تفسير الطبري تفسير الصفحة 20 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 20
021
019
 الآية : 127
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبّنَا تَقَبّلْ مِنّآ إِنّكَ أَنتَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ }
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيـمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَـيْتِ واذكروا إذ يرفع إبراهيـم القواعد من البـيت. والقواعد جمع قاعدة, يقال للواحدة من قواعد البـيت قاعدة, وللواحدة من قواعد النساء وعجائزهن قاعد, فتلغى هاء التأنـيث لأنها فـاعل من قول القائل: قعدت عن الـحيض, ولا حظّ فـيه للذكورة, كما يقال: امرأة طاهر وطامث, لأنه لا حظّ فـي ذلك للذكور. ولو عنى به القعود الذي هو خلاف القـيام لقـيـل قاعدة, ولـم يجز حينئذٍ إسقاط هاء التأنـيث. وقواعد البـيت: إساسه.
ثم اختلف أهل التأويـل فـي القواعد التـي رفعها إبراهيـم وإسماعيـل من البـيت, أهما أحدثا ذلك, أم هي قواعد كانت له قبلهما؟ فقال قوم: هي قواعد بـيت كان بناه آدم أبو البشر بأمر الله إياه بذلك, ثم درس مكانه وتعفـى أثره بعده حتـى بوأه الله إبراهيـم علـيه السلام, فبناه. ذكر من قال ذلك:
1546ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا ابن جريج, عن عطاء, قال: قال آدم: يا ربّ إنـي لا أسمع أصوات الـملائكة قال: بخطيئتك, ولكن اهبط إلـى الأرض وابن لـي بـيتا, ثم احْفُفْ به كما رأيت الـملائكة تـحفّ ببـيتـي الذي فـي السماء. فـيزعم الناس أنه بناه من خمسة أَجْبُل: من حراء, وطور زَيْتا, وطور سِينا, وجبل لبنان, والـجودي, وكان رَبَضُه من حراء فكان هذا بناء آدم حتـى بناه إبراهيـم بعد.
1547ـ حدثنا الـحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن أيوب, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيـمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَـيْتِ قال: القواعد التـي كانت قواعد البـيت قبل ذلك.
وقال آخرون: بل هي قواعد بـيت كان الله أهبطه لاَدم من السماء إلـى الأرض, يطوف به كما كان يطوف بعرشه فـي السماء, ثم رفعه إلـى السماء أيام الطوفـان, فرفع إبراهيـم قواعد ذلك البـيت. ذكر من قال ذلك:
1548ـ حدثنـي مـحمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الوهاب, قال: حدثنا أيوب, عن أبـي قلابة, عن عبد الله بن عمرو قال: لـما أهبط الله آدم من الـجنة قال: إنـي مهبط معك أو منزل معك بـيتا يطاف حوله, كما يطاف حول عرشي, ويصلّـى عنده, كما يصلّـى عند عرشي. فلـما كان زمن الطوفـان رفع, فكانت الأنبـياء يحجّونه ولا يعلـمون مكانه, حتـى بوأه الله إبراهيـم وأعلـمه مكانه, فبناه من خمسة أجبل: من حراء, وثبـير, ولبنان, وجبل الطور, وجبل الـخمر.
حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا إسماعيـل بن علـية, قال: حدثنا أيوب, عن أبـي قلابة, قال: لـما أهبط آدم, ثم ذكر نـحوه.
1549ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا هشام بن حسان, عن سوار, عن عطاء بن أبـي ربـاح, قال: لـما أهبط الله آدم من الـجنة كان رجلاه فـي الأرض ورأسه فـي السماء, يسمع كلام أهل السماء ودعاءهم, يأنس إلـيهم, فهابته الـملائكة حتـى شكت إلـى الله فـي دعائها وفـي صلاتها, فخفضه إلـى الأرض فلـما فَقد ما كان يسمع منهم, استوحش حتـى شكا ذلك إلـى الله فـي دعائه وفـي صلاته, فوُجّه إلـى مكة, فكان موضع قدمه قرية وخطوه مفـازةً, حتـى انتهى إلـى مكة. وأنزل الله ياقوتة من ياقوت الـجنة, فكانت علـى موضع البـيت الاَن, فلـم يزل يطوف به حتـى أنزل الله الطوفـان, فرفعت تلك الـياقوتة, حتـى بعث الله إبراهيـم فبناه, فذلك قول الله: وَإِذْ بَوّأْنا لابْرَاهِيـمَ مَكَانَ البَـيْتِ.
1550ـ حدثنـي الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, قال: وضع الله البـيت مع آدم حين أهبط الله آدم إلـى الأرض, وكان مهبطه بأرض الهند, وكان رأسه فـي السماء ورجلاه فـي الأرض, فكانت الـملائكة تهابه, فنقص إلـى ستـين ذراعا. فحزن آدم إذ فقد أصوات الـملائكة وتسبـيحهم فشكا ذلك إلـى الله تعالـى فقال الله: يا آدم إنـي قد أهبت إلـيك بـيتا تطوف به كما يطاف حول عرشي, وتصلّـي عنده كما يصلّـى عند عرشي. فـانطلق إلـيه آدم فخرج, ومُدّ له فـي خطوه, فكان بـين كل خطوتـين مفـازة, فلـم تزل تلك الـمفـاوز بعد ذلك, فأتـى آدم البـيت وطاف به ومن بعده من الأنبـياء.
1551ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن أبـان: أن البـيت أُهبط ياقوتة واحدة أو درّة واحدة, حتـى إذا أغرق الله قوم نوح رفعه وبقـي أساسه, فبوأه الله لإبراهيـم, فبناه بعد ذلك.
وقال آخرون: بل كان موضع البـيت ربوة حمراء كهيئة القبة. وذلك أن الله لـما أراد خـلق الأرض علا الـماءَ زَبْدَةٌ حمراءُ أو بـيضاءُ, وذلك فـي موضع البـيت الـحرام. ثم دحا الأرض من تـحتها, فلـم يزل ذلك كذلك حتـى بوأه الله إبراهيـم, فبناه علـى أساسه. وقالوا: علـى أركان أربعة فـي الأرض السابعة. ذكر من قال ذلك:
1552ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال جرير بن حازم, حدثنـي حميد بن قـيس, عن مـجاهد, قال: كان موضع البـيت علـى الـماء قبل أن يخـلق الله السموات والأرض, مثل الزّبْدَةِ البـيضاء, ومن تـحته دُحيت الأرض.
1553ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا ابن جريج, قال: قال عطاء وعمرو بن دينار: بعث الله رياحا فصفّقَت الـماء, فأبرزت فـي موضع البـيت عن حَشَفَةٍ كأنها القبة, فهذا البـيت منها فلذلك هي أمّ القرى. قال ابن جريج: قال عطاء: ثم وَتَدَها بـالـجبـال كي لا تُكْفأ بـمَيْدٍ, فكان أول جبل «أبو قبـيس».
1554ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يعقوب القمي, عن حفص بن حميد, عن عكرمة, عن ابن عبـاس قال: وضع البـيت علـى أركان الـماء علـى أربعة أركان قبل أن تـخـلق الدنـيا بألفـي عام, ثم دُحيت الأرض من تـحت البـيت.
1555ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يعقوب, عن هارون بن عنترة, عن عطاء بن أبـي ربـاح, قال: وجدوا بـمكة حجرا مكتوبـا علـيه: «إنـي أنا الله ذو بَكّة بنـيته يوم صنعت الشمس والقمر, وحففته بسبعة أملاك حَفّـا».
1556ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: حدثنـي عبد الله بن أبـي نـجيح, عن مـجاهد وغيره من أهل العلـم: أن الله لـما بَوّأَ إبراهيـم مكان البـيت, خرج إلـيه من الشام, وخرج معه بإسماعيـل وأمه هَاجَر, وإسماعيـلُ طفلٌ صغير يرضع, وحُملوا فـيـما حدثنـي علـى البُراق ومعه جبريـل يدله علـى موضع البـيت ومعالـم الـحرم. فخرج وخرج معه جبريـل, فقال: كان لا يـمرّ بقرية إلا قال: أبهذه أُمرت يا جبريـل؟ فـيقول جبريـل: امْضِهْ حتـى قدم به مكة, وهي إذ ذاك عِضَاهُ سلَـم وسَمُر يربّها أناس يقال لهم العمالـيق خارج مكة وما حولها, والبـيت يومئذٍ ربوة حمراء مَدِرَة, فقال إبراهيـم لـجبريـل: أههنا أمرت أن أضعهما؟ فـال: نعم فعمد بهما إلـى موضع الـحجر فأنزلهما فـيه, وأمر هاجر أم إسماعيـل أن تتـخذ فـيه عريشا, فقال: رَبّ إِنّـي أسْكَنْتُ مِنْ ذُرّيّتِـي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَـيْتِكَ الـمُـحَرّمِ إلـى قوله: لَعَلّهُمْ يَشْكُرُونَ.
