سورة التوبة | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 200 من المصحف
** اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ
يخبر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن هؤلاء المنافيقين ليسوا أهلاً للاستغفار وأنه لو استغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم, وقد قيل إن السبعين إنما ذكرت حسماً لمادة الاستغفار لهم, لأن العرب في أساليب كلامها تذكر السبعين في مبالغة كلامها, ولا تريد التحديد بها ولا أن يكون ما زاد عليها بخلافها, وقيل بل لها مفهوم كما روى العوفي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لما نزلت هذه الاَية أسمع ربي قد رخص لي فيهم فو الله لأستغفرن لهم أكثر من سبعين مرة لعل الله أن يغفر لهم» فقال الله من شدة غضبه عليهم: {سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم} الاَية. وقال الشعبي لما ثقل عبد الله بن أبي انطلق ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي قد احتضر فأحب أن تشهده وتصلي عليه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما اسمك ؟» قال: الحباب بن عبد الله قال: «بل أنت عبد الله بن عبد الله إن الحباب اسم شيطان», فانطلق معه حتى شهده وألبسه قميصه وهو عرق وصلى عليه فقيل له: أتصلي عليه وهو منافق ؟ فقال: «إن الله قال {إن تستغفر لهم سبعين مرة} ولأستغفرن لهم سبعين و سبعين وسبعين» وكذا روي عن عروة بن الزبير ومجاهد بن جبير وقتادة بن دعامة ورواه ابن جرير بأسانيده.
** فَرِحَ الْمُخَلّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُوَاْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرّ قُلْ نَارُ جَهَنّمَ أَشَدّ حَرّاً لّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
يقول تعالى ذاماً للمنافقين المتخلفين عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك, وفرحوا بقعودهم بعد خروجه {وكرهوا أن يجاهدو} معه {بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالو} أي بعضهم لبعض {لا تنفروا في الحر} وذلك أن الخروج في غزوة تبوك كان في شدة الحر عند طيب الظلال والثمار, فلهذا قالوا {لا تنفروا في الحر} قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قل} لهم {نار جهنم} التي تصيرون إليها بمخالفتكم {أشد حر} مما فررتم منه من الحر بل أشد حراً من النار,كما قال الإمام مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نار بني آدم التي توقدونها جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم» فقالوا: يا رسول الله إن كانت لكافية ؟ فقال: «فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً» أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك به, وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم, وضربت في البحر مرتين ولولا ذلك ما جعل الله فيها منفعة لأحد» وهذاأيضاً إسناده صحيح, وقد روى الإمام أبو عيسى الترمذي وابن ماجه عن عباس الدوري, وعن يحيى بن أبي بكير عن شريك عن عاصم عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوقد الله على النار ألف سنة حتى احمرت, ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت, ثم أوقد عليها ألف سنة, حتى اسودت, فهي سوداء كالليل المظلم» ثم قال الترمذي: لا أعلم أحداً رفعه غير يحيى, كذا قال, وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه, عن إبراهيم بن محمد عن محمد بن الحسين بن مكرم عن عبيد الله بن سعد عن عمه عن شريك وهو ابن عبد الله النخعي به.
