تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 231 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 231

231 : تفسير الصفحة رقم 231 من القرآن الكريم

** فَلَمّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ مّنْضُودٍ * مّسَوّمَةً عِندَ رَبّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظّالِمِينَ بِبَعِيدٍ
يقول تعالى: {فلما جاء أمرن} وكان ذلك عند طلوع الشمس {جعلنا عاليه} وهي سدوم {سافله} كقوله: {فغشاها ماغشى} أي أمطرنا عليها حجارة من سجيل وهي بالفارسية حجارة من طين قاله ابن عباس وغيره وقال بعضهم أي من سنك وهو الحجر وكل وهو الطين وقد قال في الاَية الأخرى حجارة من طين أي مستحجرة قوية شديدة, وقال بعضهم مشوية, وقال البخاري سجيل: الشديد الكبير, سجيل وسجين اللام والنون أختان, وقال تميم بن مقبل:
ورجلة يضربون البيض صاحبةضرباً تواصت به الأبطال سجينا
وقوله: {منضود} قال بعضهم: في السماء أي معدة لذلك وقال آخرون: {منضود} أي يتبع بعضها بعضاً في نزولها عليهم وقوله: {مسوّمة} أي معلمة مختومة عليها أسماء أصحابها كل حجر مكتوب عليه اسم الذي ينزل عليه وقال قتادة وعكرمة: {مسومة} مطوقة بها نضح من حمرة وذكروا أنها نزلت على أهل البلد وعلى المتفرقين في القرى مما حولها فبينا أحدهم يكون عند الناس يتحدث إِذ جاءه حجر من السماء فسقط عليه من بين الناس فدمره فتتبعهم الحجارة من سائر البلاد حتى أهلكتهم عن آخرهم فلم يبق منهم أحد, وقال مجاهد: أخذ جبريل قوم لوط من سرحهم ودورهم حملهم بمواشيهم وأمتعتهم ورفعهم حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم ثم أكفأهم, وكان حملهم على حوافي جناحه الأيمن قال ولما قلبها كان أول ما سقط منها شرفاتها, وقال قتادة بلغنا أن جبريل أخذ بعروة القرية الوسطى ثم ألوى بها إِلى جو السماء حتى سمع أهل السماء ضواغي كلابهم ثم دمر بعضهم على بعض ثم أتبع شذاذ القوم صخراً قال وذكر لنا أنهم كانوا أربع قرى في كل قرية مائة ألف وفي رواية ثلاث قرى الكبرى منها سدوم, قال وبلغنا أن إِبراهيم عليه السلام كان يشرف على سدوم ويقول: سدوم يوم هالك وفي رواية عن قتادة وغيره قال وبلغنا أن جبريل عليه السلام لما أصبح نشر جناحه فانتسف بها أرضهم بما فيها من قصورها ودوابها وحجارتها وشجرها وجميع ما فيها فضمها في جناحه فحواها وطواها في جوف جناحه ثم صعد بها إِلى السماء الدنيا حتى سمع سكان السماء أصوات الناس والكلاب وكانوا أربعة آلاف ثم قلبها فأرسلها إِلى الأرض منكوسة ودمدم بعضها على بعض فجعل عاليها سافلها ثم أتبعها حجارة من سجيل, وقال محمد بن كعب القرظي: كانت قرى قوم لوط خمس قريات سدوم وهي العظمى وصعبة وصعود وغمة ودوما احتملها جبريل بجناحه ثم صعد بها حتى إِن أهل السماء الدنيا ليسمعون نابحة كلابها وأصوات دجاجها ثم كفأها على وجهها ثم أتبعها الله بالحجارة, يقول الله تعالى: {جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل} فأهلكها الله وما حولها من المؤتفكات, وقال السدي: لما أصبح قوم لوط نزل جبريل فاقتلع الأرض من سبع أرضين فحملها حتى بلغ بها السماء حتى سمع أهل السماء الدنيا نباح كلابهم وأصوات ديوكهم ثم قلبها فقتلهم فذلك قوله: {والمؤتفكة أهوى} ومن لم يمت حتى سقط للأرض أمطر الله عليه وهو تحت الأرض الحجارة ومن كان منهم شاذاً في الأرض يتبعهم في القرى فكان الرجل يتحدث فيأتيه الحجر فيقتله فذلك قوله عز وجل: {وأمطرنا عليهم} أي في القرى حجارة من سجيل هكذا قال السدي(1) وقوله: {وما هي من الظالمين ببعيد} أي وما هذه النقمة ممن تشبه بهم في ظلمهم ببعيد عنه, وقد ورد في الحديث المروي في السنن عن ابن عباس مرفوعاً «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» وذهب الإمام الشافعي في قول عنه وجماعة من العلماء إِلى أن اللائط يقتل سواء كان محصناً أو غير محصن عملاً بهذا الحديث, وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنه يلقى من شاهق ويتبع بالحجارة كما فعل الله بقوم لوط والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

