تفسير الطبري تفسير الصفحة 24 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 24
025
023
 الآية : 154
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاّ تَشْعُرُونَ }
يعنـي تعالـى ذكره: يا أيها الذين آمنوا استعينوا بـالصبر علـى طاعتـي فـي جهاد عدوّكم وترك معاصيّ وأداء سائر فرائضي علـيكم, ولا تقولوا لـمن يقتل فـي سبـيـل الله هو ميت, فإن الـميت من خـلقـي من سلبته حياته وأعدمته حواسه, فلا يـلتذّ لذّة ولا يدرك نعيـما فإن من قتل منكم ومن سائر خـلقـي فـي سبـيـلـي أحياء عندي فـي حياة ونعيـم وعيش هنـيّ ورزق سنـيّ, فرحين بـما آتـيتهم من فضلـي وحبوتهم به من كرامتـي. كما:
1813ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: بَلْ أحْيَاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ من ثمر الـجنّة ويجدون ريحها ولـيسوا فـيها.
1814ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
1815ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: وَلاَ تَقُولُوا لِـمَنْ يُقْتَلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ أمْوَاتٌ بَلْ أحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ كنّا نُـحَدّث أن أرواح الشهداء تعارف فـي طير بـيض يأكلن من ثمار الـجنة, وأن مساكنهم سدرة الـمنتهى, وأن للـمـجاهد فـي سبـيـل الله ثلاث خصال من الـخير: من قتل فـي سبـيـل الله منهم صار حيا مرزوقا, ومن غُلب آتاه الله أجرا عظيـما, ومن مات رزقه الله رزقا حسنا.
1816ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: وَلاَ تَقُولُوا لِـمَنْ يُقْتَلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ أمْوَاتٌ بَلْ أحْيَاءٌ قال: أرواح الشهداء فـي صور طير بـيض.
1817ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: وَلاَ تَقُولُوا لِـمَنْ يُقْتَلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ أمْوَاتٌ بَلْ أحْيَاءٌ فـي صور طير خضر يطيرون فـي الـجنّة حيث شاءوا منها يأكلون من حيث شاءوا.
1818ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا عثمان بن غياث, قال: سمعت عكرمة يقول فـي قوله: وَلاَ تَقُولُوا لِـمَنْ يُقْتَلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ أمْوَاتٌ بَلْ أحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ قال: أرواح الشهداء فـي طير خضر فـي الـجنّة.
فإن قال لنا قائل: وما فـي قوله: وَلاَ تَقُولُوا لِـمَنْ يُقْتَلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّه أمْوَاتٌ بَلْ أحْيَاءٌ من خصوصية الـخبر عن الـمقتول فـي سبـيـل الله الذي لـم يعم به غيره؟ وقد علـمت تظاهر الأخبـار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه وصف حال الـمؤمنـين والكافرين بعد وفـاتهم, فأخبر عن الـمؤمنـين أنهم يفتـح لهم من قبورهم أبواب إلـى الـجنة يشمون منها روحها, ويستعجلون الله قـيام الساعة, لـيصيروا إلـى مساكنهم منها ويجمع بـينهم وبـين أهالـيهم وأولادهم فـيها, وعن الكافرين أنهم يفتـح لهم من قبورهم أبواب إلـى النار ينظرون إلـيها ويصيبهم من نتنها ومكروهها, ويسلط علـيهم فـيها إلـى قـيام الساعة من يقمعهم فـيها, ويسألون الله فـيها تأخير قـيام الساعة حذارا من الـمصير إلـى ما أعدّ الله لهم فـيها مع أشبـاه ذلك من الأخبـار. وإذا كانت الأخبـار بذلك متظاهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, فما الذي خصّ به القتـيـل فـي سبـيـل الله مـما لـم يعم به سائر البشر غيره من الـحياة وسائر الكفـار والـمؤمنـين غيره أحياء فـي البرزخ, أما الكفـار فمعذّبون فـيه بـالـمعيشة الضّنْك, وأما الـمؤمنون فمنعمون بـالروح والريحان ونسيـم الـجنان؟
قـيـل: إن الذي خصّ الله به الشهداء فـي ذلك وأفـاد الـمؤمنـين بخبره عنهم تعالـى ذكره إعلامه إياهم أنهم مرزوقون من مآكل الـجنة ومطاعمها فـي برزخهم قبل بعثهم, ومنعمون بـالذي ينعم به داخـلوها بعد البعث من سائر البشر من لذيذ مطاعمها الذي لـم يطعمها الله أحدا غيرهم فـي برزخه قبل بعثه. فذلك هو الفضيـلة التـي فضلهم بها وخصهم بها من غيرهم, والفـائدة التـي أفـاد الـمؤمنـين بـالـخبر عنهم, فقال تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: وَلاَ تَـحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ أمْوَاتا بَلْ أحْيَاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِـمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ.
