تفسير الطبري تفسير الصفحة 182 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 182
183
181
 الآية : 41
القول في تأويل قوله تعالى:
{وَاعْلَمُوَا أَنّمَا غَنِمْتُمْ مّن شَيْءٍ فَأَنّ للّهِ خُمُسَهُ وَلِلرّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىَ وَالْيَتَامَىَ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّهِ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَىَ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }.
قال أبو جعفر: وهذا تعليم من الله عزّ وجلّ المؤمنين قسم غنائمهم إذا غنموها, يقول تعالى ذكره: واعلموا أيها المؤمنون أنما غنمتم من غنيمة.
واختلف أهل العلم في معنى الغنيمة والفيء, فقال بعضهم: فيهما معنيان كلّ واحد منهما غير صاحبه. ذكر من قال ذلك:
12554ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا حميد بن عبد الرحمن, عن الحسن بن صالح, قال: سألت عطاء بن السائب عن هذه الاَية: وَاعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وهذه الاَية: ما أفاءَ اللّهُ عَلى رسُولهِ قال قلت: ما الفيء وما الغنيمة؟ قال: إذا ظهر المسلمون على المشركين وعلى أرضهم, وأخذوهم عنوة فما أخذوا من مال ظهروا عليه فهو غنيمة, وأما الأرض فهي في سوادنا هذا فيء.
وقال آخرون: الغنيمة ما أُخذ عَنْوة. والفيء: ما كان عن صلح. ذكر من قال ذلك:
12555ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان الثوري, قال: الغنيمة: ما أصاب المسلمون عنوة بقتال فيه الخمس, وأربعة أخماسه لمن شهدها. والفيء: ما صولحوا عليه بغير قتال, وليس فيه خمس, هو لمن سَمّى الله.
وقال آخرون: الغنيمة والفيء بمعنى واحد. وقالوا: هذه الاَية التي في الأنفال ناسخة قولَه: ما أفاءَ اللّهُ على رَسُولِهِ مِنْ أهْلِ القُرَى فَلِلّهِ وللرسُولِ... الاَية. ذكر من قال ذلك:
12556ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الأعلى, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, في قوله: ما أفاءَ اللّهُ على رَسُولِهِ مِنْ أهْلِ القُرَى فَلَلّهِ وللرسُولِ وَلِذِي القُرْبَى واليَتامَى والمَساكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ قال: كان الفيء في هؤلاء, ثم نسخ ذلك في سورة الأنفال, فقال: وَاعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى واليَتامَى والمَساكِينِ وَابْنِ السّبيلِ فنسخت هذه ما كان قبلها في سورة الحشر, وجعل الخمس لمن كان له الفيء في سورة الحشر, وسائر ذلك لمن قاتل عليه.
وقد بيّنا فيما مضى الغنيمة, وأنها المال يوصل إليه من مال من خوّل الله ماله أهل دينه بغلبة عليه وقهر بقتال. فأما الفيء, فإنه ما أفاء الله على المسلمين من أموال أهل الشرك, وهو ما ردّه عليهم منها بصلح, من غير إيجاف خيل ولا ركاب. وقد يجوز أن يسمى ما ردّته عليهم منها سيوفهم ورماحهم وغير ذلك من سلاحهم فيئا, لأن الفيء إنما هو مصدر من قول القائل: فاء الشيء يَفيءُ فَيْئا: إذا رجع, وأفاءه الله: إذا ردّه. غير أن الذي ورد حكم الله فيه من الفيء يحكيه في سورة الحشر إنما هو ما وصفت صفته من الفيء دون ما أوجف عليه منه بالخيل والركاب, لعلل قد بينتها في كتابنا: «كتاب لطيف القول في أحكام شرائع الدين» وسنبينه أيضا في تفسير سورة الحشر إذا انتهينا إليه إن شاء الله تعالى.
وأما قول من قال: الاَية التي في سورة الأنفال ناسخة الاَية التي في سورة الحشر فلا معنى له, إذ كان لا معنى في إحدى الاَيتين ينفي حكم الأخرى. وقد بيّنا معنى النسخ, وهو نفي حكم قد ثبت بحكم بخلافه, في غير موضع بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وأما قوله: مِنْ شَيْءٍ فإنه مراد به كل ما وقع عليه اسم شيء مما خوّله الله المؤمنين من أموال من غلبوا على ماله من المشركين مما وقع فيه القسم حتى الخيط والمخيط. كما:
12557ـ حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن ليث, عن مجاهد, قوله: وَاعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ قال: المخيط من الشيء.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن ليث, عن مجاهد بمثله.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو نعيم الفضل, قال: حدثنا سفيان, عن ليث, عن مجاهد, مثله.