** وَإِلَىَ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَقَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَـَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنّيَ أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مّحِيطٍ
يقول تعالى ولقد أرسلنا إلى مدين وهم قبيلة من العرب كانوا يسكنون بين الحجاز والشام قريباً من معان. بلاداً تعرف بهم يقال لها مدين فأرسل الله إِليهم شعيباً وكان من أشرفهم نسباً, ولهذا قال: {أخاهم شعيب} يأمرهم بعبادة الله تعالى وحده لا شريك له وينهاهم عن التطفيف في المكيال والميزان {إِني أراكم بخير} أي في معيشتكم ورزقكم وإِني أخاف أن تسلبوا ما أنتم فيه بانتهاككم محارم الله {وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط} أي في الدار الاَخرة.

** وَيَقَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيّةُ اللّهِ خَيْرٌ لّكُمْ إِن كُنتُم مّؤْمِنِينَ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ
ينهاهم أولاً عن نقص المكيال والميزان إِذا أعطوا الناس, ثم أمرهم بوفاء الكيل والوزن بالقسط آخذين ومعطين ونهاهم عن العثو في الأرض بالفساد وقد كانوا يقطعون الطريق, وقوله: {بقية الله خير لكم} قال ابن عباس: رزق الله خير لكم وقال الحسن رزق الله خير لكم من بخسكم الناس, وقال الربيع بن أنس وصية الله خير لكم, وقال مجاهد: طاعة الله وقال: قتادة حظكم من الله خير لكم, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الهلاك في العذاب والبقية في الرحمة, وقال أبو جعفر بن جرير {بقية الله خير لكم} أي ما يفضل لكم من الربح بعد وفاء الكيل والميزان خير لكم من أخذ أموال الناس قال وقد روي هذا عن ابن عباس قلت ويشبه قوله تعالى: {قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث} الاَية, وقوله: {وما أنا عليكم بحفيظ} أي برقيب ولا حفيظ أي افعلوا ذلك لله عز وجل لا تفعلوه ليراكم الناس بل لله عز وجل.

** قَالُواْ يَشُعَيْبُ أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ أَوْ أَن نّفْعَلَ فِيَ أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنّكَ لأنتَ الْحَلِيمُ الرّشِيدُ
يقولون له على سبيل التهكم قبحهم الله {أصلواتك} قال الأعمش أي قراءتك {تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤ ن} أي الأوثان والأصنام {أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء} فتترك التطفيف علىَ قولك وهي أموالنا نفعل فيها ما نريد, قال الحسن في قوله: {أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤن} أي والله إِن صلاته لتأمرهم أن يتركوا ما كان يعبد آباؤهم, وقال الثوري في قوله: {أو أن نفعل في أموالنا مانشاء} يعنون الزكاة {إِنك لأنت الحليم الرشيد} قال ابن عباس وميمون بن مهران وابن جريج وابن أسلم وابن جرير يقولون ذلك أعداء الله على سبيل الاستهزاء قبحهم الله ولعنهم عن رحمته وقد فعل.

