تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 20 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 20

20 : تفسير الصفحة رقم 20 من القرآن الكريم

** رَبّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ إِنّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ
يقول تعالى إخباراً عن تمام دعوة إبراهيم لأهل الحرم أن يبعث الله فيهم رسولا منهم, أي من ذرية إبراهيم, وقدوافقت هذه الدعوة المستجابة قدر الله السابق في تعيين محمد صلوات الله وسلامه عليه رسولاً في الأميين إليهم وإلى سائر الأعجميين من الإنس والجن, كما قال الإمام أحمد: أخبرنا عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح, عن سعيد بن سويد الكلبي, عن عبد الأعلى بن هلال السلمي, عن العرباض بن سارية, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني عند الله لخاتم النبيين, وإن آدم لمنجدل في طينته, وسأنبئكم بأول ذلك, دعوة أبي إبراهيم, وبشارة عيسى بي, ورؤيا أمي التي رأت, وكذلك أمهات النبيين يرين» وكذلك رواه ابن وهب والليث وكاتبه عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح وتابعه أبو بكر بن أبي مريم عن سعيد بن سويد به, وقال الإمام أحمد أيضاً: أخبرنا أبو النضر, أخبرنا الفرج, أخبرنا لقمان بن عامر, قال: سمعت أبا أمامة قال: قلت يا رسول الله: ما كان أول بدء أمرك ؟ قال «دعوة أبي إبراهيم, وبشرى عيسى بي. ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام» والمراد أن أول من نوه بذكره وشهره في الناس إبراهيم عليه السلام, ولم يزل ذكره في الناس مذكوراً مشهوراً سائراً حتى أفصح باسمه خاتم الأنبياء بني إسرائيل نسباً, وهو عيسى بن مريم عليه السلام, حيث قام في بني إسرائيل خطيباً, وقال {إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} ولهذا قال في هذا الحديث دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى بن مريم. وقوله: ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام, قيل كان مناماً رأته حين حلمت به, وقصته على قومها, فشاع فيهم واشتهر بينهم, وكان ذلك توطئة وتخصيص الشام بظهور نوره إشارة إلى استقرار دينه ونبوته ببلاد الشام, ولهذا تكون الشام في آخر الزمان معقلاً للإسلام وأهله, وبها ينزل عيسى بن مريم إذا نزل بدمشق بالمنارة الشرقية البيضاء منها, ولهذا جاء في الصحيحين «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك» وفي صحيح البخاري «وهم بالشام» قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله {ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم} يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم, فقيل له: قد استجيب لك, وهو كائن في آخر الزمان, وكذا قال السدي وقتادة, وقوله تعالى: {ويعلمهم الكتاب} يعني القرآن, {والحكمة} يعني السنة, قاله الحسن وقتادة ومقاتل بن حيان وأبو مالك وغيرهم, وقيل: الفهم في الدين ولا منافاة, {ويزكيهم} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يعني طاعة الله وقال محمد بن إسحاق {ويعلمهم الكتاب والحكمة} قال الخير فيفعلوه والشر فيتقوه, ويخبرهم برضا الله عنهم إذا أطاعوه ليستكثروا من طاعته ويجتنبوا ما يسخطه من معصيته, وقوله {إنك أنت العزيز الحكيم} أي العزيز الذي لا يعجزه شيء, وهو قادر على كل شيء الحكيم في أفعاله وأقواله, فيضع الأشياء في محالها لعلمه وحكمته وعدله.