وروى أيضاً ابن مردويه, من رواية مبارك بن فضالة عن ثابت بن أنس قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم «ناراً وقودها الناس والحجارة» قال: «أوقد عليها ألف عام حتى ابيضت, وألف عام حتى احمرت, وألف عام حتى اسودت, فهي سوداء كالليل لا يضيء لهبها, وروى الحافظ أبو القاسم الطبراني من حديث تمام بن نجيج, وقد اختلف فيه عن الحسن عن أنس رفعه «لو أن شرارة بالمشرق ـ أي من نار جهنم ـ لوجد حرها من بالمغرب» وروى الحافظ أبو يعلى, عن إسحاق بن أبي إسرائيل عن أبي عبيدة الحداد عن هشام بن حسان عن محمد بن شبيب عن جعفر بن أبي وحشية عن سعيد بن جبير عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كان في هذا المسجد مائة ألف أو يزيدون وفيهم رجل من أهل النار فتنفس فأصابهم نفسه لاحترق المسجد ومن فيه» غريب, وقال الأعمش عن أبي إسحاق عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة لمن له نعلان وشراكان من نار جهنم يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل, لا يرى أن أحداً من أهل النار أشد عذاباً منه وإنه أهونهم عذاباً» أخرجاه في الصحيحين من حديث الأعمش, وقال مسلم أيضاً: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا يحيى بن أبي كثير, حدثنا زهير بن محمد عن سهيل بن أبي صالح عن النعمان بن أبي عياش عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أدنى أهل النار عذاباً يوم القيامة ينتعل بنعلين من نار يغلي دماغه من حرارة نعليه», وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى عن ابن عجلان, سمعت أبي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن أدنى أهل النار عذاباً رجل يجعل له نعلان يغلي منهما دماغه» وهذا إسناد جيد قوي رجاله على شرط مسلم والله أعلم, والأحاديث والاَثار النبوية في هذا كثيرة, وقال الله تعالى في كتابه العزيز {كلا إنها لظى نزاعة للشوى} وقال تعالى: {يصب من فوق رؤوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق} وقال تعالى {إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ناراً كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب} وقال تعالى في هذه الاَية الكريمة {قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون} أي لو أنهم يفقهون ويفهمون لنفروا مع الرسول في سبيل الله في الحر ليتقوا به من حر جهنم الذي هو أضعاف أضعاف هذا ولكنهم كما قال الاَخر:
كالمستجير من الرمضاء بالنار
وقال الاَخر:
عمرك بالحمية أفنيتهخوفاً من البارد والحار
وكان أولى لك أن تتقيمن المعاصي حذر النار
ثم قال تعالى جل جلاله متوعداً هؤلاء المنافقين على صنيعهم هذا: {فليضحكوا قليل} الاَية, قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: الدنيا قليل فليضحكوا فيها ما شاؤوا, فإذا انقطعت الدنيا وصاروا إلى الله عز وجل استأنفوا بكاء لا ينقطع أبداً, وكذا قال أبو رزين والحسن وقتادة والربيع بن خثيم وعون العقيلي وزيد بن أسلم, وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا عبد الله بن عبد الصمد بن أبي خداش, حدثنا محمد بن جبير عن ابن المبارك عن عمران بن زيد, حدثنا يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يا أيها الناس ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا فإن أهل النار يبكون حتى تسيل دموعهم في وجوهم كأنها جداول حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء فتقرح العيون, فلو أن سفناً أزجيت فيها لجرت» ورواه ابن ماجه من حديث الأعمش عن يزيد الرقاشي به, وقال الحافظ أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا: حدثنا محمد بن عباس, حدثنا حماد الجزري عن زيد بن رفيع رفعه, قال: إن أهل النار إذا دخلوا النار بكوا الدموع زماناً ثم بكوا القيح زماناً, قال: فتقول لهم الخزنة يا معشر الأشقياء تركتم البكاء في الدار المرحوم فيها أهلها في الدنيا هل تجدون اليوم من تستغيثون به ؟ قال: فيرفعون أصواتهم يا أهل الجنة يا معشر الاَباء والأمهات والأولاد خرجنا من القبور عطاشاً وكنا طول الموقف عطاشاً ونحن اليوم عطاش, فأفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله, فيدعون أربعين سنة لا يجيبهم, ثم يجيبهم {إنكم ماكثون} فييأسون من كل خير».
** فَإِن رّجَعَكَ اللّهُ إِلَىَ طَآئِفَةٍ مّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوّلَ مَرّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ
يقول تعالى آمراً لرسوله عليه الصلاة السلام {فإن رجعك الله} أي ردك الله من غزوتك هذه {إلى طائفة منهم} قال قتادة: ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر رجلاً {فاستأذنوك للخروج} أي معك إلى غزوة أخرى {فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدو} أي تعزيراً لهم وعقوبة, ثم علل ذلك بقوله: {إنكم رضيتم بالقعود أول مرة} وهذا كقوله تعالى: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة} الاَية, فإن جزاء السيئة السيئة بعدها كما أن ثواب الحسنة الحسنة بعدها, كقوله في عمرة الحديبية {سيقول المخلفون إِذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوه} الاَية. وقوله تعالى: {فاقعدوا مع الخالفين} قال ابن عباس: أي الرجال الذين تخلفوا عن الغزاة, وقال قتادة {فاقعدوا مع الخالفين} أي مع النساء قال ابن جرير وهذا لا يستقيم لأن جمع النساء لا يكون بالياء والنون ولو أريد النساء لقال فاقعدوا مع الخوالف أو الخالفات, ورجح قول ابن عباس رضي الله عنهما.
