تفسير الطبري تفسير الصفحة 218 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 218
219
217
 الآية : 79-80
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ * فَلَمّا جَآءَ السّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مّوسَىَ أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مّلْقُونَ }.
يقول تعالى ذكره: وقال فرعون لقومه: ائتوني بكلّ من يسحر من السحرة, عليم بالسحر. فلما جاء السحرة فرعون, قال موسى: ألقوا ما أنتم ملقون من حبالكم وعصيكم وفي الكلام محذوف قد ترك, وهو: فأتوه بالسحرة فلما جاء السحرة ولكن اكتفى بدلالة قوله: فَلَمّا جاءَ السّحَرَةُ على ذلك, فترك ذكره. وكذلك بعد قوله: ألْقُوا ما أنْتُمْ مُلْقُونَ محذوف أيضا قد ترك ذكره, وهو: «فألقوا حبالهم وعصيهم, فلما ألقوا قال موسى» ولكن اكتفى بدلالة ما ظهر من الكلام عليه, فترك ذكره.
الآية : 81
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمّآ أَلْقُواْ قَالَ مُوسَىَ مَا جِئْتُمْ بِهِ السّحْرُ إِنّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ }.
يقول تعالى ذكره: فَلَمّا ألْقَوْا ما هم ملقوه قالَ لهم مُوسَى ما جِئْتُمْ بِهِ السّحْرُ.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الحجاز والعراق ما جِئْتُمْ بِهِ السّحْرُ على وجه الخبر من موسى عن الذي جاءت به سحرة فرعون أنه سحر كأن معنى الكلام على تأويلهم, قال موسى: الذي جئتم به أيها السحرة هو السحر. وقرأ ذلك مجاهد وبعض المدنيين البصريين: «ما جئْتُمْ بِهِ آلسّحْرُ» على وجه الاستفهام من موسى إلى السحرة عما جاءوا به, أسحر هو أم غيره؟
وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه على وجه الخبر لا على الاستفهام, لأن موسى صلوات الله وسلامه عليه لم يكن شاكّا فيما جاءت به السحرة أنه سحر لا حقيقة له فيحتاج إلى استخبار السحرة عنه أيّ هو, وأخرى أنه صلوات الله عليه قد كان على علم من السحرة, إنما جاء بهم فرعون ليغالبوه على ما كان جاءهم به من الحقّ الذي كان الله آتاه, فلم يكن يذهب عليه أنهم لم يكونوا يصدّقونه في الخبر عما جاءوا به من الباطل, فيستخبرهم أو يستجيز استخبارهم عنه ولكنه صلوات الله عليه أعلمهم أنه عالم ببطول ما جاءوا به من ذلك بالحقّ الذي أتاه ومبطل كيدهم بجدّه, وهذه أولى بصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاَخرى.
فإن قال قائل: فما وجه دخول الألف واللام في السحر إن كان الأمر على ما وصفت وأنت تعلم أن كلام العرب في نظير هذا أن يقولوا: ما جاءني به عمرو درهم, والذي أعطاني أخوك دينار, ولا يكادون أن يقولوا الذي أعطاني أخوك الدرهم, وما جاءني به عمرو الدينار؟ قيل له: بلى كلام العرب إدخال الألف واللام في خبر ما والذي إذا كان الخبر عن معهود قد عرفه المخاطب والمخاطب, بل لا يجوز إذا كان ذلك كذلك إلا بالألف واللام, لأن الخبر حينئذ خبر عن شيء بعينه معروف عند الفريقين وإنما يأتي ذلك بغير الألف إذا كان الخبر عن مجهول غير معهود ولا مقصود قصد شيء بعينه, فحينئذ لا تدخل الألف واللام في الخبر, وخبر موسى كان خبرا عن معروف عنده وعند السحرة, وذلك أنها كانت نسبت ما جاءهم به موسى من الاَيات التي جعلها الله علما له على صدقه ونبوته إلى أنه سحر, فقال لهم موسى: السحر الذي وصفتم به ما جئتكم به من الاَيات أيها السحرة, هو الذي جئتم به أنتم لا ما جئتكم به أنا. ثم أخبرهم أن الله سيبطله. فقال: إنّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ يقول: سيذهب به, فذهب به تعالى ذكره بأن سلط عليه عصا موسى قد حوّلها ثعبانا يتلقفه حتى لم يبق منه شيء. إنّ اللّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ المُفْسِدِينَ يعني: أنه لا يصلح عمل من سعى في أرض الله بما يكرهه وعمل فيها بمعاصيه. وقد ذكر أن ذلك في قراءة أبيّ بن كعب: «ما أتيتم به سحر», وفي قراءة ابن مسعود: «ما جئتم به سحر», وذلك مما يؤيد قراءة من قرأ بنحو الذي اخترنا من القراءة فيه.
الآية : 82
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيُحِقّ اللّهُ الْحَقّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ }.
يقول تعالى ذكره مخبرا عن موسى أنه قال للسحرة: ويُحِقّ اللّهُ الحَقّ يقول: ويثبت الله الحق الذي جئتكم به من عنده, فيعليه على باطلكم, ويصححه بكلماته, يعني بأمره وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ يعني الذين اكتسبوا الإثم بربهم بمعصيتهم إياه.
الآية : 83
القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَآ آمَنَ لِمُوسَىَ إِلاّ ذُرّيّةٌ مّن قَوْمِهِ عَلَىَ خَوْفٍ مّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأرْضِ وَإِنّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ }.
يقول تعالى ذكره: فلم يؤمن لموسى مع ما أتاهم به من الحجج والأدلة إلا ذرية من قومه خائفين من فرعون وملئهم.
ثم اختلف أهل التأويل في معنى الذرّية في هذا الموضع, فقال بعضهم: الذرية في هذا الموضع: القليل. ذكر من قال ذلك:
13828ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إلاّ ذُرّيّةٌ مِن قَوْمِهِ قال: كان ابن عباس يقول: الذرية: القليل.
13829ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله تعالى: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إلاّ ذُرّيّةٌ مِن قَوْمِهِ الذرّيّة: القليل, كما قال الله تعالى: كمَا أنْشأَكُمْ مِنْ ذُرّيّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ.
وقال آخرون: معنى ذلك: فما آمن لموسى إلا ذرية من أرسل إليه موسى من بني إسرائيل لطول الزمان لأن الاَباء ماتوا وبقي الأبناء, فقيل لهم ذرّية, لأنهم كانوا ذرية من هلك ممن أرسل إليهم موسى عليه السلام. ذكر من قال ذلك:
13830ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبي بزّة, عن مجاهد, في قوله تعالى: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إلاّ ذُرّيّةٌ مِن قَوْمِهِ قال: أولاد الذين أرسل إليهم من طول الزمان ومات آباؤهم.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد وحدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, بنحوه.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إلاّ ذُرّيّةٌ مِن قَوْمِهِ قال: أولاد الذين أرسل إليهم موسى من طول الزمان ومات آباؤهم.
13831ـ حدثني الحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا سفيان, عن الأعمش: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إلاّ ذُرّيّةٌ مِن قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أنْ يَفْتِنَهُمْ قال: أبناء أولئك الذين أرسل إليهم فطال عليهم الزمان وماتت آباؤهم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فما آمن لموسى إلا ذرّية من قوم فرعون. ذكر من قال ذلك:
13832ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إلاّ ذُرّيّةٌ مِن قَوْمِهِ على خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أنْ يَفْتِنَهُمْ قال: كانت الذرّية التي آمنت لموسى من أناس غير بني إسرائيل من قوم فرعون يسير, منهم امرأة فرعون, ومؤمن آل فرعون, وخازن فرعون, وامرأة خازنه.
وقدرُوي عن ابن عباس خبر يدلّ على خلاف هذا القول, وذلك ما:
13833ـ حدثني به المثنى, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: ذُرّيّةٌ مِنْ قَوْمهِ يقول: بني إسرائيل.
فهذا الخبر ينبىء عنه أنه كان يرى أن الذرّية في هذا الموضع هم بنو إسرائيل دون غيرهم من قوم فرعون.
وأولى هذه الأقوال عندي بتأويل الآية القول الذي ذكرته عن مجاهد, وهو أن الذرية في هذا الموضع أريد بها ذرية من أرسل إليه موسى من بني إسرائيل, فهلكوا قبل أن يقرّوا بنبوّته لطول الزمان, فأدركت ذرّيتهم فآمن منهم من ذكر الله بموسى.
وإنما قلت هذا القول أولى بالصواب في ذلك لأنه لم يجر في هذه الآية ذكر لغير موسى, فلأن تكون الهاء في قوله «من قومه» من ذكر موسى لقربهم من ذكره, أولى من أن تكون من ذكر فرعون لبُعد ذكره منها, إذ لم يكن بخلاف ذلك دليل من خبر ولا نظر.
وبعد, فإن في قوله: عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ الدليل الواضح على أن الهاء في قوله: إلاّ ذُرّيّةٌ مِنْ قَوْمِهِ من ذكر موسى لا من ذكر فرعون لأنها لو كانت من ذكر فرعون لكان الكلام: «على خوف منه», ولم يكن على خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ.
وأما قوله: عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ فإنه يعني على حال خوف ممن آمن من ذرّية قوم موسى بموسى.
فتأويل الكلام: فما آمن لموسى إلا ذرّية من قومه من بني إسرائيل وهم خائفون من فرعون وملئهم أن يفتنوهم. وقد زعم بعض أهل العربية أنه إنما قيل: فما آمن لموسى إلا ذرّية من قومه, لأن الذين آمنوا به إنما كانت أمهاتهم من بني إسرائيل وآباؤهم من القبط, فقيل لهم الذرّية من أجل ذلك, كما قيل لأبناء الفرس الذين أمهاتهم من العرب وآباؤهم من العجم: أبناء. والمعروف من معنى الذرّية في كلام العرب: أنها أعقاب من نسبت إليه من قِبَل الرجال والنساء, كما قال جلّ ثناؤه: ذُرّيّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوح وكما قال: وَمنْ ذُرّيَتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيمانَ وأيّوبَ وَيُوسُفَ ثم قال بعد: وَزَكَرِيّا وَيْحَيى وَعِيسَى وَإلَيْاسَ فجعل من كان من قِبَل الرجال والنساء من ذرّية إبراهيم.
وأما قوله: وَمَلَئِهِمْ فإن الملأ: الأشراف. وتأويل الكلام: على خوف من فرعون ومن أشرافهم.
واختلف أهل العربية فيمن عني بالهاء والميم اللتين في قوله: وَمَلَئِهِمْ فقال بعض نحويي البصرة: عني بها الذرّية. وكأنه وجه الكلام إلى: فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه, على خوف من فرعون, وملأ الذرية من بني إسرائيل. وقال بعض نحويي الكوفة: عني بهما فرعون, قال: وإنما جاز ذلك وفرعون واحد لأن الملك إذا ذكر لخوف أو سفر وقدوم من سفر ذهب الوهم إليه وإلى من معه. وقال: ألا ترى أنك تقول: قدم الخليفة فكثر الناس, تريد بمن معه, وقدم فغلت الأسعار؟ لأنا ننوي بقدومه قدوم من معه. قال: وقد يكون يريد أن بفرعون آل فرعون, ويحذف آل فرعون فيجوز, كما قال: وَاسْئَل القَرْيَةَ يريد أهل القرية, والله أعلم. قال: ومثله قوله: يا أيّها النّبِيّ إذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ فَطَلّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: الهاء والميم عائدتان على الذرية. ووجه معنى الكلام إلى أنه على خوف من فرعون, وملأ الذرّية لأنه كان في ذرّية القرن الذين أرسل إليهم موسى من كان أبوه قبطيّا وأمه إسرائيلية, فمن كان كذلك منهم كان مع فرعون على موسى. وقوله: أنْ يَفْتِنَهُمْ يقول: كان إيمان من آمن من ذرّية قوم موسى على خوف من فرعون أن يفتنهم بالعذاب, فيصدّهم عن دينهم, ويحملهم على الرجوع عن إيمانهم والكفر بالله. وقال: أنْ يَفْتِنَهُمْ فوحد ولم يقل: «أن يفتنوهم», لدليل الخبر عن فرعون بذلك أن قومه كانوا على مثل ما كان عليه لما قد تقدّم من قوله: عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ. وقوله: وَإنّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الأرْضِ يقول تعالى ذكره: وإن فرعون لجبار مستكبر على الله في أرضه. وإنّهُ لَمِنَ المُسْرِفِينَ وإنه لمن المتجاوزين الحقّ إلى الباطل, وذلك كفره بالله وتركه الإيمان به وجحوده وحدانية الله وادّعاؤه لنفسه الألوهة وسفكه الدماء بغير حلها.
الآية : 84
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَىَ يَقَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكّلُوَاْ إِن كُنتُم مّسْلِمِينَ }.
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل موسى نبيه لقومه: يا قوم إن كنتم أقررتم بوحدانية الله وصدّقتم بربوبيته. فَعَلَيْهِ تَوَكّلُوا يقول: فبه فثقوا, ولأمره فسلّموا, فإنه لن يخذل وليه ويسلم من توكل عليه. وإنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ يقول: إن كنتم مذعنين لله بالطاعة, فعليه توكلوا.
الآية : 85
القول في تأويل قوله تعالى: {فَقَالُواْ عَلَىَ اللّهِ تَوَكّلْنَا رَبّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلْقَوْمِ الظّالِمِينَ }.
يقول تعالى ذكره: فقال قوم موسى لموسى: عَلى اللّهِ تَوَكّلْنا أي به وثقنا, وإليه فوّضنا أمرنا. وقوله: رَبّنا لا تجعلنا فِتْنَةً للقَوْمِ الظّالِمِينَ يقول جلّ ثناؤه مخبرا عن قوم موسى أنهم دعوا ربهم فقالوا: يا ربنا لا تختبر هؤلاء القوم الكافرين, ولا تمتحنهم بنا يعنون قوم فرعون.
وقد اختلف أهل التأويل في المعنى الذي سألوه ربهم من إعادته ابتلاء قوم فرعون بهم, فقال بعضهم: سألوه أن لا يظهرهم عليهم, فيظنوا أنهم خير منهم وأنهم إنما سلطوا عليهم لكرامتهم عليه وهوان الاَخرين. ذكر من قال ذلك:
13834ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن عمران بن حدير, عن أبي مجلز, في قوله: رَبّنَا لاَ تَجْعَلْنا فِتْنَةً للقَوْمِ الظّالِمِينَ قال: لا يظهروا علينا فيروا أنهم خير منا.
حدثني المثنى, قال: حدثنا الحجاج, قال: حدثنا حماد, عن عمران بن حدير, عن أبي مجلز في قوله: رَبّنَا لاَ تَجْعَلْنا فِتْنَةً للقَوْمِ الظّالِمِينَ قال: قالوا: لا تظهرهم علينا فيروا أنهم خير منا.
13835ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن أبيه, عن أبي الضحى: رَبّنَا لاَ تَجْعَلْنا فِتْنَةً للقَوْمِ الظّالِمِينَ قال: لا تسلطهم علينا فيزدادوا فتنة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا تسلطهم علينا فيفتنونا. ذكر من قال ذلك:
13836ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابن عيينة, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: رَبّنَا لاَ تَجْعَلْنا فِتْنَةً للقَوْمِ الظّالِمِينَ لا تسلطهم علينا فيفتنونا.
حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن الزبير, عن ابن عيينة, عن ابن أبي نجيح عن مجاهد, في قوله: رَبّنَا لاَ تَجْعَلْنا فِتْنَةً للقَوْمِ الظّالِمِينَ قال: لا تسلطهم علينا فيضلونا.
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا ابن عيينة, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله. وقال أيضا: فيفتنونا.
13837ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: لاَ تَجْعَلْنا فِتْنَةً للقَوْمِ الظّالِمِينَ لا تعذّبنا بأيدي قوم فرعون, ولا بعذاب من عندك, فيقول قوم فرعون: لو كانوا على حقّ ما سلطنا عليهم ولا عذّبوا, فيفتنوا بنا.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, قوله: لاَ تَجْعَلْنا فِتْنَةً للقَوْمِ الظّالِمِينَ قال: لا تعذبّنا بأيدي قوم فرعون ولا بعذاب من عندك, فيقول قوم فرعون: لو كانوا على حقّ ما سلطنا عليهم ولا عذّبوا, فيفتتنوا بنا.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبي بزّة, عن مجاهد, قوله: لاَ تَجْعَلْنا فِتْنَةً للقَوْمِ الظّالِمِينَ قال: لا تصبنا بعذاب من عندك ولا بأيديهم فيفتتنوا ويقولوا: لو كانوا على حقّ ما سلطنا عليهم وما عذّبوا.
13838ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله تعالى: رَبّنَا لاَ تَجْعَلْنا فِتْنَةً للقَوْمِ الظّالِمِينَ لا تبتلنا ربنا فتجهدنا وتجعله فتنة لهم هذه الفتنة. وقرأ: فِتْنَةً للظّالمينَ قال المشركون حين كانوا يؤذون النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ويرمونهم:: أليس ذلك فتنة لهم, وسوءا لهم؟ وهي بلية للمؤمنين.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن القوم رغبوا إلى الله في أن يجيرهم من أن يكونوا محنة لقوم فرعون وبلاء, ولك ما كان لهم مَصَدّة عن اتباع موسى والإقرار به وبما جاءهم به, فإنه لا شكّ أنه كان لهم فتنة, وكان من أعظم الأمور لهم إبعادا من الإيمان بالله ورسوله. وكذلك من المَصَدّة كان لهم عن الإيمان, أن لو كان قوم موسى عاجلتهم من الله محنة في أنفسهم من بلية تنزل بهم, فاستعاذ القوم بالله من كل معنى يكون صادا لقوم فرعون عن الإيمان بالله بأسبابهم.
الآية : 86
القول في تأويل قوله تعالى: {وَنَجّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }.
يقول تعالى ذكره: ونجنا يا ربنا برحمتك, فخلّصنا من أيدي القوم الكافرين قوم فرعون لأنهم كان يستعبدونهم ويستعملونهم في الأشياء القذرة من خدمتهم.
الآية : 87
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَآ إِلَىَ مُوسَىَ وَأَخِيهِ أَن تَبَوّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ }.
يقول تعالى ذكره: وأوحينا إلى موسى وأخيه أن اتخذ لقومكما بمصر بيوتا, يقال منه: تبوأ فلان لنفسه بيتا: إذا اتخذه, وكذلك تبوأ مصحفا: إذا اتخذا, وبوأته أنا بيتا: إذا اتخذته له. وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً يقول: واجعلوا بيوتكم مساجد تصلون فيها.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً فقال بعضهم في ذلك نحو الذي قلنا فيه. ذكر من قال ذلك:
13839ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان عن حميد, عن عكرمة, عن ابن عباس: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال: مساجد.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو نعيم, قال: حدثنا سفيان, عن خصيف, عن عكرمة, عن ابن عباس, قوله: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال: أمروا أن يتخذوها مساجد.
13840ـ قال: حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل, قال: حدثنا زهير, قال: حدثنا خصيف, عن عكرمة, عن ابن عباس, في قول الله تعالى: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال: كانوا يفرقون من فرعون وقومه أن يصلوا, فقال لهم: اجعلوا بيوتكم قبلة, يقول: اجعلوها مسجدا حتى تصلوا فيها.
13841ـ حدثنا ابن وكيع وابن حميد, قالا: حدثنا جرير, عن منصور, عن إبراهيم: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال: خافوا فأمروا أن يصلوا في بيوتهم.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن منصور, عن إبراهيم: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال: كانوا خائفين, فأمروا أن يصلوا في بيوتهم.
13842ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا الحماني, قال: حدثنا شبل, عن خصيف, عن عكرمة, عن ابن عباس, في قوله: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال: كانوا خائفين فأمروا أن يصلوا في بيوتهم.
13843ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابن عيينة, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال: كانوا لا يصلون إلا في البيع, وكانوا لا يصلون إلا خائفين, فأمروا أن يصلوا في بيوتهم.
قال: حدثنا جرير عن ليث, عن مجاهد, قال: كانوا خائفين, فأمروا أن يصلوا في بيوتهم.
13844ـ قال: حدثنا عبد الله, عن إسرائيل, عن السدي, عن أبي مالك: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال: كانت بنو إسرائيل تخاف فرعون, فأمروا أن يجعلوا بيوتهم مساجد يصلون فيها.
13845ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الرحمن بن سعد, قال: أخبرنا أبو جعفر, عن الربيع بن أنس في قوله: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً يقول: مساجد.
قال: حدثنا أحمد بن يونس, قال: حدثنا إسرائيل, عن منصور, عن إبراهيم: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال: كانوا يصلون في بيوتهم يخافون.
13846ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا زيد بن الحباب, عن أبي سنان, عن الضحاك: أنْ تَبَوّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتا قال: مساجد.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن منصور, عن إبراهيم, في قوله: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال: كانوا خائفين, فأمروا أن يصلوا في بيوتهم.
13847ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال: قال أبي زيد: اجعلوا في بيوتكم مساجدكم تصلون فيها تلك القبلة.
وقال آخرون: معنى ذلك: واجعلوا مساجدكم قبل الكعبة. ذكر من قال ذلك:
13848ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى, عن المنهال, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً يعني الكعبة.
13849ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, في قوله: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وأقِيمُوا الصّلاةَ وَبَشّر المُوءْمِنِينَ قال: قالت بنو إسرائيل لموسى: لا نستطيع أن نظهر صلاتنا مع الفراعنة. فأذن الله لهم أن يصلوا في بيوتهم, وأمروا أن يجعلوا بيوتهم قبل القبلة.
13850ـ حدثنا القاسم. قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, قال: قال ابن عباس في قوله: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً يقول: وجهوا بيوتكم مساجدكم نحو القبلة, ألا ترى أنه يقول: فِي بُيُوتٍ أذِنَ اللّهُ أنْ تَرْفَعَ؟
13851ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عبيد الله, عن إسرائيل, عن أبي يحيى, عن مجاهد: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال: قبل القبلة.
13852ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال: نحو الكعبة, حين خاف موسى ومن معه من فرعون أن يصلوا في الكنائس الجامعة, فأمروا أن يجعلوا في بيوتهم مساجد مستقبلة الكعبة يصلون فيها سرّا.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً ثم ذكر مثله سواء.