القول في تأويل قوله تعالى: فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى واليَتامَى والمَساكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ.
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك, فقال بعضهم: قوله: فَأنّ للّهِ خُمُسَهُ مفتاح كلام, ولله الدنيا والاَخرة وما فيهما, وإنما معنى الكلام: فأن للرسول خمسه. ذكر من قال ذلك:
12558ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن قيس بن مسلم, قال: سألت الحسن عن قول الله: وَاعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرّسُولِ قال: هذا مفتاح كلام, لله الدنيا والاَخرة.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن قيس بن مسلم, قال: سألت الحسن بن محمد, عن قوله: وَاعْلَمُوا أنمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ قال: هذا مفتاح كلام, لله الدنيا والاَخرة.
12559ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا أحمد بن يونس, قال: حدثنا أبو شهاب, عن ورقاء, عن نهشل, عن الضحاك, عن ابن عباس, قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية فغنموا خَمّسَ الغنيمة فضرب ذلك الخُمْسَ في خمسة. ثم قرأ: وَاعْلَمُوا أنمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرسُولِ. قال: وقوله: فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ مفتاح كلام, لله ما في السّمَوَاتِ وما في الأَرْضِ فجعل سهم الله وسهم الرسول واحدا.
12560ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا جرير, عن مغيرة, عن إبراهيم: فَأن لِلّهِ خُمُسَهُ قال: لله كلّ شيء.
12561ـ حدثنا المثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: أخبرنا هشيم, عن مغيرة, عن إبراهيم, في قوله: وَاعْلَمُوا أنمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ قال: لله كلّ شيء, وخمس لله ورسوله, ويقسم ما سوى ذلك على أربعة أسهم.
12562ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الأعلى, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: كانت الغنيمة تقسم خمس أخماس, فأربعة أخماس لمن قاتل عليها, ويقسم الخمس الباقي على خمسة أخماس, فخمس لله والرسول.
12563ـ حدثنا عمران بن موسى, قال: حدثنا عبد الوارث, قال: حدثنا أبان, عن الحسن, قال: أوصى أبو بكر رضي الله عنه بالخمس من ماله وقال: ألا أرضى من مالي بما رضي الله لنفسه.
12564ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا محمد بن فضيل, عن عبد الملك, عن عطاء: وَاعْلَمُوا أنمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرّسُولِ قال: خمس الله وخمس رسوله واحد, كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يحمل منه ويصنع فيه ما شاء.
حدثني المثنى, قال: حدثنا الحجاج, قال: حدثنا أبو عوانة, عن المغيرة, عن أصحابه, عن إبراهيم: وَاعْلَمُوا أنمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ قال: كل شيء لله, الخمس للرسول, ولذي القربى, واليتامى, والمساكين, وابن السبيل.
وقال آخرون: معنى ذلك: فإن لبيت الله خمسه وللرسول. ذكر من قال ذلك:
12565ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع بن الجراح, عن أبي جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية الرياحي, قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُؤْتَى بالغنيمة, فيقسمها على خمسة تكون أربعة أخماس لمن شهدها, ثم يأخذ الخمس, فيضرب بيده فيه, فيأخذ منه الذي قبض كفه فيجعله للكعبة, وهو سهم الله, ثم يقسم ما بقي على خمسة أسهم فيكون سهم للرسول, وسهم لذي القربى, وسهم لليتامى, وسهم للمساكين, وسهم لابن السبيل.
حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية: وَاعْلَمُوا أنمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ.... إلى آخر الاَية, قال: فكان يجاء بالغنيمة فتوضع, فيقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة أسهم, فيجعل أربعة بين الناس ويأخذ سهما, ثم يضرب بيده في جميع ذلك السهم, فما قبض عليه من شيء جعله للكعبة, فهو الذي سُمي لله, ويقول: «لا تجعلوا لله نصيبا فإن لله الدنيا والاَخرة», ثم يقسم بقيته على خمسة أسهم: سهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم, وسهم لذوي القربى, وسهم لليتامى, وسهم للمساكين, وسهم لابن السبيل.
وقال آخرون: ما سمي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك فإنما هو مراد به قرابته, وليس لله ولا لرسوله منه شيء. ذكر من قال ذلك:
12566ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو صالح, قال: حدثنا معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قال: كانت الغنيمة تقسم على خمسة أخماس, فأربعة منها لمن قاتل عليها, وخمس واحد يقسم على أربع فربع لله والرسول ولذي القربى يعني قرابة النبيّ صلى الله عليه وسلم فما كان لله والرسول فهو لقرابة النبيّ صلى الله عليه وسلم, ولم يأخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم من الخمس شيئا, والربع الثاني لليتامى, والربع الثالث للمساكين, والربع الرابع لابن السبيل.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال قوله: فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ افتتاح كلام وذلك لإجماع الحجة على أن الخمس غير جائز قسمه على ستة أسهم, ولو كان لله فيه سهم كما قال أبو العالية, لوجب أن يكون خمس الغنيمة مقسوما على ستة أسهم. وإنما اختلف أهل العلم في قسمه على خمسة فما دونها, فأما على أكثر من ذلك فما لا نعلم قائلاً قاله غير الذي ذكرنا من الخبر عن أبي العالية, وفي إجماع من ذكرت الدلالة الواضحة على صحة ما اخترنا. فأما من قال: سهم الرسول لذوي القربى, فقد أوجب للرسول سهما وإن كان صلى الله عليه وسلم صرفه إلى ذوي قرابته, فلم يخرج من أن يكون القسم كان على خمسة أسهم. وقد:
12567ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَاعْلَمُوا أنمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ... الاَية, قال: كان نبيّ صلى الله عليه وسلم إذا غنم غنيمة جعلت أخماسا, فكان خمس لله ولرسوله, ويقسم المسلمون ما بقي. وكان الخمس الذي جعل لله ولرسوله ولذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل, فكان هذا الخمس خمسة أخماس: خمس لله ورسوله, وخمس لذوي القُرْبى, وخمس لليتامى, وخمس للمساكين, وخمس لابن السبيل.
12568ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن موسى بن أبي عائشة, قال: سألت يحيى بن الجزار عن سهم النبيّ صلى الله عليه وسلم, فقال: هو خمس الخمس.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابن عيينة, وجرير عن موسى بن أبي عائشة, عن يحيى بن الجزار, مثله.
حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفيان, عن موسى بن أبي عائشة, عن يحيى بن الجزار, مثله.
12569ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج: فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ قال: أربعة أخماس لمن حضر البأس, والخمس الباقي لله, وللرسول خمسه يضعه حيث رأى, وخمسه لذوي القربى, وخمسه لليتامى, وخمسة للمساكين, ولابن السبيل خمسه.
وأما قوله: وَلِذِي القُرْبَىَ فإن أهل التأويل اختلفوا فيهم, فقال بعضهم: هم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم. ذكر من قال ذلك:
12570ـ حدثنا ابن وكيع, قال: ثني أبي, عن شريك, عن خصيف, عن مجاهد, قال: كان آل محمد صلى الله عليه وسلم لا تحلّ لهم الصدقة, فجعل لهم خمس الخمس.
حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا شريك, عن خصيف, عن مجاهد, قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم وأهل بيته لا يأكلون الصدقة, فجعل لهم خمس الخمس.
12571ـ حدثنا أحمد, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا عبد السلام, عن خَصِيف, عن مجاهد, قال: قد علم الله أن في بني هاشم الفقراء, فجعل لهم الخمس مكان الصدقة.
12572ـ حدثني محمد بن عمارة, قال: حدثنا إسماعيل بن أبان, قال: حدثنا الصباح بن يحيى المزني, عن السديّ, عن ابن الديلمي, قال: قال عليّ بن الحسين رضي الله عنه لرجل من أهل الشأم: أما قرأت في الأنفال: وَاعْلَمُوا أنمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرّسُولِ... الاَية؟ قال: نعم, قال: فإنكم لأنتم هم؟ قال: نعم.
حدثنا الحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا إسرائيل, عن خصيف, عن مجاهد, قال: هؤلاء قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين لا تحلّ لهم الصدقة.
12573ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا أبو معاوية, عن حجاج, عن عطاء, عن ابن عباس: أن نَجُدة كتب إليه يسأله عن ذوي القربى, فكتب إليه كتابا: تزعم أنا نحن هم, فأبى ذلك علينا قومنا.
12574ـ قال: حدثنا الحسين قال: ثني حجاج, عن ابن جريج: فأنّ للّهِ خُمُسَهُ قال: أربعة أخماس لمن حضر البأس, والخمس الباقي لله, وللرسول خمسه يضعه حيث رأى, وخمس لذوي القربى, وخمس لليتامى, وخمس للمساكين, ولابن السبيل خمسه.
وقال آخرون: بل هم قريش كلها. ذكر من قال ذلك:
12575ـ حدثني يونس بن عبد الأعلى, قال: أخبرني عبد الله بن نافع, عن أبي معشر, عن سعيد المُقِبري, قال: كتب نجْدة إلى ابن عباس يسأله عن ذي القربى, قال: فكتب إليه ابن عباس: قد كنا نقول إنا هم, فأبى ذلك علينا قومنا, وقالوا: قريش كلها ذوو قُرْبىَ.
