تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 218 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 218

218 : تفسير الصفحة رقم 218 من القرآن الكريم

وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ {79} فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ
قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُواْ مَا أَنتُم مُّلْقُونَ {80} فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ
مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ
عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ {81} وَيُحِقُّ اللّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ
الْمُجْرِمُونَ {82}
ذكر الله سبحانه قصة السحرة مع موسى عليه السلام في سورة الأعراف وقد تقدم الكلام عليها هناك وفي هذه السورة وفي سورة طه وفي الشعراء وذلك أن فرعون لعنه الله أراد أن يتهرج على الناس ويعارض ما جاء به موسى عليه السلام من الحق المبين بزخارف السحرة والمشعبذين فانعكس عليه النظام ولم يحصل له من ذلك المرام وظهرت البراهين الإلهية في ذلك المحفل العام ( وألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون ) فظن فرعون أنه يستنصر بالسحار على رسول عالم الأسرار فخاب وخسر الجنة واستوجب النار ( وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون ) وإنما قال لهم ذلك لأنهم لما اصطفوا وقد وعدوا من فرعون بالتقريب والعطاء الجزيل ( قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى قال بل ألقوا ) فأراد موسى أن تكون البداءة منهم ليرى الناس ماصنعوا ثم يأتي بالحق بعده فيدمغ باطلهم ولهذا لما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم ( فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إن ما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى ) فعند ذلك قال موسى لما ألقوا ( ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون ) وقال بن أبي حاتم حدثنا محمد بن عمار بن الحارث حدثنا عبد الرحمن يعني الدشتكي أخبرنا أبو جعفر الرازي عن ليث وهو بن أبي سليم قال بلغني أن هؤلاء الآيات شفاء من السحر بإذن الله تعالى تقرأ في إناء فيه ماء ثم يصب على رأس المسحور الآية التي من
( فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون ) والآية الأخرى ( فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون ) إلى آخر أربع آيات وقوله ( إن ما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى )
فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى
خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ
فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ {83}
يخبر تعالى أنه لم يؤمن بموسى عليه السلام مع ما جاء به من الآيات البينات والحجج القاطعات والبراهين الساطعات إلا قليل من قوم فرعون من الذرية وهم الشباب على وجل وخوف منه ومن ملئه أن يردوهم إلى ما كانوا عليه من الكفر لأن فرعون لعنه الله كان جبارا عنيدا مسرفا في التمرد والعتو وكانت له سطوة ومهابة تخاف رعيته منه خوفا شديدا قال العوفي عن بن عباس ( فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم ) قال فإن الذرية التي آمنت لموسى من أناس غير بني إسرائيل من قوم فرعون يسير منهم امرأة فرعون ومؤمن آل فرعون وخازن فرعون وامرأة خازنه وروى علي بن أبي طلحة عن بن عباس في قوله ( فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه ) يقول بني إسرائيل وعن بن عباس والضحاك وقتادة الذرية القليل وقال مجاهد في قوله ( إلا ذرية من قومه ) قال هم أولاد الذين أرسل إليهم موسى من طول الزمان ومات آباؤهم واختار بن جرير قول مجاهد في الذرية أنها من بني إسرائيل
لا من قوم فرعون لعود الضمير على أقرب المذكورين وفي هذا نظر لأنه أراد بالذرية الأحداث والشباب وأنهم من بني إسرائيل فالمعروف أن بني إسرائيل كلهم آمنوا بموسى عليه السلام واستبشروا به وقد كانوا يعرفون نعته وصفته والبشارة به من كتبهم المتقدمة وأن الله تعالى سينقذهم به من أسر فرعون ويظهرهم عليه ولهذا لما بلغ هذا فرعون حذر كل الحذر فلم يجد عنه شيئا ولما جاء موسى آذاهم فرعون أشد الأذى و ( قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون ) وإذا تقرر هذا فكيف يكون المراد إلا ذرية من قوم موسى وهم بنو إسرائيل ( على خوف من فرعون وملئهم ) أي وأشراف قومهم أن يفتنهم ولم يكن في بني إسرائيل من يخاف منه أن يفتن عن الإيمان سوى قارون فإنه كان من قوم موسى فبغى عليهم لكنه كان طاويا إلى فرعون متصلا به متعلقا بحباله ومن قال إن الضمير في قوله وملئهم عائد إلى فرعون وعظم الملك من أجل اتباعه أو بحذف آل فرعون وإقامة المضاف إليه مقامه فقد أبعد وإن كان بن جرير قد حكاهما عن بعض النحاة ومما يدل على أنه لم يكن في بني إسرائيل إلا مؤمن قوله تعالى ( وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ونجنا برحمتك من القوم الكافرين )
وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ
آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ {84} فَقَالُواْ عَلَى اللّهِ
تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ {85} وَنَجِّنَا
بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ {86}