قال ابن حميد: قال سلـمة: قال ابن إسحاق: ويزعمون والله أعلـم أن ملكا من الـملائكة أتـى هاجر أمّ إسماعيـل, حين أنزلهما إبراهيـم مكة قبل أن يرفع إبراهيـم وإسماعيـل القواعد من البـيت, فأشار لهما إلـى البـيت, وهو ربوة حمراء مَدِرَة, فقال لهما: هذا أول بـيت وضع فـي الأرض, وهو بـيت الله العتـيق, واعلـمي أن إبراهيـم وإسماعيـل هما يرفعانه. فـالله أعلـم.
1557ـ حدثنـي الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا هشام بن حسان, قال: أخبرنـي حميد, عن مـجاهد, قال: خـلق الله موضع هذا البـيت قبل أن يخـلق شيئا من الأرض بألفـي سنة, وأركانه فـي الأرض السابعة.
1558ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا ابن عيـينة, قال: أخبرنـي بشر بن عاصم, عن ابن الـمسيب, قال: حدثنا كعب أن البـيت كان غُثَاءَةً علـى الـماء قبل أن يخـلق الله الأرض بأربعين سنة, ومنه دُحيت الأرض. قال: وحدثنا عن علـيّ بن أبـي طالب أن إبراهيـم أقبل من أرمينـية معه السكينة, تدله علـى تبوّىء البـيت كما تتبوأ العنكبوت بـيتها. قال: فرفعت عن أحجار تطيقه أو لا تطيقه ثلاثون رجلاً. قال: قلت يا أبـا مـحمد, فإن الله يقول: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيـمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَـيْتِ قال: كان ذاك بعد.
والصواب من القول فـي ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالـى ذكره أخبر عن إبراهيـم خـلـيـله أنه وابنه إسماعيـل رفعا القواعد من البـيت الـحرام. وجائز أن يكون ذلك قواعد بـيت كان أهبطه مع آدم, فجعله مكان البـيت الـحرام الذي بـمكة. وجائز أن يكون ذلك كان القبة التـي ذكرها عطاء مـما أنشأه الله من زَبَد الـماء. وجائز أن يكون كان ياقوتة أو درّة أُهبطا من السماء. وجائز أن يكون كان آدم بناه ثم انهدم حتـى رفع قواعده إبراهيـم وإسماعيـل. ولا علـم عندنا بأيّ ذلك كان من أَيَ لأن حقـيقة ذلك لا تُدرك إلا بخبر عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم بـالنقل الـمستفـيض, ولا خبر بذلك تقوم به الـحجة فـيجب التسلـيـم لها, ولا هو إذ لـم يكن به خبر علـى ما وصفنا مـما يدل علـيه بـالاستدلال والـمقايـيس فـيـمثل بغيره, ويستنبط علـمه من جهة الاجتهاد, فلا قول فـي ذلك هو أولـى بـالصواب ما قلنا. والله تعالـى أعلـم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: رَبّنا تَقَبّلْ مِنّا.
يعنـي تعالـى ذكره بذلك: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيـمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَـيْتِ وَإسْمَاعِيـلُ يقولان: رَبّنا تَقَبّلْ مِنّا وذكر أن ذلك كذلك فـي قراءة ابن مسعود, وهو قول جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
1559ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي, قال: يبنـيان وهما يدعوان الكلـمات التـي ابتلـى بها إبراهيـمَ ربّه, قال: رَبّنا تَقَبّلْ مِنّا إِنّكَ أنْتَ السّميعُ العَلِـيـمُ رَبّنا وَاجْعَلْنَا مُسْلِـمِينَ لَكَ وَمِنْ ذُرّيّتِنَا أُمّةً مُسْلِـمَةً لَكَ رَبّنا وَابْعَثْ فِـيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ.
1560ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج عن ابن جريج, قال: أخبرنـي ابن كثـير, قال: حدثنا سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيـمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَـيْتِ وإسْمَاعِيـلُ قال: هما يرفعان القواعد من البـيت, ويقولان: رَبّنا تَقَبّلْ مِنّا إِنّكَ أنْتَ السّمِيعُ العَلِـيـمُ قال: وإسماعيـل يحمل الـحجارة علـى رقبته والشيخ يبنـي.
فتأويـل الآية علـى هذا القول: وإذ يرفع إبراهيـم القواعد من البـيت وإسماعيـل قائلَـيْنِ: ربنا تقبل منا.
وقال آخرون: بل قائل ذلك كان إسماعيـل.
فتأويـل الآية علـى هذا القول: وإذ يرفع إبراهيـم القواعد من البـيت, وإذ يقول إسماعيـل: ربنا تقبل منا. فـيصير حيئنذٍ إسماعيـل مرفوعا بـالـجملة التـي بعده, و«يقول» حينئذٍ خبر له دون إبراهيـم.
ثم اختلف أهل التأويـل فـي الذي رفع القواعد بعد إجماعهم علـى أن إبراهيـم كان مـمن رفعها, فقال بعضهم: رفعها إبراهيـم وإسماعيـل جميعا. ذكر من قال ذلك:
1561ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: وَعَهِدْنَا إلـى إبْرَاهِيـمَ وَإسْمَاعِيـلَ أنْ طَهّرَا بَـيْتِـيَ للطّائِفِـينَ قال: فـانطلق إبراهيـم حتـى أتـى مكة, فقام هو وإسماعيـل وأخذا الـمعاول لا يدريان أين البـيت, فبعث الله ريحا يقال لها ريح الـخَجُوج, لها جناحان ورأس فـي صورة حية. فكنست لهما ما حول الكعبة, وعن أساس البـيت الأول, واتبعاها بـالـمعاول يحفران حتـى وضعا الأساس فذلك حين يقول: وَإِذْ بَوّأنا لابْرَاهِيـمَ مَكانَ البَـيْتِ. فلـما بنـيا القواعد فبلغا مكان الركن قال إبراهيـم لإسماعيـل: يا بنـي اطلب لـي حجرا حسنا أضعه ههنا قال: يا أبت إنـي كسلان تعب قال: علـيّ بذلك فـانطلق فطلب له حجرا فجاءه بحجر, فلـم يرضه, فقال: ائتنـي بحجر أحسن من هذا فـانطلق يطلب له حجرا وجاءه جبريـل بـالـحجر الأسود من الهند, وكان أبـيض ياقوتة بـيضاء مثل الثّغامة, وكان آدم هبط به من الـجنة فـاسودّ من خطايا الناس, فجاءه إسماعيـل بحجر فوجده عند الركن, فقال: يا أبت من جاء بهذا؟ فقال: من هو أنشط منك. فبنـياه.
1562ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن عمرو بن عبد الله بن عتبة, عن عبـيد بن عمير اللـيثـي, قال: بلغنـي أن إبراهيـم وإسماعيـل هما رفعا قواعد البـيت.
وقال آخرون: بل رفع قواعد البـيت إبراهيـم, وكان إسماعيـل يناوله الـحجارة. ذكر من قال ذلك:
1563ـ حدثنا أحمد بن ثابت الرازي, قال: حدثنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن أيوب, وكثـير بن كثـير بن الـمطلب بن أبـي وداعة, يزيد أحدهما علـى الاَخر, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, قال: جاء إبراهيـم وإسماعيـل يبري نَبْلاً قريبـا من زمزم. فلـما رآه قام إلـيه, فصنعا كما يصنع الوالد بـالولد, والولد بـالوالد, ثم قال: يا إسماعيـل إن الله أمرنـي بأمر, قال: فـاصنع ما أمرك ربك قال: وتعيننـي؟ قال: وأعينك. قال: فإن الله أمرنـي أن أبنـي ههنا بـيتا وأشار إلـى الكعبة, والكعبة مرتفعة علـى ما حولها. قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البـيت. قال: فجعل إسماعيـل يأتـي بـالـحجارة, وإبراهيـم يبنـي, حتـى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الـحجر فوضعه له, فقام علـيه وهو يبنـي, وإسماعيـل يناوله الـحجارة وهما يقولان: رَبّنا تَقَبلْ مِنّا إِنّكَ أنْتَ السمِيعُ العَلِـيـمُ حتـى دَوّرَ حول البـيت.