13853ـ قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: وأوْحَيْنا إلى مُوسَى وأخِيهِ أنْ تَبَوّءَا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتا مساجد.
13854ـ قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: في قوله: أنْ تَبَوّءَا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتا قال: مصر, الإسكندرية.
13855ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وأوْحَيْنا إلى مُوسَى وأخِيهِ أنْ تَبَوّءَا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال: وذلك حين منعهم فرعون الصلاة, فأمروا أن يجعلوا مساجدهم في بيوتهم وأن يوجهوا نحو القبلة.
13856ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال: نحو القبلة.
13857ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا إسحاق, عن أبي سنان, عن الضحاك: وأوْحَيْنا إلى مُوسَى وأخِيهِ أنْ تَبَوّءَا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتا قال: مساجد. وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال: قبل القبلة.
وقال آخرون: معنى ذلك: واجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضا. ذكر من قال ذلك:
13858ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عمران بن عيينة, عن عطاء, عن سعيد بن جبير: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال: يقابل بعضها بعضا.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب القول الذي قدمنا بيانه وذلك أن الأغلب من معاني البيوت وإن كانت المساجد بيوتا, البيوت المسكونة إذا ذكرت باسمها المطلق دون المساجد لأن المساجد لها اسم هي به معروفة خاصّ لها, وذلك المساجد. فأما البيوت المطلقة بغير وصلها بشيء ولا إضافتها إلى شيء, فالبيوت المسكونة, وكذلك القبلة الأغلب من استعمال الناس إياها في قِبَل المساجد وللصلوات. فإذا كان ذلك كذلك, وكان غير جائز توجيه معاني كلام الله إلا إلى الأغلب من وجوهها المستعمل بين أهل اللسان الذي نزل به دون الخفي المجهول ما لم تأت دلالة تدلّ على غير ذلك, ولم يكن على قوله: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً دلالة تقطع العذر بأن معناه غير الظاهر المستعمل في كلام العرب, لم يجز لنا توجيهه إلى غير الظاهر الذي وصفنا. وكذلك القول في قوله: قِبْلَةً وأقِيمُوا الصّلاةَ يقول تعالى ذكره: وأدّوا الصلاة المفروضة بحدودها في أوقاتها. وقوله: وَبَشّرِ المُومِنِينَ يقول جلّ ثناؤه لنبيه عليه الصلاة والسلام: وبشر مقيمي الصلاة المطيعي الله يا محمد المؤمنين بالثواب الجزيل منه.
الآية : 88
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَىَ رَبّنَآ إِنّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا رَبّنَا لِيُضِلّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبّنَا اطْمِسْ عَلَىَ أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىَ قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتّىَ يَرَوُاْ الْعَذَابَ الألِيمَ }.
يقول تعالى ذكره: وقال موسى يا ربنا إنك أعطيت فرعون وكبراء قومه وأشرافهم, وهم الملأ, زينة من متاع الدنيا وأثاثها, وأمولاً من أعيان الذهب والفضة في الحياة الدنيا. رَبّنا لِيُضِلّوا عَنْ سَبِيلِكَ يقول موسى لربه: ربنا أعطيتهم ما أعطيتهم من ذلك ليضلوا عن سبيلك.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأه بعضهم: لِيُضِلّوا عَنْ سَبِيلِكَ بمعنى: ليضلوا الناسَ عن سبيلك, ويصدّوهم عن دينك.
وقرأ ذلك آخرون: «لِيُضِلّوا عَنْ سَبِيلِكَ» بمعنى: ليضلوا هم عن سبيلك, فيَجوروا عن طريق الهدى.
فإن قال قائل: أفكان الله جلّ ثناؤه أعطى فرعون وقومه ماأعطاهم من زينة الدنيا وأموالها ليُضلوا الناس عن دينه, أو ليَضلوا هم عنه؟ فإن كان لذلك أعطاهم ذلك, فقد كان منهم ما أعطاهم لأجله, فلا عتب عليهم في ذلك؟ قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما توهمت.