يقول تعالى مخبرا عن موسى أنه قال لبني إسرائيل ( يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين ) أي فإن الله كاف من توكل عليه ( أليس الله بكاف عبده ) ( ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) وكثيرا ما يقرن الله تعالى بين العبادة والتوكل كقوله تعالى ( فاعبده وتوكل عليه ) ( قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا ) ( رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا ) وأمر الله تعالى المؤمنين أن يقولوا في كل صلواتهم مرات متعددة ( إياك نعبد وإياك نستعين ) وقد امتثل بنو إسرائيل ذلك ( فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ) أي لا تظفرهم بنا وتسلطهم علينا فيظنوا أنهم إنما سلطوا لأنهم على الحق ونحن على الباطل فيفتنوا بذلك هكذا روي عن أبي مجلز وأبي الضحى وقال بن أبي نجيح وغيره عن مجاهد لا تعذبنا بأيدي آل فرعون ولا بعذاب من عندك فيقول قوم فرعون لو كانوا على حق ما عذبوا ولا سلطنا عليهم فيفتنوا بنا وقال عبد الرزاق أنبأنا بن عيينة عن بن أبي نجيح عن مجاهد ( ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ) لا تسلطهم علينا فيفتنونا وقوله ( ونجنا برحمتك ) أي خلصنا برحمة منك وإحسان ( من القوم الكافرين ) أي الذين كفروا الحق وستروه ونحن قد آمنا بك وتوكلنا عليك
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ
أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً
وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ {87}
يذكر تعالى سبب انجائه بني إسرائيل من فرعون وقومه وكيفية خلاصهم منهم وذلك أن الله تعالى أمر موسى وأخاه هارون عليهما السلام أن يتبوآ أي يتخذا لقومهما بمصر بيوتا واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) فقال الثوري وغيره عن خصيف عن عكرمة عن بن عباس ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) قال أمروا أن يتخذوها مساجد وقال الثوري أيضا عن بن منصور عن إبراهيم ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) قال كانوا خا ئفين فأمروا أن يصلوا في بيوتهم وكذا قال مجاهد وأبو مالك والربيع بن أنس والضحاك وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وأبوه زيد بن أسلم وكأن هذا والله أعلم لما اشتد بهم البلاء من قبل فرعون وقومه وضيقوا عليهم أمروا بكثرة الصلاة كقوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة ) وفي الحديث كان رسول الله إذا حزبه أمر صلى أخرجه أبو داود 1319 ولهذا قال تعالى في هذه الآية ( واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين ) أي بالثواب والنصر القريب وقال العوفي عن بن عباس في تفسير هذه الآية قال قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام لا نستطيع أن نظهر صلاتنا مع الفراعنة فأذن الله تعالى لهم أن يصلوا في بيوتهم وأمروا أن يجعلوا بيوتهم قبل القبلة وقال مجاهد ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) لما خاف بنو إسرائيل من فرعون أن يقتلوا في الكنائس الجامعة أمروا أن يجعلوا بيوتهم مساجد مستقبلة الكعبة يصلون فيها سرا وكذا قال قتادة والضحاك وقال سعيد بن جبير ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) أي يقابل بعضها بعضا
وَقَالَ مُوسَى
رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ
وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ {88}
قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ
الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ {89}
هذا إخبار من الله تعالى عما دعا به موسى عليه السلام على فرعون وملئه لما أبوا قبول الحق واستمروا على ضلالهم وكفرهم معاندين جاحدين ظلما وعلوا وتكبرا وعتوا قال موسى ( ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة ) أي من أثاث الدنيا ومتاعها ( وأموالا ) أي جزيلة كثيرة ( في ) هذه ( الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ) بفتح الياء أي أعطيتهم ذلك وأنت تعلم أنهم لا يؤمنون بما أرسلتني به إليهم استدراجا منك لهم كقوله تعالى ( لنفتنهم فيه ) وقرأ آخرون ليضلوا بضم الياء أي ليفتتن بما أعطيتهم من شئت من خلقك ليظن من أغويته أنك إنما أعطيتهم هذا لحبك إياهم واعتنائك بهم ( ربنا اطمس على أموالهم ) قال بن عباس ومجاهد أي أهلكها وقال الضحاك وابو العالية والربيع بن أنس جعلها الله حجارة منقوشة كهيئة ما كانت وقال قتادة بلغنا أن زروعهم تحولت حجارة وقال محمد بن كعب القرظي جعل سكرهم حجارة وقال بن أبي حاتم حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث حدثنا يحيى بن أبي بكير عن أبي معشر حدثني محمد بن قيس أن محمد بن كعب قرأ على عمر بن عبد العزيز حتى بلغ ( وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ) إلى قوله ( ربنا اطمس على أموالهم ) الآية فقال عمر يا أبا حمزة أي شيء الطمس قال عادت أموالهم كلها حجارة فقال عمر بن عبد العزيز لغلام له ائتني بكيس فجاءه بكيس فإذا فيه حمص وبيض قد حول حجارة وقوله ( واشدد على قلوبهم ) قال بن عباس أي اطبع عليها ( فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ) وهذه الدعوة كانت من موسى عليه السلام غضبا لله ولدينه على فرعون وملئه الذين تبين له أنهم لا خير فيهم ولا يجيء منهم شيء كما دعا نوح عليه السلام فقال ( رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ) ولهذا استجاب الله تعالى لموسى عليه السلام فيهم هذه الدعوة التي أمن عليها أخوه هارون فقال تعالى ( قد أجيبت دعوتكما ) قال أبو العالية وأبو صالح وعكرمة ومحمد بن كعب القرظي والربيع بن أنس دعا موسى وأمن هارون أي قد أجبنا كما فيما سألتما من تدمير آل فرعون وقد يحتج بهذه الآية من يقول إن تأمين المأموم على قراءة الفاتحة ينزل منزلة قراءتها لأن موسى دعا وهارون أمن وقال تعالى ( قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ) الآية أي كما أجيبت دعوتكما فاستقيما على أمري قال بن جريج عن بن عباس فاستقيما فامضيا لأمري وهي الإستقامة قال بن جريج يقولون إن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة وقال محمد بن كعب وعلي بن الحسين أربعين يوما