسعمائة, فهزم الله المشركين, وقتل منهم زيادة على السبعين, وأسر منهم مثل ذلك, وقد روى الحاكم في مستدركه من حديث الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن ابن مسعود, قال في ليلة القدر: تحروها لإحدى عشرة يبقين, فإن في صبيحتها يوم بدر, وقال على شرطهما, وروي مثله, عن عبد الله بن الزبير أيضاً, من حديث جعفر بن برقان, عن رجل عنه, وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد, حدثنا يحيى بن واضح, حدثنا يحيى بن يعقوب أبو طالب, عن ابن عون عن محمد بن عبد الله الثقفي, عن أبي عبد الرحمن السلمي, قال: قال الحسن بن علي: كانت ليلة الفرقان يوم التقى الجمعان لسبع عشرة من رمضان, إسناد جيد قوي, ورواه ابن مردويه, عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب عن علي قال: كانت ليلة الفرقان, ليلة التقى الجمعان, في صبيحتها ليلة الجمعة لسبع عشرة مضت من شهر رمضان, وهو الصحيح عند أهل المغازي والسير, وقال يزيد بن أبي حبيب إمام أهل الديار المصرية في زمانه: كان يوم بدر يوم الاثنين, ولم يتابع على هذا, وقول الجمهور مقدم عليه, والله أعلم.

** إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَىَ وَالرّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَـَكِن لّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ وَيَحْيَىَ مَنْ حَيّ عَن بَيّنَةٍ وَإِنّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ
يقول تعالى مخبراً عن يوم الفرقان {إذ أنتم بالعدوة الدني} أي إذ أنتم نزول بعدوة الوادي الدنيا القريبة إلى المدينة, {وهم} أي المشركون نزول {بالعدوة القصوى} أي البعيدة من المدينة إلى ناحية مكة, {والركب} أي العير الذي فيه أبو سفيان بما معه من التجارة, {أسفل منكم} أي مما يلي سيف البحر, {ولو تواعدتم} أي أنتم والمشركون إلى مكان {لاختلفتم في الميعاد}, قال محمد بن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير, عن أبيه, في هذه الاَية, قال: ولو كان ذلك عن ميعاد منكم ومنهم, ثم بلغكم كثرة عددهم وقلة عددكم, ما لقيتموهم {ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعول} أي ليقضي الله ما أراد بقدرته من إعزاز الإسلام وأهله, وإذلال الشرك وأهله, من غير ملأ منكم, ففعل ما أراد من ذلك بلطفه, وفي حديث كعب بن مالك قال: إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون, يريدون عير قريش, حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد, وقال ابن جرير: حدثني يعقوب حدثني ابن علية, عن ابن عون عن عمير بن إسحاق, قال: أقبل أبو سفيان في الركب من الشام, وخرج أبو جهل ليمنعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه, فالتقوا ببدر, ولا يشعر هؤلاء بهؤلاء, ولاهؤلاء بهؤلاء, حتى التقى السقاة, ونهد الناس بعضهم لبعض, وقال محمد بن إسحاق في السيرة: ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجهه ذلك, حتى إذا كان قريباً من الصفراء, بعث بسبس بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء الجهنيين, يلتمسان الخبر عن أبي سفيان, فانطلقا حتى إذا وردا بدراً, فأناخا بعيريهما إلى تل من البطحاء, فاستقيا في شن لهما من الماء, فسمعا جاريتين تختصمان, تقول إحداهما لصاحبتها اقضيني حقي, وتقول الأخرى إنما تأتي العير غداً أو بعد غد فأقضيك حقك, فخلص بينهما مجدي بن عمرو, وقال صدقت, فسمع بذلك بسبس وعدي, فجلسا على بعيريهما حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأخبراه الخبر, وأقبل أبو سفيان حين وليا وقد حذر, فتقدم أمام عيره, وقال لمجدي بن عمرو هل أحسست على هذا الماء من أحد تنكره ؟ فقال: لا والله, إلا أني قد رأيت راكبين أناخا إلى هذا التل فاستقيا من شن لهما ثم انطلقا, فجاء أبو سفيان إلى مناخ بعيريهما, فأخذ من أبعارهما ففته فإذا فيه النوى, فقال هذه والله علائف يثرب, ثم رجع سريعاً فضرب وجه عيره فانطلق بها فسَاحَل, حتى إذا رأى أنه قد أحرز عيره إلى قريش فقال: إن الله قد نجى عيركم وأموالكم ورجالكم فارجعوا, فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نأتي بدراً ـ وكانت بدر سوقاً من أسواق العرب ـ فنقيم بها ثلاثاً فنطعم بها الطعام, وننحر بها الجزر, ونسقى بها الخمر, وتعزف علينا القيان, وتسمع بنا العرب وبمسيرنا, فلا يزالون يهابوننا بعدها أبداً. فقال الأخنس بن شريق: يا معشر بني زهرة, إن الله قد أنجى اموالكم ونجى صاحبكم فارجعوا فرجعت بنو زهرة, فلم يشهدوها, ولا بنو عدي, قال محمد بن إسحاق: وحدثني يزيد بن رومان, عن عروة بن الزبير قال: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دنا من بدر, علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص والزبير بن العوام في نفر من أصحابه يتجسسون له الخبر, فأصابوا سقاة لقريش غلاماً لبني سعيد بن العاص, وغلاماً لبني الحجاج, فأتوا بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم, فوجدوه يصلي فجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونهما لمن أنتما ؟ فيقولان: نحن سقاة لقريش, بعثونا نسقيهم من الماء, فكره القوم خبرهما, ورجوا أن يكونا لأبي سفيان فضربوهما, فلما أزلقوهما قالا: نحن لأبي سفيان فتركوهما, وركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد سجدتين ثم سلم, وقال «إذا صدقاكم ضربتموهما, وإذا كذباكم تركتموهما, صدقا والله إنهما لقريش, أخبراني عن قريش» قالا هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى, والكثيب: العقنقل, فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم «كم القوم ؟» قالا: كثير. قال: «ما عدتهم ؟» قالا ما ندري. قال «كم ينحرون كل يوم ؟» قالا: يوماً تسعا ويوماً عشراً, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القوم ما بين التسعمائة إلى الألف» ثم قال لهما: «فمن فيهم من أشراف قريش ؟» قالا: عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو البختري بن هشام وحكيم بن حزام ونوفل بن خويلد والحارث بن عامر بن نوفل, وطعيمة بن عدي بن نوفل والنضر بن الحارث, وزمعة بن الأسود وأبو جهل بن هشام وأمية بن خلف ونبيه ومنبه ابنا الحجاج, وسهيل بن عمرو وعمرو بن عبد ود, فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس فقال: «هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها», قال محمد بن إسحاق رحمه الله تعالى: وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم, أن سعد بن معاذ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لما التقى الناس يوم بدر يا رسول الله, ألا نبني لك عريشاَ تكون فيه, وننيخ إليك ركائبك, ونلقى عدونا, فإن أظفرنا الله عليهم وأعزنا فذاك ما نحب, وإن تكن الأخرى, فتجلس على ركائبك وتلحق بمن وراءنا من قومنا, فقد والله تخلف عنك أقوام ما نحن بأشد لك حباً منهم, لو علموا أنك تلقى حرباً ما تخلفوا عنك, ويوازرونك وينصرونك. فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً, ودعا له به فبني له عريش, فكان فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ما معهما غيرهما. قال ابن إسحاق: وارتحلت قريش حين أصبحت, فلما أقبلت ورآها رسول الله صلى الله عليه وسلم تصوب من العقنقل, وهو الكثيب, الذي جاءوا منه إلى الوادي, فقال: «اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك اللهم أحنهم الغداة» وقوله: {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة}, قال محمد بن إسحاق: أي ليكفر من كفر بعد الحجة لما رأى من الاَية والعبرة, ويؤمن من آمن على مثل ذلك, وهذا تفسير جيد. وبسط ذلك أنه تعالى يقول: إنما جمعكم مع عدوكم في مكان واحد, على غير ميعاد, لينصركم عليهم ويرفع كلمة الحق على الباطل, ليصير الأمر ظاهراً والحجة قاطعة والبراهين ساطعة, ولا يبقى لأحد حجة, ولا شبهة, فحينئذ يهلك من هلك أي يستمر في الكفر من استمر فيه, على بصيرة من أمره, إنه مبطل لقيام الحجة عليه, {ويحيى من حيّ} أي يؤمن من آمن {عن بينة} أي حجة وبصيرة, والإيمان هو حياة القلوب, قال الله تعالى: {أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس} وقالت عائشة في قصة الإفك فهلك فيّ من هلك, أي قال فيها ما قال من البهتان والإفك. وقوله: {وإن الله لسميع} أي لدعائكم وتضرعكم واستغاثتكم به, {عليم} أي بكم, وأنكم تستحقون النصر على أعدائكم الكفرة المعاندين.

** إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَلَـَكِنّ اللّهَ سَلّمَ إِنّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ * وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِيَ أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلّلُكُمْ فِيَ أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الاُمُورُ
قال مجاهد: أراهم الله إياه في منامه قليلاً, وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك, فكان تثبيتاً لهم, وكذا قال ابن إسحاق وغير واحد, وحكى ابن جرير عن بعضهم, أنه رآهم بعينه التي ينام بها, وقد روى ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا يوسف بن موسى, حدثنا أبو قتيبة, عن سهل السراج عن الحسن في قوله: {إذ يريكهم الله في منامك قليل} قال بعينك, وهذا القول غريب, وقد صرح بالمنام ههنا, فلا حاجة إلى التأويل الذي لا دليل عليه, وقوله: {ولو أراكهم كثيراً لفشلتم} أي لجبنتم عنهم, واختلفتم فيما بينكم, {ولكن الله سلم} أي من ذلك, بأن أراكهم قليلاً {إنه عليم بذات الصدور} أي بما تكنه الضمائر وتنطوي عليه الأحشاء, {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور} وقوله: {وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليل} وهذا أيضاً من لطفه تعالى بهم, إذ أراهم إياهم قليلاً في رأي العين, فيجرؤهم عليهم ويطمعهم فيهم, قال أبو إسحاق السبيعي: عن أبي عبيدة, عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه, قال: لقد قللوا في أعيننا يوم بدر, حتى قلت لرجل إلى جنبي تراهم سبعين ؟ قال: لا بل هم مائة, حتى أخذنا رجلاً منهم فسألناه, فقال: كنا ألفاً, رواه ابن أبي حاتم وابن جرير, وقوله: {ويقللكم في أعينهم} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا سليمان بن حرب, حدثنا حماد بن زيد, عن الزبير بن الحارث عن عكرمة {وإذ يريكموهم إذ التقيتم} الاَية, قال: حضض بعضهم على بعض, إسناد صحيح, وقال محمد بن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير, عن أبيه في قوله تعالى: {ليقضي الله أمراً كان مفعول} أي ليلقي بينهم الحرب للنقمة ممن أراد الانتقام منه, والإنعام على من أراد تمام النعمة عليه من أهل ولايته, ومعنى هذا أنه تعالى أغرى كلاً من الفريقين بالاَخر, وقلله في عينه ليطمع فيه, وذلك عند المواجهة, فلما التحم القتال وأيد الله المؤمنين بألف من الملائكة مردفين, بقي حزب الكفار يرى حزب الإيمان ضعفيه, كما قال تعالى: {قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار} وهذا هو الجمع بين هاتين الاَيتين, فإن كلاً منهما حق وصدق, ولله الحمد والمنة.

** يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لّعَلّكُمْ تُفْلَحُونَ * وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوَاْ إِنّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِينَ
هذا تعليم من الله تعالى لعباده المؤمنين آداب اللقاء وطريق الشجاعة عند مواجهة الأعداء, فقال {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتو} ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن أبي أوفى, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظر في بعض أيامه التي لقي فيها العدو, حتى إذا مالت الشمس قام فيهم, فقال: «يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو, واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف» ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم, وقال: «اللهم منزل الكتاب, ومجري السحاب, وهازم الأحزاب, اهزمهم وانصرنا عليهم» وقال عبد الرزاق: عن سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن زياد, عن عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمرو, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية, فإذا لقيتموهم فاثبتوا واذكروا الله, فإن صخبوا وصاحوا فعليكم بالصمت», وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا إبراهيم بن هاشم البغوي, حدثنا أمية بن بسطام, حدثنا معتمر بن سليمان, حدثنا ثابت بن زيد عن رجل عن زيد بن أرقم عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً, قال: «إن الله يحب الصمت عند ثلاث عند تلاوة القرآن, وعند الزحف, وعند الجنازة» وفي الحديث الاَخر المرفوع, يقول الله تعالى: {إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو مناجز قرنه} أي لا يشغله ذلك الحال, عن ذكري ودعائي واستعانتي.
وقال سعيد بن أبي عروبة: عن قتادة في هذه الاَية, قال: افترض الله ذكره عند أشغل ما يكون عند الضرب بالسيوف, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عبدة بن سليمان, حدثنا ابن المبارك عن ابن جريج عن عطاء, قال: وجب الإنصات وذكر الله عند الزحف, ثم تلا هذه الاَية, قلت: يجهرون بالذكر ؟ قال: نعم, وقال أيضاً: قرأ علي يونس بن عبد الأعلى, أنبأنا ابن وهب, أخبرني عبد الله بن عياش عن يزيد بن فوذر عن كعب الأحبار, قال ما من شيء أحب إلى الله تعالى من قراءة القرآن والذكر, ولولا ذلك ما أمر الناس بالصلاة والقتال, ألا ترون أنه أمر الناس بالذكر عند القتال, فقال {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون} قال الشاعر:
ذكرتك والخطى يخطر بينناوقد نهلت فينا المثقفة السمر
وقال عنترة:
ولقد ذكرتك والرماح نواهلمني وبيض الهند تقطر من دمي
فأمر تعالى بالثبات عند قتال الأعداء والصبر على مبارزتهم, فلا يفروا ولا ينكلوا ولا يجبنوا, وأن يذكروا الله في تلك الحال ولا ينسوه, بل يستعينوا به ويتوكلوا عليه ويسألوه النصر على أعدائهم, وأن يطيعوا الله ورسوله في حالهم ذلك, فما أمرهم الله تعالى به ائتمروا, وما نهاهم عنه انزجروا, ولا يتنازعوا فيما بينهم أيضاً فيختلفوا فيكون سبباً لتخاذلهم وفشلهم, {وتذهب ريحكم} أي قوتكم وحدتكم, وما كنتم فيه من الإقبال, {واصبروا إن الله مع الصابرين} وقد كان للصحابة رضي الله عنهم في باب الشجاعة والائتمار بما أمرهم الله ورسوله به, وامتثال ما أرشدهم إليه ما لم يكن لأحد من الأمم والقرون قبلهم, ولا يكون لأحد ممن بعدهم, فإنهم ببركة الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته فيما أمرهم, فتحوا القلوب والأقاليم شرقاً وغرباً في المدة اليسيرة, مع قلة عددهم بالنسبة إلى جيوش سائر الأقاليم, من الروم والفرس والترك والصقالية والبربر والحبوش, وأصناف السودان والقبط وطوائف بني آدم. قهروا الجميع حتى علت كلمة الله, وظهر دينه على سائر الأديان, وامتدت الممالك الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها, في أقل من ثلاثين سنة, فرضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين, وحشرنا في زمرتهم إنه كريم وهاب.