تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 182 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 182

181

قوله: 42- "إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى" قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بكسر العين في العدوة في الموضعين، وقرأ الباقون بالضم فيها، و إذ بدل من يوم الفرقان، ويجوز أن يكون العامل محذوفاً: أي واذكروا إذ أنتم. والعدوة: جانب الوادي، والدنيا: تأنيث الأدنى: والقصوى: تأنيث الأقصى، من دنا يدنو، وقصا يقصو، ويقال: القصيا، والأصل الواو، وهي لغة أهل الحجاز، والعدوة الدنيا كانت مما يلي المدينة، والقصوى كانت مما يلي مكة. والمعنى: وقت نزولكم بالجانب الأدنى من الوادي إلى جهة المدينة، وعدوكم بالجانب الأقصى منه مما يلي مكة. وجملة "والركب أسفل منكم" في محل نصب على الحال، وانتصاب "أسفل" على الظرف، ومحله الرفع على الخبرية: أي والحال أن الركب في مكان أسفل من المكان الذي أنتم فيه. وأجاز الأخفش والكسائي والفراء رفع أسفل على معنى أشد سفلاً منكم والركب: جمع راكب، ولا تقول العرب ركب إلا للجماعة الراكبي الإبل، ولا يقال لمن كان على فرس وغيرها ركب، وكذا قال ابن فارس، وحكاه ابن السكيت عن أكثر أهل اللغة. والمراد بالركب هاهنا ركب أبي سفيان، وهي المراد بالعير، فإنهم كانوا في موضل أسفل منهم مما يلي ساحل البحر. قيل: وفائدة ذكر هذه الحالة التي كانوا عليها من كونهم بالعدوة الدنيا وعدوهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منهم الدلالة على قوة شأن العدو وشوكته، وذلك لأن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء، وكانت أرضاً لا يابس بها، وأما العدوة الدنيا فكانت رخوة تسوخ فيها الأقدام ولا ماء بها، وكانت العير وراء ظهر العدو مع كثرة عددهم، فامتن الله على المسلمين بنصرتهم عليهم والحال هذه. قوله: "ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد" أي لو تواعدتم أنتم والمشركون من أهل مكة على أن تلتقوا في هذا الموضع للقتال لخالف بعضكم بعضاً، فثبطكم قلتكم وكثرتهم عن الوفاء بالموعد وثبطهم ما في قلوبهم من المهابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم "ولكن" جمع الله بينكم في هذا الموطن "ليقضي الله أمراً كان مفعولاً" أي حقيقاً بأن يفعل من نصر أوليائه وخذلان أعدائه وإعزاز دينه وإذلال الكفر. فأخرج المسلمين لأخذ العير وغنيمتها عند أنفسهم. وأخرج الكافرين للمدافعة عنها، ولم يكن في حساب الطائفتين أن يقع هذا الاتفاق على هذه الصفة، واللام في ليقضي متعلقة بمحذوف، والتقدير: جمعهم ليقضي. وجملة " ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي " بدل من الجملة التي قبلها: أي ليموت من يموت عن بينة ويعيش عن بينة لئلا يبقى لأحد على الله حجة، وقيل: الهلاك والحياة مستعاران للكفر والإسلام: أي ليصدر إسلام من أسلم عن وضوح بينة ويقين بأنه دين الحق، ويصدر كفر من كفر عن وضوح بينة لا عن مخالجة شبهة. قرأ نافع وخلف وسهل ويعقوب والبزي وأبو بكر " من حي " بياءين على الأصل. وقرأ الباقون بياء واحدة على الإدغام، وهي اختيار أبي عبيد لأنها كذلك وقعت في المصحف "وإن الله لسميع عليم" أي سميع بكفر الكافرين عليم به، وسميع بإيمان المؤمنين عليم به. وقد أخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال: ثم وضع مقاسم الفيء، فقال: "واعلموا أنما غنمتم من شيء" بعد الذي كان مضى من بدر "فأن لله خمسه" إلى آخر الآية. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم عن قيس بن مسلم الجدلي قال: سألت الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب ابن الحنفية عن قول الله: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه" قال: هذا مفتاح كلام، لله الدنيا والآخرة "وللرسول ولذي القربى" فاختلفوا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين السهمين. قال قائل منهم: سهم ذي القربى لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال قائل منهم: سهم ذي القربى لقرابة الخليفة، وقال قائل منهم: سهم النبي صلى الله عليه وسلم للخليفة من بعده، واجتمع رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يجعلوا هذين السهمين في الخيل والعدة في سبيل