وقال آخرون: سهم ذي القربى كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم صار من بعده لوليّ الأمر من بعده. ذكر من قال ذلك:
12576ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الأعلى, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, أنه سئل عن سهم ذي القربى, فقال: كان طُعْمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان حيّا, فلما توفي جعل لوليّ الأمر من بعده.
وقال آخرون: بل سهم ذي القربى كان لبني هاشم وبني المطلب خاصة. وممن قال ذلك الشافعيّ, وكانت علته في ذلك ما:
12577ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا يونس بن بكير, قال: حدثنا محمد بن إسحاق, قال: ثني الزهري, عن سعيد بن المسيب, عن جبير بن مطعم, قال: لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذي القربى من خيبر على بني هاشم وبني المطلب مشيت أنا وعثمان بن عفان رضي الله عنه, فقلنا: يا رسول الله, هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله به منهم, أرأيت إخواننا بني المطلب أعطيتهم وتركتنا, وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة؟ فقال: «إنّهُمْ لَمْ يُفارِقُونا فِي جاهِلِيّةٍ وَلا إسْلامٍ, إنّمَا بَنُو هاشِمٍ وَبَنُو المُطّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ». ثم شبك رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه إحداهما بالأخرى.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي, قول من قال: سهم ذي القربى كان لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وحلفائهم من بني المطلب, لأن حليف القوم منهم, ولصحة الخبر الذي ذكرناه بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واختلف أهل العلم في حكم هذين السهمين, أعني سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسهم ذي القربى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: يصرفان في معونة الإسلام وأهله. ذكر من قال ذلك:
12578ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا أحمد بن يونس, قال: حدثنا أبو شهاب, عن ورقاء, عن نهشل, عن الضحاك, عن ابن عباس, قال: جعل سهم الله وسهم الرسول واحدا ولذي القربى, فجعل هذان السهمان في الخيل والسلاح, وجعل سهم اليتامى والمساكين وابن السبيل لا يُعْطَى غيرهم.
12579ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن قيس بن مسلم, قال: سألت الحسن عن قول الله: وَاعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى قال: هذا مفتاح كلام, لله الدنيا والاَخرة.
ثم اختلف الناس في هذين السهمين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال قائلون: سهم النبيّ صلى الله عليه وسلم لقرابة النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقال قائلون: سهم القرابة لقرابة الخليفة واجتمع رأيهم أن يجعلوا هذين السهمين في الخيل والعدّة في سبيل الله, فكانا على ذلك في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
12580ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفيان, عن قيس بن مسلم, قال: سألت الحسن بن محمد, فذكر نحوه.
12581ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عمر بن عبيد, عن الأعمش, عن إبراهيم, قال: كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يجعلان سهم النبيّ صلى الله عليه وسلم في الكراع والسلاح, فقلت لإبراهيم: ما كان عليّ رضي الله عنه يقول فيه؟ قال: كان عليّ أشدّهم فيه.
12582ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: وَاعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى واليَتامَى والمَساكِينِ... الاَية. قال ابن عباس: فكانت الغنيمة تقسم على خمسة أخماس, أربعة بين من قاتل عليها, وخمس واحد يقسم على أربعة: لله, وللرسول, ولذي القربى, يعني قرابة النبيّ صلى الله عليه وسلم فما كان لله وللرسول فهو لقرابة النبيّ صلى الله عليه وسلم, ولم يأخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم من الخمس شيئا. فلما قبض الله رسوله صلى الله عليه وسلم, ردّ أبو بكر رضي الله عنه نصيب القرابة في المسلمين, فجعل يحمل به في سبيل الله, لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: «لا نُورَثُ, ما تَرَكْنا صَدَقَةٌ».
12583ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الأعلى, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: أنه سئل عن سهم ذي القربى, فقال: كان طُعْمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فلما توفي حمل عليه أبو بكر وعمر في سبيل الله صدقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون: سهم ذوي القربى من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وليّ أمر المسلمين. ذكر من قال ذلك:
12584ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا عمرو بن ثابت, عنِ عمران بن ظَبيان, عن حكيم بن سعد, عن عليّ رضي الله عنه, قال: يعطى كلّ إنسان نصيبه من الخمس, ويلي الإمام سهم الله ورسوله.
12585ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الأعلى, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: أنه سئل عن سهم ذوي القربى, فقال: كان طعمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان حيّا, فلما توفي جُعِل لوليّ الأمر من بعده.
وقال آخرون: سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مردود في الخمس, والخمس مقسوم على ثلاثة أسهم: على اليتامى, والمساكين, وابن السبيل. وذلك قول جماعة من أهل العراق.
