تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 24 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 24

24 : تفسير الصفحة رقم 24 من القرآن الكريم

** وَلَنَبْلُوَنّكُمْ بِشَيْءٍ مّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ الأمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثّمَرَاتِ وَبَشّرِ الصّابِرِينَ * الّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنّا للّهِ وَإِنّـآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَـَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مّن رّبّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ
أخبرنا تعالى أنه يبتلي عباده, أي يختبرهم ويمتحنهم كما قال تعالى: {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم} فتارة بالسراء وتارة بالضراء من خوف وجوع كما قال تعالى: {فأذاقها الله لباس الجوع والخوف} فإن الجائع والخائف كل منهما يظهر ذلك عليه, ولهذا قال لباس الجوع والخوف. وقال ههنا: {بشيء من الخوف والجوع} أي بقليل من ذلك {ونقص من الأموال} أي ذهاب بعضها {والأنفس} كموت الأصحاب والأقارب والأحباب {والثمرات} أي لا تغل الحدائق والمزارع كعادتها. قال بعض السلف: فكانت بعض النخيل لا تثمر غير واحدة, وكل هذا وأمثاله مما يختبر الله به عباده فمن صبر أثابه ومن قنط أحل به عقابه, ولهذا قال تعالى: {وبشر الصابرين} وقد حكى بعض المفسرين أن المراد من الخوف ههنا خوف الله, وبالجوع صيام رمضان, وبنقص الأموال الزكاة, والأنفس الأمراض, والثمرات الأولاد, وفي هذا نظر, والله أعلم, ثم بين تعالى من الصابرون الذين شكرهم فقال: {الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون} أي تسلوا بقولهم هذا عما أصابهم وعلموا أنهم ملك لله يتصرف في عبيده بما يشاء, وعلموا أنه لا يضيع لديه مثقال ذرة يوم القيامة فأحدث لهم ذلك اعترافهم بأنهم عبيده وأنهم إليه راجعون في الدار الاَخرة. ولهذا أخبر تعالى عما أعطاهم على ذلك, فقال: {أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة} أي ثناء من الله عليهم. قال سعيد بن جبير: أي أمنة من العذاب {وأولئك هم المهتدون} قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: نعم العدلان ونعمت العلاوة {أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة} فهذان العدلان {وأولئك هم المهتدون} فهذه العلاوة وهي ما توضع بين العدلين وهي زيادة في الحمل فكذلك هؤلاء أعطوا ثوابهم وزيدوا أيضاً.
وقد ورد في ثواب الاسترجاع وهو قول {إنا لله وإنا إليه راجعون} عند المصائب أحاديث كثيرة. فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد حيث قال: حدثنا يونس بن محمد حدثنا ليث يعني ابن سعد عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد عن عمرو بن أبي عمرو, عن المطلب عن أم سلمة قالت: أتاني أبو سلمة يوماً من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً سررت به. قال: «لا يصيب أحداً من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته ثم يقول: اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها, إلا فعل ذلك به», قالت أم سلمة: فحفظت ذلك منه, فلما توفي أبو سلمة استرجعت وقلت: اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها, ثم رجعت إلى نفسي, فقلت: من أين لي خير من أبي سلمة ؟ فلما انقضت عدتي استأذن عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أدبغ إهاباً لي فغسلت يدي من القرظ وأذنت له, فوضعت له وسادة أدم حشوها ليف فقعد عليها فخطبني إلى نفسي, فلما فرغ من مقالته قلت: يا رسول الله ما بي أن لا يكون بك الرغبة, لكني امرأة في غيرة شديدة فأخاف أن ترى مني شيئاً يعذبني الله به, وأنا امرأة قد دخلت في السن وأنا ذات عيال, فقال: «أما ما ذكرت من الغيرة فسوف يذهبها الله عز وجل عنك وأما ما ذكرت من السن قد أصابني مثل الذي أصابك وأما ما ذكرت من العيال فإنما عيالك عيالي». قالت: فقد سلمت لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت أم سلمة بعد: أبدلني الله بأبي سلمة خيراً منه: رسول الله صلى الله