** قَالَ يَقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيّنَةٍ مّن رّبّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىَ مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِيَ إِلاّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ
يقول لهم هل رأيتم يا قوم إِن كنت {على بينة من ربي} أي على بصيرة فيما أدعو إِليه {ورزقني منه رزقاً حسن} قيل أراد النبوة وقيل أراد الرزق الحلال ويحتمل الأمرين, وقال الثوري {وماأريد أن أخالفكم إِلى ما أنهاكم عنه} أي لا أنهاكم عن الشيء وأخالف أنا في السر فأفعله خفية عنكم كما قال قتادة في قوله {وماأريد أن أخالفكم إِلى ما أنهاكم عنه} يقول: لم أكن أنهاكم عن أمر وأرتكبه {إِن أريد إِلا الإِصلاح ما استطعت} أي فيما آمركم وأنهاكم إنما أريد إِصلاحكم جهدي وطاقتي {وماتوفيقي} أي في إصابة الحق فيما أريده {إِلابالله عليه توكلت} في جميع أموري }وإليه أنيب} أي أرجع قاله مجاهد وغيره قال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة حدثنا أبو قزعة سويد بن حجير الباهلي عن حكيم بن معاوية عن أبيه أن أخاه مالكاً: قال يا معاوية إِن محمداً أخذ جيراني فانطلق إِليه فإِنه قد كلمك وعرفك فانطلقت معه فقال: دع لي جيراني فقد كانوا أسلموا فأعرض عنه فقام مغضباً فقال: أما والله لئن فعلت إِن الناس يزعمون أنك لتأمرنا بالأمر وتخالف إِلى غيره وجعلت أجره وهو يتكلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ماتقول ؟» فقال: إنك والله لئن فعلت ذلك إن الناس ليزعمون أنك لتأمر بالأمر وتخالف إلى غيره. قال: فقال «أو قد قالوها ـ أي قائلهم ـ ولئن فعلت ما ذاك إِلا عليّ وما عليهم من ذلك من شيء أرسلوا له جيرانه» وقال أيضاً: حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ناساً من قومي في تهمة فحبسهم فجاء رجل من قومي إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب فقال: يا محمد علام تحبس جيراني ؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إِن ناساً ليقولون إِنك تنهى عن الشيء وتستخلي به فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما تقول ؟» قال: فجعلت أعرض بينهما كلاماً مخافة أن يسمعها فيدعو على قومي دعوة لا يفلحون بعدها أبداً فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فهمها فقال: «قد قالوها أو قائلها منهم والله لو فعلت لكان عليّ وما كان عليهم خلوا عن جيرانه» ومن هذا القبيل الحديث الذي رواه الإمام أحمد حدثنا أبو عامر حدثنا سليمان بن بلال عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن عبد الملك بن سعيد بن سويد الأنصاري قال سمعت أبا حميد وأبا أسيد يقولون عنه صلى الله عليه وسلم إنه قال: «إِذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم, وتلين له أشعاركم وأبشاركم, وترون أنه منكم قريب فأنا أولاكم به, وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم بعيد فأنا أبعدكم منه» إِسناده صحيح. وقد أخرج مسلم بهذا السند حديث «إِذا دخل أحدكم المسجد فليقل اللهم افتح لي أبواب رحمتك, وإذا خرج فليقل اللهم إِني أسألك من فضلك» ومعناه والله أعلم مهما بلغكم عني من خير فأنا أولاكم به. ومهما يكن من مكروه فأنا أبعدكم منه {وما أريد أن أخالفكم إِلى ما أنهاكم عنه} وقال قتادة عن عزرة عن الحسن العرني عن يحيى بن الجزار عن مسروق قال: جاءت امرأة إِلى ابن مسعود فقالت تنهى عن الواصلة ؟ قال نعم, قالت: فعله بعض نسائك, فقال ما حفظت وصية العبد الصالح إِذاً {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} وقال عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن أبي سليمان العتبي قال: كانت تجيئنا كتب عمر بن عبد العزيز فيها الأمر والنهي فيكتب في آخرها وما كنت من ذلك إِلا كما قال العبد الصالح: {وما توفيقي إِلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب}.