وقال آخرون: الخمس كله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:
12586ـ حدثني الحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا عبد الغفار, قال: حدثنا المنهال بن عمرو, قال: سألت عبد الله بن محمد بن عليّ وعليّ بن الحسين عن الخمس, فقالا: هو لنا. فقلت لعليّ: إن الله يقول: واليَتامَى وَالمَساكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ فقال: يتامانا ومساكيننا.
والصواب من القول في ذلك عندنا, أن سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مردود في الخمس, والخمس مقسوم على أربعة أسهم على ما رُوي عن ابن عباس: للقرابة سهم, ولليتامى سهم, وللمساكين سهم, ولابن السبيل سهم لأن الله أوجب الخمس لأقوام موصوفين بصفات, كما أوجب الأربعة الأخماس الاَخرين. وقد أجمعوا أن حقّ الأربعة الأخماس لن يستحقه غيرهم, فكذلك حقّ أهل الخمس لن يستحقه غيرهم, فغير جائز أن يخرج عنهم إلى غيرهم, كما غير جائز أن تخرج بعض السهمان التي جعلها الله لمن سماه في كتابه بفقد بعض من يستحقه إلى غير أهل السهمان الأخر. وأما اليتامى: فهم أطفال المسلمين الذين قد هلك آباؤهم. والمساكين: هم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين. وابن السبيل: المجتاز سفرا قد انْقُطِعَ به. كما:
12587ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قال: الخمس الرابع لابن السبيل, وهو الضيف الفقير الذي ينزل بالمسلمين.
القول في تأويل قوله تعالى: إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ باللّهِ وَما أنْزَلْنا على عَبْدِنا يَوْمَ الفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعانِ وَاللّه عَلى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
يقول تعالى ذكره: أيقنوا أيها المؤمنون أنما غنمتم من شيء فمقسوم القَسمْ الذي بينته, وصَدقوا به إن كنتم أقررتم بوحدانية الله وبما أنزل الله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم يوم فرق بين الحقّ والباطل ببدر, فأبان فلج المؤمنين وظهورهم على عدوّهم, وذلك يوم التقى الجمعان. جمع المؤمنين, وجمع المشركين, والله على إهلاك أهل الكفر وإذلالهم بأيدي المؤمنين, وعلى غير ذلك مما يشاء قدير لا يمتنع عليه شيء أراده.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
12588ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: يَوْمَ الفُرْقانِ يعني بالفرقان: يوم بدر, فَرَق الله فيه بين الحق والباطل.
12589ـ حدثنا محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
12590ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني الليث, قال: ثني عقيل, عن ابن شهاب, عن عروة بن الزبير وإسحاق, قال: حدثنا عبد الرزاق, عن معمر, عن الزهري, عن عروة بن الزبير, يزيد أحدهما على صاحبه في قوله: يَوْمَ الفُرْقانِ يوم فرق الله بين الحقّ والباطل, وهو يوم بدر, وهو أوّل مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان رأس المشركين عتبة بن ربيعة. فالتقوا يوم الجمعة لتسع عشرة ليلة مضت من شهر رمضان, وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مئة وبضعة عشر رجلاً, والمشركون ما بين الألف والتسع مئة, فهزم الله يومئذ المشركين, وقُتل منهم زيادة على سبعين, وأمر منهم مثلُ ذلك.
12591ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن مقسم: يَوْمَ الفُرْقانِ قال: يوم بدر, فرق الله بين الحقّ والباطل.
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن عثمان الجزري, عن مقسم, في قوله: يَوْمَ الفُرْقانِ قال: يوم بدر, فرق الله بين الحقّ والباطل.
12592ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, ابن عباس, قوله: يَوْمَ الفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعانِ يوم بدر, وبدر بين المدينة ومكة.
12593ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: ثني يحيى بن يعقوب أبو طالب, عن ابن عون, عن محمد بن عبد الله الثقفي, عن أبي عبد الرحمن السلمي عبد الله بن حبيب, قال: قال الحسن بن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: كانت ليلة الفرقان يوم التقى الجمعان لسبع عشرة من شهر رمضان.
12594ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعانِ قال ابن جريج: قال ابن كثير: يوم بدر.
12595ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: وَما أنْزَلْنا على عَبْدِنا يَوْمَ الفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعانِ: أي يوم فرق بين الحقّ والباطل ببدر أي يوم التقى الجمعان منكم ومنهم.
12596ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَما أنْزَلْنا على عَبْدِنا يَوْمَ الفُرْقانِ وذاكم يوم بدر, يوم فرق الله بين الحقّ والباطل.