وبـمثل الذي قلنا جاء الـخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
1819ـ حدثنا أبو كريب قال: حدثنا عبد الرحيـم بن سلـيـمان, وعبدة بن سلـيـمان, عن مـحمد بن إسحاق, عن الـحارث بن فضيـل, عن مـحمود بن لبـيد, عن ابن عبـاس, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشّهَدَاءُ عَلَـى بـارِقٍ نَهْرٍ بِبـابِ الـجَنّةِ فِـي قُبّةٍ خَضْرَاءَ» وقال عبدةُ: «فِـي رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ, يَخْرُجُ عَلَـيْهِمْ رِزْقُهُمْ مِنَ الـجَنّةِ بُكْرَةً وَعَشِيّا».
1820ـ حدثنا أبو كريب قال: حدثنا جابر بن نوح, عن الإفريقـي, عن ابن بشار السلـمي أو أبـي بشار, شك أبو جعفر قال: أرواح الشهداء فـي قبـاب بـيض من قبـاب الـجنة فـي كل قبة زوجتان, رزقهم فـي كل يوم طلعت فـيه الشمس ثور وحوت, فأما الثور ففـيه طعم كل ثمرة فـي الـجنة, وأما الـحوت ففـيه طعم كل شراب فـي الـجنة.
فإن قال قائل: فإن الـخبر عما ذكرت أن الله تعالـى ذكره أفـاد الـمؤمنـين بخبره عن الشهداء من النعمة التـي خصهم بها فـي البرزخ غير موجود فـي قوله: وَلاَ تَقُولُوا لِـمَنْ يُقْتَلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ أمْوَاتٌ بَلْ أحْيَاءٌ وإنـما فـيه الـخبر عن حالهم أموات هم أم أحياء.
قـيـل: إن الـمقصود بذكر الـخبر عن حياتهم إنـما هو الـخبر عما هم فـيه من النعمة, ولكنه تعالـى ذكره لـما كان قد أنبأ عبـاده عما قد خصّ به الشهداء فـي قوله: وَلاَ تَـحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ أمْوَاتا بَلْ أحْيَاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُون وعلـموا حالهم بخبره ذلك, ثم كان الـمراد من الله تعالـى ذكره فـي قوله: وَلاَ تَقُولُوا لِـمَنْ يُقْتَلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ أمْوَاتٌ بَلْ أحْيَاءٌ نَهْيُ خَـلْقِه عن أن يقولوا للشهداء إنهم موتـى, ترك إعادة ذكر ما قد بـين لهم من خبرهم.
وأما قوله: وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ فإنه يعنـي به: ولكنكم لا ترونهم فتعلـموا أنهم أحياء, وإنـما تعلـمون ذلك بخبري إياكم به. وإنـما رفع قوله: «أموات» بإضمار مكنـيّ عن أسماء من يقتل فـي سبـيـل الله.
ومعنى ذلك: ولا تقولوا لـمن يقتل فـي سبـيـل الله هم أموات. ولا يجوز النصب فـي الأموات, لأن القول لا يعمل فـيهم. وكذلك قوله: «بل أحياء», رفع بـمعنى أنهم أحياء.
الآية : 155
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَنَبْلُوَنّكُمْ بِشَيْءٍ مّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ الأمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثّمَرَاتِ وَبَشّرِ الصّابِرِينَ }
وهذا إخبـار من الله تعالـى ذكره أتبـاع رسوله صلى الله عليه وسلم أنه مبتلـيهم ومـمتـحنهم بشدائد من الأمور لـيعلـم من يتبع الرسول مـمن ينقلب علـى عقبـيه, كما ابتلاهم فـامتـحنهم بتـحويـل القبلة من بـيت الـمقدس إلـى الكعبة, وكما امتـحن أصفـياءه قبلهم, ووعدهم ذلك فـي آية أخرى فقال لهم: أمْ حَسِبْتُـمْ أنْ تَدْخُـلُوا الـجَنّةَ وَلَـمّا يَأتِكُمْ مَثَلُ الّذِينَ خَـلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسّتْهُمُ البأساءُ والضّرّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتّـى يَقُولَ الرّسُولُ وَالّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَـى نَصْرُ اللّهِ ألا إنّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك كان ابن عبـاس وغيره يقول.