1564ـ حدثنا ابن بشار القزاز, قال: حدثنا عبـيد الله بن عبد الـمـجيد أبو علـيّ الـحنفـي, قال: حدثنا إبراهيـم بن نافع قال: سمعت كثـير بن كثـير يحدّث عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس قال: جاء يعنـي إبراهيـم فوجد إسماعيـل يصلـح نَبْلاً من وراء زمزم, قال إبراهيـم: يا إسماعيـل إن الله ربك قد أمرنـي أن أبنـي له بـيتا فقال له إسماعيـل: فأطِعْ ربك فـيـما أمرك فقال له إبراهيـم: قد أمرك أن تعيننـي علـيه. قال: إذا أفعل. قال: فقام معه, فجعل إبراهيـم يبنـيه وإسماعيـل يناوله الـحجارة, ويقولان: رَبنا تَقَبّلْ مِنا إنكَ أنْتَ السّمِيعُ العَلِـيـمُ فلـما ارتفع البنـيان وضعف الشيخ عن رفع الـحجارة, قام علـى حجر فهو مقام إبراهيـم فجعل يناوله ويقولان: رَبنا تَقَبلْ مِنّا إنكَ أنْتَ السّمِيعُ العَلِـيـمُ.
وقال آخرون: بل الذي رفع قواعد البـيت إبراهيـم وحده وإسماعيـل يومئذ طفل صغير. ذكر من قال ذلك:
1565ـ حدثنا مـحمد بن بشار ومـحمد بن الـمثنى, قالا: حدثنا مؤمل, قال: حدثنا سفـيان, عن أبـي إسحاق, عن حارثة بن مصرف, عن علـيّ, قال: لـما أمر إبراهيـم ببناء البـيت, خرج معه إسماعيـل وهاجر. قال: فلـما قدم مكة رأى علـى رأسه فـي موضع البـيت مثل الغمامة فـيه مثل الرأس, فكلّـمه فقال: يا إبراهيـم ابْنِ علـى ظلـي أو علـى قَدْري ولا تزد ولا تنقص فلـما بنى (خرج) وخـلف إسماعيـل وهاجر, فقالت هاجر: يا إبراهيـم إلـى من تَكِلُنا؟ قال: إلـى الله. قالت: انطلق فإنه لا يضيعنا. قال: فعطش إسماعيـل عطشا شديدا. قال: فصعدت هاجر الصفـا فنظرت فلـم تر شيئا, ثم أتت الـمروة فنظرت فلـم تر شيئا, ثم رجعت إلـى الصفـا فنظرت فلـم تر شيئا, حتـى فعلت ذلك سبع مرّات فقالت: يا إسماعيـل مُتْ حيث لا أراك فأتته وهو يَفْحَص برجله من العطش. فناداها جبريـل, فقال لها: من أنت؟ فقالت: أنا هاجر أمّ ولد إبراهيـم. قال: إلـى من وكلكما؟ قالت: وكلنا إلـى الله. قال: وكلكما إلـى كافٍ. قال: ففَحَص الأرض بأصبعه فنبعت زمزم, فجعلت تـحبس الـماء. فقال: دَعِيهِ فإنها رَوَاءٌ.
1566ـ حدثنا عبـاد, قال: حدثنا أبو الأحوص, عن سماك, عن خالد بن عرعرة أن رجلاً قام إلـى علـيّ فقال: ألا تـخبرنـي عن البـيت؟ أهو أول بـيت وضع فـي الأرض؟ فقال: لا, ولكن هو أول بـيت وضع فـي البركة مقامُ إبراهيـم, ومن دخـله كان آمنا, وإن شئت أنبأتك كيف بنـي إن الله أوحى إلـى إبراهيـم أن ابْنِ لـي بـيتا فـي الأرض, قال: فضاق إبراهيـم بذلك ذرعا, فأرسل الله السكينة وهي ريح خَجُوجٌ, ولها رأَسان, فأتبع أحدهما صاحبه حتـى انتهت إلـى مكة, فتطوّتْ علـى موضع البـيت كتَطَوّي الـحَجَفَة, وأمر إبراهيـم أن يبنـي حيث تستقرّ السكينة. فبنى إبراهيـم وبقـي حجر, فذهب الغلام يبغي شيئا, فقال إبراهيـم: لا, ابغي حجرا كما آمرك قال: فـانطلق الغلام يـلتـمس له حجرا, فأتاه فوجده قد ركّب الـحجر الأسود فـي مكانه فقال: يا أبت من أتاك بهذا الـحجر؟ قال: أتانـي به من لـم يتّكل علـى بنائك جاء به جبريـل من السماء. فأتـماه.
حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا سعيد, عن سماك, سمعت خالد بن عرعرة يحدّث عن علـيّ بنـحوه.
حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا أبو داود, قال: حدثنا شعبة وحماد بن سلـمة وأبو الأحوص كلهم عن سماك, عن خالد بن عرعرة, عن علـيّ بنـحوه.
فمن قال: رفع القواعد إبراهيـم وإسماعيـل, أو قال رفعها إبراهيـم وكان إسماعيـل يناوله الـحجارة. فـالصواب فـي قوله أن يكون الـمضمر من القول لإبراهيـم وإسماعيـل, ويكون الكلام حينئذٍ: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيـمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَـيْتِ وَإسْمَاعِيـلُ يقولان: رَبّنا تَقَبّلْ مِنّا.
وقد كان يحتـمل علـى هذا التأويـل أن يكون الـمضمر من القول لإسماعيـل خاصة دون إبراهيـم, ولإبراهيـم خاصة دون إسماعيـل لولا ما علـيه عامة أهل التأويـل من أن الـمضمر من القول لإبراهيـم وإسماعيـل جميعا.
وأما علـى التأويـل الذي روي عن علـيّ أن إبراهيـم هو الذي رفع القواعد دون إسماعيـل, فلا يجوز أن يكون الـمضمر من القول عند ذلك إلا لإسماعيـل خاصة.
والصواب من القول عندنا فـي ذلك أن الـمضمر من القول لإبراهيـم وإسماعيـل, وأن قواعد البـيت رفعها إبراهيـم وإسماعيـل جميعا وذلك أن إبراهيـم وإسماعيـل إن كانا هما بنـياهما ورفعاها فهو ما قلنا, وإن كان إبراهيـم تفرّد ببنائها, وكان إسماعيـل يناوله, فهما أيضا رفعاها لأن رفعها كان بهما من أحدهما البناء من الاَخر نَقْلُ الـحجارة إلـيها ومعونة وضع الأحجار مواضعها. ولا تـمتنع العرب من نسبة البناء إلـى من كان بسببه البناء ومعونته. وإنـما قلنا ما قلنا من ذلك لإجماع جميع أهل التأويـل علـى أن إسماعيـل معنـيّ بـالـخبر الذي أخبر الله عنه وعن أبـيه أنهما كانا يقولانه, وذلك قولهما: رَبّنَا تَقَبّلْ مِنّا إِنّكَ أَنْتَ السّمِيعُ العَلِـيـمُ فمعلوم أن إسماعيـل لـم يكن لـيقول ذلك إلا وهو إما رجل كامل, وإما غلام قد فهم مواضع الضرّ من النفع, ولزمته فرائض الله وأحكامه. وإذا كان فـي حال بناء أبـيه, ما أمره الله ببنائه ورفعه قواعد بـيت الله كذلك, فمعلوم أنه لـم يكن تاركا معونة أبـيه, إما علـى البناء, وإما علـى نقل الـحجارة. وأيّ ذلك كان منه فقد دخـل فـي معنى من رفع قواعد البـيت, وثبت أن القول الـمضمر خبر عنه وعن والده إبراهيـم علـيهما السلام.
فتأويـل الكلام: وَإِذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيـمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَـيْتِ وَإِسْمَاعِيـلُ يقولان: ربنا تقبل منا عملنا وطاعتنا إياك وعبـادتنا لك فـي انتهائنا إلـى أمرك الذي أمرتنا به فـي بناء بـيتك الذي أمرتنا ببنائه إنك أنت السميع العلـيـم. وفـي إخبـار الله تعالـى ذكره أنهما رفعا القواعد من البـيت وهما يقولان: رَبّنا تَقَبّلْ مِنّا إِنّكَ أَنْتَ السّمِيعُ العَلِـيـمُ دلـيـل واضح علـى أن بناءهما ذلك لـم يكن مسكنا يسكنانه ولا منزلاً ينزلانه, بل هو دلـيـل علـى أنهما بنـياه ورفعا قواعده لكل من أراد أن يعبد الله تقرّبـا منهما إلـى الله بذلك ولذلك قالا: رَبّنا تَقَبّلْ منّا. ولو كانا بنـياه مسكنا لأنفسهما لـم يكن لقولهما: تقبل منا وجه مفهوم, لأنه كانا يكونان لو كان الأمر كذلك سائلـين أن يتقبل منهما ما لا قربة فـيه إلـيه, ولـيس موضعهما مسألة الله قبول, ما لا قربة إلـيه فـيه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: إنّكَ أنْتَ السّمِيعُ العَلِـيـمُ.
وتأويـل قوله: إِنّكَ أنْتَ السّمِيعُ العَلِـيـمُ إنك أنت السميع دعاءنا ومسألتنا إياك قبول ما سألناك قبوله منا من طاعتك فـي بناء بـيتك الذي أمرتنا ببنائه, العلـيـم بـما فـي ضمائر نفوسنا من الإذعان لك فـي الطاعة والـمصير إلـى ما فـيه لك الرضا والـمـحبة, وما نُبدي ونُـخفـي من أعمالنا. كما:
1567ـ حدثنـي القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج: أخبرنـي أبو كثـير, قال: حدثنا سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس: تَقَبّلْ مِنّا إنّكَ أنْتَ السّمِيعُ العَلِـيـمُ يقول: تقبل منا إنك سميع الدعاء.
الآية : 128
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{رَبّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرّيّتِنَآ أُمّةً مّسْلِمَةً لّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنّكَ أَنتَ التّوّابُ الرّحِيمُ }
وهذا أيضا خبر من الله تعالـى ذكره عن إبراهيـم وإسماعيـل أنهما كانا يرفعان القواعد من البـيت وهما يقولان: رَبّنا وَاجْعَلْنَا مُسْلِـمَيْنِ لَكَ يعنـيان بذلك: واجعلنا مستسلـمين لأمرك خاضعين لطاعتك, لا نُشْرِك معك فـي الطاعة أحدا سواك, ولا فـي العبـادة غيرك. وقد دللنا فـيـما مضى علـى أن معنى الإسلام الـخضوع لله بـالطاعة.
وأما قوله: وَمِنْ ذَرّيّتِنَا أُمّةً مُسْلِـمَةً لَكَ فإنهما خَصّا بذلك بعض الذرية لأن الله تعالـى ذكره قد كان أعلـم إبراهيـم خـلـيـله صلى الله عليه وسلم قبل مسألته هذه أن من ذرّيته من لا ينال عهده لظلـمه وفجوره, فخصا بـالدعوة بعض ذرّيتهما. وقد قـيـل إنهما عنـيا بذلك العرب. ذكر من قال ذلك:
1568ـ حدثنا موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: وَمِنْ ذُرّيَتِنَا أمّةً مُسْلِـمَةً لَكَ يعنـيان العرب. وهذا قول يدلّ ظاهر الكتاب علـى خلافه لأن ظاهره يدل علـى أنهما دعوا الله أن يجعل من ذريتهما أهل طاعته وولايته والـمستـجيبـين لأمره, وقد كان فـي ولد إبراهيـم العرب وغير العرب, والـمستـجيب لأمر الله والـخاضع له بـالطاعة من الفريقـين فلا وجه لقول من قال: عنى إبراهيـم بدعائه ذلك فريقا من ولده بأعيانهم دون غيرهم إلا التـحكم الذي لا يعجز عنه أحد. وأما الأمة فـي هذا الـموضع, فإنه يعنـي بها الـجماعة من الناس, من قول الله: وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أمّةٌ يهْدُونَ بـالـحقّ.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وأرِنا مَناسِكَنا.
اختلفت القراء فـي قراءة ذلك, فقرأه بعضهم: وأرنا مَناسِكَنا بـمعنى رؤية العين, أي أظهرها لأعيننا حتـى نراها. وذلك قراءة عامة أهل الـحجاز والكوفة, وكان بعض من يوجّه تأويـل ذلك إلـى هذا التأويـل يسكن الراء من «أرْنا», غير أنه يُشِمّها كسرة.
واختلف قائل هذه الـمقالة وقراء هذه القراءة فـي تأويـل قوله: مَناسِكَنا فقال بعضهم: هي مناسك الـحجّ ومعالـمه. ذكر من قال ذلك:
1569ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: وأرِنا مَناسِكَنا فأراهما الله مناسكهما الطواف بـالبـيت, والسعي بـين الصفـا والـمروة, والإفـاضة من عرفـات, والإفـاضة من جمع, ورمي الـجمار, حتـى أكمل الله الدين أو دينه.
1570ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر عن قتادة فـي قوله: وأرِنا مَناسِكَنا قال: أرنا نُسكنا وحَجّنا.
1571ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي, قال: لـما فرغ إبراهيـم وإسماعيـل من بنـيان البـيت أمره الله أن ينادي فقال: وأَذّنْ فِـي النّاسِ بـالـحَجّ فنادى بـين أخشبـي مكة: يا أيها الناس إن الله يأمركم أن تـحجوا بـيته. قال: فوقرت فـي قلب كل مؤمن, فأجابه كل من سمعه من جبل أو شجر أو دابة: لبـيك لبـيك فأجابوه بـالتلبـية: لبـيك اللهمّ لبـيك وأتاه من أتاه. فأمره الله أن يخرج إلـى عرفـات ونَعَتَها فخرج فلـما بلغ الشجرة عند العقبة استقبله الشيطان, فرماه بسبع حَصَيَاتٍ يكبر مع كل حصاة, فطار فوقع علـى الـجمرة الثانـية أيضا, فصدّه فرماه وكبر, فطار فوقع علـى الـجمرة الثالثة, فرماه وكبر. فلـما رأى أنه لا يُطيقه, ولـم يدر إبراهيـم أين يذهب, انطلق حتـى أتـى ذا الـمـجاز, فلـما نظر إلـيه فلـم يعرفه جاز فلذلك سمي ذا الـمـجاز. ثم انطلق حتـى وقع بعرفـات, فلـما نظر إلـيها عرف النعت, قال: قد عرفتُ فسميت عرفـات. فوقـف إبراهيـم بعرفـات. حتـى إذا أمسى ازدلف إلـى جمع, فسميت الـمزدلفة. فوقـف بجمع. ثم أقبل حتـى أتـى الشيطان حيث لقـيه أوّل مرّة فرماه بسبع حصيات سبع مرّات, ثم أقام بـمنى حتـى فرغ من الـحجّ وأمرِه. وذلك قوله: وأرنَا مَناسِكَنا.
وقال آخرون مـمن قرأ هذه القراءة: الـمناسك الـمذابح. فكان تأويـل هذه الآية علـى قول من قال ذلك: وأرنا كيف نَنْسُكُ لك يا ربنا نسائكنا فنذبحها لك. ذكر من قال ذلك:
1572ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن ابن جريج, عن عطاء: وأرِنا مَناسِكَنا قال: ذَبْحَنا.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: حدثنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوري, عن ابن جريج, عن عطاء, قال: مذابحنا.
1573ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد مثله.
حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد مثله.
1574ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال عطاء: سمعت عبـيد بن عمير يقول: وأرِنا مَنَاسِكَنَا قال: أرنا مذابحنا.
وقال آخرون: «وأرْنا مَناسِكَنا» بتسكين الراء. وزعموا أن معنى ذلك: وعلّـمنا ودُلّنا علـيها, لا أن معناها أرناها بـالأبصار. وزعموا أن ذلك نظير قول حُطائط بن يَعْفر أخي الأسود بن يعفر:
أرينِـي جَوَادا ماتَ هُزْلاً لأَنّنِـيأرَى ما تَرَينَ أوْ بَخِيلاً مُخـلّدا
يعنـي بقوله أرينـي: دلـينـي علـيه وعرّفـينـي مكانه, ولـم يَعْنِ به رؤية العين. وهذه قراءة رُويت عن بعض الـمتقدّمين. ذكر من قال ذلك:
1575ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال عطاء: أرِنا مَناسِكَنا أخرجها لنا, علـمناها.
1576ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا ابن جريج, قال: قال ابن الـمسيب: قال علـيّ بن أبـي طالب: لـما فرغ إبراهيـم من بناء البـيت, قال: فعلت أي ربّ فأرنا مناسكنا, أبرزها لنا, علـمناها فبعث الله جبريـل فحجّ به.