** وَمَن يَرْغَبُ عَن مّلّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدّنْيَا وَإِنّهُ فِي الاَخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ * وَوَصّىَ بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيّ إِنّ اللّهَ اصْطَفَىَ لَكُمُ الدّينَ فَلاَ تَمُوتُنّ إَلاّ وَأَنْتُم مّسْلِمُونَ
يقول تبارك وتعالى رداً على الكفار فيما ابتدعوه وأحدثوه من الشرك بالله, المخالف لملة إبراهيم الخليل إمام الحنفاء, فإنه جرد توحيد ربه تبارك وتعالى فلم يدعو معه غيره ولا أشرك به طرفة عين, وتبرأ من كل معبود سواه خالف في ذلك سائر قومه حتىَ تبرأ من أبيه, فقال {يا قوم إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين} وقال تعالى: {وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني فإنه سيهدين} وقال تعالى: {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدوّ لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم} وقال تعالى: {إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين * شاكراً لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم * وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الاَخرة لمن الصالحين} ولهذا وأمثاله قال تعالى: {ومن يرغب عن ملة إبراهيم} عن طريقته ومنهجه فيخالفها ويرغب عنها {إلا من سفه نفسه} ؟ أي ظلم نفسه بسفهه وسوء تدبيره بتركه الحق إلى الضلال حيث خالف طريق من اصطفي في الدنيا للهداية والرشاد من حداثة سنه إلى أن اتخذه الله خليلاً, وهو في الاَخرة من الصالحين السعداء, فمن ترك طريقه هذا ومسلكه وملته, واتبع طريق الضلالة والغيّ, فأي سفه أعظم من هذا ؟ أم أي ظلم أكبر من هذا ؟ كما قال تعالى: إن الشرك لظلم عظيم, قال أبو العالية وقتادة: نزلت هذه الاَية في اليهود, أحدثوا طريقاً ليست من عند الله, وخالفوا ملة إبراهيم فيما أحدثوه, ويشهد لصحة هذا القول قول الله تعالى: {ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين * إن أولى الناس بإبراهيم للذين ابتعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين.
وقوله تعالى {إذا قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين} أي أمره الله بالإخلاص والاستسلام والانقياد, فأجاب إلى ذلك شرعاً وقدراً, وقوله {ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب} أي وصى بهذه الملة, وهي الاسلام لله, أو يعود الضمير على الكلمة وهي قوله {أسلمت لرب العالمين} لحرصهم عليها ومحبتهم لها, حافظوا عليها إلى حين الوفاة, ووصوا أبناءهم بها من بعدهم كقوله تعالى: {وجعلها كلمة باقية في عقبه} وقد قرأ بعض السلف ويعقوب بالنصب عطفاً على بنيه, كأن إبراهيم وصى بنيه وابن ابنه يعقوب بن إسحاق وكان حاضراً ذلك, وقد ادعى القشيري فيما حكاه القرطبي عنه أن يعقوب إنما ولد بعد وفاة إبراهيم, ويحتاج مثل هذا إلى دليل صحيح, والظاهر, والله أعلم, أن إسحاق ولد له يعقوب في حياة الخليل وسارة, لأن البشارة وقعت بهما في قوله {فببشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب} وقد قرىء بنصب يعقوب ههنا على نزع الخافض, فلو لم يوجد يعقوب في حياتهما لما كان لذكره من بين ذرية إسحاق كبير فائدة, وأيضاً فقد قال الله تعالى في سورة العنكبوت: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب} الاَية, وقال في الاَية الأخرى {ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة} وهذا يقضي أنه وجد في حياته, وأيضاً فإنه باني بيت المقدس, كما نطقت بذلك الكتب المتقدمة, وثبت في الصحيحين من حديث أبي ذر قلت: يا رسول الله, أي مسجد وضع أول ؟ قال: «المسجد الحرام» قلت: ثم أي ؟ قال «بيت المقدس», قلت: كم بينهما ؟ قال «أربعون سنة» الحديث, فزعم ابن حبان أن بين سليمان الذي اعتقد أنه باني بيت المقدس ـ وإنما كان جدّده بعد خرابه وزخرفه ـ وبين إبراهيم أربعين سنة, وهذا مما أنكر على ابن حبان, فإن المدة بينهما تزيد على ألوف السنين, والله أعلم, وأيضاً فإن وصية يعقوب لبنيه سيأتي ذكرها قريباً, وهذا يدل على أنه ههنا من جملة الموصين. وقوله {يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} أي أحسنوا في حال الحياة, والزموا هذا ليرزقكم الله الوفاة عليه, فإن المرء يموت غالباً على ما كان عليه, ويبعث على ما مات عليه, وقد أجرى الله الكريم عادته بأنه من قصد الخير وفق له ويسر عليه, ومن نوى صالحاً ثبت عليه. وهذا لا يعارض ما جاء في الحديث الصحيح «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع, فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها. وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع, فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» لأنه قد جاء في بعض روايات هذا الحديث ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وبعمل أهل النار فيما يبدو للناس, وقد قال الله تعالى: {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى}.

** أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـَهَكَ وَإِلَـَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * تِلْكَ أُمّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمّا كَانُوا يَعْمَلُونَ
يقول تعالى محتجاً على المشركين من العرب أبناء إسماعيل وعلى الكفار من بني إسرائيل ـ وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام ـ بأن يعقوب لما حضرته الوفاة, وصى بنيه بعبادة الله وحده لا شريك له, فقال لهم {ما تعبدون من بعدي ؟ قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق} وهذا من باب التغليب, لأن إسماعيل عمه, قال نحاس: والعرب تسمي العم أباً, نقله القرطبي, وقد استدل بهذه الاَية الكريمة من جعل الجد أباً وحجب به الإخوة, كما هو قول الصديق, حكاه البخاري عنه من طريق ابن عباس وابن الزبير, ثم قال البخاري: ولم يختلف عليه, وإليه ذهبت عائشة أم المؤمنين, وبه يقول الحسن البصري وطاوس وعطاء, وهو مذهب أبي حنيفة وغير واحد من السلف والخلف, وقال مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه أنه يقاسم الإخوة, وحكي ذلك عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت وجماعة من السلف والخلف, واختاره صاحبا أبي حنيفة القاضي أبو بوسف ومحمد بن الحسن, ولتقريرها موضع آخر, وقوله {إلهاً واحد} أي نوحده بالألوهية ولا نشرك به شيئاً غيره, {ونحن له مسلمون} أي مطيعون خاضعون, كما قال تعالى: {وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون} والإسلام هو ملة الأنبياء قاطبة وإن تنوعت شرائعهم واختلفت مناهجهم, كما قال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله ألا أنا فاعبدون}, والاَيات في هذا كثيرة والأحاديث فمنها قوله صلى الله عليه وسلم «نحن معشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد» وقوله تعالى: {تلك أمة قد خلت} أي مضت, {لها ما كسبت ولكم ما كسبتم} أي إن السلف الماضين من آبائكم من الأنبياء والصالحين لا ينفعكم انتسابكم إليهم إذا لم تفعلوا خيراً يعود نفعه عليكم, فإن لهم أعمالهم التي عملوها ولكم أعمالكم {ولا تسئلون عما كانوا يعملون} وقال أبو العالية والربيع وقتادة {تلك أمة قد خلت} يعني إبراهيم وإسحاق ويعقوب والأسباط ولهذا جاء في الأثر «من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه».