تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 222 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 222

221

8- "ولئن أخرنا عنهم العذاب" أي الذي تقدم ذكره في قوله: "عذاب يوم كبير" وقيل عذاب يوم القيامة وما بعده، وقيل يوم بدر "إلى أمة معدودة" أي إلى طائفة من الأيام قليلة، لأن ما يحصره العد قليل، والأمة اشتقاقها من الأم: وهو القصد، وأراد بها الوقت المقصود لإيقاع العذاب، وقيل: هي في الأصل الجماعة من الناس، وقد يسمى الحين باسم ما يحصل فيه كقولك كنت عند فلان صلاة العصر: أي في ذلك الحين، فالمراد على هذا إلى حين تنقضي أمة معدودة من الناس "ليقولن ما يحبسه" أي أي شيء يمنعه من النزول استعجالاً له على جهة الاستهزاء والتكذيب، فأجابهم الله بقوله: "ألا يوم يأتيهم ليس مصروفاً عنهم" أي ليس محبوساً عنهم، بل واقع بهم لا محالة، ويوم منصوب بمصروفاً " وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون " أي أحاط بهم العذاب الذي كانوا يستعجلونه استهزاء منهم، ووضع يستهزءون مكان يستعجلون، لأن استعجالهم كان استهزاء منهم، وعبر بلفظ الماضي تنبيهاً على تحقق وقوعه فكأنه قد حاق بهم. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أنه قرأ: "الر كتاب أحكمت آياته" قال: هي كلها محكمة يعني سورة هود "ثم فصلت" قال: ثم ذكر محمداً صلى الله عليه وسلم فحكم فيها بينه وبين من خالفه وقرأ مثل الفريقين الآية كلها، ثم ذكر قوم نوح ثم هود، فكان هذا تفصيل ذلك، وكان أوله محكماً قال: وكان أبي يقول ذلك، يعني زيد بن أسلم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن في قوله: "كتاب أحكمت آياته" قال: أحكمت بالأمر والنهي، وفصلت بالوعد والوعيد. وأخرج هؤلاء عن مجاهد "فصلت" قال: فسرت. وأخرج هؤلاء أيضاً عن قتادة في الآية قال: أحكمها الله من الباطل ثم فصلها بعلمه، فبين حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته، وفي قوله: "من لدن حكيم" يعني من عند حكيم، وفي قوله: "يمتعكم متاعاً حسناً" قال: فأنتم في ذلك المتاع فخذوه بطاعة الله ومعرفة حقه، فإن الله منعم يحب الشاكرين وأهل الشكر في مزيد من الله، وذلك قضاؤه الذي قضاه، وفي قوله: "إلى أجل مسمى" يعني الموت، وفي قوله: "يؤت كل ذي فضل فضله": أي في الآخرة. وأخرج هؤلاء أيضاً عن مجاهد في قوله "يؤت كل ذي فضل فضله": أي في الآخرة. وأخرج أبو الشيخ عن الحسن قال: يؤت كل ذي فضل في الإسلام فضل الدرجات في الآخرة. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله: "ويؤت كل ذي فضل فضله" قال: من عمل سيئة كتبت عليه سيئة، ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات، فإن عوقب بالسيئة التي عملها في الدنيا بقيت له عشر حسنات، وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من الحسنات العشر واحدة وبقيت له تسع حسنات، ثم يقول: هلك من غلب آحاده أعشاره. وأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس في قوله: "ألا إنهم يثنون صدورهم" الآية قال: كانوا يستحيون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء، وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء فنزل ذلك فيهم. قال البخاري: وعن ابن عباس "يستغشون" يغطون رؤوسهم. وروى البخاري أيضاً عن ابن عباس في تفسير هذه الآية، يعني به الشك في الله، وعمل السيئات وكذا روي عن مجاهد والحسن وغيرهما: أي أنهم كانوا يثنون صدورهم إذا قالوا شيئاً أو عملوه، فيظنون أنهم يستخفون من الله بذلك، فأعلمهم سبحانه أنه حين يستغشون ثيابهم عند منامهم في ظلمة الليل "يعلم ما يسرون" من القول "وما يعلنون". وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عبد الله بن شداد بن الهاد في قوله: "ألا إنهم يثنون صدورهم" قال: كان المنافقون إذا مر أحدهم بالنبي صلى الله عليه وسلم ثنى صدره وتغشى ثوبه لكيلا يراه، فنزلت. وأخرج ابن جرير عن الحسن في قوله: "ألا حين يستغشون ثيابهم" قال: في ظلمة الليل في أجواف بيوتهم. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي رزين في الآية قال: كان أحدهم يحني ظهره ويستغشي بثوبه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال: كانوا يخفون صدورهم لكيلا يسمعوا كتاب الله. قال تعالى: "ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون" وذلك أخفى ما يكون ابن آدم إذا أحنى ظهره واستغشى بثوبه وأضمر همه في نفسه، فإن الله لا يخفى عليه ذلك. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال في الآية: يكتمون ما في قلوبهم ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما عملوا بالليل والنهار. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وما من دابة" الآية قال: يعني كل دابة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "وما من دابة" الآية قال: يعني ما جاءها من رزق فمن الله، وربما لم يرزقها حتى تموت جوعاً، ولكن ما كان لها من رزق لها فمن الله. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "ويعلم مستقرها" قال: حيث تأوي، ومستودعها قال: حيث تموت. وأخرج ابن أبي حاتم عنه "ويعلم مستقرها" قال: يأتيها رزقها حيث كانت. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: مستقرها في الأرحام ومستودعها حيث تموت. ويؤيد هذا التفسير الذي ذكره ابن مسعود ما أخرجه الترمذي الحكيم في نوادر الأصول والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان أجل أحدكم بأرض أتيحت له إليها حاجة، حتى إذا بلغ أقصى أثره منها فيقبض، فتقول الأرض يوم القيامة: هذا ما استودعتني". وأخرج عبد الرزاق في المصنف والفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس أنه سئل عن قوله: "وكان عرشه على الماء" على أي شيء كان الماء؟ قال: على متن الريح. وقد وردت أحاديث كثيرة في صفة العرش وفي كيفية خلق السموات والأرض ليس هذا موضع ذكرها. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم في التاريخ وابن مردويه عن ابن عمر قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: "ليبلوكم أيكم أحسن عملاً" فقيل: ما معنى ذلك يا رسول الله؟ قال: "ليبلوكم أيكم أحسن عقلاً"، ثم قال: "وأحسنكم عقلاً أورعكم عن محارم الله وأعملكم بطاعة الله". وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال: أيكم أتم عقلاً. وأخرج أيضاً عن سفيان قال: أزهدكم في الدنيا. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال: لما نزلت: "اقترب للناس حسابهم". قال ناس: إن الساعة قد اقتربت فتناهوا، فتناهى القوم قليلاً ثم عادوا إلى أعمالهم أعمال السوء، فأنزل الله: "أتى أمر الله فلا تستعجلوه" فقال ناس من أهل الضلال: هذا أمر الله قد أتى، فتناهى القوم ثم عادوا إلى مكرهم مكر السوء، فأنزل الله هذه الآية: "ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله: "إلى أمة معدودة" قال: إلى أجل معدود. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة "ليقولن ما يحبسه" يعني أهل النفاق. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون" يقول: وقع بهم العذاب الذي استهزأوا به.
اللام في 9- "ولئن أذقنا الإنسان" هي الموطئة للقسم، والإنسان الجنس، فيشمل المؤمن والكافر، ويدل على ذلك الاستثناء بقوله: "إلا الذين صبروا" وقيل المراد جنس الكفار، ويؤيده أن اليأس والكفران والفرح والفخر هي أوصاف أهل الكفر لا أهل الإسلام في الغالب، وقيل: المراد بالإنسان الوليد بن المغيرة، وقيل: عبد الله بن أمية المخزومي. والمراد بالرحمة هنا: النعمة من توفير الرزق والصحة والسلامة من المحن "ثم نزعناها منه" أن سلبناه إياها " إنه ليؤوس " أي آيس من الرحمة شديد القنوط من عودها وأمثالها، والكفور: عظيم الكفران وهو الجحود بها قاله ابن الأعرابي، وفي إيراد صيغتي المبالغة في " ليؤوس كفور " ما يدل على أن الإنسان كثير اليأس، وكثير الجحد عند أن يسلبه الله بعض نعمه فلا يرجو عودها، ولا يشكر ما قد سلف له منها. وفي التعبير بالذوق ما يدل على أنه يكون منه ذلك عند سلب أدنى نعمة ينعم الله بها عليه، لأن الإذاقة والذوق أقل ما يوجد به الطعم.
