تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 21 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 21

21 : تفسير الصفحة رقم 21 من القرآن الكريم

** وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَىَ تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد, حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة, عن ابن عباس, قال: قال عبد الله بن صوريا الأعور لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الهدى إلا ما نحن عليه, فاتبعنا يا محمد تهتد, وقالت النصاري مثل ذلك, فأنزل الله عز وجل {وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدو} وقوله {قل بل ملة إبراهيم حنيف} أي لا نريد ما دعوتمونا إليه من اليهودية والنصرانية بل نتبع {ملة إبراهيم حنيف} أي مستقميا, قاله محمد بن كعب القرظي وعيسى بن جارية, وقال خصيف عن مجاهد مخلصا, وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس حاجاً, وكذا روي عن الحسن والضحاك وعطية والسدي, وقال أبو العالية: الحنيف الذي يستقبل البيت بصلاته, ويرى أن حجه عليه إن استطاع إليه سبيلا. وقال مجاهد والربيع بن أنس: حنيفاً أي متبعاً. وقال أبو قلابة: الحنيف الذي يؤمن بالرسل كلهم من أولهم إلى أخرهم, وقال قتادة: الحنيفية شهادة أن لا إله إلا الله, يدخل فيها تحريم الأمهات والبنات والخالات والعمات وما حرم الله عز وجل والختان.

** قُولُوَاْ آمَنّا بِاللّهِ وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَىَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىَ وَعِيسَىَ وَمَا أُوتِيَ النّبِيّونَ مِن رّبّهِمْ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
أرشد الله تعالى عباده المؤمنين إلى الإيمان بما أنزل إليهم بواسطة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم مفصلا وما أنزل على الأنبياء المتقدمين مجملا, ونص على أعيان من الرسل, وأجمل ذكر بقية الأنبياء, وأن لا يفرقوا بين أحد منهم بل يؤمنوا بهم كلهم, ولا يكونوا كمن قال الله فيهم {ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا * أولئك هم الكافرون حق} الاَية, وقال البخاري: حدثنا محمد بن بشار, أخبرنا عثمان بن عمرة, أخبرنا علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير, عن أبي سلمة بن عبد الرحمن, عن أبي هريرة, قال: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل الله». وقد روى مسلم وأبو داود والنسائي من حديث عثمان بن حكيم عن سعيد بن يسار عن ابن عباس, قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما يصلي الركعتين اللتين قبل الفجر بـ {آمنا بالله وما أنزل إلين} الاَية, والأخرى بـ {آمنا بالله واشهد بأنّا مسلمون}, وقال أبو العالية والربيع وقتادة: الأسباط بنو يعقوب اثنا عشر رجلاً, ولد كل رجل منهم أمة من الناس, فسموا الأسباط. وقال الخليل بن أحمد وغيره: الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في بني إسماعيل, وقال الزمخشري في الكشاف: الأسباط قبائل بني إسرائيل, وهذا يقتضي أن المراد بالأسباط ههنا شعوب بني إسرائيل, وما أنزل الله من الوحي على الأنبياء الموجودين منهم, كما قال موسى لهم {اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوك} الاَية, وقال تعالى: {وقطعناهم اثنتي عشرة أسباط} قال القرطبي: وسموا الأسباط من السبط, وهو التتابع, فهم جماعة, وقيل أصله من السبط, بالتحريك, وهو الشجر, أي في الكثرة بمنزلة الشجر الواحدة سبطة قال الزجاج: ويبين لك أصله ما حدثنا محمد بن جعفر الأنباري, حدثنا أبو نجيد الدقاق, حدثنا الأسود بن عامر, حدثنا إسرائيل عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة: نوح وهود وصالح وشعيب وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل ومحمد عليهم الصلاة والسلام, قال القرطبي: والسبط الجماعة والقبيلة الراجعون إلى أصل واحد, وقال قتادة: أمر الله المؤمنين أن يؤمنوا به ويصدقوا بكتبه كلها وبرسله. وقال سليمان بن حبيب: إنما أمرنا أن نؤمن بالتوارة والإنجيل, ولا نعمل بما فيهما. وقال ابن أبي حاتم: اخبرنا محمد بن محمد بن مصعب الصوري, أخبرنا مؤمل, أخبرنا عبيد الله بن أبي حميد عن أبي المليح, عن معقل بن يسار, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «آمنوا بالتوراة والزبور والإنجيل وليسعكم القرآن».

** فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وّإِن تَوَلّوْاْ فَإِنّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ * صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ
يقول تعالى: فإن آمنوا, يعني الكفار من أهل الكتاب وغيرهم, بمثل ما آمنتم به يا أيها المؤمنون من الإيمان بجميع كتب اللهورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم {فقد اهتدو} أي فقد أصابوا الحق وأرشدوا إليه {وإن تولو} أي عن الحق إلى الباطل بعد قيام الحجة عليهم {فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله}, أي فسينصرك عليهم ويظفرك بهم {وهو السميع العليم}.
قال ابن أبي حاتم: قرأ عليّ بونس بن عبد الأعلى, أخبرنا ابن وهب, أخبرنا زياد بن يونس, حدثنا نافع بن أبي نعيم, قال: أرسل إلى بعض الخلفاء مصحف عثمان بن عفان ليصلحه, قال زياد: فقلت له: إن الناس ليقولون إن مصحفه كان في حجره حين قتل فوقع الدم على {فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم} فقال نافع: بصرت عيني بالدم على هذه الاَية, وقد قدم, وقوله{صبغة الله}, قال الضحاك عن ابن عباس: دين الله, وكذا روي عن مجاهد وأبي العالية وعكرمة وإبراهيم والحسن وقتادة والضحاك وعبد الله بن كثير وعطية العوفي والربيع بن أنس والسدي نحو, ذلك وانتصاب صبغة الله إما على الإغراء كقوله {فطرة الله} أي الزموا ذلك عليكموه, وقال بعضهم: بدلاً من قوله {ملة إبراهيم} وقال سيبويه: هو مصدر مؤكد انتصب عن قوله {آمنا بالله} كقوله {وعد الله} وقد ورد في حديث رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه من رواية أشعث بن إسحاق عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال «إن بني إسرائيل قالوا: يا رسول الله, هل يصبغ ربك ؟ فقال: اتقوا الله. فناداه ربه: يا موسى سألوك هل يصبغ ربك ؟ فقل: نعم, أنا أصبغ الألوان: الأحمر والأبيض والأسود, والألوان كلها من صبغي» وأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم {صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة} كذا وقع في رواية ابن مردويه مرفوعاً, وهو في رواية ابن أبي حاتم موقوف وهو أشبه إن صح إسناده والله أعلم.

** قُلْ أَتُحَآجّونَنَا فِي اللّهِ وَهُوَ رَبّنَا وَرَبّكُمْ وَلَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ * أَمْ تَقُولُونَ إِنّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَىَ قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ * تِلْكَ أُمّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
يقول الله تعالى مرشداً نبيه صلوات الله وسلامه عليه إلى درء مجادلة المشركين: {قل أتحاجوننا في الله} أي تناظروننا في توحيد الله والإخلاص له والإنقياد واتباع أوامره وترك زواجره {وهو ربنا وربكم} المتصرف فينا وفيكم المستحق لإخلاص الإلهية له وحده لا شريك له {ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم} أي نحن براء منكم ومما تعبدون وأنتم براء منا, كما قال في الاَية الأخرى {فإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم * أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون} وقال تعالى: {فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعني} إلى آخر الاَية, وقال تعالى إخباراً عن إبراهيم {وحاجّه قومه قال أتحاجوني في الله} إلى آخر الاَية, وقال تعالى: {ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربه} الاَية, وقال في هذه الاَية الكريمة {ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون} أي نحن براء منكم كما أنتم براء منا, ونحن له مخلصون أي في العبادة والتوجه, وثم أنكر تعالى عليهم في دعواهم أن إبراهيم ومن ذكر بعده من ألأنبياء والأسباط, كانوا على ملتهم إما اليهودية وإما النصرانية, فقال: {قل أأنتم أعلم أم الله} يعني بل الله أعلم, وقد أخبر أنهم لم يكونوا هوداً ولا نصارى كما قال تعالى: {وما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين} الاَية والتي بعدها, وقوله {ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله} قال الحسن البصري: كانوا يقرءون في كتاب الله الذي أتاهم إن الدين الإسلام وإن محمداً رسول الله وإن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط, كانوا براء من اليهودية والنصرانية فشهدوا لله بذلك, وأقروا على أنفسهم لله, فكتموا شهادة الله عندهم من ذلك, وقوله {وما الله بغافل عما تعملون} تهديد ووعيد شديد, أي أن علمه محيط بعلمكم وسيجزيكم عليه. ثم قال تعالى: {تلك أمة قد خلت} أي قد مضت, {لها ما كسبت ولكم ما كسبتم} أي لهم أعمالهم ولكم أعمالكم {ولا تسئلون عما كانوا يعملون} وليس يغني عنكم انتسابكم إليهم من غير متابعة منكم لهم, ولا تغتروا بمجرد النسبة إليهم حتى تكونوا منقادين مثلهم لأوامر اللهواتباع رسله الذين بعثوا مبشرين ومنذرين, فإنه من كفر بنبي واحد, فقد كفر بسائر الرسل ولا سيما بسيد الأنبياء وخاتم المرسلين ورسول رب العالمين إلى جميع الإنس والجن من المكلفين صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر أنبياء الله أجمعين.