تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 222 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 222

222 : تفسير الصفحة رقم 222 من القرآن الكريم

** وَمَا مِن دَآبّةٍ فِي الأرْضِ إِلاّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلّ فِي كِتَابٍ مّبِينٍ
أخبر تعالى أنه متكفل بأرزاق المخلوقات من سائر دواب الأرض صغيرها وكبيرها بحريها وبريها وأنه يعلم مستقرها ومستودعها أي يعلم أين منتهى سيرها في الأرض وأين تأوي إليه من وكرها وهو مستودعها, وقال علي بن أبي طلحة وغيره عن ابن عباس {ويعلم مستقره} أي حيث تأوي {ومستودعه} حيث تموت, وعن مجاهد {مستقره} في الرحم {ومستودعه} في الصلب كالتي في الأنعام, وكذا روي عن ابن عباس والضحاك وجماعة, وذكر ابن أبي حاتم أقوال المفسرين ههنا كما ذكره عند تلك الاَية فالله أعلم. وأن جميع ذلك مكتوب في كتاب عند الله مبين عن جميع ذلك كقوله: {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون} وقوله: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو, ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين}.

** وَهُوَ الّذِي خَلَق السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتّةِ أَيّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَآءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنّكُمْ مّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنّ الّذِينَ كَفَرُوَاْ إِنْ هَـَذَآ إِلاّ سِحْرٌ مّبِينٌ * وَلَئِنْ أَخّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَىَ أُمّةٍ مّعْدُودَةٍ لّيَقُولُنّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ
يخبر تعالى عن قدرته على كل شيء وأنه خلق السموات والأرض في ستة أيام وأن عرشه كان على الماء قبل ذلك كما قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن جامع بن شداد عن صفوان بن محرز عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقبلوا البشرى يا بني تميم» قالوا: قد بشرتنا, فأعطنا, قال: «اقبلوا البشرى يا أهل اليمن قالوا: قد قبلنا. فأخبرنا عن أول هذا الأمر كيف كان ؟ قال: «كان الله قبل كل شيء, وكان عرشه على الماء, وكتب في اللوح المحفوظ ذكر كل شيء» قال: فأتاني آت فقال: يا عمران انحلت ناقتك من عقالها, قال: فخرجت في إثرها فلا أدري ما كان بعدي, وهذا الحديث مخرج في صحيحي البخاري ومسلم بألفاظ كثيرة فمنها قالوا: جئناك نسألك عن أول هذا الأمر فقال: «كان الله ولم يكن شيء قبله وفي رواية ـ غيره ـ وفي رواية ـ معه ـ وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء, ثم خلق السموات والأرض.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء» وقال البخاري في تفسير هذه الاَية: حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب أخبرنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله عز وجل أنفق أنفق عليك» وقال: «يد الله ملأى لا يغيضها نفقة, سحاء الليل والنهار» وقال: «أفرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه وكان عرشه على الماء, وبيده الميزان يخفض ويرفع».
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا حماد بن سلمة عن يعلى بن عطاء عن وكيع بن عدس عن عمه أبي رزين واسمه لقيط بن عامر بن المنتفق العقيلي قال: قلت: يارسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه قال: «كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء, ثم خلق العرش بعد ذلك» وقد رواه الترمذي في التفسير وابن ماجه في السنن من حديث يزيد بن هارون به وقال الترمذي: هذا حديث حسن, وقال مجاهد {وكان عرشه على الماء} قبل أن يخلق شيئاً, وكذا قال وهب بن منبه وضمرة وقتادة وابن جرير وغير واحد, وقال قتادة في قوله {وكان عرشه على الماء} ينبئكم كيف كان بدء خلقه قبل أن يخلق السموات والأرض, وقال الربيع بن أنس {وكان عرشه على الماء} فلما خلق السموات والأرض قسم ذلك الماء قسمين فجعل نصفاً تحت العرش وهو البحر المسجور.
وقال ابن عباس: إنما سمي العرش عرشاً لارتفاعه, وقال إسماعيل بن أبي خالد سمعت سعداً الطائي يقول: العرش ياقوتة حمراء, وقال محمد بن إسحاق في قوله تعالى: {وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء} فكان كما وصف نفسه تعالى إذ ليس إلا الماء وعليه العرش وعلى العرش ذو الجلال والإكرام, والعزة والسلطان, والملك والقدرة, والحلم والعلم, والرحمة والنعمة الفعال لما يريد, وقال الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير قال: سئل ابن عباس عن قول الله: {وكان عرشه على الماء} على أي شيء كان الماء ؟ قال على متن الريح, وقوله تعالى: {ليبلوكم أيكم أحسن عمل} أي خلق السموات والأرض لنفع عباده الذين خلقهم ليعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ولم يخلق ذلك عبثاً كقوله {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار} وقال تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم} وقال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} الاَية وقوله {ليبلوكم} أي ليختبركم {أيكم أحسن عملاً } ولم يقل أكثر عملاً, بل أحسن عملاً ولا يكون العمل حسناً حتى يكون خالصاً لله عز وجل على شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فمتى فقد العمل واحداً من هذين الشرطين حبط وبطل.
وقوله: {ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت} الاَية يقول تعالى ولئن أخبرت يا محمد هؤلاء المشركين أن الله سيبعثهم بعد مماتهم كما بدأهم مع أنهم يعلمون أن الله تعالى هو الذي خلق السموات والأرض كما قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله} وهم مع هذا ينكرون البعث والمعاد يوم القيامة الذي هو بالنسبة إلى القدرة أهون من البداءة كما قال تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} وقال تعالى: {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة} وقولهم: {إن هذا إلا سحر مبين} أي يقولون كفراً وعناداً ما نصدقك على وقوع البعث, وما يذكر ذلك إلا من سحرته فهو يتبعك على ما تقول, وقوله: {ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة} الاَية. يقول تعالى ولئن أخرنا العذاب والمؤاخذة عن هؤلاء المشركين إلى أجل معدود وأمد محصور وأوعدناهم إلى مدة مضروبة ليقولن تكذيباً واستعجالاً, ما يحبسه أي يؤخر هذا العذاب عنا فإن سجاياهم قد ألفت التكذيب والشك فلم يبق لهم محيص عنه ولا محيد والأمة تستعمل في القرآن والسنة في معان متعددة فيراد بها الأمد كقوله في هذه الاَية {إلى أمة معدودة}.
وقوله في يوسف: {وقال الذي نجا منهما وادّكر بعد أمة} وتستعمل في الإمام المقتدى به كقوله: {إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين} وتستعمل في الملة والدين كقوله إخباراً عن المشركين إنهم قالوا: {إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون} وتستعمل في الجماعة كقوله: {ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون} وقوله: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} وقال تعالى: {ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون} والمراد من الأمة ههنا الذين يبعث فيهم الرسول مؤمنهم وكافرهم كما في صحيح مسلم «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار» وأما أمة الأتباع فهم المصدقون للرسل كما قال تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} وفي الصحيح «فأقول أمتي أمتي» وتستعمل الأمة في الفرقة والطائفة كقوله تعالى: {ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون} وكقوله: {من أهل الكتاب أمة قائمة} الاَية.

** وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنّا رَحْمَةً ثُمّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرّآءَ مَسّتْهُ لَيَقُولَنّ ذَهَبَ السّيّئَاتُ عَنّيَ إِنّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ * إِلاّ الّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ أُوْلَـَئِكَ لَهُمْ مّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ
يخبر تعالى عن الإنسان وما فيه من الصفات الذميمة إلا من رحم الله من عباده المؤمنين أنه إذا أصابته شدة بعد نعمة حصل له يأس وقنوط من الخير بالنسبة إلى المستقبل وكفر وجحود لماضي الحال كأنه لم ير خيراً ولم يرج بعد ذلك فرجاً. وهكذا إن أصابته نعمة بعد نقمة {ليقولن ذهب السيئآت عني} أي يقول: ما ينالني بعد هذا ضيم ولا سوء {إنه لفرح فخور} أي فرح بما في يده بطر فخور على غيره, قال الله تعالى: {إلا الذين صبرو} أي على الشدائد والمكاره {وعملوا الصالحات} أي في الرخاء والعافية {أولئك لهم مغفرة} أي بما يصيبهم من الضراء {وأجر كبير} بما أسلفوه في زمن الرخاء كما جاء في الحديث «والذي نفسي بيده لا يصيب المؤمن هم ولا غم ولا نصب ولا وصب ولا حزن حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله عنه بها من خطاياه» وفي الصحيحين «والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له إن أصابته سراء فشكر كان خيراً له, وإن أصابته ضراء فصبر كان خيراً له, وليس ذلك لأحد غير المؤمن» ولهذا قال الله تعالى: {والعصر إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} وقال تعالى: {إن الإنسان خلق هلوع} الاَيات.