والقول واحد, فمن كسر الراء جعل علامة الـجزم سقوط الـياء التـي فـي قول القائل أرنـيه, وأقرّ الراء مكسورة كما كانت قبل الـجزم. ومن سكن الراء من «أرْنا» توهم أن إعراب الـحرف فـي الراء فسكنها فـي الـجزم كما فعلوا ذلك فـي لـم يكن ولـم يَكُ. وسواء كان ذلك من رؤية العين, أو من رؤية القلب. ولا معنى لفَرْقِ من فَرَق بـين رؤية العين فـي ذلك ورؤية القلب.
وأما الـمناسك فإنها جمع «مَنْسِك», وهو الـموضع الذي ينسك لله فـيه, ويتقرّب إلـيه فـيه بـما يرضيه من عمل صالـح إما بذبح ذبـيحة له, وإما بصلاة أو طواف أو سعي, وغير ذلك من الأعمال الصالـحة ولذلك قـيـل لـمشاعر الـحجّ مناسكه, لأنها أمارات وعلامات يعتادها الناس, ويتردّدون إلـيها. وأصل الـمَنْسِك فـي كلام العرب: الـموضع الـمعتاد الذي يعتاده الرجل ويألفه, يقال: لفلان منسك, وذلك إذا كان له موضع يعتاده لـخير أو شرّ ولذلك سميت الـمناسك مناسك, لأنها تُعتاد ويتردّد إلـيها بـالـحجّ والعمرة, وبـالأعمال التـي يتقرّب بها إلـى الله. وقد قـيـل: إن معنى النسك: عبـادة الله, وأن الناسك إنـما سمي ناسكا بعبـادة ربه, فتأوّل قائل هذه الـمقالة قوله: وأرِنا مَناسِكَنا وعَلّـمْنا عبـادتك كيف نعبدك, وأين نعبدك, وما يرضيك عنا فنفعله. وهذا القول وإن كان مذهبـا يحتـمله الكلام, فإن الغالب علـى معنى الـمناسك ما وصفنا قبل من أنها مناسك الـحجّ التـي ذكرنا معناها. وخرج هذا الكلام من قول إبراهيـم وإسماعيـل علـى وجه الـمسألة منهما ربهما لأنفسهما, وإنـما ذلك منهما مسألة ربهما لأنفسهما وذرّيتهما الـمسلـمين, فلـما ضما ذريتهما الـمسلـمين إلـى أنفسهما صارا كالـمخبرين عن أنفسهم بذلك. وإنـما قلنا إن ذلك كذلك لتقدم الدعاء منهما للـمسلـمين من ذريتهما قَبْلُ فـي أوّل الآية, وتأخره بعد فـي الآية الأخرى.
فأما الذي فـي أول الآية فقولهما: رَبّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِـمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرّيّتِنَا أُمّةً مُسْلِـمَةً لَكَ. ثم جمعا أنفسهما والأمة الـمسلـمة من ذريتهما فـي مسألتهما ربهما أن يريهم مناسكهم فقالا: وأرِنا مَناسِكَنا.
وأما التـي فـي الآية التـي بعدها: رَبّنا وَابْعَثْ فِـيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ فجعلا الـمسألة لذريتهما خاصة. وقد ذكر أنها فـي قراءة ابن مسعود: «وأَرِهِمْ مَنَاسِكَهُمْ», يعنـي بذلك: وأر ذريتنا الـمسلـمة مناسكهم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَتُبْ عَلَـيْنَا إِنّكَ أنْتَ التّوابُ الرّحِيـمُ.
أما التوبة فأصلها الأوبة من مكروه إلـى مـحبوب, فتوبة العبد إلـى ربه: أوبته مـما يكرهه الله منه بـالندم علـيه والإقلاع عنه, والعزم علـى ترك العود فـيه. وتوبة الربّ علـى عبده: عوده علـيه بـالعفو له عن جُرْمه والصفح له عن عقوبة ذنبه, مغفرةً له منه, وتفضلاً علـيه.
فإن قال لنا قائل: وهل كان لهما ذنوب فـاحتاجا إلـى مسألة ربهما التوبة؟ قـيـل: إنه لـيس أحد من خـلق الله إلا وله من العمل فـيـما بـينه وبـين ربه ما يجب علـيه الإنابة منه والتوبة. فجائز أن يكون ما كان من قبلهما ما قالا من ذلك, وإنـما خَصّا به الـحال التـي كانا علـيها من رفع قواعد البـيت, لأن ذلك كان أحرى الأماكن أن يستـجيب الله فـيها دعاءهما, ولـيجعلا ما فعلا من ذلك سنة يقتدي بها بعدهما, وتتـخذ الناس تلك البقعة بعدهما موضع تَنَصّل من الذنوب إلـى الله. وجائز أن يكونا عنـيا بقولهما: وتب علـينا وتب علـى الظلـمة من أولادنا وذريتنا, الذين أعلـمتنا أمرهم من ظلـمهم وشركهم, حتـى ينـيبوا إلـى طاعتك. فـيكون ظاهر الكلام علـى الدعاء لأنفسهما, والـمعنـيّ به ذريتهما, كما يقال: أكرمنـي فلان فـي ولدي وأهلـي, وبرّنـي فلان: إذا برّ ولده.
وأما قوله: إِنّكَ أنْتَ التواب الرّحِيـمُ فإنه يعنـي به: إنك أنت العائد علـى عبـادك بـالفضل والـمتفضل علـيهم بـالعفو والغفران, الرحيـم بهم, الـمستنقذ من تشاء منهم برحمتك من هلكته, الـمنـجي من تريد نـجاته منهم برأفتك من سخطك.
الآية : 129
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{رَبّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ إِنّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ }
وهذه دعوة إبراهيـم وإسماعيـل لنبـينا مـحمد صلى الله عليه وسلم خاصة, وهي الدعوة التـي كان نبـينا صلى الله عليه وسلم يقول: «أنا دعوة أبـي إبراهيـم وبشرى عيسى».
1577ـ حدثنا بذلك ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن مـحمد بن إسحاق, عن ثور بن يزيد, عن خالد بن معدان الكلاعي: أن نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله أخبرنا عن نفسك قال «نعم, أنا دَعْوَةُ أبـي إبْرَاهِيـمَ, وبُشْرَى عِيسَى صلى الله عليه وسلم».
1578ـ حدثنـي عمران بن بكار الكلاعي, قال: حدثنا أبو الـيـمان, قال: حدثنا أبو كريب, عن أبـي مريـم, عن سعيد بن سويد, عن العربـاض بن سارية السلـمي, قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّـي عِنْدَ اللّهِ فِـي أُمّ الكِتابِ خَاتِـمُ النّبِـيّـينَ وَإِنّ آدَمَ لَـمُنْـجَدِلٌ فِـي طِينَتِه, وَسَوْفَ أُنَبّئُكُمْ بِتَءَاوِيـلِ ذَلِكَ: أنا دَعْوَة أبـي إبْرَاهِيـمَ وَبِشَارَةُ عِيسَى قَوْمَه وَرُءْويا أُمي».
حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا ابن وهب, قال: أخبرنـي معاوية, وحدثنـي عبـيد بن آدم بن أبـي إياس العسقلانـي, قال: حدثنـي أبـي, قال: حدثنا اللـيث بن سعد, عن معاوية بن صالـح, قالا جميعا, عن سعيد بن سويد, عن عبد الله بن هلال السلـمي, عن عربـاض بن سارية السلـمي, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم بنـحوه.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: حدثنا معاوية, عن سعيد بن سويد, عن عبد الأعلـى بن هلال السلـمي, عن عربـاض بن سارية أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فذكر نـحوه.
وبـالذي قلنا فـي ذلك قال جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
1579ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: رَبّنا وَابْعَثْ فِـيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ ففعل الله ذلك, فبعث فـيهم رسولاً من أنفسهم يعرفون وجهه ونسبه, يخرجهم من الظلـمات إلـى النور, ويهديهم إلـى صراط العزيز الـحميد.
1580ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: رَبنا وَابْعَثْ فِـيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ هو مـحمد صلى الله عليه وسلم.
1581ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه عن الربـيع: رَبّنَا وَابْعَثْ فِـيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمُ هو مـحمد صلى الله عليه وسلم, فقـيـل له: قد استـجيب ذلك, وهو فـي آخر الزمان. ويعنـي تعالـى ذكره بقوله: يَتْلُوا عَلَـيْهِمْ آيَاتِكَ يقرأ علـيهم كتابك الذي توحيه إلـيه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَيُعَلّـمهُم الكِتابَ وَالـحِكْمَةَ.