** وَلاَ تُصَلّ عَلَىَ أَحَدٍ مّنْهُم مّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ
أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبرأ من المنافقين وأن لا يصلي على أحد منهم إذا مات, وأن لا يقوم على قبره ليستغفر له أو يدعو له لأنهم كفروابا لله ورسوله وماتوا عليه وهذا حكم عام في كل من عرف نفاقه, وإن كان سبب نزول الاَية في عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين كما قال البخاري: حدثنا عبيد بن إسماعيل عن أبي أسامة عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: لما توفي عبد الله بن أبي «جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه, ثم سأله أن يصلي عليه فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه, فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنما خيرني الله فقال {استغفر لهم أولا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} وسأزيده على السبعين» قال إنه منافق. قال فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل آية {ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره}, وكذا رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي أسامة حماد بن أسامة به, ثم رواه البخاري عن إبراهيم بن المنذر عن أنس بن عياض عن عبيد الله وهو ابن عمر العمري به, وقال فصلى عليه وصلينا معه وأنزل الله {ولا تصل على أحد منهم مات أبد} الاَية. وهكذا رواه الإمام أحمد عن يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله به.
وقد روي من حديث عمر بن الخطاب نفسه أيضاً بنحو من هذا, فقال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب, حدثنا أبي عن ابن إسحاق, حدثني الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس, قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لما توفي عبد الله بن أبي, دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليه, فقام إليه فلما وقف عليه يريد الصلاة تحولت حتى قمت في صدره فقلت يا رسول الله أعلى عدو الله عبد الله بن أبي القائل يوم كذا وكذا وكذا يعدد أيامه, قال ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم, حتى إذا أكثرت عليه فقال: «أخر عني يا عمر, إِني خيرت فاخترت, قد قيل لي استغفر لهم» الاَية. لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت» قال ثم صلى عليه ومشى معه وقام على قبره حتى فرغ منه, قال فعجبت من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ورسوله أعلم. قال فوا لله ما كان إِلا يسيرا حتى نزلت هاتان الاَيتان {ولا تصل على أحد منهم مات أبد} الاَية. فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده على منافق ولا قام على قبره حتى قبضه الله عز وجل. وهكذا رواه الترمذي في التفسير من حديث محمد بن إسحاق عن الزهري به, وقال حسن صحيح, ورواه البخاري عن يحيى بن بكير عن الليث عن عقيل عن الزهري به فذكر مثله, قال: «أخر عني يا عمر» فلما أكثرت عليه قال: «إِني خيرت فاخترت ولو أعلم أني إِن زدت على السبعين غفر له لزدت عليها» قال فصلى عليه رسول الله ثم انصرف, فلم يلبث إلا يسيراً حتى نزلت الاَيتان من براءة {ولاتصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره} الاَية, فعجبت بعد من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم. وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن أبي عبيد, حدثنا عبد الملك عن أبي الزبير عن جابر قال: لما مات عبد الله بن أبي أتى ابنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنك إن لم تأته لم نزل نعير بهذا, فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فوجده قد أدخل في حفرته فقال: «أفلا قبل أن تدخلوه» فأخرج من حفرته وتفل عليه من ريقه من قرنه إلى قدمه وألبسه قميصه, ورواه النسائي عن أبي داود الحراني عن يعلى بن عبيد عن عبدالملك وهو ابن أبي سليمان به, وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن عثمان, أخبرنا ابن عيينة عن عمرو سمع جابر بن عبد الله قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بعد ما أدخل في قبره فأمر به فأخرج ووضع على ركبتيه ونفث عليه من ريقه وألبسه قميصه والله أعلم.
وقد رواه أيضاً في غير موضع مسلم والنسائي من غير وجه, عن سفيان بن عيينة به. وقال الإمام أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده: حدثنا عمرو بن علي, حدثنا يحيى, حدثنا مجالد, حدثنا عامر, حدثنا جابر «ح» وحدثنا يوسف بن موسى, حدثنا عبد الرحمن بن مغراء الدوسي, حدثنا مجالد عن الشعبي عن جابر قال: لما مات رأس المنافقين قال يحيى بن سعيد بالمدينة فأوصى أن يصلي عليه النبي صلى الله عليه وسلم فجاء ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي أوصى أن يكفن بقميصك وهذا الكلام في حديث عبد الرحمن بن مغراء, قال يحيى في حديثه: فصلى عليه وألبسه قميصه فأنزل الله تعالى: {ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره} وزاد عبد الرحمن: وخلع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه فأعطاه إياه ومشى فصلى عليه وقام على قبره, فأتاه جبريل عليه السلام لما ولى قال {ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره} وإسناده لا بأس به وما قبله شاهد له.
