تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 209 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 209

209 : تفسير الصفحة رقم 209 من القرآن الكريم

إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ
بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ {7} أُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمُ
النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ {8}
يقول تعالى مخبرا عن حال الأشقياء الذين كفروا بلقاه الله يوم القيامة ولا يرجون في لقائه شيئا ورضوا بهذه الحياة الدنيا واطمأنت إليها نفوسهم قال الحسن والله مازينوها ولا رفعوها حتى رضوا بها وهم غافلون عن آيات الله الكونية فلا يتفكرون فيها والشرعية فلا يأتمرون بها فإن مأواهم يوم معادهم النار جزاء على ماكانوا يكسبون في دنياهم من الآثام والخطايا والإجرام مع ماهم فيه من الكفر بالله ورسوله واليوم الآخر
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ
وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن
تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ {9} دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ
اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ {10}
( 10 9 10 )
هذا إخبار عن حال السعداء الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين وامتثلوا ما أمروا به فعملوا الصالحات بأنه سيهديهم بإيمانهم يحتمل أن تكون الباء ها هنا سببية فتقديره بسب إيمانهم في الدنيا يهديهم الله يوم القيامة على الصراط المستقيم حتى يجوزوه ويخلصوا إلى الجنة ويحتمل أن تكون للإستعانة كما قال مجاهد في قوله ( يهديهم ربهم بإيمانهم ) قال يكون لهم نورا يمشون به وقال بن جريج في الآية يمثل له عمله في صورة حسنة وريح طيبة إذا قام من قبره يعارض صاحبه ويبشره بكل خير فيقول له من أنت فيقول أنا عملك فيجعل له نوره من بين يديه حتى يدخله الجنة فذلك قوله تعالى ( يهديهم ربهم بإيمانهم ) والكافر يمثل له عمله في صورة سيئة وريح منتنة فيلزم صاحبه ويلاده حتى يقذفه في النار وروي نحوه عن قتادة مرسلا فالله أعلم وقوله ( دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ) أي هذا حال أهل الجنة قال بن جريج أخبرت بأن قوله ( دعواهم فيها سبحانك اللهم ) قال إذا مر بهم الطير يشتهونه قالوا سبحانك اللهم وذلك دعواهم فيأتيهم الملك بما يشتهونه فيسلم عليهم فيردون عليه فذلك قوله ( وتحيتهم فيها سلام ) قال فإذا أكلوا حمدوا الله ربهم فذلك قوله ( وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ) وقال مقاتل بن حيان إذا أراد أهل الجنة أن يدعوا بالطعام قال أحدهم ( سبحانك اللهم ) قال فيقوم على أحدهم عشرة آلاف خادم مع كل خادم صحفة من ذهب فيها طعام ليس في الأخرى قال فيأكل منهن كلهن وقال سفيان الثوري إذا أراد أحدهم أن يدعو بشيء قال ( سبحانك اللهم ) وهذه الآ ية فيها شبه من قوله ( تحيتهم يوم يلقونه سلام ) الآية وقوله ( لايسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما ) وقوله ( سلام قولا من رب رحيم ) وقوله ( والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم ) الآية وقوله ( وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ) هذا فيه دلالة على إنه تعالى هو المحمود أبدا المعبود على طول المدى ولهذا حمد نفسه عند ابتداء خلقه واستمراره وفي ابتداء كتابه وعند ابتداء تنزيله حيث يقول تعالى ( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ) ( الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض ) إلى غير ذلك من الأحوال التي يطول بسطها وإنه المحمود في الأولى والآخرة في الحياة الدنيا وفي الآخرة في جميع الأحوال ولهذا جاء في الحديث إن أهل الجنة يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس وإنما يكون ذلك كذلك لما يرون من تزايد نعم الله عليهم فتكرر وتعاد وتزداد فليس لها انقضاء ولا أمد فلا إله إلا هو ولا رب سواه
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ
اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ
لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ {11}
يخبر تعالى عن حلمه ولطفه بعباده أنه لا يستجيب لهم إذا دعوا على أنفسهم أو أموالهم أو أولادهم في الشر في حال ضجرهم وغضبهم وإنه يعلم منهم عدم القصد إلى إرادة ذلك فلهذا لا يستجيب لهم والحالة هذه لطفا ورحمة كما يستجيب لهم إذا دعوا لأنفسهم أو لأموالهم أو لأولادهم بالخير والبركة والنماء ولهذا قال ( ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم ) الآية أي لو استجاب لهم كلما دعوه به في ذلك لأهلكهم ولكن لا ينبغي الإكثار من ذلك كما جاء في الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده حدثنا محمد بن معمر حدثنا يعقوب بن محمد حدثنا حاتم بن إسماعيل حدثنا يعقوب بن مجاهد أبو حزرة عن عبادة بن الوليد حدثنا جابر قال قال رسول الله لا تدعوا على أنفسكم لا تدعوا على أولادكم لا تدعوا على أموالكم لا توافقوا من الله ساعة فيها إجابة فيستجيب لكم ورواه أبو داود 1532 من حديث حاتم بن إسماعيل به وقال البزار وتفرد به عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت الأنصاري لم يشاركه أحد فيه وهذا كقوله تعالى ( ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير ) الآية وقال مجاهد في تفسير هذه الآية ( ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير ) الآية هو قول الإنسان لولده أو ماله إذا غضب عليه اللهم لا تبارك فيه والعنه فلو يعجل لهم الإستجابة في ذلك كما يستجاب لهم في الخير لأهلكهم
وَإِذَا مَسَّ
الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا
عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ
لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ {12}
يخبر تعالى عن الإنسان وضجره وقلقه إذا مسه الشر كقوله وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض ) أي كثير وهما في معنى واحد وذلك لأنه إذا أصابته شدة قلق لها وجزع منها وأكثر الدعاء عند ذلك فدعا الله في كشفها ورفعها عنه في حال اضطجاعه وقعوده وقيامه وفي جميع أحواله فإذا فرج الله شدته وكشف كربته أعرض ونأى بجانبه وذهب كأنه ما كان به من ذلك شيء ( مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه ) ثم ذم تعالى من هذه صفته وطريقته فقال ( كذلك زين للمسرفين ماكانوا يعملون ) فأما من رزقه الله الهداية والسداد والتوفيق والرشاد فإنه مستثنى من ذلك كقوله تعالى ( إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات ) وكقول رسول الله عجبا لأمر المؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له إن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له وإن أصابته سراء فشكر كان خيرا له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمنين م2999
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ
مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ
لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ {13} ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ
خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ {14}

