تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 231 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 231

230

82- "فلما جاء أمرنا" أي الوقت المضروب لوقوع العذاب فيه، أو المراد بالأمر نفس العذاب "جعلنا عاليها سافلها" أي عالي قرى قوم لوط سافلها، والمعنى: أنه قلبها على هذه الهيئة، وهي كون عاليها صار سافلها وسافلها صار عاليها، وذلك لأن جبريل أدخل جناحه تحتها فرفعها من تخوم الأرض حتى أدناها من السماء ثم قلبها عليهم "وأمطرنا عليها حجارة من سجيل" قيل: إنه يقال أمطرنا في العذاب ومطرنا في الرحمة، وقيل هما لغتان، يقال: مطرت السماء وأمطرت حكى ذلك الهروي، والسجيل: الطين المتحجر بطبخ أو غيره، وقيل هو الشديد الصلب من الحجارة، وقيل السجيل الكثير، وقيل إن السجيل لفظة غير عربية، أصله سج وجيل، وهما بالفارسية حجر وطين عربتهما العرب فجعلتهما اسماً واحداً، وقيل هو من لغة العرب. وذكر الهروي: أن السجيل اسم لسماء الدنيا. قال ابن عطية: وهذا ضعيف يرده وصفه بمنضود، وقيل هو بجر معلق في الهواء بين السماء والأرض، وقيل هي جبال في السماء. وقال الزجاج: هو من التسجيل لهم: أي ما كتب لهم من العذاب فهو في معنى سجين، ومنه قوله تعالى: " وما أدراك ما سجين * كتاب مرقوم " وقيل هو من أسجلته إذا أعطيته، فكأنه عذاب أعطوه، ومنه قول الشاعر: من يساجلني يساجل ماجداً يملأ الدلو إلى عقد الكرب ومعنى "منضود" أنه نضد بعضه فوق بعض، وقيل بعضه في أثر بعض، يقال: نضدت المتاع: إذا جعلت بعضه على بعض، فهو منضود ونضيد.
والمسومة: المعلمة أي التي لها علامة: قيل: كان عليها أمثال الخواتيم، وقيل: مكتوب على كل حجر اسم من رحي به. وقال الفراء: زعموا أنها كانت مخططة بحمرة وسواد في بياض. فذلك تسويمها، ومعنى 83- "عند ربك" في خزائنه "وما هي من الظالمين ببعيد" أي وما هذه الحجارة الموصوفة من الظالمين وهم قوم لوط ببعيد، أو ما هي من كل ظالم من الظلمة ومنهم كفار قريش ومن عاضدهم على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ببعيد، فهم لظلمهم مستحقون لها. وقيل: "وما هي" أي قرى "من الظالمين" من كفر بالنبي صلى الله عليه وسلم "ببعيد" فإنها بين الشام والمدينة. وفي إمطار الحجارة قولان: أحدهما: أنها أمطرت على المدن حين رفعها جبريل. والثاني: أنها أمطرت على من لم يكن في المدن من أهلها وكان خارجاً عنها. وتذكير البعيد على تأويل الحجارة بالحجر أو إجراء له على موصوف مذكر: أي شيء بعيد، أو مكان بعيد، أو لكونه مصدراً كالزفير والصهيل، والمصادر يستوي في الوصف بها المذكر والمؤنث. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "ولما جاءت رسلنا لوطاً سيء بهم وضاق بهم ذرعاً" قال: ساء ظناً بقومه، وضاق ذرعاً بأضيافه "وقال هذا يوم عصيب" يقول: شديد. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله: "يهرعون إليه" قال: يسرعون "ومن قبل كانوا يعملون السيئات" قال: يأتون الرجال. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه أيضاً قال: "يهرعون إليه" يستمعون إليه. وأخرج أبو الشيخ عنه أيضاً في قوله: "هؤلاء بناتي" قال: ما عرض لوط بناته على قومه لا سفاحاً ولا نكاحاً، إنما قال هؤلاء نساؤكم، لأن النبي إذا كان بين ظهراني قوم فهو أبوهم، قال الله تعالى في القرآن: "وأزواجه أمهاتهم" وهو أبوهم في قراءة أبي. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: لم تكن بناته ولكن كن من أمته، وكل نبي أبو أمته. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير نحوه. وأخرج ابن أبي الدنيا وابن عساكر عن السدي نحوه. قال: وفي قراءة عبد الله النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن حذيفة بن اليمان قال: عرض عليهم بناته تزويجاً، وأراد أن يقي أضيافه بتزويج بناته. وأخرج أبو الشيخ عن السدي في قوله: "ولا تخزون في ضيفي" قال: لا تفضحوني. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك "أليس منكم رجل رشيد" قال: رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. وأخرج أبو الشيخ والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس "أليس منكم رجل رشيد" قال: واحد يقول لا إله إلا الله. وأخرج أبو الشيخ عن عكرمة مثله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي "وإنك لتعلم ما نريد" قال: إنما نريد الرجال "قال" لوط "لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد" يقول: إلى جند شديد لمقاتلتكم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أو آوي إلى ركن شديد قال: عشيرة. وقد ثبت في البخاري وغيره من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يغفر الله للوط إن كان يأوي إلى ركن شديد" وهو مروي في غير الصحيح من طريق غيره من الصحابة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عباس "بقطع من الليل" قال: جوف الليل. وأخرجا عنه قال: بسواد الليل. وأخرج عبد الرزاق عن قتادة قال: بطائفة من الليل. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ولا يلتفت منكم أحد" قال: لا يتخلف. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "ولا يلتفت منكم أحد" قال: لا ينظر وراءه أحد "إلا امرأتك". وأخرج أبو عبيد وابن جرير عن هارون قال: في حرف ابن مسعود: فأسر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك. وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله: "فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها" قال: لما أصبحوا عدا جبريل على قريتهم فقلعها من أركانها، ثم أدخل جناحه ثم حملها على خوافي جناحه بما فيها ثم صعد بها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم، ثم قلبها، فكان أول ما سقط منها سرادقها، فلم يصب قوماً ما أصابهم، ثم إن الله طمس على أعينهم، ثم قلبت قريتهم، وأمطر عليهم حجارة من سجيل. وقد ذكر المفسرون روايات وقصصاً في كيفية هلاك قوم لوط طويلة متخالفة، وليس في ذكرها فائدة لا سيما وبين من قال بشيء من ذلك وبين هلاك قوم لوط دهر طويل لا يتيسر له في مثله إسناد صحيح، وغالب ذلك مأخوذ عن أهل الكتاب، وحالهم في الرواية معروف. وقد أمرنا بأنا لا نصدقهم ولا نكذبهم، فاعرف هذا، فهو الوجه في حذفنا لكثير من هذه الروايات الكائنة في قصص الأنبياء وقومهم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "وما هي من الظالمين ببعيد" قال: يرهب بها قريش أن يصيبهم ما أصاب القوم. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في الآية قال: من ظلمة العرب إن لم يؤمنوا فيعذبوا بها. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ وابن أبي حاتم عن قتادة قال: من ظالمي هذه الأمة.