الله، فكان ذلك في خلافة أبي بكر وعمر. وأخرج ابن جرير والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية فغنموا خمس الغنيمة فضرب ذلك في خمسه. ثم قرأ: "واعلموا أنما غنمتم" الآية، قال قوله: "فأن لله خمسه" مفتاح كلام، لله ما في السموات وما في الأرض، فجعل الله سهم الله والرسول واحداً "ولذي القربى" فجعل هذين السهمين قوة في الخيل والسلاح، وجعل سهم اليتامى والمساكين وابن السبيل لا يعطيه غيرهم، وجعل الأربعة الأسهم الباقية للفرس سهماً ولراكبه سهماً وللراجل سهماً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: كانت الغنيمة تقسم على خمسة أخماس: فأربعة منها بين من قاتل عليها وخمس واحد يقسم على أربعة أخماس، فربع لله وللرسول ولذي القربة، يعني قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كان لله وللرسول فهو لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم من الخمس شيئاً، والربع الثاني لليتامى، والربع الثالث للمساكين، والربع الرابع لابن السبيل، وهو الضيف الفقير الذي ينزل بالمسلمين. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: "واعلموا أنما غنمتم من شيء" الآية قال: كان يجاء بالغنيمة فتوضع، فيقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على خمسة أسهم، فيعزل سهماً منها ويقسم أربعة أسهم بين الناس، يعني لمن شهد الوقعة، ثم يضرب بيده في جميع السهم الذي عزله، فما قبض عليه من شيء جعله للكعبة، فهو الذي سمى الله لا تجعلوا لله نصيباً فأن لله الدنيا والآخرة، ثم يعمد إلى بقية السهم فيقسمه على خمسة أسهم: سهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وسهم لذي القربى وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجعل سهم الله في السلاح والكراع وفي سبيل الله وفي كسوة الكعبة وطيبها وما تحتاج إليه الكعبة، ويجعل سهم الرسول في الكراع والسلاح ونفقة أهله، وسهم ذي القربى لقرابته يضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم مع سهمه مع الناس، ولليتامى والمساكين وابن السبيل ثلاثة أسهم يضعها رسول الله فيمن شاء حيث شاء، ليس لبني عبد المطلب في هذه الثلاثة الأسهم ولرسول الله صلى الله عليه وسلم سهم من سهام الناس. وأخرج ابن أبي حاتم عن حسين المعلم قال: سألت عبد الله بن بريدة عن قوله: "فأن لله خمسه وللرسول" فقال: الذي لله لنبيه والذي للرسول لأزواجه. وأخرج الشافعي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة ومسلم وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس أن نجدة كتب إليه يسأله عن ذوي القربى الذين ذكر الله، فكتب إليه إنا كنا نرى أنا هم فأبى ذلك علينا قومنا، وقالوا قريش كلها ذوو قربى. وزيادة قوله: وقالوا قريش كلها تفرد بها أبو معشر، وفيه ضعف. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر من وجه آخر عن ابن عباس: أن نجدة الحروري أرسل إليه يسأله عن سهم ذي القربى، ويقول: لمن تراه؟ فقال ابن عباس: هو لقربى رسول الله صلى الله عليه وسلم قسمه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان عمر عرض علينا من ذلك عرضاً رأيناه دون حقنا فرددناه عليهم وأبينا أن نقبله، وكان عرض عليهم إن يعين ناكحهم وأن يقضي عن غارمهم وأن يعطي فقيرهم وأبى أن يزديهم على ذلك. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: رغبت لكم عن غسالة الأيدي، لأن لكم في خمس الخمس ما يكفيكم أو يغنيكم. رواه ابن أبي حاتم عن إبراهيم بن مهدي المصيصي، حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه عن حنش عن عكرمة عنه مرفوعاً. قال ابن كثير: هذا حديث حسن الإسناد، وإبراهيم بن مهدي هذا وثقه أبو حاتم. وقال يحيى بن معين: يأتي بمناكير. وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن الزهري وعبد الله بن أبي بكر عن جبير بن مطعم:" أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم سهم ذوي القربى من خيبر على بني هاشم وبني المطلب، قال: فمشيت أنا وعثمان بن عفان حتى دخلنا عليه، فقلنا: يا رسول الله هؤلاء إخوانك من بني هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك منهم، أرأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم دوننا فإنما نحن وهم بمنزلة واحدة في النسب؟ فقال:إنهم لم يفارقونا في الجاهلية والإسلام". وقد أخرجه مسلم في صحيحه. وأخرج ابن مردويه عن زيد بن أرقم قال: آل محمد الذين أعطوا الخمس: آل علي، وآل العباس، وآل جعفر، وآل عقيل. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم شيء واحد من المغنم يصطفيه لنفسه، إما خادم وإما فرس، ثم يصيب بعد ذلك من الخمس. وأخرج ابن أبي شيبة وابن مردويه عن علي قال: قلت يا رسول الله: ألا وليتني ما خصنا الله به من الخمس؟ فولانيه. وأخرج الحاكم وصححه عنه قال: ولاني رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس الخمس فوضعته مواضعه حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "يوم الفرقان" قال: هو يوم بدر، وبدر ما بين مكة والمدينة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله: "يوم الفرقان" قال: هو يوم بدر فرق الله فيه بين الحق والباطل. وأخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب قال: كانت ليلة الفرقان ليلة التقى الجمعان في صبيحتها ليلة الجمعة لسبع عشرة مضت من رمضان، وأخرج عنه ابن جرير أيضاً. وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "إذ أنتم بالعدوة الدنيا" قال: العدوة الدنيا شاطئ الوادي "والركب أسفل منكم". قال أبو سفيان. وأخرج ابن المنذر عن عكرمة قال: العدوة الدنيا شفير الوادي الأدنى، والعدوة القصوى شفير الوادي الأقصى.
إذ منصوب بفعل مقدر: أي اذكر أو هو بدل ثان من يوم الفرقان. والمعنى: أن النبي صلى الله عليه وسلم رآهم في منامه قليلاً فقص ذلك على أصحابه، فكان ذلك سبباً لثباتهم، ولو رآهم في منامه كثيراً لفشلوا وجبنوا عن قتالهم وتنازعوا في الأمر هل يلاقونهم أم لا؟ 43- "ولكن الله سلم" أي سلمهم وعصمهم من الفشل والتنازع فقللهم في عين رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، وقيل: عني بالمنام محل النوم، وهو العين: أي في موضع منامك وهو عينك، روي ذلك عن الحسن. قال الزجاج: هذا مذهب حسن ولكن الأول أسوغ في العربية لقوله: " وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم " فدل بهذا على أن هذه رؤية الالتقاء، وأن تلك رؤية النوم.
قوله: 44- "وإذ يريكموهم" الظرف منصوب بمضمر معطوف على الأول: أي واذكروا وقت إراءتكم إياها حال كونهم قليلاً، حتى قال القائل من المسلمين لآخر: أتراهم سبعين؟ قال: هم نحو المائة، وقلل المسلمين في أعين المشركين حتى قال قائلهم: إنما هم أكلة جزور، وكان هذا قبل القتال، فلما شرعوا فيه كثر الله المسلمين في أعين المشركين، كما قال في آل عمران: "يرونهم مثليهم رأي العين"، ووجه تقليل المسلمين في أعين المشركين هو أنهم إذا رأوهم قليلاً أقدموا على القتال غير خائفين، ثم يرونهم كثيراً فيفشلون وتكون الدائرة عليهم، ويحل بهم عذاب الله وسوط عقابه، واللام في "ليقضي الله أمراً كان مفعولاً" متعلقة بمحذوف كما سبق مثله قريباً، وإنما كرره لاختلاف المعلل به "وإلى الله ترجع الأمور" كلها يفعل فيها ما يريد ويقضي في شأنها ما يشاء. وقد أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "إذ يريكهم الله في منامك قليلاً" قال: أراه الله إياهم في منامه قليلاً، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك فكان ذلك تثبيتاً لهم. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: " ولو أراكهم كثيرا لفشلتم " يقول: لجبنتم "ولتنازعتم في الأمر" قال: لاختلفتم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ولكن الله سلم" أي أتم. وأخرج وابن جرير وابن أبي حاتم عنه "ولكن الله سلم" يقول: سلم لهم أمرهم حتى أظهرهم على عدوهم. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن مسعود في قوله: "وإذ يريكموهم" الآية قال: لقد قلوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي: تراهم سبعين؟ قال: لا بل هم مائة، حتى أخذنا رجلاً منهم فسألناه قال: كنا ألفاً. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة في الآية قال: حضض بعضهم على بعض. قال ابن كثير: إسناده صحيح. وأخرج ابن إسحاق عن عباد بن عبد الله بن الزبير في قوله: "ليقضي الله أمراً كان مفعولاً" أي ليلف بينهم الحرب للنقمة ممن أراد الانتقام منه، والإنعام على من أراد النعمة عليه من أهل ولايته.