الآية : 42
القول في تأويل قوله تعالى: {إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَىَ وَالرّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَـَكِن لّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ وَيَحْيَىَ مَنْ حَيّ عَن بَيّنَةٍ وَإِنّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ }.
يقول تعالى ذكره: أيقنوا أيها المؤمنون واعلموا أن قسم الغنيمة على ما بينه لكم ربكم إن كنتم آمنتم بالله وما أنزل على عبده يوم بدر, إذ فرق بين الحقّ والباطل من نصر رسوله, إذْ أنْتُمْ حينئذ بالعُدْوةِ الدّنْيا يقول: بشفير الوادي الأدنى إلى المدينة, وَهُمْ بالعُدْوَةِ القُصْوَى يقول: وعدوّكم من المشركين نزول بشفير الوادي الأقصى إلى مكة, وَالرّكْبُ أسْفَلَ مِنْكُمْ يقول: والعير فيه أبو سفيان وأصحابه في موضع أسفل منكم إلى ساحل البحر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
12597ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: إذْ أنْتُمْ بالعُدْوَةِ الدّنْيا قال: شفير الوادي الأدنى وهي بشفير الوادي الأقصى. وَالرّكْبُ أسْفَلَ مِنْكُمْ قال: أبو سفيان وأصحابه أسفل منهم.
حدثنا بشر,قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: إذْ أنْتُمْ بالعُدْوَةِ الدّنْيا وَهُمْ بالعُدْوَةِ القُصْوَى وهما شفيرا الوادي, كان نبيّ الله أعلى الوادي والمشركون بأسفله. وَالرّكْبُ أسْفَلَ مِنْكُمْ يعني أبا سفيان, انحدر بالعير على حوزته حتى قدم بها مكة.
12598ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: إذْ أنْتُمْ بالعُدْوَةِ الدّنْيا وَهُمْ بالعُدْوَةِ القُصَوَى من الوادي إلى مكة. وَالرّكْبُ أسْفَلَ مِنْكُمْ: أي عير أبي سفيان التي خرجتم لتأخذوها وخرجوا ليمنعوها عن غير ميعاد منكم ولا منهم.
12599ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: وَالرّكْبُ أسْفَلَ مِنْكُمْ قال: أبو سفيان وأصحابه مقبلون من الشام تجارا, لم يشعروا بأصحاب بدر, ولم يشعر محمد صلى الله عليه وسلم بكفار قريش ولا كفار قريش بمحمد وأصحابه, حتى التقيا على ماء بدر من يسقى لهم كلهم, فاقتتلوا, فغلبهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم, فأسروهم.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, بنحوه.
حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.
12600ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قال: ذكر منازل القوم والعير, فقال: إذْ أنْتُمْ بالعُدْوَةِ الدّنْيا وَهُمْ بالعُدْوَةِ القُصَوَى والركب: هو أبو سفيان وعيره, أسفل منكم على شاطىء البحر.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: إذْ أنْتُمْ بالعُدْوَةِ فقرأ ذلك عامة قرّاء المدنيين والكوفيين: بالعُدْوَةِ بضم العين, وقرأه بعض المكيين والبصريين: «بالعِدْوَةِ» بكسر العين. وهما لغتان مشهورتان بمعنى واحد, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب, يُنْشَد بيت الراعي:
وَعَيْنانِ حُمْرٌ مَآقِيهِماكما نظَرَ العِدْوَةَ الجُؤْذَرُ
بكسر العين من العدوة, وكذلك ينشد بيت أوس بن حجر:
وفارِسٍ لَوْ تَحُلّ الخَيْلُ عِدْوَتَهوَلّوْا سِرَاعا وَما هَمّوا بإقْبالِ
القول في تأويل قوله تعالى: وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي المِيعادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أمْرا كانَ مَفْعُولاً.
يعني تعالى ذكره: ولو كان اجتماعكم في الموضع الذي اجتمعتم فيه أنتم أيها المؤمنون وعدوّكم من المشركين عن ميعاد منكم ومنهم, لاختلفتم في الميعاد لكثرة عدد عدوّكم وقلة عددكم ولكن الله جمعكم على غير ميعاد بينكم وبينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولاً. وذلك القضاء من الله كان نصره أولياءه من المؤمنين بالله ورسوله, وهلاك أعدائه وأعدائهم ببدر بالقتل والأسر كما:
12601ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي المِيعادِ ولو كان ذلك عن ميعاد منكم ومنهم ثم بلغكم كثرة عددهم وقلة عددكم ما لقيتموهم. وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أمْرا كانَ مَفْعُولاً: أي ليقضي الله ما أراد بقدرته من إعزاز الإسلام وأهله, وإذلال الشرك وأهله, عن غير بلاء منكم ففعل ما أراد من ذلك بلطفه.