أي وأرسلنا إلى مدين وهم قوم شعيب أخاهم في النسب شعيباً، وسموا مدين باسم أبيهم، وهو مدين بن إبراهيم، وقيل باسم مدينتهم. قال النحاس: لا ينصرف مدين لأنه اسم مدينة، وقد تقدم الكلام على هذا في الأعراف بأبسط مما هنا، وقد تقدم تفسير "قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره" في أول السورة، وهذه الجملة مستأنفة، كأنه قيل: ماذا قال لهم شعيب لما أرسله الله إليهم؟ وقد كان شعيب عليه السلام يسمى خطيب الأنبياء لحسن مراجعته لقومه، أمرهم أولاً بعبادة لله سبحانه الذي هو الإله وحده لا شريك له، ثم نهاهم عن أن ينقصوا المكيال والميزان، لأنهم كانوا مع كفرهم أهل تطفيف، كانوا إذا جاءهم البائع بالطعام أخذوا بكيل زائد وكذلك إذا وصل إليهم الموزون أخذوا بوزن زائد، وإذا باعوا باعوا بكيل ناقص ووزن ناقص، وجملة "إني أراكم بخير" تعليل للنهي: أي لا تنقصوا المكيال والميزان لأني أراكم بخير: أي بثروة وسعة في الرزق فلا تغيروا نعمة الله عليكم بمعصيته والإضرار بعباده، ففي هذه النعمة ما يغنيكم عن أخذ أموال الناس بغير حقها، ثم ذكر بعد هذه العلة علة أخرى، فقال: "وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط" فهذه العلة فيها الإذكار لهم بعذاب الآخرة كما أن العلة الأولى فيها الإذكار لهم بنعيم الدنيا، ووصف اليوم بالإحاطة والمراد العذاب، لأن العذاب واقع في اليوم، ومعنى إحاطة عذاب اليوم بهم أنه لا يشذ منهم أحد عنه ولا يجدون منه ملجأً ولا مهرباً، واليوم هو يوم القيامة، وقيل: هو يوم الانتقام منهم في الدنيا بالصيحة.
ثم أكد النهي عن نقص الكيل والوزن بقوله: 85- "ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط" والإيفاء هو الإتمام، والقسط العدل، وهو عدم الزيادة والنقص وإن كان الزيادة على الإيفاء فضل وخير، ولكنها فوق ما يفيده اسم العدل، والنهي عن النقص وإن كان يستلزم الإيفاء ففي تعاضد الدلالتين مبالغة بليغة وتأكيد حسن، ثم زاد ذلك تأكيداً فقال: "ولا تبخسوا الناس أشياءهم" قد مر تفسير هذا في الأعراف، وفيه النهي عن البخس على العموم، والأشياء أعم مما يكال ويوزن فيدخل البخس بتطفيف الكيل والوزن في هذا دخولاً أولياً، وقيل: البخس المكس خاصة، ثم قال: "ولا تعثوا في الأرض مفسدين" قد مر أيضاً تفسيره في البقرة، والعثي في الأرض يشمل كل ما يقع فيها من الإضرار بالناس فيدخل فيه ما في السياق من نقص المكيال والميزان، وقيده بالحال وهو قوله: "مفسدين" ليخرج ما كان صورته من العثي في الأرض، والمقصود به الإصلاح كما وقع من الخضر في السفينة.
86- " بقية الله خير لكم " أي ما يبقيه لكم من الحلال بعد إيفاء الحقوق بالقسط أكثر خيراً وبركة مما تبقونه لأنفسكم من التطفيف والبخس والفساد في الأرض، ذكر معناه ابن جرير وغيره من المفسرين. وقال مجاهد: بقية الله طاعته. وقال الربيع: وصيته. وقال الفراء: مراقبته، وإنما قيل ذلك بقوله: "إن كنتم مؤمنين" لأن ذلك إنما ينتفع به المؤمن لا الكافر، أو المراد بالمؤمنين هنا المصدقون لشعيب "وما أنا عليكم بحفيظ" أحفظكم من الوقوع في المعاصي من التطفيف والبخس وغيرهما، أو أحفظ عليكم أعمالكم وأحاسبكم بها وأجازيكم عليها.
