تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 200 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 200

199

ثم ذكر سبحانه نوعاً آخر من قبائح المنافقين فقال: 81- "فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله" المخلفون المتروكون، وهم الذين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين، فأذن لهم وخلفهم بالمدينة في غزوة تبوك، أو الذين خلفهم الله وثبطهم، أو الشيطان أو كسلهم أو المؤمنون، ومعنى "بمقعدهم" أي بقعودهم يقال: قعد قعوداً ومقعداً: أي جلس، وأقعده غيره، ذكر معناه الجوهري فهو متعلق بفرح: أي فرح المخلفون بقعودهم، وخلاف رسول الله منتصب على أنه ظرف لمقعدهم. قال الأخفش ويونس: الخلاف بمعنى الخلف: أي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن جهة الإمام التي يقصدها الإنسان تخالفها جهة الخلف. وقال قطرب والزجاج: معنى خلاف رسول الله مخالفة الرسول حين سار وأقاموا، فانتصابه على أنه مفعول له: أي قعدوا لأجل المخالفة، أو على الحال مثل وأرسلها العراك: أي مخالفين له، ويؤيد ما قاله الأخفش ويونس قراءة أبي حيوة خلف رسول الله. قوله: "وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله" سبب ذلك الشح بالأموال والأنفس، وعدم وجود باعث الإيمان وداعي الإخلاص ووجود الصارف عن ذلك، وهو ما هم فيه من النفاق، وفيه تعريض بالمؤمنين الباذلين لأموالهم وأنفسهم في سبيل الله لوجود الداعي معهم وانتفاء الصارف عنهم "وقالوا لا تنفروا في الحر" أي قال المنافقون لإخوانهم: هذه المقالة تثبيطاً لهم وكسراً لنشاطهم وتواصياً بينهم بالمخالفة لأمر الله ورسوله، ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: "نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون" والمعنى: أنكم أيها المنافقون كيف تفرون من هذا الحر اليسير، ونار جهنم التي ستدخلونها خالدين فيها أبداً أشد حراً مما فررتم منه فإنكم إنما فررتم من حر يسير في زمن قصير، ووقعتم في حر كثير في زمن كبير، بل غير متناه أبد الآبدين ودهر الداهرين. فكنت كالساعي إلى مثعب موائلاً من سبل الراعد وجواب لو في "لو كانوا يفقهون" مقدر: أي لو كانوا يفقهون أنها كذلك لما فعلوا ما فعلوا.
قوله: 82- "فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً" هذان الأمران معناهما الخبر، والمعنى: فسيضحكون قليلاً ويبكون كثيراً، وإنما جيء بهما على لفظ الأمر للدلالة على أن ذلك أمر محتوم لا يكون غيره، وقليلاً وكثيراً منصوبان على المصدرية أو الظرفية: أي ضحكاً قليلاً وبكاء كثيراً، أو زماناً قليلاً وزماناً كثيراً "جزاء بما كانوا يكسبون" أي جزاء بسبب ما كانوا يكسبونه من المعاصي، وانتصاب جزاء على المصدرية: أي يجزون جزاء.
83- "فإن رجعك الله إلى طائفة منهم" الرجع متعد كالرد والرجوع لازم، والفاء لتفريع ما بعدها على ما قبلها وإنما قال "إلى طائفة" لأن جميع من أقام بالمدينة لم يكونوا منافقين بل كان فيهم غيرهم من المؤمنين لهم أعذار صحيحة، وفيهم من المؤمنين من لا عذر له، ثم عفا عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتاب الله عليهم كالثلاثة الذين خلفوا، وسيأتي بيان ذلك. وقيل إنما قال: إلى طائفة، لأن منهم من تاب عن النفاق وندم على التخلف "فاستأذنوك للخروج" معك في غزوة أخرى بعد غزوتك هذه "فقل" لهم "لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً" أي قل لهم ذلك عقوبة لهم، ولما في استصحابهم من المفاسد كما تقدم في قوله: "لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً". وقرئ بفتح الياء من معي في الموضعين. وقرئ بسكونها فيهما، وجملة "إنكم رضيتم بالقعود أول مرة" للتعليل: أي لن تخرجوا معي ولن تقاتلوا لأنكم رضيتم بالقعود والتخلف أول مرة، وهي غزوة تبوك، والفاء في "فاقعدوا مع الخالفين" لتفريع ما بعدها على ما قبلها، والخالفين جمع خالف كأنهم خلفوا الخارجين، والمراد بهم من تخلف عن الخروج. وقيل المعنى: فاقعدوا مع الفاسدين، من قولهم: فلان خالف أهل بيته إذا كان فاسداً فيهم، من قولك خلف اللبن: أي فسد بطول المكث في السقاء. ذكر معناه الأصمعي. وقرئ "فاقعدوا مع الخالفين" وقال الفراء: معناه المخالفين. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم "عن عروة أن عبد الله بن أبي قال: لولا أنكم تنفقون على محمد وأصحابه لانفضوا من حوله، وهو القائل: "ليخرجن الأعز منها الأذل" فأنزل الله: "استغفر لهم أو لا تستغفر لهم" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأزيدن على السبعين، فأنزل الله: " سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم "". وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس نحوه. وأخرج أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن أبي حاتم والنحاس وابن حبان وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال: سمعت عمر يقول: لما توفي عبد الله بن أبي دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليه فقام عليه، فلما وقف قلت: أعلى عدو الله عبد الله بن أبي القائل كذا وكذا، والقائل كذا وكذا؟ أعدد أيامه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم حتى إذا أكثرت قال: يا عمر أخر عني، إني قد خيرت، قد قيل لي: "استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم" فلو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له لزدت عليها، ثم صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشى معه حتى قام على قبره حتى فرغ منه، فعجبت لي ولجرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ورسوله أعلم، فوالله ما كان إلا يسيراً حتى نزلت هاتان الآيتان: "ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره" فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على منافق بعد حتى قبضه الله عز وجل. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "فرح المخلفون" الآية قال: عن غزوة تبوك. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن ينبعثوا معه، وذلك في الصيف، فقال رجال: يا رسول الله الحر شديد ولا نستطيع الخروج فلا تنفروا في الحر، فقال الله: "قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون" فأمره بالخروج. وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً" قال: هم المنافقون والكفار الذين اتخذوا دينهم هزواً ولعباً، يقول الله: فليضحكوا قليلاً في الدنيا وليبكوا كثيراً في الآخرة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "فإن رجعك الله إلى طائفة منهم" قال: ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر رجلاً من المنافقين وفيهم قيل ما قيل. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فاقعدوا مع الخالفين" قال: هم الرجال الذين تخلفوا عن الغزو.
قوله: 84- "مات" صفة لأحد، و "أبداً" ظرف لتأبيد النفي. قال الزجاج: معنى قوله: "ولا تقم على قبره" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له فمنع هاهنا منه، وقيل معناه: لا تقم بمهمات إصلاح قبره، وجملة "إنهم كفروا" تعليل للنهي، وإنما وصفهم بالفسق بعد وصفهم بالكفر، لأن الكافر قد يكون عدلاً في دينه، والكذب والنفاق والخداع والجبن والخبث مستقبحة في كل دين.
85- "ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون" ثم نهى رسوله عن أن تعجبه أموالهم وأولادهم، وهو تكرير لما سبق في هذه السورة وتقرير لمضمونه، وقيل: إن الآية المتقدمة في قوم، وهذه في آخرين، وقيل هذه في اليهود، والأولى في المنافقين، وقيل غير ذلك. وقد تقدم في الآية الأولى جميع ما يحتاج إليه في تفسير هذه الآية.