أخبر تعالى عما أحل بالقرون الماضية في تكذيبهم الرسل فيما جاءوهم به من البينات والحجج الواضحات ثم استخلف الله هؤلاء القوم من بعدهم وأرسل إليهم رسولا لينظر طاعتهم له وإتباعهم رسوله وفي صحيح مسلم 2742 من حديث أبي نضرة عن أبي سعيد قال قال رسول الله إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت من النساء وقال بن جرير حدثني المثنى حدثنا زيد بن عوف أبو ربيعة فهد أنبأنا حماد عن ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى إن عوف بن مالك قال لأبي بكر رأيت فيما يرى النائم كأن سببا دلى من السماء فانتشط رسول الله ثم أعيد فانتشط أبو بكر ثم ذرع الناس حول المنبر ففضل عمر بثلاث أذرع حول المنبر فقال عمر دعنا من رؤياك لا أرب لنا فيها فلما استخلف عمر قال يا عوف رؤياك قال وهل لك في رؤياي من حاجة أولم تنتهرني قال ويحك إني كرهت أن تنعى لخليفة رسول الله نفسه فقص عليه الرؤيا حتى إذا بلغ ذرع الناس إلى المنبر بهذه الثلاث الأذرع قال أما إحداهن فإنه كان خليفة وأما الثانية فإنه لا يخاف في الله لومة لائم ؤاما الثالثة فإنه شهيد قال فقال يقول الله تعالى ( ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون ) فقد استخلفت يا بن أم عمر فانظر كيف تعمل وأما قوله فإني لا أخاف في الله لومة لائم فيما شاء الله وأما قوله ( شهيد ) فأنى لعمر الشهادة والمسلمون مطيفون به