تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 189 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 189

188

ثم زاد في تأكيد الأمر بالقتال فقال: 14- "قاتلوهم" ورتب على هذا الأمر فوائد: الأولى: تعذيب الله للكفار بأيدي المؤمنين بالقتل والأسر، والثانية: إخزاؤهم، قيل بالأسر، وقيل بما نزل بهم من الذل والهوان، والثالثة: نصر المسلمين عليهم وغلبتهم لهم، والرابعة: أن الله يشفي بالقتال صدور قوم مؤمنين ممن لم يشهد القتال ولا حضره.
والخامسة: أنه سبحانه يذهب بالقتال غيظ قلوب المؤمنين الذي نالهم بسبب ما وقع من الكفار من الأمور الجالبة للغيظ وحرج الصدر. فإن قيل: شفاء الصدور وإذهاب غيظ القلوب كلاهما بمعنى فيكون تكراراً، قيل في الجواب: إن القلب أخص من الصدر، وقيل: إن شفاء الصدر إشارة إلى الوعد بالفتح، ولا ريب أن الانتظار لنجاز الوعد مع الثقة به فيهما شفاء للصدر، وأن إذهاب غيظ القلوب إشارة إلى وقوع الفتح، وقد وقعت للمؤمنين ولله الحمد هذه الأمور كلها، ثم قال: "ويتوب الله على من يشاء" وهو ابتداء كلام يتضمن الإخبار بما سيكون، وهو أن بعض الكافرين يتوب عن كفره كما وقع من بعض أهل مكة يوم الفتح، فإنهم أسلموا وحسن إسلامهم، وهذا على قراءة الرفع في يتوب، وهي قراءة الجمهور: وقرئ بنصب يتوب بإضمار أن، ودخول التوبة في جملة ما أجيب به الأمر من طريق المعنى. قرأ بذلك ابن أبي إسحاق وعيسى الثقفي والأعرج. فإن قيل: كيف تقع التوبة جزاء للمقاتلة؟ وأجيب أن القتال قد يكون سبباً لها إذا كانت من جهة الكفار، وأما إذا كانت من جهة المسلمين فوجهه أن النصر والظفر من جهة الله يكون سبباً لخلوص النية والتوبة عن الذنوب.
قوله: 16- "أم حسبتم أن تتركوا" أم هذه هي المنقطعة التي بمعنى بل، والهمزة والاستفهام للتوبيخ، وحرف الإضراب للدلالة على الانتقال من كلام إلى آخر. والمعنى: كيف يقع الحسبان منكم بأن تتركوا على ما أنتم عليه، وقوله: أن تتركوا في موضع مفعولي الحسبان عند سيبويه. وقال المبرد: إنه حذف الثاني، والتقدير: أم حسبتم أن تتركوا من غير أن تبتلوا بما يظهر به المؤمن والمنافق الظهور الذي يستحق به الثواب والعقاب، وجملة "ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم" في محل نصب على الحال، والمراد من نفي العلم نفي المعلوم، والمعنى كيف تحسبون أنكم تتركون ولما يتبين المخلص منكم في جهاده من غير المخلص، وجملة "ولم يتخذوا" معطوفة على جاهدوا داخلة معه في حكم النفي واقعة في حيز الصلة، والوليجة من الولوج: وهو الدخول، ولج يلج ولوجاً: إذا دخل: فالوليجة: الدخيلة. قال أبو عبيدة: كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة. قال أبان بن ثعلب: فبئس الوليجة للهاربيــ ـن والمعتدين وأهل الريب وقال الفراء: الوليجة البطانة من المشركين، والمعنى واحد: أي كيف تتخذون دخيلة أو بطانة من المشركين تفشون إليهم بأسراركم وتعلمونهم أموركم من دون الله "والله خبير بما تعملون" أي بجميع أعمالكم. وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "وإن نكثوا أيمانهم" قال: عهدهم. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: يقول الله لنبيه وإن نكثوا العهد الذي بينك وبينهم فقاتلهم إنهم أئمة الكفر. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله أئمة الكفر قال: أبو سفيان بن حرب وأمية بن خلف وعتبة بن ربيعة وأبو جهل بن هشام وسهيل بن عمرو، وهم الذين نكثوا عهد الله وهموا بإخراج الرسول من مكة. وأخرج ابن عساكر عن مالك بن أنس مثله. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس "فقاتلوا أئمة الكفر" قال: رؤوس قريش. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عمر قال: أبو سفيان بن حرب منهم. وأخرج أبو الشيخ عن الحسن أنهم الديلم. وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن حذيفة أنهم ذكروا عند هذه الآية فقالوا: ما قوتل أهل هذه الآية بعد. وأخرج ابن مردويه عن علي نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري وابن مردويه عن حذيفة قال: ما بقي من أهل هذه الآية إلا ثلاثة، ولا من المنافقين إلا أربعة، فقال أعرابي: إنكم أصحاب محمد تخبروننا لا ندري فما بال هؤلاء الذين ينقرون بيوتنا ويسترقون أعلاقنا، قال: أولئك الفساق، أجل لم يبق منهم