تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 210 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 210

210 : تفسير الصفحة رقم 210 من القرآن الكريم

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ
لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي
أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي
أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ {15} قُل لَّوْ شَاء
اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ
فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ {16}

يخبر تعالى عن تعنت الكفار من مشركي قريش الجاحدين المعرضين عنه إنهم إذا قرأ عليهم الرسول كتاب الله وحججه الواضحة قالوا له ائت بقرآن غير هذا أي رد هذا وجئنا بغيره من نمط آخر أو بدله إلى وضع آخر قال الله تعالى لنبيه ( قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي ) أي ليس هذا إلي إنما أنا عبد مأمور ورسول مبلغ عن الله ( إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ) ثم قال محتجا عليهم في صحة ما جاءهم به ( قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به ) أي هذا إنما جئتكم به عن إذن الله لي في ذلك ومشيئته وإرادته والدليل على إني لست أتقوله من عندي ولا افتريته إنكم عاجزون عن معارضته وإنكم تعلمون صدقي ؤامانتي منذ نشأت بينكم إلى حين بعثني الله عز وجل لا تنتقدون علي شيئا تغمصوني به ولهذا قال ( فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون ) أي أفليس لكم عقول تعرفون بها الحق من الباطل ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان ومن معه فيما سأله من صفة النبي قال هرقل لأبي سفيان هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال قال أبو سفيان فقلت لا وكان أبو سفيان إذ ذاك رأس الكفرة وزعيم المشركين ومع هذا اعترف بالحق والفضل ما شهدت به الأعداء
فقال له هرقل فقد أعرف إنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله وقال جعفر بن أبي طالب للنجاشي ملك الحبشة بعث الله فينا رسولا نعرف صدقه ونسبه وأمانته وقد كانت مدة مقامه عليه السلام بين أظهرنا قبل النبوة أربعين سنة وعن سعيد بن المسيب ثلاثا وأربعين سنة والصحيح المشهور الأول
فَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ
لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ {17}

يقول تعالى لا أحد أظلم ولا أعتى ولا أشد إجراما ( ممن افترى على الله كذبا ) وتقول على الله وزعم أن الله أرسله ولم يكن كذلك فليس أحد أكبر جرما ولا أعظم ظلما من هذا ومثل هذا لا يخفى أمره على الأغبياء فكيف يشتبه حال هذا بالأنبياء فإن من قال هذه المقالة صادقا أو كاذبا فلابد أن الله ينصب عليه من الأدلة على بره أو فجوره ما هو أظهرمن الشمس فإن الفرق بين محمد وبين مسيلمة الكذاب لمن شاهدهما أظهر من الفرق بين وقت الضحى وبين نصف الليل في حندس الظلماء فمن شيم كل منهما وأفعاله وكلامه يستدل من له بصيرة على صدق محمد وكذب مسيلمة الكذاب وسجاح والأسود العنسي قال عبد الله بن سلام لما قدم رسول الله المدينة إنجفل الناس فكنت فيمن إنجفل فلما رأيته عرفت أن وجهه ليس بوجه رجل كذاب قال فكان أول ما سمعته يقول يا أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام ولما وفد ضمام بن ثعلبة على رسول الله في قومه بني سعد بن بكر قال لرسول الله فيما قال له من رفع هذه السماء قال الله قال ومن نصب هذه الجبال قال الله قال ومن سطح هذه الأرض قال الله قال فبالذي رفع هذه السماء ونصب هذه الجبال وسطح هذه الأرض ألله أرسلك إلى الناس كلهم قال اللهم نعم ثم سأله عن الصلاة والزكاة والحج والصيام ويحلف عند كل واحدة هذه اليمين ويحلف له رسول الله فقال له صدقت والذي بعثك بالحق لا أزيد على ذلك ولا أنقص فاكتفى هذا الرجل بمجرد هذا وقد أيقن بصدقه صلوات الله وسلامه عليه بما رأى وشاهد من الدلائل الدالة عليه وقال حسان بن ثابت
لو لم تكن فيه آيات مبينة كانت بديهته تأتيك بالخبر
وأما مسيلمة فمن شاهده من ذوي البصائر علم أمره لامحاله بأقواله الركيكة التي ليست بفصيحة وأفعاله غير الحسنة بل القبيحة وقرآنه الذي يخلد به في النار يوم الحسرة والفضيحة وكم من فرق بين قوله تعالى ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولانوم ) إلى آخرها وبين قول مسيلمة قبحه الله ولعنه ياضفدع بنت ضفدعين نقي كم تنقين لاالماء تكدرين ولاالشارب تمنعين وقوله قبحه الله لقد أنعم الله على الحبلى إذ أخرج منها نسمة تسعى من بين صفاق وحشى وقوله خلده الله في نار جهنم وقد فعل الفيل وما أدراك ماالفيل له خرطوم طويل وقوله أبعده الله عن رحمته والعاجنات عجنا والخابزات خبزا واللاقمات لقما إهالة وسمنا إن قريشا قوم يعتدون إلى غير ذلك من الخرافات والهذيانات التي يأنف الصبيان أن يتلفظوا بها إلا على وجه السخرية والإستهزاء ولهذا أرغم الله أنفه وشرب يوم حديقة الموت حتفه ومزق شمله ولعنه صحبه وأهله وقدموا على الصديق تائبين وجاءوا في دين الله راغبين فسألهم الصديق خليفة الرسول صلوات الله وسلامه عليه ورضي عنه أن يقرأوا عليه شيئا من قرآن مسيلمة لعنه الله فسألوه أن يعفيهم من ذلك فأبى عليهم إلا أن يقرأوا شيئا منه ليسمعه من لم يسمعه من الناس فيعرفوا فضل ماهم عليه من الهدى والعلم فقرأوا عليه من هذا الذي ذكرناه وأشباهه فلما فرغوا قال لهم الصديق رضي الله عنه ويحكم أين كان يذهب بعقولكم والله إن هذا لم يخرج من إل وذكروا أن عمرو بن العاص وفد على مسيلمة وكان صديقا له في الجاهلية وكان عمرو لم يسلم بعد فقال له مسيلمة ويحك ياعمرو ماذا أنزل على صاحبكم يعني رسول الله في هذه المدة فقال لقد سمعت أصحابه يقرأون سورة عظيمة قصيرة فقال وماهي فقال ( والعصر إن الإنسان لفي خسر ) إلى آخر السورة ففكر مسيلمة ساعة ثم قال وأنا قد أنزل علي مثله فقال وماهو فقال ياوبر ياوبر إنما أنت أذنان وصدر وسائرك حفر نقر كيف ترى ياعمرو فقال له عمرو والله إنك لتعلم أني أعلم أنك تكذب فاذا كان هذا من مشرك في حال شركه لم يشتبه عليه حال محمد وصدقه وحال مسيلمة لعنه الله وكذبه فكيف بأولي البصائر والنهى وأصحاب العقول السليمة المستقيمة والحجى ولهذا قال الله تعالى ( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ) وقال في هذه الآية الكريمة ( فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون ) وكذلك من كذب بالحق الذي جاءت به الرسل وقامت عليه الحجج لا أحد أظلم منه كمافي الحديث أعتى الناس على الله رجل قتل نبيا أو قتله نبي

وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ
مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا
عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ
فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ {18} وَمَا كَانَ
النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ
سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
{19}

ينكر تعالى على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره ظانين أن تلك الآلهة تنفعهم شفاعتها عند الله فأخبر تعالى أنها لا تضر ولا تنفع ولا تملك شيئا ولايقع شيء مما يزعمون فيها ولايكون هذا أبدا ولهذا قال تعالى ( قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولافي الأرض ) وقال بن جرير معناه أتخبرون الله بمالا يكون في السماوات ولافي الأرض ثم نزه نفسه الكريمة عن شركهم وكفرهم فقال ( سبحانه وتعالى عما يشركون ) ثم أخبر تعالى أن هذا الشرك حادث في الناس كائن بعد أن لم يكن وأن الناس كلهم كانوا على دين واحد وهو الإسلام قال بن عباس كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام ثم وقع الإختلاف بين الناس وعبدت الأصنام والأنداد والأوثان فبعث الله الرسل بآياته وبيناته وحججه البالغة وبراهينه الدامغة ( ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة ) وقوله ( ولولا كلمة سبقت من ربك ) الآية أي لولا ما تقدم من الله تعالى أنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه وأنه قد أجل الخلق إلى أجل معدود لقضي بينهم فيما اختلفوا فيه فأسعد المؤمنين وأعنت الكافرين
وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا
الْغَيْبُ لِلّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ {20}
أي ويقول هؤلاء الكفرة المكذبون المعاندون لولا أنزل على محمد آية من ربه يعنون كما أعطى الله ثمود الناقة أو أن يحول لهم الصفا ذهبا أو يزيح عنهم جبال مكة ويجعل مكانها بساتين وأنهارا أو نحو ذلك مما الله عليه قادر ولكنه حكيم في أفعاله وأقواله كما قال تعالى ( تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا بل كذبوا بالساعة واعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا ) وكقوله ( وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون ) الآية يقول تعالى إن سنتي في خلقي أني إذا آتيتهم ما سألوا فان آمنوا وإلا عاجلتهم بالعقوبة ولهذا لما خير رسول الله بين إعطائهم ما سألوا فان آمنوا وإلا عذبوا وبين إنظارهم اختار إنظارهم كما حلم عنهم غير مرة رسول الله ولهذا قال تعالى إرشادا لنبيه إلى الجواب عما سألوا ( فقل إنما الغيب لله ) أي الأمر كله لله وهو يعلم العواقب في الأمور ( فانتظروا إني معكم من المنتظرين ) أي إن كنتم لا تؤمنون حتى تشاهدوا ما سألتم فانتظروا حكم الله في وفيكم هذا مع أنهم قد شاهدوا من آياته أعظم مما سألوا حين أشار بحضرتهم إلى القمر ليلة إبداره فانشق اثنين فرقة من وراء الجبل وفرقة من دونه وهذا أعظم من سائر الآيات الأرضية مما سألوا ومالم يسألوا ولو علم الله منهم أنهم سألوا ذلك استرشادا وتثبتا لأجابهم ولكن علم أنهم إنما يسألون عنادا وتعنتا فتركهم فيما رابهم وعلم أنهم لا يؤمن منهم أحد كقوله تعالى ( إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية ) الآية وقوله تعالى ( ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ) الآية ولما فيهم من المكابرة كقوله تعالى ( ولو فتحنا عليهم بابا من السماء ) الآية وقوله تعالى ( وإن يروا كسفا من السماء ساقطا ) الآية وقال تعالى ( ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ) فمثل هؤلاء أقل من أن يجابوا إلى ما سألوا لأنه لافائدة في جوابهم لأنه دائر على تعنتهم وعنادهم لكثرة فجورهم وفسادهم ولهذا قال ( فانتظروا إني معكم من المنتظرين )