وقال الإمام أبو جعفر الطبري: حدثنا أحمد بن إسحاق, حدثنا أحمد, حدثنا حماد بن سلمة عن يزيد الرقاشي عن أنس, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يصلي على عبد الله بن أبي فأخذ جبريل بثوبه وقال {ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره} ورواه الحافظ أبو يعلى في مسنده من حديث يزيد الرقاشي وهو ضعيف. وقال قتادة أرسل عبد الله بن أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مريض فلما دخل عليه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أهلكك حب يهود» قال: يارسول الله إنما أرسلت إليك لتستغفر لي ولم أرسل إليك لتؤنبني, ثم سأله عبد الله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه إياه وصلى عليه وقام على قبره, فأنزل الله عز وجل {ولا تصل على أحد منهم مات أبد} الاَية, وقد ذكر بعض السلف أنه إنما كساه قميصه لأن عبد الله بن أبي لما قدم العباس طلب له قميص فلم يوجد على تفصيله إلا ثوب عبد الله بن أبي لأنه كان ضخماً طويلاً ففعل ذلك به رسول الله صلى الله عليه وسلم مكافأة له فالله أعلم. ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الاَية الكريمة عليه لا يصلي على أحد من المنافقين ولا يقوم على قبره, كما قال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب, حدثنا أبي عن أبيه, حدثني عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعي إلى جنازة سأل عنها, فإن أثني عليها خيراً قام فصلى عليها, وإن كان غير ذلك قال لأهلها «شأنكم بها» ولم يصل عليها, وكان عمر بن الخطاب لا يصلي على جنازة من جهل حاله حتى يصلي عليها حذيفة بن اليمان لأنه كان يعلم أعيان المنافقين, قد أخبره بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولهذا كان يقال له صاحب السر الذي لا يعلمه غيره أي من الصحابة.
وقال أبو عبيد في كتاب الغريب في حديث عمر, أنه أراد أن يصلي على جنازة رجل فمرزه حذيفة كأنه أراد أن يصده عن الصلاة عليها. ثم حكى عن بعضهم أن المرز بلغة أهل اليمامة هو القرص بأطراف الأصابع, ولما نهى الله عز وجل عن الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم للاستغفار لهم, كان هذه الصنيع من أكبر القربات في حق المؤمنين فشرع ذلك, وفي فعله الأجر الجزيل كما ثبت في الصحاح وغيرها من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من شهد الجنازة حتى يصلي عليها فله قيراط, ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان» قيل وما القيراطان ؟ قال «أصغرهما مثل أحد» وأما القيام عند قبر المؤمن إذا مات, فروى أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي, أخبرنا هشام عن عبد الله بن بحير عن هانىء, وهو أبو سعيد البربري مولى عثمان بن عفان عن عثمان رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: «استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الاَن يسأل» انفرد بإخراجه أبو داود رحمه الله.
** وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُعَذّبَهُمْ بِهَا فِي الدّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ
قد تم تفسيرنظير هذه الاَية الكريمة ولله الحمد والمنة.
** وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مّعَ الْقَاعِدِينَ * رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَىَ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ
يقول تعالى منكراً وذاماً للمتخلفين عن الجهاد الناكلين عنه مع القدرة عليه ووجود السعة والطول. واستأذنوا الرسول في القعود وقالوا {ذرنا نكن مع القاعدين} ورضوا لأنفسهم بالعار والقعود في البلد مع النساء, وهن الخوالف بعد خروج الجيش, فإذا وقع الحرب كانوا أجبن الناس, وإذا كان أمن كانوا أكثر الناس كلاماً, كما قال تعالى عنهم في الاَية الأخرى: {فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت, فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد} أي علت ألسنتهم بالكلام الحاد القوي في الأمن, وفي الحرب أجبن شيء, وكما قال الشاعر:
أفي السلم أعيار أجفاء وغلظةوفي الحرب أشباه النساء الفوارك ؟
وقال تعالى في الاَية الأخرى {ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة, فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم} الاَية, وقوله {وطبع على قلوبهم} أي بسبب نكولهم عن الجهاد والخروج مع الرسول في سبيل الله {فهم لا يفقهون} أي لا يفهمون ما فيه صلاح لهم فيفعلوه ولا ما فيه مضرة لهم فيجتنبوه.
تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 200
200 : تفسير الصفحة رقم 200 من القرآن الكريم** اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ
يخبر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن هؤلاء المنافيقين ليسوا أهلاً للاستغفار وأنه لو استغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم, وقد قيل إن السبعين إنما ذكرت حسماً لمادة الاستغفار لهم, لأن العرب في أساليب كلامها تذكر السبعين في مبالغة كلامها, ولا تريد التحديد بها ولا أن يكون ما زاد عليها بخلافها, وقيل بل لها مفهوم كما روى العوفي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لما نزلت هذه الاَية أسمع ربي قد رخص لي فيهم فو الله لأستغفرن لهم أكثر من سبعين مرة لعل الله أن يغفر لهم» فقال الله من شدة غضبه عليهم: {سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم} الاَية. وقال الشعبي لما ثقل عبد الله بن أبي انطلق ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي قد احتضر فأحب أن تشهده وتصلي عليه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما اسمك ؟» قال: الحباب بن عبد الله قال: «بل أنت عبد الله بن عبد الله إن الحباب اسم شيطان», فانطلق معه حتى شهده وألبسه قميصه وهو عرق وصلى عليه فقيل له: أتصلي عليه وهو منافق ؟ فقال: «إن الله قال {إن تستغفر لهم سبعين مرة} ولأستغفرن لهم سبعين و سبعين وسبعين» وكذا روي عن عروة بن الزبير ومجاهد بن جبير وقتادة بن دعامة ورواه ابن جرير بأسانيده.
** فَرِحَ الْمُخَلّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُوَاْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرّ قُلْ نَارُ جَهَنّمَ أَشَدّ حَرّاً لّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
يقول تعالى ذاماً للمنافقين المتخلفين عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك, وفرحوا بقعودهم بعد خروجه {وكرهوا أن يجاهدو} معه {بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالو} أي بعضهم لبعض {لا تنفروا في الحر} وذلك أن الخروج في غزوة تبوك كان في شدة الحر عند طيب الظلال والثمار, فلهذا قالوا {لا تنفروا في الحر} قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قل} لهم {نار جهنم} التي تصيرون إليها بمخالفتكم {أشد حر} مما فررتم منه من الحر بل أشد حراً من النار,كما قال الإمام مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نار بني آدم التي توقدونها جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم» فقالوا: يا رسول الله إن كانت لكافية ؟ فقال: «فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً» أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك به, وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم, وضربت في البحر مرتين ولولا ذلك ما جعل الله فيها منفعة لأحد» وهذاأيضاً إسناده صحيح, وقد روى الإمام أبو عيسى الترمذي وابن ماجه عن عباس الدوري, وعن يحيى بن أبي بكير عن شريك عن عاصم عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوقد الله على النار ألف سنة حتى احمرت, ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت, ثم أوقد عليها ألف سنة, حتى اسودت, فهي سوداء كالليل المظلم» ثم قال الترمذي: لا أعلم أحداً رفعه غير يحيى, كذا قال, وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه, عن إبراهيم بن محمد عن محمد بن الحسين بن مكرم عن عبيد الله بن سعد عن عمه عن شريك وهو ابن عبد الله النخعي به.
