تفسير الطبري تفسير الصفحة 189 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 189
190
188
 الآية : 14
القول في تأويل قوله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مّؤْمِنِينَ }.
يقول تعالى ذكره للمؤمنين بالله ورسوله حاضّا لهم على جهاد أعدائهم من المشركين: ألا تقاتلون أيها المؤمنون هؤلاء المشركين الذين نقضوا العهد الذي بينكم وبينهم وطعنوا في دينكم وظاهروا عليكم أعداءكم وهموا بإخراج الرسول من بين أظهرهم فأخرجوه وهم بَدَءُوكُمْ أوّلَ مَرّةٍ بالقتال, يعني فعلهم ذلك يوم بدر. وقيل: قتالهم حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من خزاعة. أتَخْشَوْنَهُمْ يقول: أتخافونهم على أنفسهم, فتتركوا قتالهم خوفا على أنفسكم منهم؟ فاللّهُ أحَقّ أنْ تَخْشَوْهُ يقول: فالله أولى بكم أن تخافوا عقوبته بترككم جهادهم, وتحذروا سخطه عليكم من هؤلاء المشركين الذين لا يملكون لكم ضرّا ولا نفعا إلا بإذن الله. إنْ كُنْتُمْ مُؤمِنينَ يقول: إن كنتم مقرّين أن خشية الله لكم أولى من خشية هؤلاء المشركين على أنفسكم.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
12917ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قوله: ألا تُقاتِلُونَ قَوْما نَكَثُوا أيمَانَهُمْ مَنْ بَعْد عَهْدِهِمْ وَهَمّوا بإخْرَاج الرّسُول يقول: همّوا بإخراجه فأخرجوه. وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أوّلَ مَرّةٍ بالقتال.
12918ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أوّلَ مَرّةٍ قال: قتال قريش حلفاء محمد صلى الله عليه وسلم.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, بنحوه.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابن نمير, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
12919ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, قال: أمر الله رسوله بجهاد أهل الشرك ممن نقض من أهل العهد ومن كان من أهل العهد العام بعد الأربعة الأشهر التي ضرب لهم أجلاً, إلا أن يعودوا فيها على دينهم فيقبل بعد. ثم قال: ألا تُقاتِلوُنَ قَوْما نَكَثُوا أيمَانَهُمْ وَهَمّوا بإخْرَاجِ الرّسُول... إلى قوله: وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ.
الآية : 15
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَىَ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }.
يقول تعالى ذكره: قاتلوا أيها المؤمنون بالله ورسوله هؤلاء المشركين الذين نكثوا أيمانهم ونقضوا عهودهم بينكم وبينهم, وأخرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم. يُعَذّبْهُمُ اللّهُ بأيْدِيكُم يقول: يقتلهم الله بأيديكم. ويُخْزِهِمْ يقول: ويذلهم بالأسر والقهر. وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ فيعطيكم الظفر عليهم والغلبة. وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ يقول: ويبرىء داء صدور قوم مؤمنين بالله ورسوله بقتل هؤلاء المشركين بأيديكم وإذلالكم وقهركم إياهم, وذلك الداء هو ما كان في قلوبهم عليهم من الموجدة بما كانوا ينالونهم به من الأذى والمكروه. وقيل: إن الله عنى بقوله: وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ: صدور خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم, وذلك أن قريشا نقضوا العهد بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعونتهم بكرا عليهم. ذكر من قال ذلك:
12920ـ حدثنا محمد بن المثنى وابن وكيع قالا: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن الحكم, عن مجاهد في هذه الآية: وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ قال: خزاعة.
12921ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عمرو بن محمد العنقزي, عن أسباط, عن السديّ: وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ قال خزاعة يشف صدورهم من بني بكر.
حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, مثله.
12922ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ خزاعة حلفاء محمد صلى الله عليه وسلم.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عبد الله بن رجاء, عن ابن جريج, عن عبد الله بن كثير, عن مجاهد: وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ قال: حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من خزاعة.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, مثله.
يقول الله تعالى ذكره: ويذهب وجد قلوب هؤلاء القوم المؤمنين من خزاعة, على هؤلاء القوم الذين نكثوا أيمانهم من المشركين وغمها وكربها بما فيها من الوجد عليهم, بمعونتهم بكرا. كما:
12923ـ حدثني ابن وكيع, قال: حدثنا عمرو بن محمد العنقزي, عن أسباط, عن السديّ: وَيُذْهبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ حين قتلهم بنو بكر وأعانتهم قريش.
حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, مثله, إلا أنه قال: وأعانهم عليهم قريش.
وأما قوله: وَيَتُوبُ اللّهُ على مَنْ يَشاءُ فإنه خبر مبتدأ, ولذلك رفع وجزم الأحرف الثلاثة قبل ذلك على وجه المجازاة, كأنه قال: قاتلوهم فإنكم إن تقاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم, ويخزهم, وينصركم عليهم. ثم ابتدأ فقال: وَيَتُوبُ اللّهُ على مَنْ يَشاءُ لأن القتال غير موجب لهم التوبة من الله, وهو موجب لهم العذاب من الله والخزي وشفاء صدور المؤمنين وذهاب غيظ قلوبهم, فجزم ذلك شرطا وجزاءً على القتال, ولم يكن موجبا القتال التوبة, فابُتِدىء الحكم به ورُفع.
ومعنى الكلام: ويمنّ الله على من يشاء من عباده الكافرين, فيقبل به إلى التوبة بتوفيقه إياه, والله عليم بسرائر عباده ومن هو للتوبة أهل فيتوب عليه, ومن منهم غير أهل لها فيخذله, حكيم في تصريف عباده من حال كفر إلى حال إيمان بتوفيق من وفقه لذلك, ومن حال إيمان إلى كفر بخذلانه من خذل منهم عن طاعته وتوحيده, وغير ذلك من أمرهم.
الآية : 16
القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمّا يَعْلَمِ اللّهُ الّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }.
يقول تعالى ذكره للمؤمنين الذين أمرهم بقتال هؤلاء المشركين, الذين نقضوا عهدهم الذي بينهم وبينه بقوله: قاتِلوُهُمْ يُعْذّبْهُمُ اللّهُ بأيْديكُمْ... الآية, حاضّا على جهادهم: أم حسبتم أيها المؤمنون أن يترككم الله بغير محنة يمتحنكم بها وبغير اختبار يختبركم به, فيعرف الصادق منكم في دينه من الكاذب فيه. وَلمّا يَعْلَمِ اللّهُ الّذِينَ جاهَدُوا يقول: أحسبتم أن تتركوا بغير اختبار يعرف به أهل ولايته المجاهدين منكم في سبيله, من المضيعين أمر الله في ذلك المفرّطين. ولَمْ يَتّخِذُوا مِنْ دُون اللّهِ وَلا رَسُولِهِ يقول: ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم, والذين لم يتخذوا من دون الله ولا من دون رسوله, ولا من دون المؤمنين وَلِيجَةً هو الشيء يدخل في آخر غيره, يقال منه: ولج فلان في كذا يَلِجُهُ فهو وليجة. وإنما عنى بها في هذا الموضع: البطانة من المشركين, نهى الله المؤمنين أن يتخذوا من عدوّهم من المشركين أولياء يفشون إليهم أسرارهم. وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ يقول: والله ذو خبرة بما تعملون من اتخاذكم من دون الله ودون رسوله والمؤمنين به أولياء وبطانة بعد ما قد نهاكم عنه, لا يخفى ذلك عليه ولا غيره من أعمالكم, والله مجازيكم على ذلك إن خيرا فخيرا وإن شرّا فشرّا.
وبنحو الذي قلت في معنى الوليجة قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
12924ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: وَلا المُؤمِنِينَ وَلِيجَةَ يتولجها من الولاية للمشركين.
12925ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن أبي جعفر, عن الربيع: وَلِيجَةً قال: دَخَلاً.
12926ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: أمْ حَسِبْتُمْ أنْ تُتْرَكُواإلى قوله: ولِيَجَةً قال: أبي أن يعدهم دون التمحيص, وقرأ: أمْ حَسِبْتُمْ أنْ تَدْخُلُوا الجَنّةَ وَلمّا يَعْلَمِ اللّهُ الّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وقرأ: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جهدوا منكم وَلمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ... الاَيات كلها, أخبرهم أن لا يتركهم حتى يمحصهم ويختبرهم, وقرأ: الم أحَسِبَ النّاسُ أنْ يُتْرَكُوا أنْ يَقُولُوا آمَنّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ لا يختبرون وَلَقَدْ فَتَنّا الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلْيَعْلَمَنّ اللّهُ الّذِينَ صَدَقُوا وَلْيَعْلَمَنّ الكاذِبِينَ أبى الله إلا أن يمحص.