إلا أربعة، أحدهم شيخ كبير لو شرب الماء البارد لما وجد برده. والأولى: أن الآية عامة في كل رؤساء الكفار من غير تقييد بزمن معين أو بطائفة معينة اعتباراً بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ومما يفيد ذلك ما أخرجه ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير أنه كان في عهد أبي بكر الصديق إلى الناس حين وجههم إلى الشام قال: إنكم ستجدون قوماً مجوفة رؤوسهم، فاضربوا مقاعد الشيطان منهم بالسيوف، فوالله لأن أقتل رجلاً منهم أحب إلي من أن أقتل سبعين من غيرهم، وذلك بأن الله يقول: "فقاتلوا أئمة الكفر". وأخرج أبو الشيخ عن حذيفة "لا أيمان لهم" قال: لا عهود لهم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عمار مثله. وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم" قال: قتال قريش حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم وهمهم بإخراج الرسول. زعموا أن ذلك عام عمرة النبي صلى الله عليه وسلم في العام التابع للحديبية، نكثت قريش العهد عهد الحديبية، وجعلوا في أنفسهم إذا دخلوا مكة أن يخرجوا منها، فذلك همهم بإخراجه، فلم تتابعهم خزاعة على ذلك. فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قالت قريش لخزاعة: عميتمونا عن إخراجه، فقاتلوهم فقتلوا منهم رجالاً. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة قال: نزلت في خزاعة "قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم" الآية. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي نحوه. وأخرج أبو الشيخ عن قتادة نحوه أيضاً، وقد ساق القصة ابن إسحاق في سيرته، وأورد فيها النظم الذي أرسلته خزاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأوله: يا رب إني ناشد محمداً حلف أبينا وأبيه الأتلدا وأخرج القصة البيهقي في الدلائل. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: الوليجة: البطانة من غير دينهم. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة قال: وليجة أي خيانة.
قرأ الجمهور 17- "يعمروا" بفتح حرف المضارعة وضم الميم من عمر يعمر. وقرأ ابن السميفع بضم حرف المضارعة من أعمر يعمر: أي يجعلون لها من يعمرها. وقرأ ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن وسهم ويعقوب " مساجد الله " بالإفراد. وقرأ الباقون "مساجد" بالجمع، واختارها أبو عبيدة. قال النحاس: لأنها أعم، والخاص يدخل تحت العام. وقد يحتمل أن يراد بالجمع المسجد الحرام خاصة، وهذا جائز فيما كان من أسماء الأجناس كما يقال فلان يركب الخيل وإن لم يركب إلا فرساً قال: وقد أجمعوا على الجمع في قوله: "إنما يعمر مساجد الله" وروي عن الحسن البصري أنه تعالى إنما قال مساجد والمراد المسجد الحرام لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها، فعامره كعامر جميع المساجد. قال الفراء: العرب قد تضع الواحد مكان الجمع كقولهم: فلان كثير الدرهم وبالعكس كقولهم فلان يجالس الملوك ولعله لم يجالس إلا ملكاً واحداً، والمراد بالعمارة إما المعنى الحقيقي أو المعنى المجازي، وهو ملازمته والتعبد فيه، وكلاهما ليس للمشركين، أما الأول: فلأنه يستلزم المنة على المسلمين بعمارة مساجدهم، وأما الثاني: فلكون الكفار لا عبادة لهم مع نهيهم عن قربان المسجد الحرام، ومعنى "ما كان للمشركين" ما صح لهم وما استقام أن يفعلوا ذلك، و "شاهدين على أنفسهم بالكفر" حال: أي ما كان لهم ذلك حال كونهم شاهدين على أنفسهم بالكفر بإظهار ما هو كفر من نصب الأوثان والعبادة لها وجعلها آلهة، فإن هذا شهادة منهم على أنفسهم بالكفر وإن أبوا ذلك بألسنتهم، فكيف يجمعون بين أمرين متنافيين: عمارة المساجد التي هي من شأن المؤمنين، والشهادة على أنفسهم بالكفر التي ليست من شأن من يتقرب إلى الله بعمارة مساجده. وقيل: المارد بهذه الشهادة قولهم في طوافهم: لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك، وقيل: شهادتهم على أنفسهم بالكفر: إن اليهودي يقول: هو يهودي والنصراني يقول: هو نصراني والصابئ يقول: هو صابئ، والمشرك يقول هو مشرك "أولئك حبطت أعمالهم" التي يفتخرون بها ويظنون أنها من أعمال الخير: أي بطلت ولم يبق لها أثر "وفي النار هم خالدون" وفي هذه الجملة الإسمية مع تقديم الظرف المتعلق بالخبر تأكيد لمضمونها.