وقد اختلفت أهل العلم بالعربية في معنى هذه اللام التي في قوله: لِيُضِلّوا فقال بعض نحويي البصرة: معنى ذلك: ربنا فضلوا عن سبيلك, كما قال: فالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُوَنَ لَهُمْ عَدُوّا وَحَزَنا أي فكان لهم وهم لم يلتقطوه ليكون عدوا وحزنا, وإنما التقطوه فكان لهم. قال: فهذه اللام تجيء في هذا المعنى. وقال بعض نحويي الكوفة: هذه اللام لام كي ومعنى الكلام: ربنا أعطيتهم ما أعطيتهم كي يضلوا, ثم دعا عليهم وقال آخر: هذه اللامات في قوله «ليضلوا» و «ليكون لهم عدوّا», وما أشبهها بتأويل الخفض: آتيتهم ما أتيتهم لضلالهم, والتقطوه لكونه لأنه قد آلت الحالة إلى ذلك. والعرب تجعل لام كي في معنى لام الخفض, ولام الخفض في معنى لام كي لتقارب المعنى, قال الله تعالى: سَيَحْلِفُونَ باللّهِ لَكُمْ إذَا انْقَلَبْتُمْ إلَيْهِمْ لِتَعْرِضُوا عَنْهُمْ أي لإعراضكم, ولم يحلفوا لإعراضهم وقال الشاعر:
سَمَوْتَ ولَمْ تَكُنْ أهْلاً لِتَسْمُووَلكنّ المُضَيّعَ قَدْ يُصَابُ
قال: وإنما يقال: وما كنت أهلاً للفعل, ولا يقال لتفعل إلا قليلاً. قال: وهذا منه.
والصواب من القول في ذلك عندي: أنها لا م كي, ومعنى الكلام: ربنا أعطيتهم ما أعطيتهم من زينة الحياة الدنيا والأموال لتفتنهم فيه, ويُضِلوا عن سبيلك عبادك, عقوبةً منك. وهذا كما قال جلّ ثناؤه: لأَسْقَيْناهُمْ مَاءً غَدَقا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وقوله: رَبّنا اطْمِسْ على أمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ على قُلُوبِهِمْ هذا دعاء من موسى, دعا الله على فرعون وملئه أن يغير أموالهم عن هيئتها, ويبدّلها إلى غير الحال التي هي بها, وذلك نحو قوله: مِنْ قَبْل أنْ نَطْمِسَ وُجُوها فَنرُدّها على أدْبارِها يعني به: من قبل أن نغيرها عن هيئتها التي هي بها, يقال منه: طمست عينه أطْمِسُها وأطْمُسُها طمسا وطُمُوسا, وقد تستعمل العرب الطّمْس في العُفُوّ والدثور وفي الاندقاق والدروس, كما قال كعب بن زهير:
مِنْ كلّ نَضّاخَةِ الذفْرَى إذا عَرِقَتعُرْضَتُها طامِسُ الأعْلامِ مَجْهُولُ
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك في هذا الموضع, فقال جماعة منهم فيه مثل قولنا. ذكر من قال ذلك:
13859ـ حدثني زكريا بن يحيى بن زائدة, قال: حدثنا حجاج, قال: ثني ابن جريج, عن عبد الله بن كثير, قال: بلغنا عن القرظي, في قوله: رَبّنا اطْمِسْ على أمْوَالِهِمْ قال: اجعل سكرهم حجارة.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن عبد الله بن كثير, عن محمد بن القرظيّ, قال: اجعل سكرهم حجارة.
13860ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يحيى بن يمان, عن أبي جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: اطْمِسْ على أمْوَالِهِمْ قال: اجعلها حجارة.
13861ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبُو حذيفة, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الرحمن بن سعد, قال: حدثنا أبو جعفر عن الربيع بن أنس, في قوله: اطْمِسْ على أمْوَالِهِمْ قال: صارت حجارة.
13862ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: رَبّنا اطْمِسْ على أمْوَالِهِمْ قال: بلغنا أن زروعهم تحوّلت حجارة.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: رَبّنا اطْمِسْ على أمْوَالِهِمْ قال: بلغنا أن حروثا لهم صارت حجارة.
13863ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا قبيصة بن عقبة, قال: حدثنا سفيان: رَبّنا اطْمِسْ على أمْوَالِهِمْ قال: يقولون: صارت حجارة.
13864ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق. قال: حدثنا يحيى الحماني, قال: أخبرنا ابن المبارك, عن إسماعيل عن أبي صالح, في قوله: رَبّنا اطْمِسْ على أمْوَالِهِمْ قال: صارت حجارة.
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, في قوله: رَبّنا اطْمِسْ على أمْوَالِهِمْ قال: بلغنا أن حروثا لهم صارت حجارة.
13865ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ, قال: حدثنا عبيد بن سليمان, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: رَبّنا اطْمِسْ على أمْوَالِهِمْ قال: جعلها الله حجارة منقوشة على هيئة ما كانت.