ويعنـي بـالكتاب القرآن. وقد بـينت فـيـما مضى لـم سمي القرآن كتابـا وما تأويـله. وهو قول جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
1582ـ حدثنـي يونس قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: ويعلـمهم الكتاب: القرآن.
ثم اختلف أهل التأويـل فـي معنى الـحكمة التـي ذكرها الله فـي هذا الـموضع, فقال بعضهم: هي السنة. ذكر من قال ذلك:
1583ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, والـحكمة: أي السنة.
وقال بعضهم: الـحكمة هي الـمعرفة بـالدين والفقه فـيه. ذكر من قال ذلك:
1584ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قلت لـمالك: ما الـحكمة؟ قال: الـمعرفة بـالدين, والفقه فـي الدين, والاتبـاع له.
1585ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَالـحكْمَةَ قال: الـحكمة: الدين الذي لا يعرفونه إلا به صلى الله عليه وسلم يعلـمهم إياها. قال: والـحكمة: العقل فـي الدين وقرأ: وَمَنْ يُؤْتَ الـحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِـيَ خَيْرا كَثِـيرا. وقال لعيسى: وَيُعَلّـمُهُ الكِتابَ وَالـحِكْمَةَ وَالتّوْرَاةَ وَإِلانْـجِيـلَ. قال: وقرأ ابن زيد: وَاتْلُ عَلَـيْهِمْ نَبأ الّذِي آتَـيْنَاهُ آياتِنا فـانْسَلَـخَ مِنْهَا. قال: لـم ينتفع بـالاَيات حيث لـم تكن معها حكمة. قال: والـحكمة شيء يجعله الله فـي القلب ينوّر له به.
والصواب من القول عندنا فـي الـحكمة, أنها العلـم بأحكام الله التـي لا يدرك علـمها إلا ببـيان الرسول صلى الله عليه وسلم والـمعرفة بها, وما دلّ علـيه ذلك من نظائره. وهو عندي مأخوذ من «الـحُكْمِ» الذي بـمعنى الفصل بـين الـحقّ والبـاطل بـمنزلة «الـجِلسة والقِعدة» من «الـجلوس والقعود», يقال منه: إن فلانا لـحكيـم بـيّنُ الـحكمة, يعنـي به أنه لبـيّن الإصابة فـي القول والفعل. وإذ كان ذلك كذلك, فتأويـل الآية: ربنا وابعث فـيهم رسولاً منهم يتلو علـيهم آياتك, ويعلـمهم كتابك الذي تنزله علـيهم, وفصل قضائك, وأحكامك التـي تعلـمه إياها.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَيُزَكّيهِمْ.
قد دللنا فـيـما مضى قَبْلُ علـى أن معنى التزكية: التطهير, وأن معنى الزكاة: النـماء والزيادة. فمعنى قوله: ويُزكيهِمْ فـي هذا الـموضع: ويطهرهم من الشرك بـالله وعبـادة الأوثان وينـميهم ويكثرهم بطاعة الله. كما:
1586ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: حدثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس: يَتْلُوا عَلَـيْهِمْ آياتِكَ وَيُزَكّيهِمْ قال: يعنـي بـالزكاة, طاعة الله والإخلاص.
1587ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا حجاج, قال: قال ابن جريج: قوله: وَيُزَكّيهِمْ قال: يطهرهم من الشرك ويخـلصهم منه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: إِنّكَ أنْتَ العَزِيزُ الـحَكِيـمُ.
يعنـي تعالـى ذكره بذلك: إنك يا ربّ أنت العزيز القويّ الذي لا يعجزه شيء أراده, فـافعل بنا وبذريتنا ما سألناه وطلبناه منك. والـحكيـم: الذي لا يدخـل تدبـيره خَـلَلٌ ولا زَلَلٌ, فأعطنا ما ينفعنا وينفع ذريتنا, ولا ينقصك ولا ينقص خزائنك.
الآية : 130
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَمَن يَرْغَبُ عَن مّلّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدّنْيَا وَإِنّهُ فِي الاَخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِينَ }
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلّةِ إِبْرَاهِيـمَ وأيّ الناس يزهد فـي ملة إبراهيـم ويتركها رغبة عنها إلـى غيرها. وإنـما عنى الله بذلك الـيهود والنصارى لاختـيارهم ما اختاروا من الـيهودية والنصرانـية علـى الإسلام لأن ملة إبراهيـم هي الـحنـيفـية الـمسلـمة, كما قال تعالـى ذكره: مَا كَانَ إِبْرَاهِيـمُ يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِـيّا وَلَكِنْ كانَ حَنِـيفـا مُسْلِـما فقال تعالـى ذكره لهم: ومن يزهد عن ملة إبراهيـم الـحنـيفـية الـمسلـمة إلا من سَفِهَ نَفْسَه. كما:
1588ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: وَمَنْ يَرْغب عَن مِلّةِ إِبْرَاهِيـمَ إلاّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَه رغب عن ملته الـيهود والنصارى, واتـخذوا الـيهودية والنصرانـية بدعة لـيست من الله, وتركوا ملة إبراهيـم يعنـي الإسلام حنـيفـا, كذلك بعث الله نبـيه مـحمدا صلى الله عليه وسلم بـملة إبراهيـم.
1589ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلّةِ إِبْرَاهِيـمَ إلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ قال: رغبت الـيهود والنصارى عن ملة إبراهيـم وابتدعوا الـيهودية والنصرانـية ولـيست من الله, وتركوا ملة إبراهيـم الإسلام.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: إِلاّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ.
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: إِلاّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ إلا من سَفِهتْ نفسُه, وقد بـينا فـيـما مضى أن معنى السفه: الـجهل. فمعنى الكلام: وما يرغب عن ملة إبراهيـم الـحنـيفـية إلا سفـيهٌ جاهلٌ بـموضع حظّ نفسه فـيـما ينفعها ويضرّها فـي معادها. كما:
1590ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: إِلاّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ قال: إلا من أخطأ حظه.
وإنـما نصب «النفس» علـى معنى الـمفسر ذلك أن السفه فـي الأصل للنفس, فلـما نقل إلـى «مَنْ» نصبت «النفس» بـمعنى التفسير, كما يقال: هو أوسعكم دارا, فتدخـل «الدار» فـي الكلام علـى أن السعة فـيه لا فـي الرجل. فكذلك النفس أدخـلت, لأن السفه للنفس لا ل«مَنْ» ولذلك لـم يجز أن يقال سفه أخوك, وإنـما جاز أن يفسر بـالنفس وهي مضافة إلـى معرفة لأنها فـي تأويـل نكرة.
وقال بعض نـحويـي البصرة: إن قوله: سَفِهَ نَفْسَهُ جرت مـجرى «سَفِهَ» إذا كان الفعل غير متعدّ. وإنـما عدّاه إلـى «نفسه» و«رأيه» وأشبـاه ذلك مـما هو فـي الـمعنى نـحو سفه, إذا هو لـم يتعدّ. فأما «غبن» و«خسر» فقد يتعدّى إلـى غيره, يقال: غبن خمسين, وخسر خمسين.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلَقَدِ اصطَفَـيْنَاهُ فِـي الدنْـيَا.
يعنـي تعال ذكره بقوله: وَلَقَدِ اصْطَفَـيْنَاهُ فِـي الدّنْـيَا ولقد اصطفـينا إبراهيـم, والهاء التـي فـي قوله: اصْطَفْـيَنَاهُ من ذكر إبراهيـم. والاصطفـاء: الافتعال من الصفوة, وكذلك اصطفـينا افتعلنا منه, صيرت تاؤها طاءً لقرب مخرجها من مخرج الصاد.
ويعنـي بقوله: اصْطَفَـيْنَاهُ اخترناه واجتبـيناه للـخُـلّة, ونُصَيّره فـي الدنـيا لـمن بعده إماما. وهذا خبر من الله تعالـى ذكره عن أن من خالف إبراهيـم فـيـما سنّ لـمن بعده فهو لله مخالف, وإعلام منه خـلقه أن من خالف ما جاء به مـحمد صلى الله عليه وسلم فهو لإبراهيـم مخالف وذلك أن الله تعالـى ذكره أخبر أنه اصطفـاه لـخُـلّته, وجعله للناس إماما, وأخبر أن دينه كان الـحنـيفـية الـمسلـمة. ففـي ذلك أوضح البـيان من الله تعالـى ذكره عن أنّ من خالفه فهو لله عدوّ لـمخالفته الإمام الذي نصبه الله لعبـاده.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَإِنّهُ فِـي الاَخِرَةِ لَـمِنَ الصالِـحِينَ.