12927ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الحسن: وَلِيجَةً قال: هو الكفر والنفاق, أو قال أحدهما.
وقيل: أمْ حَسِبْتُمْ ولم يقل: «أحسبتم», لأنه من الاستفهام المعترض في وسط الكلام, فأدخلت فيه «أم» ليفرق بينه وبين الاستفهام المبتدأ وقد بيّنت نظائر ذلك في غير موضع من الكتاب.
الآية : 17
القول في تأويل قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَىَ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النّارِ هُمْ خَالِدُونَ }.
يقول تعالى ذكره: ما ينبغي للمشركين أن يعمروا مساجد الله وهم شاهدون على أنفسهم بالكفر. يقول: إن المساجد إنما تعمر لعبادة الله فيها لا للكفر به, فمن كان بالله كافرا فليس من شأنه أن يعمر مساجد الله.
وأما شهادتهم على أنفسهم بالكفر, فإنها كما:
12928ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قوله: ما كانَ للْمُشْرِكِينَ أنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللّهِ شاهِدِينَ على أنْفُسِهِمْ بالكُفْرِ يقول: ما ينبغي لهم أن يعمروها. وأما شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ بالكُفْرِ فإن النصرانيّ يسأل: ما أنت؟ فيقول: نصراني, واليهودي, فيقول: يهودي, والصابىء, فيقول: صابىء, والمشرك يقول إذا سألته: ما دينك؟ فيقول: مشرك لم يكن ليقوله أحد إلا العرب.
12929ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عمرو العنقزي, عن أسباط, عن السديّ: ما كانَ للْمُشْرِكِينَ أنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللّهِ قال: يقول: ما كان ينبغي لهم أن يعمروها.
12930ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عمرو, عن أسباط, عن السديّ: شاهِدِينَ على أنْفُسِهِمْ بالكُفْرِ قال: النصراني يقال له: ما أنت؟ فيقول: نصراني, واليهودي يقال له: ما أنت؟ فيقول: يهودي, والصابىء يقال له: ما أنت؟ فيقول: صابىء.
وقوله: أُولَئِكَ حَبِطَتْ أعمالُهُمْ يقول: بطلت وذهبت أجورها, لأنها لم تكن لله, بل كانت للشيطان. وفِي النّارِ هُمْ خالِدُونَ يقول: ماكثون فيها أبدا, لا أحياءً ولا أمواتا.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: ما كانَ للْمُشْرِكِينَ أنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللّهِ فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة والكوفة: مَساجِدَ اللّهِ على الجمع. وقرأ ذلك بعض المكيين والبصريين: «مَسْجِدَ اللّهِ» على التوحيد, بمعنى المسجد الحرام. وهم جميعا مجمعون على قراءة قوله: مَساجِدَ اللّهِ على الجمع, لأنه إذا قرىء كذلك احتمل معنى الواحد والجمع, لأن العرب قد تذهب بالواحد إلى الجمع وبالجمع إلى الواحد, كقولهم: عليه ثوب أخلاق.
الآية : 18
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَأَقَامَ الصّلاَةَ وَآتَىَ الزّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاّ اللّهَ فَعَسَىَ أُوْلَـَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ }.
يقول تعالى ذكره: إنما يعمر مساجد الله المصدّق بوحدانية الله, المخلص له العبادة واليوم الاَخر, يقول: الذي يصدق ببعث الله الموتى أحياء من قبورهم يوم القيامة, وأقام الصلاة المكتوبة بحدودها, وأدّى الزكاة الواجبة عليه في ماله إلى من أوجبها الله له. وَلمْ يَخْشَ إلاّ اللّهَ يقول: ولم يرهب عقوبة شيء على معصيته إياه سوى الله. فَعَسَى أُولَئِكَ أنْ يَكُونُوا مِنَ المُهْتَدِينَ يقول: فخليق بأولئك الذين هذه صفتهم أن يكونوا عند الله ممن قد هداه الله للحقّ وإصابة الصواب.