والنعماء إنعام يظهر أثره على صاحبه، والضراء ظهور أثر الإضرار على من أصيب به. والمعنى: أنه إن أذاق الله سبحانه العبد نعماءه من الصحة والسلامة، والغنى بعد أن كان في ضر من فقر أو مرض أو خوف، لم يقابل ذلك بما يليق به من الشكر لله سبحانه، بل يقول ذهب السيئات: أي المصائب التي ساءته من الضر والفقر والخوف والمرض عنه وزال أثرها غير شاكر لله ولا مثن عليه بنعمه 10- "إنه لفرح فخور" أي كثير الفرح بطراً وأشراً، كثير الفخر على الناس والتطاول عليهم بما يتفضل الله به عليه من النعم، وفي التعبير عن ملابسة الضر له بالمس مناسبة للتعبير في جانب النعماء بالإذاقة، فإن كلاهما لأدنى ما يطلق عليه اسم الملاقاة، كما تقدم.
11- "إلا الذين صبروا" فإن عادتهم الصبر عند نزول المحن، والشكر عند حصول المنن. قال الأخفش: هو استثناء ليس من الأول: أي ولكن الذين صبروا وعملوا الصالحات في حالتي النعمة والمحنة. وقال الفراء: هو استثناء من لئن أذقناه: أي من الإنسان، فإن الإنسان بمعنى الناس، والناس يشمل الكافر والمؤمن، فهو استثناء متصل، والإشارة بقوله: "أولئك" إلى الموصول باعتبار اتصافه بالصبر وعمل الصالحات "لهم مغفرة" لذنوبهم "وأجر" يؤجرون به لأعمالهم الحسنة "كبير" متناه في الكبر.
ثم سلى الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال: 12- "فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك" أي فلعلك لعظم ما تراه منهم من الكفر والتكذيب، واقتراح الآيات التي يقترحونها عليك على حسب هواهم وتعنتهم تارك بعض ما يوحى إليك مما أنزله الله عليك وأمرك بتبليغه، مما يشق عليهم سماعه أو يستشقون العمل به، كسب آلهتهم وأمرهم بالإيمان بالله وحده. قيل: وهذا الكلام خارج مخرج الاستفهام: أي هل أنت تارك؟ وقيل: هو في معنى النفي مع الاستبعاد: أي لا يكون منك ذلك، بل تبلغهم جميع ما أنزل الله عليك، أحبوا ذلك أم كرهوه، شاءوا أم أبوا "وضائق به صدرك" معطوف على تارك، والضمير في به راجع إلى ما أو إلى بعض، وعبر بضائق دون ضيق لأن اسم الفاعل فيه معنى الحدوث والعروض والصفة المشبهة فيها معنى اللزوم "أن يقولوا" أي كراهة أن يقولوا، أو مخافة أن يقولوا أو لئلا يقولوا: "لولا أنزل عليه كنز" أي هلا أنزل عليه كنز: أي مال مكنوز مخزون ينتفع به "أو جاء معه ملك" يصدقه ويبين لنا صحة رسالته، ثم بين سبحانه أن حاله صلى الله عليه وسلم مقصور على النذارة، فقال: "إنما أنت نذير" ليس عليك إلا الإنذار بما أوحي إليك، وليس عليك حصول مطلوبهم وإيجاب مقترحاتهم "والله على كل شيء وكيل" يحفظ ما يقولون وهو فاعل بهم ما يجب أن يفعل.