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وَإِنّهُ فِـي الاَخِرَةِ لَـمِنَ الصّالِـحِينَ وإن إبراهيـم فـي الدار الاَخرة لـمن الصالـحين. والصالـح من بنـي آدم هو الـمؤدّي حقوق الله علـيه. فأخبر تعالـى ذكره عن إبراهيـم خـلـيـله أنه فـي الدنـيا له صفـيّ, وفـي الاَخرة ولـيّ, وإنه وارد موارد أولـيائه الـموفّـين بعهده.
الآية : 131
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{إِذْ قَالَ لَهُ رَبّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ }
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: إذْ قَالَ لَهُ رَبّهُ أسْلِـمْ إذ قال له ربه: أخـلص لـي العبـادة, واخضع لـي بـالطاعة, وقد دللنا فـيـما مضى علـى معنى الإسلام فـي كلام العرب, فأغنى عن إعادته.
وأما معنى قوله: قَالَ أسْلَـمْت لِرَبّ العَالَـمِينَ فإنه يعنـي تعالـى ذكره: قال إبراهيـم مـجيبـا لربه: خضعت بـالطاعة, وأخـلصت بـالعبـادة لـمالك جميع الـخلائق ومدبرها دون غيره.
فإن قال قائل: قد علـمت أن «إذْ» وقت فما الذي وُقّت به, وما الذي صلة؟ قـيـل: هو صلة لقوله: وَلَقَدِ اصْطَفَـيْنَاهُ فِـي الدّنْـيَا. وتأويـل الكلام: ولقد اصطفـيناه فـي الدنـيا حين قال له ربه أسلـم, قال: أسلـمت لربّ العالـمين. فأظهر اسم «الله» فـي قوله: إِذْ قَالَ لَهُ رَبّهُ أسْلِـمْ علـى وجه الـخبر عن غائب, وقد جرى ذكره قبل علـى وجه الـخبر عن نفسه, كما قال خُفـاف بن ندبة:
أقُول لَهُ وَالرّمْـحُ يأطُرُ مَتْنُهُتأمّلْ خُفـافـا إنّنِـي أنا ذَالِكَا
فإن قال لنا قائل: وهل دعا الله إبراهيـم إلـى الإسلام؟ قـيـل له: نعم, قد دعاه إلـيه. فإن قال: وفـي أيّ حال دعاه إلـيه؟ قـيـل: حين قال: يا قَوْمِ إِنِـي بَرِيءٌ مِـمّا تُشْرِكُونَ إنّـي وَجّهْتُ وجْهِيَ لِلّذِي فَطَرَ السّمَوَاتِ وَأَلارْضِ حَنِـيفـا وَمَا أَنَا مِنَ الـمُشْرِكِينَ وذلك هو الوقت الذي قال له ربه أسلـم من بعد ما امتـحنه بـالكواكب والقمر والشمس.
الآية : 132
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَوَصّىَ بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيّ إِنّ اللّهَ اصْطَفَىَ لَكُمُ الدّينَ فَلاَ تَمُوتُنّ إَلاّ وَأَنْتُم مّسْلِمُونَ }
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وَوَصّى بِهَا ووصى بهذه الكلـمة أعنـي بـالكلـمة قوله: أسْلَـمْتُ لِرَبّ العالَـمِينَ وهي الإسلام الذي أمر به نبـيه صلى الله عليه وسلم, وهو إخلاص العبـادة والتوحيد لله, وخضوع القلب والـجوارح له.
ويعنـي بقوله: وَوَصّى بها إبْرَاهِيـمَ بَنِـيه عهد إلـيهم بذلك وأمرهم به. وأما قوله: وَيَعْقُوبُ فإنه يعنـي: ووصى بذلك أيضا يعقوبُ بنـيه. كما:
1591ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: وَوَصَى بِها إبْرَاهِيـمَ بَنِـيه وَيَعْقُوبُ يقول: ووصى بها يعقوبُ بنـيه بعد إبراهيـم.
1592ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: حدثنـي أبـي, قال: حدثنـي عمي, قال: حدثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: وَوَصّى بِها إِبْرَاهِيـمَ بَنِـيـيِه وصاهم بـالإسلام, ووصى يعقوبُ بـمثل ذلك.
وقال بعضهم: قوله: وَوَصى بِها إِبْرَاهِيـمَ بَنِـيهِ خبر مُنْقَضٍ, وقوله: وَيَعْقُوبُ خبر مبتدأ, فإنه قال: ووصى بها إبراهيـم بنـيه بأن يقولوا: أسلـمنا لرب العالـمين, ووصى يعقوب بنـيه أن: يا بنـيّ إِنّ اللّهَ اصْطَفَـى لَكُم الدّينَ فَلاَ تَـمُوتُن إِلا وأَنْتُـمْ مُسْلِـمُونَ. ولا معنى لقول من قال ذلك لأن الذي أوصى به يعقوبُ بنـيه نظير الذي أوصى به إبراهيـم بنـيه من الـحثّ علـى طاعة الله والـخضوع له والإسلام.
فإن قال قائل: فإن كان الأمر علـى ما وصفت من أن معناه: ووصى بها إبراهيـم بنـيه ويعقوبُ أن يا بنـيّ, فما بـال «أنْ» مـحذوفة من الكلام؟ قـيـل: لأن الوصية قول فحملت علـى معناها, وذلك أن ذلك لو جاء بلفظ القول لـم تـحسن معه «أن», وإنـما كان يقال: وقال إبراهيـم لبنـيه ويعقوب: «يا بنـيّ», فلـما كانت الوصية قولاً حملت علـى معناها دون قولها, فحذفت «أن» التـي تـحسن معها, كما قال تعالـى ذكره: يُوصِيكُمْ الله فِـي أوْلاَدِكُمْ للذّكَرِ مِثْلُ حَظّ أُلانْثَـيَـيْنِ وكما قال الشاعر:
إِنّـي سابْدِي لَكَ فِـيـمَا أُبْدِيلِـي شَجَنانِ شَجَنٌ بِنَـجْدِ
وَشَجَنٌ لِـي ببلادِ السّنْدِ
فحذفت «أن» إذ كان الإبداء بـاللسان فـي الـمعنى قولاً, فحمله علـى معناه دون لفظه. وقد قال بعض أهل العربـية: إنـما حذفت «أن» من قوله: وَوَصّى بِهَا إِبْرَاهِيـمُ بَنِـيهِ وَيَعْقُوبُ بـاكتفـاء النداء, يعنـي بـالنداء قوله: «يا بنـيّ», وزعم أن علته فـي ذلك أن من شأن العرب الاكتفـاء بـالأدوات عن «أن» كقولهم: ناديت هل قمت؟ وناديت أين زيد؟ قال: وربـما أدخـلوها مع الأدوات فقالوا: ناديت أن هل قمت؟ وقد قرأ عهد إلـيهم عهدا بعد عهد, وأوصى وصية بعد وصية.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: يا بَنِـيّ إِنّ اللّهَ اصْطَفَـى لَكُم الدّينَ.
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: إِنّ اللّهَ اصْطَفَـى لَكُم الدّينَ إن الله اختار لكم هذا الدين الذي عهد إلـيكم فـيه واجتبـاه لكم. وإنـما أدخـل الألف واللام فـي «الدين», لأن الذين خوطبوا من ولدهما وبنـيهما بذلك كانوا قد عرفوه بوصيتهما إياهم به وعهدهما إلـيهم فـيه, ثم قالا لهم بعد أن عَرّفَـاهُموه: إن الله اصطفـى لكم هذا الدين الذي قد عهد إلـيكم فـيه, فـاتقوا الله أن تـموتوا إلا وأنتـم علـيه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَلاَ تَـمُوتُنّ إِلاّ وَأَنْتُـمْ مُسْلِـمُونَ.