13866ـ حدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: رَبّنا اطْمِسْ على أمْوَالِهِمْ قال: قد فعل ذلك, وقد أصابهم ذلك طمس على أموالهم, فصارت حجارة ذهبهم ودراهمهم وعدسهم وكلّ شيء.
وقال آخرون: معنى ذلك: أهلكها. ذكر من قال ذلك:
13867ـ حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: رَبّنا اطْمِسْ على أمْوَالِهِمْ قال: أهلكها.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.
13868ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: رَبّنا اطْمِسْ على أمْوَالِهِمْ يقول: دمر عليهم وأهلك أموالهم.
وأما قوله: وَاشْدُدْ على قُلوبِهِمْ فإنه يعني: واطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح بالإيمان. كما:
13869ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس: وقال موسى قبل أن يأتي فرعون: ربنا وَاشْدُدْ على قُلُوبِهِمْ فَلا يُوءْمِنُوا حتى يَرَوُا العَذَابَ الألِيمَ فاستجاب الله له, وحال بين فرعون وبين الإيمان حتى أدركه الغرق, فلم ينفعه الإيمان.
13870ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: وَاشْدُدْ على قُلُوبِهِمْ يقول: واطبع على قلوبهم, حتى يَرَوُا العَذَابَ الألِيمَ وهو الغرق.
13871ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: وَاشْدُدْ على قُلُوبِهِمْ بالضلالة.
قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: وَاشْدُدْ على قُلُوبِهِمْ قال: بالضلالة.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, مثله.
13872ـ حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ, قال: حدثنا عبيد بن سليمان, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: وَاشْدُدْ على قُلُوبِهِمْ يقول: أهلكهم كفارا.
وأما قوله: فَلا يُوءْمِنُوا حتى يَرَوُا العَذَابَ الألِيمَ فإن معناه: فلا يصدّقوا بتوحيد الله ويقروا بوحدانيته حتى يروا العذاب الموجع. كما:
13873ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: فَلا يُوءْمِنُوا بالله فيما يرون من الاَيات, حتى يَرَوُا العَذَابَ الألِيمَ.
حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
قال: حدثنا سويد بن نصر, قال: أخبرنا ابن المبارك, عن ابن جريج, عن مجاهد, مثله.
حدثنا المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: سمعت المنقري يقول: فَلا يُوءْمِنُوا يقول: دعا عليهم.
واختلف أهل العربية في موضع: يُوءْمِنُوا فقال بعض نحويي البصرة: هو نصب لأن جواب الأمر بالفاء أو يكون دعاء عليهم إذا عصوا. وقد حُكي عن قائل هذا القول أنه كان يقول: هو نصب عطفا على قوله: لِيُضِلّوا عَنْ سَبِيلِكَ. وقال آخر منهم, وهو قول نحوييّ الكوفة: موضعه جزم على الدعاء من موسى عليهم, بمعنى: فلا آمنوا, كما قال الشاعر:
فَلا يَنْبَسِطْ مِنْ بينِ عَيْنَيْكَ ما انْزَوَىوَلا تَلْقَنِي إلاّ وأنْفُكَ رَاغِمُ
بمعنى: فلا انبسط من بين عينيك ما انزوى, ولا لقيتني على الدعاء. وكان بعض نحويّي الكوفة يقول: هو دعاء, كأنه قال: اللهم فلا يؤمنوا. قال: وإن شئت جعلتها جوابا لمسئلته إياه, لأن المسئلة خرجت على لفظ الأمر, فتجعل فلا يُوءْمِنُوا في موضع نصب على الجواب, وليس بسهل. قال: ويكون كقول الشاعر:
يا ناقَ سِيرِي عَنَقا فَسِيحاإلى سُلَيْمَانَ فَنَستَرِيحا
قال: وليس الجواب بسهل في الدعاء لأنه ليس بشرط.
والصواب من القول في ذلك أنه في موضع جزم على الدعاء, بمعنى: فلا آمنوا. وإنما اخترت ذلك لأن ما قبله دعاء, وذلك قوله: رَبّنا اطْمِسْ على أمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ على قُلُوبِهِمْ, فإلحاق قوله: فَلا يُوءْمِنُوا إذ كان في سياق ذلك بمعناه أشبهُ وأولى.
وأما قوله: حتى يَرَوُا العَذَابَ الألِيمَ فإن ابن عباس كان يقول: معناه: حتى يروا الغرق.
وقد ذكرنا الرواية عنه بذلك من بعض وجوهها فيما مضى.
13874ـ حدثني القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قال ابن عباس: فَلا يُوءْمِنُوا حتى يَرَوُا العَذَابَ الألِيمَ قال: الغرق