ثم بين سبحانه من هو حقيق بعمارة المسجد فقال: 18- "إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر" وفعل ما هو من لوازم الإيمان من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة "ولم يخش" أحداً "إلا الله" فمن كان جامعاً بين هذه الأوصاف فهو الحقيق بعمارة المساجد، لا من كان خالياً منها أو من بعضها، واقتصر على ذكر الصلاة والزكاة والخشية تنبيهاً بما هو من أعظم أمور الدين على ما عداه مما افترضه الله على عباده، لأن كل ذلك من لوازم الإيمان، وقد تقدم الكلام في وجه جمع المساجد وفي بيان ماهية العمارة، ومن جوز الجمع بين الحقيقة والمجاز حمل العمارة هنا عليهما، وفي قوله: "فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين" حسم لأطماع الكفار في الانتفاع بأعمالهم، فإن الموصوفين بتلك الصفات إذا كان اهتداؤهم مرجواً فقط، فكيف بالكفار الذين لم يتصفوا بشيء من تلك الصفات، وقيل عسى من الله واجبة، وقيل هي بمعنى خليق: أي فخليق أن يكونوا من المهتدين، وقيل: إن الرجاء راجع إلى العباد.
والاستفهام في 19- "أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام" للإنكار، والسقاية والعمارة مصدران كالسعاية والحماية، وفي الكلام حذف، والتقدير: أجعلتم أصحاب سقاية الحاج وعمارة المسجد، أو أهلهما "كمن آمن" حتى يتفق الموضوع والمحمول أو يكون التقدير في الخبر: أي جعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كعمل من آمن أو كإيمان من آمن. وقرأ ابن أبي وجزة السعدي وابن الزبير وسعيد بن جبير أجعلتم سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام، جمع ساق وعامر، وعلى هذه القراءة لا يحتاج إلى تقدير محذوف، والمعنى: أن الله أنكر عليهم التسوية بين ما كان تعمله الجاهلية من الأعمال التي صورتها صورة الخير، وإن لم ينتفعوا بها وبين إيمان المؤمنين وجهادهم في سبيل الله، وقد كان المشركون يفتخرون بالسقاية والعمارة ويفضلونهما على عمل المسلمين، فأنكر الله عليهم ذلك، ثم صرح سبحانه بالمفاضلة بين الفريقين وتفاوتهم وعدم استوائهم فقال: " لا يستون عند الله " أي لا تساوي تلك الطائفة الكافرة الساقية للحجيج العامرة للمسجد الحرام هذه الطائفة المؤمنة بالله واليوم الآخر المجاهدة في سبيله، ودل سبحانه بنفي الاستواء على نفي الفضيلة التي يدعيها المشركون: أي إذا لم تبلغ أعمال الكفار إلى أن تكون مساوية لأعمال المسلمين، فكيف تكون فاضلة عليها كما يزعمون، ثم حكم عليهم بالظلم وأنهم مع ظلمهم بما هم فيه من الشرك لا يستحقون الهداية من الله سبحانه، وفي هذا إشارة إلى الفريق.
ثم صرح بالفريق الفاضل فقال: 20- "الذين آمنوا" إلى آخره: أي الجامعون بين الإيمان والهجرة والجهاد بالأموال والأنفس "أعظم درجة عند الله" وأحق بما لديه من الخير من تلك الطائفة المشركة المفتخرة بأعمالها المحيطة الباطلة، وفي قوله: "عند الله" تشريف عظيم للمؤمنين، والإشارة بقوله: "أولئك" إلى المتصفين بالصفات المذكورة "هم الفائزون" أي المختصون بالفوز عند الله.