إن قال لنا قائل: أَوَ إلـى بنـي آدم الـموت والـحياة فـينهى أحدهم أن يـموت إلا علـى حالة دون حالة؟ قـيـل له: إن معنى ذلك علـى غير الوجه الذي ظننت, وإنـما معناه: فَلاَ تَـمُوتُنّ إِلاّ وَأَنْتُـمْ مُسْلِـمُونَ أي فلا تفـارقوا هذا الدين وهو الإسلام أيام حياتكم وذلك أن أحدا لا يدري متـى تأتـيه منـيته, فلذلك قالا لهم: فَلاَ تَـمُوتُنّ إِلاّ وأنْتُـمْ مُسلِـمُونَ لأنكم لا تدرون متـى تأتـيكم مناياكم من لـيـل أو نهار, فلا تفـارقوا الإسلام فتأتـيكم مناياكم وأنتـم علـى غير الدين الذي اصطفـاه لكم ربكم فتـموتوا وربكم ساخط علـيكم فتهلكوا.)
الآية : 133
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـَهَكَ وَإِلَـَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: أمْ كُنْتُـمْ شهَدَاءَ أكنتـم, ولكنه استفهم ب«أمْ» إذ كان استفهاما مستأنفـا علـى كلام قد سبقه, كما قـيـل: الـم تَنْزِيـل الكِتابِ لا رَيْبَ فِـيهِ مِنْ رَبّ العَالَـمِينَ أمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ, وكذلك تفعل العرب فـي كل استفهام ابتدأته بعد كلام قد سبقه تستفهم فـيه ب«أمْ», والشهداء جمع شهيد كما الشركاء جمع شريك, والـخصماء جمع خصيـم.
وتأويـل الكلام: أكنتـم يا معشر الـيهود والنصارى الـمكذّبـين بـمـحمد صلى الله عليه وسلم, الـجاحدين نبوّته, حضور يعقوب وشهوده إذ حضره الـموت, أي أنكم لـم تـحضروا ذلك. فلا تدّعوا علـى أنبـيائي ورسلـي الأبـاطيـل, وتنـحلوهم الـيهودية والنصرانـية, فإنـي ابتعثت خـلـيـلـي إبراهيـم وولده إسحاق وإسماعيـل وذرّيتهم بـالـحنـيفـية الـمسلـمة, وبذلك وصوا بنـيهم وبه عهدوا إلـى أولادهم من بعدهم, فلو حضرتـموهم فسمعتـم منهم علـمتـم أنهم علـى غير ما تنـحلوهم من الأديان والـملل من بعدهم.
وهذه آيات نزلت تكذيبـا من الله تعالـى للـيهود والنصارى فـي دعواهم فـي إبراهيـم وولده يعقوب أنهم كانوا علـى ملتهم, فقال لهم فـي هذه الآية: أمْ كُنْتُـمْ شُهَدَاءَ إذْ حَضَرَ يَعْقُوبُ الـمَوْتُ فتعلـموا ما قال لولده وقال له ولده. ثم أعلـمهم ما قال لهم وما قالوا له. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
1593ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع قوله: أمْ كُنْتُـمْ شُهَدَاءَ يعنـي أهل الكتاب.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: إذْ قَالَ لِبَنِـيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إلَهَكَ وَإِلَهَ آبَـائِكَ إبْرَاهِيـمَ وَإِسْماعِيـلَ وإِسْحَاقَ إلَها وَاحِدا وَنَـحْنُ لَهُ مُسْلِـمُونَ.
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: إذْ قالَ لِبَنِـيهِ إذ قال يعقوب لبنـيه. و«إذ» هذه مكرّرة إبدالاً من «إذْ» الأولـى بـمعنى: أم كنتـم شهداء يعقوب إذ قال يعقوب لبنـيه حين حضور موته.
ويعنـي بقوله: ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي أيّ شيء تعبدون من بعدي, أي من بعد وفـاتـي. قَالُوا نَعبدُ إلهَكَ يعنـي به: قال بنوه له: نعبد معبودك الذي تعبده, ومعبود آبـائك إبراهيـم وإسماعيـل وإسحاق إلها واحدا, أي نـخـلص له العبـادة ونوحد له الربوبـية فلا نشرك به شيئا ولا نتـخذ دونه ربـا.
ويعنـي بقوله: وَنَـحْنُ لَهُ مُسْلِـمُونَ ونـحن له خاضعون بـالعبودية والطاعة. ويحتـمل قوله: وَنَـحْن لَه مُسْلِـمُونَ أن تكون بـمعنى الـحال, كأنهم قالوا: نعبد إلهك مسلـمين له بطاعتنا وعبـادتنا إياه. ويحتـمل أن يكون خبرا مستأنفـا, فـيكون بـمعنى: نعبد إلهك بعدك, ونـحن له الاَن وفـي كل حال مسلـمون. وأحسن هذين الوجهين فـي تأويـل ذلك أن يكون بـمعنى الـحال, وأن يكون بـمعنى: نعبد إلَهك وإله آبـائك إبراهيـم وإسماعيـل وإسحاق مسلـمين لعبـادته.
وقـيـل: إنـما قدم ذكر إسماعيـل علـى إسحاق لأن إسماعيـل كان أسنّ من إسحاق. ذكر من قال ذلك:
1594ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: قَالُوا نَعْبُدُ إلهَكَ وَإِلَهَ آبَـائِكَ إِبْرَاهِيـمَ وَإِسْمَاعِيـلَ وَإِسحَاقَ قال: يقال بدأ بإسماعيـل لأنه أكبر.
وقرأ بعض الـمتقدمين: «وَإِله أبِـيكَ إِبْرَاهِيـمَ» ظنّا منه أن إسماعيـل إذ كان عمّا لـيعقوب, فلا يجوز أن يكون فـيـمن تُرْجم به عن الاَبـاء وداخلاً فـي عدادهم. وذلك من قارئه كذلك قلة علـم منه بـمـجاري كلام العرب. والعرب لا تـمتنع من أن تـجعل الأعمام بـمعنى الاَبـاء, والأخوال بـمعنى الأمهات, فلذلك دخـل إسماعيـل فـيـمن ترجم به عن الاَبـاء. وإبراهيـم وإسماعيـل وإسحاق ترجمة عن الاَبـاء فـي موضع جرّ, ولكنهم نصبوا بأنهم لا يجرّون. والصواب من القراءة عندنا فـي ذلك: وإِلهَ آبَـائِكَ لإجماع القرّاء علـى تصويب ذلك وشذوذ من خالفه من القراء مـمن قرأ خلاف ذلك, ونصب قوله إلها علـى الـحال من قوله إلهك.
الآية : 134
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{تِلْكَ أُمّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمّا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: تِلْكَ أُمّةٌ قَدْ خَـلَتْ إبراهيـم وإسماعيـل وإسحاق ويعقوب وولدهم. يقول للـيهود والنصارى: يا معشر الـيهود والنصارى دعوا ذكر إبراهيـم وإسماعيـل وإسحاق ويعقوب والـمسلـمين من أولادهم بغير ما هم أهله ولا تنـحلوهم كفر الـيهودية والنصرانـية فتضيفوها إلـيهم, فإنهم أمة ويعنـي بـالأمة فـي هذا الـموضع الـجماعة, والقرن من الناس قد خـلت: مضت لسبـيـلها. وإنـما قـيـل للذي قد مات فذهب: قد خلا, لتـخـلّـيه من الدنـيا, وانفراده بـما كان من الأنس بأهله وقرنائه فـي دنـياه, وأصله من قولهم: خلا الرجل, إذا صار بـالـمكان الذي لا أنـيس له فـيه وانفرد من الناس, فـاستعمل ذلك فـي الذي يـموت علـى ذلك الوجه. ثم قال تعالـى ذكره للـيهود والنصارى: إنّ لـمن نـحلتـموه بضلالكم وكفركم الذي أنتـم علـيه من أنبـيائي ورسلـي ما كسبت. والهاء والألف فـي قوله: لَهَا عائدة إن شئت علـى «تلك», وإن شئت علـى «الأمة».
ويعنـي بقوله: لَهَا مَا كَسَبَتْ أي ما عملت من خير, ولكم يا معشر الـيهود والنصارى مثل ذلك ما عملتـم. ولا تؤاخذون أنتـم أيها الناحلون ما نـحلتـموهم من الـملل, فتُسألوا عما كان إبراهيـم وإسماعيـل وإسحاق ويعقوب وولدهم يعملون فـيكسبون من خير وشرّ لأن لكل نفس ما كسبت, وعلـيها ما اكتسبت. فدعوا انتـحالهم وانتـحال مللهم, فإن الدعاوى غير مغنـيتكم عند الله, وإنـما يغنـي عنكم عنده ما سلف لكم من صالـح أعمالكم إن كنتـم عملتـموها وقدمتـموها