وجملة 87- " قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا " مستأنفة جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قالوا لشعيب؟ وقرئ "أصلاتك" بالإفراد، و "أن نترك" في موضع نصب. وقال الكسائي: موضعها خفض على إضمار الباء، ومرادهم بما يعبد آباؤهم ما كانوا يعبدون من الأوثان، والاستفهام للإنكار عليه والاستهزاء به، لأن الصلوات عندهم ليست من الخير الذي يقال لفاعله عند إرادة تليين قلبه وتذليل صعوبته كما يقال لمن كان كثير الصدقة إذا فعل ما لا يناسب الصواب: أصدقتك أمرتك بهذا، وقيل: المراد بالصلاة هنا القراءة، وقيل: المراد بها الدين، وقيل: المراد بالصلوات أتباعه، ومنه المصلي الذي يتلو السابق، وهذا منهم جواب لشعيب عن أمره لهم بعبادة الله وحده، وقولهم: "أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء" جواب له عن أمرهم بإيفاء الكيل والوزن، ونهيهم عن نقصهما وعن بخس الناس وعن العثي في الأرض، وهذه الجملة معطوفة على ما في ما يعبد آباؤنا. والمعنى أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا وتأمرك أن نترك أن تفعل في أموالنا ما نشاء من الأخذ والإعطاء والزيادة والنقص. وقرئ " نفعل في أموالنا ما نشاء " بالفوقية فيهما. قال النحاس: فتكون أو على هذه القراءة للعطف على أن الأولى، والتقدير: أصلواتك تأمرك أن تفعل في أموالنا ما تشاء. وقرئ نفعل بالنون وما تشاء بالفوقية، ومعناه: أصلواتك تأمرك أن نفعل نحن في أموالنا ما تشاؤه أنت وندع ما نشاؤه نحن وما يجري به التراضي بيننا، ثم وصفوه بوصفين عظيمين فقالوا: "إنك لأنت الحليم الرشيد" على طريقة التهكم به، لأنهم يعتقدون أنه على خلافهما، أو يريدون إنك لأنت الحليم الرشيد عن نفسك وفي اعتقادك، ومعناهم: أن هذا الذي نهيتنا عنه وأمرتنا به يخالف ما تعتقده في نفسك من الحلم والرشد، وقيل إنهم قالوا ذلك لا على طريقة الاستهزاء بل هو عندهم كذلك، وأنكروا عليه الأمر والنهي منه لهم بما يخالف الحلم والرشد في اعتقادهم. قد تقدم تفسير الحلم والرشد.
وجملة 88- "قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي" مستأنفة كالجمل التي قبلها، والمعنى: أخبروني إن كنت على حجة واضحة من عند ربي فيما أمرتكم به ونهيتكم عنه "ورزقني منه" أي من فضله وخزائن ملكه "رزقاً حسناً" أي كثيراً واسعاً حلالاً طيباً، وقد كان عليه السلام كثير المال، وقيل: أراد بالرزق النبوة، وقيل الحكمة، وقيل العلم، وقيل التوفيق، وجواب الشرط محذوف يدل عليه سياق الكلام تقديره: أترك أمركم ونهيكم أو أتقولون في شأني ما تقولون مما تريدون به السخرية والاستهزاء "وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه" أي وما أريد بنهيي لكم عن التطفيف والبخس أن أخالفكم إلى ما نهيتكم عنه فأفعله دونكم، يقال: خالفه إلى كذا إذا قصده وهو مول عنه، وخالفته عن كذا في عكس ذلك "إن أريد إلا الإصلاح" أي ما أريد بالأمر والنهي إلا لإصلاح لكم ودفع الفساد في دينكم ومعاملاتكم "ما استطعت" ما بلغت إليه استطاعتي، وتمكنت منه طاقتي "وما توفيقي إلا بالله" أي ما صرت موفقاً هادياً نبياً مرشداً إلا بتأييد الله سبحانه وإقداري عليه ومنحي إياه "عليه توكلت" في جميع أموري التي منها أمركم ونهيكم "وإليه أنيب" أي أرجع في كل ما نابني من الأمور وأفوض جميع أموري إلى ما يختاره لي من قضائه وقدره، وقيل معناه: وإليه أرجع في الآخرة، وقيل: إن الإنابة الدعاء، ومعناه: وله أدعوا.