12602ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: أخبرني يونس بن شهاب, قال: أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك, أن عبد الله بن كعب, قال: سمعت كعب بن مالك يقول في غزوة بدر: إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عير قرَيش, حتى جمع الله بينهم وبين عدوّهم على غير ميعاد.
12603ـ حدثني يعقوب, قال: حدثنا ابن علية, عن ابن عون, عن عمير بن إسحاق, قال: أقبل أبو سفيان في الركب من الشام, وخرج أبو جهل ليمنعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه, فالتقوا ببدر, ولا يشعر هؤلاء بهؤلاء ولا هؤلاء بهؤلاء, حتى التقت السقاة, قال: ونهد الناس بعضهم لبعض.
القول في تأويل قوله تعالى: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيّنَةٍ وَيحْيا مَنْ حَيّ عَنْ بَيّنَةٍ وَإنّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ.
يقول تعالى ذكره: ولكن الله جمعهم هنالك ليقضي أمرا كان مفعولاً, لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيّنَةٍ. وهذه اللام في قوله: لِيَهْلِكَ مكررة على اللام في قوله: لِيَقْضِيَ كأنه قال: ولكن ليهلك من هلك عن بينة, جَمَعَكُمْ.
ويعني بقوله: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيّنَةٍ ليموت من مات من خلقه عن حجة لله قد أثبتت له, وقطعت عذره, وعبرة قد عاينها ورآها. وَيحْيا مَنْ حَيّ عَنْ بَينَةٍ يقول: وليعيش من عاش منهم عن حجة لله قد أثبتت له وظهرت لعينه, فعلمها جمعنا بينكم وبين عدوكم هنالك.
وقال ابن إسحاق في ذلك بما:
12604ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيّنَةٍ لما رأى من الاَيات والعبر, ويؤمن من آمن على مثل ذلك.
وأما قوله: وَإنّ اللّهَ لَسَمِيِعٌ عَلِيمٌ فإن معناه: وإن الله أيها المؤمنون لسميع لقولكم وقول غيركم حين يرى الله نبيه في منامه, ويريكم عدوكم في أعينكم قليلاً وهم كثير, ويراكم عدوكم في أعينهم قليلاً, عليم بما تضمره نفوسكم وتنطوي عليه قلوبكم, حينئذ وفي كل حال. يقول جلّ ثناؤه لهم ولعباده: واتقوا ربكم أيها الناس في منطقكم أن تنطقوا بغير حقّ, وفي قلوبكم أن تعتقدوا فيها غير الرشد, فإن الله لا يخفى عليه خافية من ظاهر أو باطن.
الآية : 43
القول في تأويل قوله تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَلَـَكِنّ اللّهَ سَلّمَ إِنّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ }.
يقول تعالى ذكره: وإن الله يا محمد سميع لما يقول أصحابك, عليم بما يضمرونه, إذ يريك الله عدوّك وعدوّهم فِي مَنامِكَ قَلِيلاً يقول: يريكهم في نومك قليلاً فتخبرهم بذلك, حتى قويت قلوبهم واجترءوا على حرب عدوّهم. ولو أراك ربك عدوّك وعدوّهم كثيرا لفشل أصحابك, فجبنوا وخافوا, ولم يقدروا على حرب القوم, ولتنازعوا في ذلك ولكن الله سلمهم من ذلك بما أراك في منامك من الرؤيا, إنه عليم بما تخفيه الصدور, لا يخفى عليه شيء مما تضمره القلوب.
وقد زعم بعضهم أن معنى قوله: إذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً: أي في عينك التي تنام بها, فصيرّ المنام هو العين, كأنه أراد: إذ يريكهم الله في عينك قليلاً.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
12605ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: إذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً قال: أراه الله إياهم في منامه قليلاً, فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك, فكان تثبيتا لهم.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, بنحوه.
وقال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
12606ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: إذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً... الاَية فكان أوّل ما أراه من ذلك نعمة من نعمه عليهم, شجعهم بها على عدوّهم, وكفاهم بها ما تخوف عليهم من ضعفهم لعلمه بما فيهم.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: وَلَكِنّ اللّهَ سَلّمَ فقال بعضهم: معناه: ولكن الله سلم للمؤمنين أمرهم حتى أظهرهم على عدوّهم. ذكر من قال ذلك:
12607ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: وَلَكِنّ اللّهَ سَلّمَ يقول: سلم الله لهم أمرهم حتى أظهرهم على عدوّهم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولكن الله سلم أمره فيهم. ذكر من قال ذلك:
12608ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, قال: حدثنا معمر, عن قتادة: وَلَكِنّ اللّهَ سَلّمَ قال: سلم أمره فيهم.
وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي ما قاله ابن عباس, وهو أن الله سلم القوم بما أرى نبيه صلى الله عليه وسلم في منامه من الفشل والتنازع, حتى قويت قلوبهم واجترءوا على حرب عدوّهم وذلك أن قوله: وَلَكِنّ اللّهَ سَلّمَ عقيب قوله: وَلَوْ أرَاكَهُمْ كَثِيرا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الأمْرِ فالذي هو أولى بالخبر عنه, أنه سلمهم منه جلّ ثناؤه ما كان مخوفا منه لو لم يُرِ نبيه صلى الله عليه وسلم من قلة القوم في منامه.
الآية : 44
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِيَ أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلّلُكُمْ فِيَ أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الاُمُورُ }.
يقول تعالى ذكره: وإن الله لسميع عليم إذ يُرى الله نبيه في منامه المشركين قليلاً, وإذ يريهم الله المؤمنين إذ لقوهم في أعينهم قليلاً, وهم كثير عددهم, ويقلل المؤمنين في أعينهم, ليتركوا الاستعداد لهم فيهون على المؤمنين شوكتهم. كما:
12609ـ حدثني ابن بزيع البغدادي, قال: حدثنا إسحاق بن منصور, عن إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن أبي عبيدة, عن عبد الله قال: لقد قُللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي: تراهم سبعين؟ قال أراهم مئة. قال: فأسرنا رجلاً منهم, فقلنا: كم هم؟ قال: كنا ألفا.
حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن أبي عبيدة, عن عبد الله بنحوه.
12610ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قوله: إذْ يُرِيكَمُوهُمْ إذِ الْتَقَيْتُمْ في أعْيُنِكُمْ قَلِيلاً قال ابن مسعود: قُللوا في أعيننا حتى قلت لرجل: أتراهم يكونون مئة؟
12611ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قال: قال ناس من المشركين: إن العير قد انصرفت فارجعوا فقال أبو جهل: الاَن إذ برز لكم محمد وأصحابه؟ فلا ترجعوا حتى تستأصلوهم وقال: يا قوم لا تقتلوهم بالسلاح, ولكن خذوهم أخذا, فاربطوهم بالحبال يقوله من القدرة في نفسه.
وقوله: لِيَقْضِيَ اللّهُ أمْرا كانَ مَفْعُولاً يقول جلّ ثناؤه: قللتكم أيها المؤمنون في أعين المشركين وأريتكموهم في أعينكم قليلاً حتى يقضي الله بينكم ما قضي من قتال بعضكم بعضا, وإظهاركم أيها المؤمنون على أعدائكم من المشركين والظفر بهم, لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى, وذلك أمر كان الله فاعله وبالغا فيه أمره. كما:
12612ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: لِيَقْضِيَ اللّهُ أمْرا كانَ مَفْعُولاً أي ليؤلف بينهم على الحرب للنقمة ممن أراد الانتقام منه والإنعام على من أراد إتمام النعمة عليه من أهل ولايته. وَإلى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ يقول جلّ ثناؤه: مصير الأمور كلها إليه في الاَخرة, فيجازي أهلها على قدر استحقاقهم المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
الآية : 45
القول في تأويل قوله تعالى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لّعَلّكُمْ تُفْلَحُونَ }.
وهذا تعريف من الله جلّ ثناؤه أهل الإيمان به السيرة في حرب أعدائه من أهل الكفر به والأفعال التي ترجى لهم باستعمالها عند لقائهم النصرة عليهم والظفر بهم, ثم يقول جلّ ثناؤه لهم: يا أيها الذين آمنوا, صدّقوا الله ورسوله إذا لقيتم جماعة من أهل الكفر بالله للحرب والقتال, فاثبتوا لقتالهم ولا تنهزموا عنهم ولا تولوهم الأدبار هاربين, إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة منكم. وَاذْكُرُوا الله كَثيرا يقول: وادعوا الله بالنصر عليهم والظفر بهم, وأشعروا قلوبكم وألسنتكم ذكره. لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ يقول: كيما تنجحوا فتظفروا بعدوكم, ويرزقكم الله النصر والظفر عليهم. كما:
12613ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيُتمْ فِئَةً فاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللّهَ كَثِيرا لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ افترض الله ذكره عند أشغل ما تكونون عند الضراب بالسيوف.
12614ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة عن ابن إسحاق: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيُتمْ فِئَةً يقاتلونكم في سبيل الله, فاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللّهَ كَثِيرا اذكروا الله الذي بذلتم له أنفسكم والوفاء بما أعطيتموه من بيعتكم, لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