12931ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: حدثنا معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: إنّمَا يَعْمُرُ مَساجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ باللّهِ واليَوْمِ الاَخِرِ يقول: من وحد الله. وآمن باليوم الاَخر يقول: أقرّ بما أنزل الله. وأقامَ الصّلاةَ يعني الصلوات الخمس. ولَمْ يَخْشَ إلاّ اللّهَ يقول: ثم لم يعبد إلا الله, قال: فَعَسَى أُولَئِكَ يقول: إن أولئك هم المفلحون, كقوله لنبيه: عَسَى أنْ يَبْعَثكَ رَبّكَ مَقاما مَحْمُودا يقول: إن ربك سيبعثك مقاما محمودا, وهي الشفاعة, وكل «عسى» في القرآن فهي واجبة.
12932ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, قال: ثم ذكر قول قريش: إنا أهل الحرم, وسقاة الحاجّ, وعمّار هذا البيت, ولا أحد أفضل منا فقال: إنّمَا يَعْمُرُ مَساجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ باللّهِ واليَوْمِ الاَخِرِ: أي إن عمارتكم ليست على ذلك, إنما يعمر مساجد الله: أي من عمرها بحقها, مَنْ آمَنَ بالله واليَوْمِ الاَخِرِ وأقامَ الصّلاةَ وآتى الزّكاةَ ولَمْ يَخْشَ إلاّ اللّهَ فأولئك عمارها. فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ المُهْتَدِينَ و«عسى» من الله حق.
الآية : 19
القول في تأويل قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ }.
وهذا توبيخ من الله تعالى ذكره لقوم افتخروا بالسقاية وسدانة البيت, فأعلمهم جلّ ثناؤه أن الفخر في الإيمان بالله واليوم الاَخر والجهاد في سبيله لا في الذي افتخروا به من السدانة والسقاية. وبذلك جاءت الاَثار وتأويل أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
12933ـ حدثنا أبو الوليد الدمشقي أحمد بن عبد الرحمن, قال: حدثنا الوليد بن مسلم, قال: ثني معاوية بن سلام, عن جده أبي سلام الأسود, عن النعمان بن بشير الأنصاريّ, قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه, فقال رجل منهم: ما أبالي ألاّ أعمل عملاً بعد الإسلام, إلا أن أسقي الحاج وقال آخر: بل عمارة المسجد الحرام وقال آخر: بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم فزجرهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه, وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فاستفتيته فيما اختلفتم فيه قال: ففعل, فأنزل الله تبارك وتعالى: أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجّ... إلى قوله: وَاللّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ.
12934ـ حدثنا المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجّ وعِمارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ كمَنْ آمَنَ باللّهِ واليَوْمِ الاَخِرِ قال العباس بن عبد المطلب حين أُسر يوم بدر: لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد, لقد كنا نعمر المسجد الحرام, ونسقي الحاجّ, ونفك العاني قال الله: أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجّ... إلى قوله: الظّالِمِينَ. يعني أن ذلك كان في الشرك, ولا أقْبَلُ ما كان في الشرك.
12935ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجّ... إلى قوله: الظّالِمِينَ وذلك أن المشركين قالوا: عمارة بيت الله وقيام على السقاية خير ممن آمن وجاهد وكانوا يفخرون بالحرم ويستكبرون به من أجل أنهم أهله وعماره. فذكر الله استكبارهم وإعراضهم, فقال لأهل الحرم من المشركين: قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ على أعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِرا تَهْجُرُونَ يعني أنهم يستكبرون بالحرم, وقال: «به سامرا» لأنهم كانوا يسمرون ويهجرون القرآن والنبيّ صلى الله عليه وسلم. فخير الإيمان بالله والجهاد مع نبيّ الله صلى الله عليه وسلم على عمران المشركين البيت وقيامهم على السقاية. ولم يكن ينفعهم عند الله مع الشرك به أن كانوا يعمرون بيته ويخدمونه, قال الله: لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللّهِ وَاللّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ يعني: الذين زعموا أنهم أهل العمارة, فسماهم الله «ظالمين» بشركهم فلم تغن عنهم العمارة شيئا.
