تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 189 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 189

189 : تفسير الصفحة رقم 189 من القرآن الكريم

** أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمّا يَعْلَمِ اللّهُ الّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
يقول تعالى: {أم حسبتم} أيها المؤمنون أن نترككم مهملين لا نختبركم بأمور يظهر فيها أهل العزم الصادق من الكاذب ولهذا قال: {ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة} أي بطانة ودخيلة بل هم في الظاهر والباطن على النصح لله ولرسوله فاكتفى بأحد القسمين عن الاَخر كما قال الشاعر:
وما أدري إذا يممت أرضاًأريد الخير أيهما يليني
وقد قال الله تعالى في الاَية الأخرى: {ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ؟ ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} وقال تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين}, وقال تعالى: {ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب} الاَية, والحاصل أنه تعالى لما شرع لعباده الجهاد بين أن له فيه حكمة وهو اختبار عبيده من يطيعه ممن يعصيه, وهو تعالى العالم بما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون فيعلم الشيء قبل كونه ومع كونه على ما هو عليه لا إله إلا هو ولا رب سواه, ولا راد لما قدّره وأمضاه.

** مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَىَ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النّارِ هُمْ خَالِدُونَ * إِنّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَأَقَامَ الصّلاَةَ وَآتَىَ الزّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاّ اللّهَ فَعَسَىَ أُوْلَـَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ
يقول تعالى ما ينبغي للمشركين بالله أن يعمروا مساجد الله التي بنيت على اسمه وحده لا شريك له, ومن قرأ مسجد الله فأراد به المسجد الحرام أشرف المساجد في الأرض الذي بني من أول يوم على عبادة الله وحده لا شريك له, وأسسه خليل الرحمن, هذا وهم شاهدون على أنفسهم بالكفر أي بحالهم وبقالهم قال السدي: لو سألت النصراني ما دينك ؟ لقال نصراني, ولو سألت اليهودي ما دينك ؟ لقال يهودي, والصابىء لقال صابىء, والمشرك لقال مشرك {أولئك حبطت أعمالهم} أي بشركهم {وفي النار هم خالدون} وقال تعالى: {وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون} ولهذا قال تعالى: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الاَخر} فشهد تعالى بالإيمان لعمار المساجد كما قال الإمام أحمد: حدثنا شريح, حدثنا ابن وهب عن عمرو بن الحارث, أن دراجاً أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان». قال الله تعالى: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الاَخر} ورواه الترمذي وابن مردويه والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن وهب به.
وقال عبد الرحمن بن حميد في مسنده: حدثنا يونس بن محمّد حدثنا صالح المري عن ثابت البناني عن ميمون بن سياه وجعفر بن زيد عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما عمار المساجد هم أهل الله» ورواه الحافظ أبو بكر البزار: عن عبد الواحد بن غياث عن صالح بن بشير المري عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما عمار المساجد هم أهل الله» ثم قال: لا نعلم رواه عن ثابت غير صالح, وقد روى الدار قطني في الأفراد من طريق حكامة بنت عثمان بن دينار عن أبيها عن أخيه مالك بن دينار عن أنس مرفوعاً «إذا أراد الله بقوم عاهة نظر إلى أهل المساجد فصرف عنهم» ثم قال: غريب, وروى الحافظ البهائي في المستقصى عن أبيه بسنده إلى أبي أمية الطرسوسي, حدثنا منصور بن صقير, حدثنا صالح المري عن ثابت عن أنس مرفوعاً يقول الله: وعزتي وجلالي إني لأهم بأهل الأرض عذاباً فإذا نظرت إلى عمار بيوتي وإلى المتحابين في وإلى المستغفرين بالأسحار صرفت ذلك عنهم. ثم قال ابن عساكر: حديث غريب.
وقال الإمام أحمد: حدثنا روح حدثنا سعيد عن قتادة, حدثنا العلاء بن زياد عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الشيطان ذئب الإنسان, كذئب الغنم يأخذ الشاة القاصية والناحية, فإياكم والشعاب وعليكم بالجماعة والعامة والمسجد» وقال عبد الرزاق: عن معمر عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون الأودي قال: أدركت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وهم يقولون: إن المساجد بيوت الله في الأرض وإنه حق على الله أن يكرم من زاره فيها. وقال المسعودي: عن حبيب بن أبي ثابت وعدي بن ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: من سمع النداء بالصلاة ثم لم يجب ولم يأت المسجد ويصلي فلا صلاة له وقد عصى الله ورسوله. قال الله تعالى: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الاَخر} الاَية, رواه ابن مردويه. وقد روي مرفوعاً من وجه آخر, وله شواهد من وجوه أخر ليس هذا موضع بسطها. وقوله: {وأقام الصلاة} أي التي هي أكبر عبادات البدن {وآتى الزكاة} أي التي هي أفضل الأعمال المتعدية إلى بر الخلائق, وقوله {ولم يخش إلا الله} أي ولم يخف إلا من الله تعالى ولم يخش سواه {فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الاَخر} يقول: من وحد الله وآمن باليوم الاَخر يقول من آمن بما أنزل الله {وأقام الصلاة} يعني الصلوات الخمس {ولم يخش إلا الله} يقول لم يعبد إلا الله ثم قال: {فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين} يقول تعالى: إن أولئك هم المفلحون كقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محمود} وهي الشفاعة, وكل عسى في القرآن فهي واجبة, وقال محمد بن إسحاق بن يسار رحمه الله: وعسى من الله حق.

** أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ * الّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشّرُهُمْ رَبّهُم بِرَحْمَةٍ مّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنّاتٍ لّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مّقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً إِنّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
قال العوفي في تفسيره عن ابن عباس في تفسير هذه الاَية قال: إن المشركين قالوا: عمارة بيت الله وقيام على)السقاية خير ممن آمن وجاهد, وكانوا يفخرون بالحرم ويستكبرون به من أجل أنهم أهله وعماره, فذكر الله استكبارهم وإعراضهم, فقال لأهل الحرم من المشركين {قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون * مستكبرين به سامراً تهجرون} يعني أنهم كانوا يستكبرون بالحرم قال {به سامر} كانوا يسمرون به ويهجرون القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم فخير الله الإيمان والجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم على عمارة المشركين البيت وقيامهم على السقاية ولم يكن ينفعهم عند الله مع الشرك به, وإن كانوا يعمرون بيته ويحرمون به. قال الله تعالى: {لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين} يعني الذين زعموا أنهم أهل العمارة فسماهم الله ظالمين بشركهم فلم تغن عنهم العمارة شيئاً.
وقال علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير هذه الاَية قال: قد نزلت في العباس بن عبد المطلب حين أسر ببدر قال: لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي ونفك العاني, قال الله عز وجل: {أجعلتم سقاية الحاج ـ إلى قوله ـ والله لا يهدي القوم الظالمين} يعني أن ذلك كله كان في الشرك ولا أقبل ما كان في الشرك, وقال الضحاك بن مزاحم: أقبل المسلمون على العباس وأصحابه الذين أسروا يوم بدر يعيرونهم بالشرك, فقال العباس: أما والله لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونفك العاني ونحجب البيت ونسقي الحاج, فأنزل الله {أجعلتم سقاية الحاج} الاَية.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا ابن عيينة عن إسماعيل عن الشعبي: قال: نزلت في علي والعباس رضي الله عنهما بما تكلما في ذلك, وقال ابن جرير: حدثني يونس, أخبرنا ابن وهب, أخبرني ابن لهيعة عن أبي صخر قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يقول افتخر طلحة بن شيبة من بني عبد الدار وعباس بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب فقال طلحة: أنا صاحب البيت معي مفتاحه ولو أشاء بت فيه. وقال العباس: أنا صاحب السقاية والقائم عليها ولو أشاء بت في المسجد, فقال علي رضي الله عنه: ما أدري ما تقولان لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس وأنا صاحب الجهاد, فأنزل الله عز وجل {أجعلتم سقاية الحاج ؟} الاَية كلها, وهكذا قال السدي إلا أنه قال: افتخر علي والعباس وشيبة بن عثمان وذكر نحوه, وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن عمرو عن الحسن قال: نزلت في علي وعباس وعثمان وشيبة تكلموا في ذلك, فقال العباس: ما أراني إلا أني تارك سقايتنا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أقيموا على سقايتكم فإن لكم فيها خيراً» ورواه محمد بن ثور: عن معمر عن الحسن فذكر نحوه, وقد ورد في تفسير هذه الاَية حديث مرفوع فلا بد من ذكره هنا, قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن رجلاً قال: ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج. وقال آخر: ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام. وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم. فزجرهم عمر رضي الله عنه وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم, وذلك يوم الجمعة, ولكن إذا صلينا الجمعة دخلنا على النبي صلى الله عليه وسلم فسألناه. فنزلت {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام ـ إلى قوله ـ لا يستوون عند الله}.
(طريق أخرى) قال الوليد بن مسلم حدثني معاوية بن سلام عن جده أبي سلام الأسود عن النعمان بن بشير الأنصاري قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فقال رجل منهم: ما أبالي أن لا أعمل لله عملاً بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج. وقال آخر: بل عمارة المسجد الحرام وقال آخر: بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم فزجرهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم, وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيته فيما اختلفتم فيه. قال ففعل فأنزل الله عز وجل {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام ـ إلى قوله ـ والله لا يهدي القوم الظالمين} ورواه مسلم في صحيحه وأبو داود وابن جرير وهذا لفظه, وابن مردويه وابن أبي حاتم في تفاسيرهم وابن حبان في صحيحه.