وروى أيضاً ابن مردويه, من رواية مبارك بن فضالة عن ثابت بن أنس قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم «ناراً وقودها الناس والحجارة» قال: «أوقد عليها ألف عام حتى ابيضت, وألف عام حتى احمرت, وألف عام حتى اسودت, فهي سوداء كالليل لا يضيء لهبها, وروى الحافظ أبو القاسم الطبراني من حديث تمام بن نجيج, وقد اختلف فيه عن الحسن عن أنس رفعه «لو أن شرارة بالمشرق ـ أي من نار جهنم ـ لوجد حرها من بالمغرب» وروى الحافظ أبو يعلى, عن إسحاق بن أبي إسرائيل عن أبي عبيدة الحداد عن هشام بن حسان عن محمد بن شبيب عن جعفر بن أبي وحشية عن سعيد بن جبير عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كان في هذا المسجد مائة ألف أو يزيدون وفيهم رجل من أهل النار فتنفس فأصابهم نفسه لاحترق المسجد ومن فيه» غريب, وقال الأعمش عن أبي إسحاق عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة لمن له نعلان وشراكان من نار جهنم يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل, لا يرى أن أحداً من أهل النار أشد عذاباً منه وإنه أهونهم عذاباً» أخرجاه في الصحيحين من حديث الأعمش, وقال مسلم أيضاً: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا يحيى بن أبي كثير, حدثنا زهير بن محمد عن سهيل بن أبي صالح عن النعمان بن أبي عياش عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أدنى أهل النار عذاباً يوم القيامة ينتعل بنعلين من نار يغلي دماغه من حرارة نعليه», وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى عن ابن عجلان, سمعت أبي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن أدنى أهل النار عذاباً رجل يجعل له نعلان يغلي منهما دماغه» وهذا إسناد جيد قوي رجاله على شرط مسلم والله أعلم, والأحاديث والاَثار النبوية في هذا كثيرة, وقال الله تعالى في كتابه العزيز {كلا إنها لظى نزاعة للشوى} وقال تعالى: {يصب من فوق رؤوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق} وقال تعالى {إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ناراً كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب} وقال تعالى في هذه الاَية الكريمة {قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون} أي لو أنهم يفقهون ويفهمون لنفروا مع الرسول في سبيل الله في الحر ليتقوا به من حر جهنم الذي هو أضعاف أضعاف هذا ولكنهم كما قال الاَخر:
كالمستجير من الرمضاء بالنار
وقال الاَخر:
عمرك بالحمية أفنيتهخوفاً من البارد والحار
وكان أولى لك أن تتقيمن المعاصي حذر النار
ثم قال تعالى جل جلاله متوعداً هؤلاء المنافقين على صنيعهم هذا: {فليضحكوا قليل} الاَية, قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: الدنيا قليل فليضحكوا فيها ما شاؤوا, فإذا انقطعت الدنيا وصاروا إلى الله عز وجل استأنفوا بكاء لا ينقطع أبداً, وكذا قال أبو رزين والحسن وقتادة والربيع بن خثيم وعون العقيلي وزيد بن أسلم, وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا عبد الله بن عبد الصمد بن أبي خداش, حدثنا محمد بن جبير عن ابن المبارك عن عمران بن زيد, حدثنا يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يا أيها الناس ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا فإن أهل النار يبكون حتى تسيل دموعهم في وجوهم كأنها جداول حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء فتقرح العيون, فلو أن سفناً أزجيت فيها لجرت» ورواه ابن ماجه من حديث الأعمش عن يزيد الرقاشي به, وقال الحافظ أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا: حدثنا محمد بن عباس, حدثنا حماد الجزري عن زيد بن رفيع رفعه, قال: إن أهل النار إذا دخلوا النار بكوا الدموع زماناً ثم بكوا القيح زماناً, قال: فتقول لهم الخزنة يا معشر الأشقياء تركتم البكاء في الدار المرحوم فيها أهلها في الدنيا هل تجدون اليوم من تستغيثون به ؟ قال: فيرفعون أصواتهم يا أهل الجنة يا معشر الاَباء والأمهات والأولاد خرجنا من القبور عطاشاً وكنا طول الموقف عطاشاً ونحن اليوم عطاش, فأفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله, فيدعون أربعين سنة لا يجيبهم, ثم يجيبهم {إنكم ماكثون} فييأسون من كل خير».
** فَإِن رّجَعَكَ اللّهُ إِلَىَ طَآئِفَةٍ مّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوّلَ مَرّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ
يقول تعالى آمراً لرسوله عليه الصلاة السلام {فإن رجعك الله} أي ردك الله من غزوتك هذه {إلى طائفة منهم} قال قتادة: ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر رجلاً {فاستأذنوك للخروج} أي معك إلى غزوة أخرى {فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدو} أي تعزيراً لهم وعقوبة, ثم علل ذلك بقوله: {إنكم رضيتم بالقعود أول مرة} وهذا كقوله تعالى: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة} الاَية, فإن جزاء السيئة السيئة بعدها كما أن ثواب الحسنة الحسنة بعدها, كقوله في عمرة الحديبية {سيقول المخلفون إِذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوه} الاَية. وقوله تعالى: {فاقعدوا مع الخالفين} قال ابن عباس: أي الرجال الذين تخلفوا عن الغزاة, وقال قتادة {فاقعدوا مع الخالفين} أي مع النساء قال ابن جرير وهذا لا يستقيم لأن جمع النساء لا يكون بالياء والنون ولو أريد النساء لقال فاقعدوا مع الخوالف أو الخالفات, ورجح قول ابن عباس رضي الله عنهما.