عليه وسلم, وفي صحيح مسلم عنها أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: {إنا لله وإنا إليه راجعون} اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيراً منها» قالت: فلما توفي أبو سلمة قلت: كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخلف الله لي خيراً منه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد وعباد بن عباد قالا: حدثنا هشام بن أبي هشام حدثنا عباد بن زياد عن أمه عن فاطمة ابنة الحسين عن أبيها الحسين بن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها ـ وقال عباد قدم عهدها ـ فيحدث لذلك استرجاعاً إلا جدد الله له عن ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب». ورواه ابن ماجه في سننه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن هشام بن زياد عن أمه عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها. وقد رواه إسماعيل بن علية ويزيد بن هارون عن هشام بن زياد عن أبيه (كذا) عن فاطمة عن أبيها. وقال الإمام أحمد أنا يحيى بن إسحاق السيلحيني أنا حماد بن سلمة عن أبي سنان قال: دفنت ابناً لي فإني لفي القبر إذ أخذ بيدي أبو طلحة يعني الخولاني فأخرجني وقال لي: ألا أبشرك ؟ قلت: بلى. قال: حدثني الضحاك بن عبد الرحمن بن عوزب عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قال الله: يا ملك الموت قبضت ولد عبدي ؟ قبضت قرة عينه وثمرة فؤاده ؟ قال: نعم. قال: فما قال ؟ قال: حمدك واسترجع. قال: «ابنو له بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد»
ثم رواه عن علي بن إسحاق عن عبد الله بن المبارك فذكره. وهكذا رواه الترمذي عن سويد بن نصر عن ابن المبارك به, وقال حسن غريب واسم أبي سنان عيسى بن سنان.

** إِنّ الصّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطّوّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوّعَ خَيْراً فَإِنّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ
قال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود الهاشمي أنا إبراهيم بن سعد عن الزهري عن عروة عن عائشة, قال: قلت أرأيت قول الله تعالى. {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهم} ؟ قلت: فوالله ما على أحد جناح أن لا يتطوف بهما, فقالت عائشة بئسما قلت يا ابن أختي إنها لو كانت على ما أولتها عليه كانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما, ولكنها إنما أنزلت أن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا كانوا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل, وكان من أهل لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة, فسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله, إنا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا والمروة في الجاهلية. فأنزل الله عز وجل: {إن الصفا والمروة من شعائر الله, فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهم} قالت عائشة: ثم قد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بهما فليس لأحد أن يدع الطواف بهما أخرجاه في الصحيحين. وفي رواية عن الزهري أنه قال: فحدثت بهذا الحديث أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام. فقال: إن هذا العلم ما كنت سمعته, ولقد سمعت رجالاً من أهل العلم يقولون: إن الناس ـ إلا من ذكرت عائشة ـ كانوا يقولون: إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية. وقال آخرون من الأنصار: إنما أمرنا بالطواف بالبيت, ولم نؤمر بالطواف بين الصفا والمروة فأنزل الله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} قال أبو بكر بن عبد الرحمن: فلعلها نزلت في هؤلاء وهؤلاء. ورواه البخاري من حديث مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة بنحو ما تقدم. ثم قال البخاري: حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن عاصم بن سليمان قال: سألت أنساً عن الصفا والمروة, قال: كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية, فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما فأنزل الله عز وجل: {إن الصفا والمروة من شعائر الله}, وذكر القرطبي في تفسيره عن ابن عباس قال: كانت الشياطين تفرق بين الصفا والمروة الليل كله وكانت بينهما آلهة, فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطواف بينهما, فنزلت هذه الاَية. وقال الشعبي: كان إساف على الصفا وكانت نائلة على المروة, وكانوا يستلمونها فتحرجوا بعد الإسلام من الطواف بينهما فنزلت هذه الاَية (قلت) ذكر محمد بن إسحاق في كتاب السيرة أن إسافاً ونائلة كانا بشرين, فزنيا داخل الكعبة فمسخا حجرين فنصبتهما قريش تجاه الكعبة ليعتبر بهما الناس, فلما طال عهدهما عبدا, ثم حولا إلى الصفا والمروة, فنصبا هنالك فكان من طاف بالصفا والمروة يستلمهما, ولهذا يقول أبو طالب في قصيدته المشهورة:
وحيث ينيخ الأشعرون ركابهملمفضى السيول من إساف ونائل

وفي صحيح مسلم من حديث جابر الطويل, وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه بالبيت عاد إلى الركن فاستلمه, ثم خرج من باب الصفا وهو يقول {إن الصفا والمروة من شعائر الله} ثم قال: «أبدأ بما بدأ الله به» وفي رواية النسائي «ابدأوا بما بدأ الله به» وقال الإمام أحمد: حدثنا شريح حدثنا عبد الله بن المؤمل عن عطاء بن أبي رباح عن صفية بنت شيبة عن حبيبة بنت أبي تجراة قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه وهو وراءهم وهو يسعى, حتى أرى ركبتيه من شدة السعي يدور به إزاره وهو يقول: «اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي» ثم رواه الإمام أحمد عن عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن واصل مولى أبي عيينة عن موسى بن عبيدة عن صفية بنت شيبة, أن امرأة أخبرتها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة يقول: «كتب عليكم السعي فاسعوا» وقد استدل بهذا الحديث على مذهب من يرى أن السعي بين الصفا والمروة ركن في الحج, كما هو مذهب الشافعي ومن وافقه, ورواية عن أحمد وهو المشهور عن مالك. وقيل أنه واجب وليس بركن, فإن تركه عمداً أو سهواً جبره بدم, وهو رواية عن أحمد وبه يقول طائفة, وقيل بل مستحب, وإليه ذهب أبو حنيفة والثوري والشعبي وابن سيرين, وروي عن أنس وابن عمر وابن عباس, وحكي عن مالك في العتبية قال القرطبي: واحتجوا بقوله تعالى: {ومن تطوع خير} والقول الأول أرجح لأنه عليه السلام طاف بينهما, وقال: «لتأخذوا عني مناسككم» فكل ما فعله في حجته تلك واجب لا بد من فعله في الحج, إلا ما خرج بدليل, والله أعلم, وقد تقدم قوله عليه السلام «اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي» فقد بين الله تعالى أن الطواف بين الصفا والمروة من شعائر الله, أي مما شرع الله تعالى لإبراهيم في مناسك الحج, وقد تقدم في حديث ابن عباس, أن أصل ذلك مأخوذ من طواف هاجر وتردادها بين الصفا والمروة في طلب الماء لولدها لما نفذ ماؤهما وزادهما حين تركهما إبراهيم عليه السلام هنالك, وليس عندهما أحد من الناس, فلما خافت على ولدها الضيعة هنالك, ونفذ ما عندهما, قامت تطلب الغوث من الله عز وجل, فلم تزل تتردد في هذه البقعة المشرفة بين الصفا والمروة, متذللة خائفة وجلة مضطرة فقيرة إلى الله عز وجل, حتى كشف الله كربتها, وآنس غربتها, وفرج شدتها, وأنبع لها زمزم التي ماؤها «طعام طعم, وشفاء سقم» فالساعي بينهما ينبغي له أن يستحضر فقره وذله وحاجته إلى الله, في هداية قلبه وصلاح حاله وغفران ذنبه. وأن يلتجىء إلى الله عز وجل, لتفريج ما هو به من النقائص والعيوب, وأن يهديه إلى الصراط المستقيم, وأن يثبته عليه إلى مماته وأن يحوله من حاله الذي هو عليه من الذنوب والمعاصي, إلى حال الكمال والغفران والسداد والاستقامة كما فعل بهاجر عليها السلام.
وقوله {ومن تطوع خير} قيل زاد في طوافه بينهما على قدر الواجب, ثامنة وتاسعة ونحو ذلك, وقيل يطوف بينهما في حجة تطوع أو عمرة تطوع, وقيل: المراد تطوع خيراً في سائر العبادات, حكى ذلك الرازي, وعزي الثالث إلى الحسن البصري, والله أعلم, وقوله {فإن الله شاكر عليم} أي يثيب على القليل بالكثير, عليم بقدر الجزاء فلا يبخس أحداً ثوابه, و {لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيم}.

** إِنّ الّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيّنَاتِ وَالْهُدَىَ مِن بَعْدِ مَا بَيّنّاهُ لِلنّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ * إِلاّ الّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التّوّابُ الرّحِيمُ * إِن الّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ
هذا وعيد شديد لمن كتم ما جاء به الرسل من الدلالات البينة على المقاصد الصحيحة, والهدى النافع للقلوب من بعد ما بينه الله تعالى لعباده من كتبه التي أنزلها على رسله, قال أبو العالية: نزلت في أهل الكتاب, كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم, ثم أخبر أنهم يلعنهم كل شيء على صنيعهم ذلك, فكما أن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحوت في الماء, والطير في الهواء, فهؤلاء بخلاف العلماء, فيلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون, وقد ورد في الحديث المسند من طرائق يشد بعضها بعضاً عن أبي هريرة وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: «من سئل عن علم فكتمه, ألجم يوم القيامة بلجام من نار» والذي في الصحيح عن أبي هريرة أنه قال: لولا آية في كتاب الله, ما حدثت أحداً شيئاً {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى} الاَية, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا عمار بن محمد عن ليث بن أبي سليم عن المنهال بن عمرو, عن زاذان أبي عمرو, عن البراء بن عازب, قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة, فقال: «إن الكافر يضرب ضربة بين عينيه, يسمعها كل دابة غير الثقلين, فتلعنه كل دابة سمعت صوته, فذلك قول الله تعالى, {أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} يعني دواب الأرض» ورواه ابن ماجة عن محمد بن الصباح, عن عامر بن محمد به, وقال عطاء بن أبي رباح: كل دابة والجن والإنس, وقال مجاهد: إذا أجدبت الأرض, قال البهائم: هذا من أجل عصاة بني آدم, لعن الله عصاة بني آدم, وقال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة {ويلعنهم اللاعنون} يعني تلعنهم الملائكة والمؤمنون, وقد جاء في الحديث أن العالم يستغفر له كل شيء, حتى الحيتان في البحر, وجاء في هذه الاَية أن كاتم العلم يلعنه الله والملائكة والناس أجمعون واللاعنون أيضاً, وهم كل فصيح وأعجمي, إما بلسان المقال, أو الحال, أن لو كان له عقل ويوم القيامة والله أعلم. ثم استثنى الله تعالى من هؤلاء من تاب إليه, فقال: {إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينو} أي رجعوا عما كانوا فيه وأصلحوا أعمالهم وبينوا للناس ما كانوا يكتمونه {فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم} وفي هذا دلالة على أن الداعية إلى كفر, أو بدعة إذا تاب إلى الله تاب الله عليه: وقد ورد أن الأمم السابقة لم تكن التوبة تقبل من مثل هؤلاء منهم ولكن هذا من شريعة نبي التوبة ونبي الرحمة صلوات الله وسلامه عليه, ثم أخبر تعالى عمن كفر به واستمر به الحال إلى مماته بأنّ {عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيه} أي في اللعنة التابعة لهم إلى يوم القيامة ثم المصاحبة فهم في نار جهنم التي {لا يخفف عنهم العذاب} فيها أي لا ينقص عما هم فيه {ولا هم ينظرون} أي لا يغير عنهم ساعة واحدة ولا يفتر بل هو متواصل دائم فنعوذ بالله من ذلك. قال أبو العالية وقتادة إن الكافر يوقف يوم القيامة فيلعنه الله ثم تلعنه الملائكة, ثم يلعنه الناس أجمعون.
(فصل) لا خلاف في جواز لعن الكفار, وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن بعده من الأئمة, يلعنون الكفرة في القنوت وغيره, فأما الكافر المعين, فقد ذهب جماعة من العلماء إلى أنه لا يلعن لأنا لا ندري بما يختم الله له, واستدل بعضهم بالاَية {إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين} وقالت طائفة أخرى: بل يجوز لعن الكافر المعين, واختاره الفقيه أبو بكر بن العربي المالكي ولكنه احتج بحديث فيه ضعف, واستدل غيره بقوله عليه السلام في قصة الذي كان يؤتى به سكران فيحده, فقال رجل لعنه الله: ما أكثر ما يؤتى به, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله» فدل على أن من لا يحب الله ورسوله يلعن, والله أعلم.

** وَإِلَـَهُكُمْ إِلَـَهٌ وَاحِدٌ لاّ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ الرّحْمَـَنُ الرّحِيمُ
يخبر تعالى عن تفرده بالإلهية, أنه لاشريك له ولا عديل, له, بل هو الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا إله إلا هو, وأنه الرحمن الرحيم وقد تقدم تفسير هذين الاسمين في أول الفاتحة, وفي الحديث عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد بن السكن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, أنه قال «اسم الله الأعظم في هاتين الاَيتين {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم} و{الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم}» ثم ذكر الدليل على تفرده بالإلهية بخلق السموات والأرض وما فيهما وما بين ذلك مما ذرأ وبرأ من المخلوقات الدالة على وحدانيته, فقال:)