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن يحيى بن أبي كثير, عن النعمان بن بشير, أن رجلاً قال: ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاجّ وقال آخر: ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم. فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صلى الجمعة دخلنا عليه. فنزلت: أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجّ وعِمارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ... إلى قوله: لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللّهِ.
12936ـ حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن عمرو, عن الحسن, قال: نزلت في عليّ وعباس وعثمان وشيبة, تكلموا في ذلك فقال العباس: ما أراني إلا تارك سقايتنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقِيمُوا على سِقايَتِكُمْ فإنّ لَكُمْ فِيها خَيْرا».
12937ـ قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا ابن عيينة, عن إسماعيل, عن الشعبيّ, قال: نزلت في عليّ والعباس, تكلما في ذلك.
12938ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرت عن أبي صخر, قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: افتخر طلحة بن شيبة من بني عبد الدار, وعباس بن عبد المطلب, وعليّ بن أبي طالب, فقال طلحة: أنا صاحب البيت معي مفتاحه, لو أشاء بتّ فيه وقال عباس: أنا صاحب السقاية والقائم عليها, ولو أشاء بتّ في المسجد وقال عليّ: ما أدري ما تقولان, لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس, وأنا صاحب الجهاد فأنزل الله: أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجّ وعِمارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ... الآية كلها.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الحسن, قال: لما نزلت أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجّ قال العباس: ما أراني إلا تارك سقايتنا, فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أقِيمُوا على سِقايَتِكُمْ فإنّ لَكُمْ فِيها خَيْرا».
12939ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجّ وعِمارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ كمَنْ آمَنَ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ وَجاهَد فِي سَبِيلِ اللّهِ لا يَسْتَوُونَ عنْد اللّهِ قال: افتخر عليّ وعباس وشيبة بن عثمان, فقال العباس: أنا أفضلكم, أنا أسقي حجاج بيت الله وقال شيبة: أنا أعمر مسجد الله وقال علي: أنا هاجرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأجاهد معه في سبيل الله فأنزل الله: الّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ... إلى: نَعِيمٌ مُقِيمٌ.
12940ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ, قال: حدثنا عبيد بن سليمان, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجّ... الآية, أقبل المسلمون على العباس وأصحابه الذين أُسروا يوم بدر يعيرونهم بالشرك, فقال العباس: أما والله لقد كنا نعمر المسجد الحرام, ونفك العاني, ونحجب البيت, ونسقي الحاجّ فأنزل الله: أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجّ... الآية.
فتأويل الكلام إذن: أجعلتم أيها القوم سقاية الحاجّ, وعمارة المسجد الحرام كإيمان من آمن بالله واليوم الاَخر وجاهد في سبيل الله, لا يستوون هؤلاء وأولئك, ولا تعتدل أحوالهما عند الله ومنازلهما لأن الله تعالى لا يقبل بغير الإيمان به وباليوم الاَخر عملاً. واللّهُ لا يَهْدِي القَوْم الظّالِمِينَ يقول: والله لا يوفق لصالح الأعمال من كان به كافرا ولتوحيده جاحدا. ووضع الاسم موضع المصدر في قوله: كمَنْ آمَنَ باللّهِ إذ كان معلوما معناه, كما قال الشاعر:
لَعَمْرُكَ ما الفِتْيانُ أنْ تَنْبُتَ اللّحَىوَلَكِنّما الفِتْيانُ كُلّ فَتىً نَدِي
فجعل خبر الفتيان «أن», وهو كما يقال: إنما السخاء حاتم والشعر زهير.
الآية : 20
القول في تأويل قوله تعالى: {الّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ }.
وهذا قضاء من الله بين فِرَق المفتخرين الذين افتخر أحدهم بالسقاية, والاَخر بالسدانة, والاَخر بالإيمان بالله والجهاد في سبيله. يقول تعالى ذكره: الذين آمنوا بالله: صدقوا بتوحيده من المشركين, وهاجروا دور قومهم, وجاهدوا المشركين في دين الله بأموالهم وأنفسهم, أعظم درجة عند الله وأرفع منزلة عنده من سقاة الحاجّ وعمار المسجد الحرام وهم بالله مشركون. وَأُولِئكَ يقول: وهؤلاء الذين وصفنا صفتهم أنهم آمنوا وهاجروا وجاهدوا وهُمُ الفَائِزُونَ بالجنة الناجون من النار