** وَلاَ تُصَلّ عَلَىَ أَحَدٍ مّنْهُم مّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ
أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبرأ من المنافقين وأن لا يصلي على أحد منهم إذا مات, وأن لا يقوم على قبره ليستغفر له أو يدعو له لأنهم كفروابا لله ورسوله وماتوا عليه وهذا حكم عام في كل من عرف نفاقه, وإن كان سبب نزول الاَية في عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين كما قال البخاري: حدثنا عبيد بن إسماعيل عن أبي أسامة عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: لما توفي عبد الله بن أبي «جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه, ثم سأله أن يصلي عليه فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه, فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنما خيرني الله فقال {استغفر لهم أولا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} وسأزيده على السبعين» قال إنه منافق. قال فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل آية {ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره}, وكذا رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي أسامة حماد بن أسامة به, ثم رواه البخاري عن إبراهيم بن المنذر عن أنس بن عياض عن عبيد الله وهو ابن عمر العمري به, وقال فصلى عليه وصلينا معه وأنزل الله {ولا تصل على أحد منهم مات أبد} الاَية. وهكذا رواه الإمام أحمد عن يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله به.
وقد روي من حديث عمر بن الخطاب نفسه أيضاً بنحو من هذا, فقال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب, حدثنا أبي عن ابن إسحاق, حدثني الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس, قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لما توفي عبد الله بن أبي, دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليه, فقام إليه فلما وقف عليه يريد الصلاة تحولت حتى قمت في صدره فقلت يا رسول الله أعلى عدو الله عبد الله بن أبي القائل يوم كذا وكذا وكذا يعدد أيامه, قال ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم, حتى إذا أكثرت عليه فقال: «أخر عني يا عمر, إِني خيرت فاخترت, قد قيل لي استغفر لهم» الاَية. لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت» قال ثم صلى عليه ومشى معه وقام على قبره حتى فرغ منه, قال فعجبت من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ورسوله أعلم. قال فوا لله ما كان إِلا يسيرا حتى نزلت هاتان الاَيتان {ولا تصل على أحد منهم مات أبد} الاَية. فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده على منافق ولا قام على قبره حتى قبضه الله عز وجل. وهكذا رواه الترمذي في التفسير من حديث محمد بن إسحاق عن الزهري به, وقال حسن صحيح, ورواه البخاري عن يحيى بن بكير عن الليث عن عقيل عن الزهري به فذكر مثله, قال: «أخر عني يا عمر» فلما أكثرت عليه قال: «إِني خيرت فاخترت ولو أعلم أني إِن زدت على السبعين غفر له لزدت عليها» قال فصلى عليه رسول الله ثم انصرف, فلم يلبث إلا يسيراً حتى نزلت الاَيتان من براءة {ولاتصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره} الاَية, فعجبت بعد من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم. وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن أبي عبيد, حدثنا عبد الملك عن أبي الزبير عن جابر قال: لما مات عبد الله بن أبي أتى ابنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنك إن لم تأته لم نزل نعير بهذا, فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فوجده قد أدخل في حفرته فقال: «أفلا قبل أن تدخلوه» فأخرج من حفرته وتفل عليه من ريقه من قرنه إلى قدمه وألبسه قميصه, ورواه النسائي عن أبي داود الحراني عن يعلى بن عبيد عن عبدالملك وهو ابن أبي سليمان به, وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن عثمان, أخبرنا ابن عيينة عن عمرو سمع جابر بن عبد الله قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بعد ما أدخل في قبره فأمر به فأخرج ووضع على ركبتيه ونفث عليه من ريقه وألبسه قميصه والله أعلم.
وقد رواه أيضاً في غير موضع مسلم والنسائي من غير وجه, عن سفيان بن عيينة به. وقال الإمام أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده: حدثنا عمرو بن علي, حدثنا يحيى, حدثنا مجالد, حدثنا عامر, حدثنا جابر «ح» وحدثنا يوسف بن موسى, حدثنا عبد الرحمن بن مغراء الدوسي, حدثنا مجالد عن الشعبي عن جابر قال: لما مات رأس المنافقين قال يحيى بن سعيد بالمدينة فأوصى أن يصلي عليه النبي صلى الله عليه وسلم فجاء ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي أوصى أن يكفن بقميصك وهذا الكلام في حديث عبد الرحمن بن مغراء, قال يحيى في حديثه: فصلى عليه وألبسه قميصه فأنزل الله تعالى: {ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره} وزاد عبد الرحمن: وخلع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه فأعطاه إياه ومشى فصلى عليه وقام على قبره, فأتاه جبريل عليه السلام لما ولى قال {ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره} وإسناده لا بأس به وما قبله شاهد له.
وقال الإمام أبو جعفر الطبري: حدثنا أحمد بن إسحاق, حدثنا أحمد, حدثنا حماد بن سلمة عن يزيد الرقاشي عن أنس, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يصلي على عبد الله بن أبي فأخذ جبريل بثوبه وقال {ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره} ورواه الحافظ أبو يعلى في مسنده من حديث يزيد الرقاشي وهو ضعيف. وقال قتادة أرسل عبد الله بن أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مريض فلما دخل عليه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أهلكك حب يهود» قال: يارسول الله إنما أرسلت إليك لتستغفر لي ولم أرسل إليك لتؤنبني, ثم سأله عبد الله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه إياه وصلى عليه وقام على قبره, فأنزل الله عز وجل {ولا تصل على أحد منهم مات أبد} الاَية, وقد ذكر بعض السلف أنه إنما كساه قميصه لأن عبد الله بن أبي لما قدم العباس طلب له قميص فلم يوجد على تفصيله إلا ثوب عبد الله بن أبي لأنه كان ضخماً طويلاً ففعل ذلك به رسول الله صلى الله عليه وسلم مكافأة له فالله أعلم. ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الاَية الكريمة عليه لا يصلي على أحد من المنافقين ولا يقوم على قبره, كما قال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب, حدثنا أبي عن أبيه, حدثني عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعي إلى جنازة سأل عنها, فإن أثني عليها خيراً قام فصلى عليها, وإن كان غير ذلك قال لأهلها «شأنكم بها» ولم يصل عليها, وكان عمر بن الخطاب لا يصلي على جنازة من جهل حاله حتى يصلي عليها حذيفة بن اليمان لأنه كان يعلم أعيان المنافقين, قد أخبره بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولهذا كان يقال له صاحب السر الذي لا يعلمه غيره أي من الصحابة.
وقال أبو عبيد في كتاب الغريب في حديث عمر, أنه أراد أن يصلي على جنازة رجل فمرزه حذيفة كأنه أراد أن يصده عن الصلاة عليها. ثم حكى عن بعضهم أن المرز بلغة أهل اليمامة هو القرص بأطراف الأصابع, ولما نهى الله عز وجل عن الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم للاستغفار لهم, كان هذه الصنيع من أكبر القربات في حق المؤمنين فشرع ذلك, وفي فعله الأجر الجزيل كما ثبت في الصحاح وغيرها من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من شهد الجنازة حتى يصلي عليها فله قيراط, ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان» قيل وما القيراطان ؟ قال «أصغرهما مثل أحد» وأما القيام عند قبر المؤمن إذا مات, فروى أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي, أخبرنا هشام عن عبد الله بن بحير عن هانىء, وهو أبو سعيد البربري مولى عثمان بن عفان عن عثمان رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: «استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الاَن يسأل» انفرد بإخراجه أبو داود رحمه الله.
** وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُعَذّبَهُمْ بِهَا فِي الدّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ
قد تم تفسيرنظير هذه الاَية الكريمة ولله الحمد والمنة.
** وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مّعَ الْقَاعِدِينَ * رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَىَ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ
يقول تعالى منكراً وذاماً للمتخلفين عن الجهاد الناكلين عنه مع القدرة عليه ووجود السعة والطول. واستأذنوا الرسول في القعود وقالوا {ذرنا نكن مع القاعدين} ورضوا لأنفسهم بالعار والقعود في البلد مع النساء, وهن الخوالف بعد خروج الجيش, فإذا وقع الحرب كانوا أجبن الناس, وإذا كان أمن كانوا أكثر الناس كلاماً, كما قال تعالى عنهم في الاَية الأخرى: {فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت, فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد} أي علت ألسنتهم بالكلام الحاد القوي في الأمن, وفي الحرب أجبن شيء, وكما قال الشاعر:
أفي السلم أعيار أجفاء وغلظةوفي الحرب أشباه النساء الفوارك ؟
وقال تعالى في الاَية الأخرى {ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة, فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم} الاَية, وقوله {وطبع على قلوبهم} أي بسبب نكولهم عن الجهاد والخروج مع الرسول في سبيل الله {فهم لا يفقهون} أي لا يفهمون ما فيه صلاح لهم فيفعلوه ولا ما فيه مضرة لهم فيجتنبوه.
الصفحة رقم 200 من المصحف تحميل و استماع mp3