قوله: 45- " إذا لقيتم فئة " اللقاء الحرب، والفئة الجماعية: أي إذا حاربتم جماعة من المشركين "فاثبتوا" لهم ولا تجبنوا عنهم، وهذا لا ينافي الرخصة المتقدمة في قوله: "إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة" فإن الأمر بالثبات هو في حال السعة، والرخصة هي في حال الضرورة. وقد لا يحصل الثبات إلا بالتحرف والتحيز "واذكروا الله" أي اذكروا الله عند جزع قلوبكم فإن ذكره يعين على الثبات في الشدائد، وقيل المعنى: اثبتوا بقلوبكم واذكروا بألسنتكم فإن القلب قد يسكن عند اللقاء ويضطرب اللسان، فأمرهم بالذكر حتى يجتمع ثبات القلب واللسان، قيل: وينبغي أن يكون الذكر في هذه الحالة بما قاله أصحاب طالوت "ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين". وفي الآية دليل على مشروعية الذكر في جميع الأحوال، حتى في هذه الحالة التي ترجف فيها القلوب وتزيع عندها البصائر.
ثم أمرهم بطاعة الله فيما يأمرهم به وطاعة رسوله فيما يرشدهم إليه، ونهاهم عن التنازع وهو الاختلاف في الرأي، فإن ذلك يتسبب عنه الفشل، وهو الجبن في الحرب. والفاء جواب النهي، والفعل منصوب بإضمار أن، ويجوز أن يكون الفعل معطوفاً على تنازعوا مجزوماً بجازمه. قوله: 46- "وتذهب ريحكم" قرئ بنصب الفعل، وجزمه عطفاً على تفشلوا على الوجهين، والريح: القوة والنصر، كما يقال: الريح لفلان إذا كان غالباً في الأمر، وقيل: الريح الدولة شبهت في نفوذ أمرها بالريح في هبوبها، ومنه قول الشاعر: إذا هبت رياحك فاغتنمها فعقبى كل خافقة سكون وقيل: المراد بالريح ريح الصبا، لأن بها كان ينصر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أمرهم بالصبر على شدائد الحرب وأخبرهم بأنه مع الصابرين في كل أمر ينبغي الصبر فيه، ويا حبذا هذه المعية التي لا يغلب من رزقها غالب، ولا يؤتى صاحبها من جهة من الجهات وإن كانت كثيرة.
ثم نهاهم عن أن تكون حالتهم كحالة هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس وهم قريش، فإنهم خرجوا يوم بدر ليحفظوا العير التي مع أبي سفيان ومعهم القيان والمعازف، فلما بلغوا الجحفة بلغهم أن العير قد نجت وسلمت، فلم يرجعوا بل قالوا: لا بد لهم من الوصول إلى بدر ليشربوا الخمر وتغني لهم القيان وتسمع العرب بمخرجهم، فكان ذلك منهم بطراً وأشراً وطلباً للثناء من الناس وللتمدح إليهم والفخر عندهم وهو الرياء، قيل والبطر في اللغة: التقوي بنعم الله على معاصيه وهو مصدر في موضع الحال: أي خرجوا بطرين مرائين، وقيل: هو مفعول له وكذا رياء: أي خرجوا للبطر والرياء. وقوله: "ويصدون" معطوف على بطراً، والمعنى كما تقدم: أي خرجوا بطرين مرائين صادين عن سبيل الله أو للصدر عن سبيل الله، والصد: إضلال الناس والحيلولة بينهم وبين طرق الهداية، ويجوز أن يكون ويصدون معطوفاً على يخرجون، والمعنى: يجمعون بين الخروج على تلك الصفة والصد "والله بما يعملون محيط" لا تخفى عليه من أعمالهم خافية فهو مجازيهم عليها.