1821ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: حدثنـي معاوية, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس قوله: وَلَنَبْلُوَنّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الـخَوْفِ والـجُوعِ ونـحو هذا, قال: أخبر الله الـمؤمنـين أن الدنـيا دار بلاء, وأنه مبتلـيهم فـيها, وأمرهم بـالصبر وبشرهم, فقال: وَبَشّرِ الصّابِرِينَ ثم أخبرهم أنه فعل هكذا بأنبـيائه وصفوته لتطيب أنفسهم, فقال: مَسّتْهُم البَأْسَاءُ والضّرّاءُ وزُلْزِلُوا.
ومعنى قوله: وَلَنَبْلُوَنّكُمْ: ولنـختبرنكم. وقد أتـينا علـى البـيان عن أن معنى الابتلاء الاختبـار فـيـما مضى قبل.
وقوله: بِشَيْءٍ مِنَ الـخَوْفِ يعنـي من الـخوف من العدوّ وبـالـجوع, وهو القحط. يقول: لنـختبرنكم بشيء من خوف ينالكم من عدوّكم وبسَنَة تصيبكم ينالكم فـيها مـجاعة وشدة وتعذر الـمطالب علـيكم فتنقص لذلك أموالكم, وحروب تكون بـينكم وبـين أعدائكم من الكفـار, فـينقص لها عددكم, وموت ذراريكم وأولادكم, وجدوب تـحدث, فتنقص لها ثماركم. كل ذلك امتـحان منـي لكم واختبـار منـي لكم, فـيتبـين صادقوكم فـي إيـمانهم من كاذبـيكم فـيه, ويعرف أهل البصائر فـي دينهم منكم من أهل النفـاق فـيه والشكّ والارتـياب. كل ذلك خطاب منه لأتبـاع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. كما:
1822ـ حدثنـي هارون بن إدريس الكوفـي الأصمّ, قال: حدثنا عبد الرحمَن بن مـحمد الـمـحاربـي, عن عبد الـملك عن عطاء فـي قوله: وَلَنَبْلُوَنّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الـخَوْفِ والـجُوعِ قال: هم أصحاب مـحمد صلى الله عليه وسلم.
وإنـما قال تعالـى ذكره: بِشَيْءٍ مِنَ الـخَوْفِ ولـم يقل «بأشياء» لاختلاف أنواع ما أعلـم عبـاده أنه مـمتـحنهم به. فلـما كان ذلك مختلفـا وكانت «مِن» تدلّ علـى أن كل نوع منها مضمر (فـي) شيء وأن معنى ذلك: ولنبلونكم بشيء من الـخوف وبشيء من الـجوع وبشيء من نقص الأموال. اكتفـى بدلالة ذكر الشيء فـي أوله من إعادته مع كل نوع منها. ففعل تعالـى ذكره كل ذلك بهم وامتـحنهم بضروب الـمـحن. كما:
1823ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: وَلَنَبْلُوَنّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الـخَوْفِ والـجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ والأنْفُسِ والثّمَرَاتِ قال: قد كان ذلك, وسيكون ما هو أشدّ من ذلك. قال الله عند ذلك: وَبَشّرِ الصّابِرِينَ الّذِينَ إذَا أصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إنّا لِلّهِ وَإنّا إلَـيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَـيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبّهِمْ وَرَحْمَةٌ وأُولَئِكَ هُمُ الـمُهْتَدُونَ. ثم قال تعالـى ذكره لنبـيه صلى الله عليه وسلم: يا مـحمد بشر الصابرين علـى امتـحانـي بـما أمتـحنهم به, والـحافظين أنفسهم عن التقدم علـى نهيـي عما أنهاهم عنه, والاَخذين أنفسهم بأداء ما أكلفهم من فرائضي مع ابتلائي إياهم بـما ابتلـيتهم به القائلـين إذا أصابتهم مصيبة: إنا لله وإنا إلـيه راجعون. فأمره الله تعالـى ذكره بأن يخصّ بـالبشارة علـى ما يـمتـحنهم به من الشدائد أهل الصبر الذين وصف الله صفتهم. وأصل التبشير: إخبـار الرجل الرجل الـخبر يسرّه أو يسوءه لـم يسبقه به إلـيه غيره.
الآية : 156
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنّا للّهِ وَإِنّـآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ }
يعنـي تعالـى ذكره: وبشر يا مـحمد الصابرين, الذين يعلـمون أن جميع ما بهم من نعمة فمنـي, فـيقرّون بعبوديتـي, ويوحدوننـي بـالربوبـية, ويصدّقون بـالـمعاد والرجوع إلـيّ فـيستسلـمون لقضائي, ويرجون ثوابـي ويخافون عقابـي, ويقولون عند امتـحانـي إياهم ببعض مـحنـي, وابتلائي إياهم بـما وعدتهم أن أبتلـيهم به من الـخوف والـجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات وغير ذلك من الـمصائب التـي أنا مـمتـحنهم بها. إنا مـمالـيك ربنا ومعبودنا أحياء ونـحن عبـيده وإنا إلـيه بعد مـماتنا صائرون تسلـيـما لقضائي ورضا بأحكامي.
الآية : 157
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أُولَـَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مّن رّبّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ }
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: أُولَئِكَ هؤلاء الصابرون الذين وصفهم ونعتهم علـيهم, يعنـي لهم صلوات يعنـي مغفرة. وصلوات الله علـى عبـاده: غفرانه لعبـاده, كالذي رُوي عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اللّهُمّ صَلّ علـى آل أبـي أوْفَـى» يعنـي اغفر لهم. وقد بـينا الصلاة وما أصلها فـي غير هذا الـموضع.
وقوله: وَرَحْمَةٌ يعنـي ولهم مع الـمغفرة التـي بها صفح عن ذنوبهم وتغمدها رحمة من الله ورأفة.
ثم أخبر تعالـى ذكره مع الذي ذكر أنه معطيهم علـى اصطبـارهم علـى مـحنه تسلـيـما منهم لقضائه من الـمغفرة والرحمة أنهم هم الـمهتدون الـمصيبون طريق الـحقّ والقائلون ما يرضى عنهم والفـاعلون ما استوجبوا به من الله الـجزيـل من الثواب. وقد بـينا معنى الاهتداء فـيـما مضى فإنه بـمعنى الرشد بـالصواب. وبـمعنى ما قلنا فـي ذلك قال جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
1824ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال حدثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس فـي قوله: الّذِينَ إذَا أصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إنّا لِلّهِ وإنّا إلَـيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَـيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الـمُهْتَدُونَ قال: أخبر الله أن الـمؤمن إذا سلـم الأمر إلـى الله ورجع واسترجع عند الـمصيبة, كتب له ثلاث خصال من الـخير: الصلاة من الله, والرحمة, وتـحقـيق سبـيـل الهدى. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ اسْتَرْجَعَ عِنْدَ الـمُصِيبَةِ جَبَرَ اللّهُ مُصِيبَتَهُ, وأحْسَنَ عُقْبَـاهُ, وَجَعَلَ لَهُ خَـلَفـا صَالِـحا يَرْضَاهُ».
1825ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: أُولَئِكَ عَلَـيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبّهِمْ وَرَحْمَةٌ يقول: الصلوات والرحمة علـى الذين صبروا واسترجعوا.
1826ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن سفـيان العصفري, عن سعيد بن جبـير, قال: ما أعطي أحد ما أعطيت هذه الأمة: الّذِينَ إذَا أصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إنّا لِلّهِ وإنّا إلَـيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَـيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبّهِمْ وَرَحْمَةٌ ولو أعطيها أحد لأُعطيها يعقوب علـيه السلام, ألـم تسمع إلـى قوله: يا أسَفَـى عَلَـى يُوسُفَ.
الآية : 158
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ الصّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطّوّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوّعَ خَيْراً فَإِنّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ }
والصفـا: جمع صفـاة, وهي الصخرة الـملساء, ومنه قول الطرمّاح:
أبَى لـي ذُو القُوى والطّول ألاّيُؤَبّسَ حافِرٌ أبْدا صَفـاتِـي
وقد قالوا إن الصفـا واحد, وأنه يثنى صَفَوان, ويجمع أصفـاء وصُفِـيّا وصِفِـيّا واستشهدوا علـى ذلك بقول الراجز:
كأنّ مَتْنَـيْهِ مِنَ النّفِـيّمَوَاقِعُ الطّيْرِ علـى الصُفِـيّ
وقالوا: هو نظير عصا وعُصيّ ورحا ورُحيّ وأرحاء. وأما الـمروة فإنها الـحصاة الصغيرة يجمع قلـيـلها مروات, وكثـيرها الـمرو مثل تـمرة وتـمرات وتـمر. قال الأعشى ميـمون بن قـيس:
وَتَرَى بـالأرْضِ خُفّـا زائِلاًفإذَا ما صَادَفَ الـمَرْوَ رَضَحْ
يعنـي بـالـمرو: الصخر الصغار. ومن ذلك قول أبـي ذؤيب الهذلـي:
حتـى كأنـي للـحَوَادِثِ مَرْوَةٌبصفَـا الـمُشَرّق كلّ يَوْمٍ تُقْرَعُ
ويقال «الـمشقّر». وإنـما عنى الله تعالـى ذكره بقوله: إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ فـي هذا الـموضع: الـجبلـين الـمسميـين بهذين الاسمين اللذين فـي حرمه دون سائر الصفـا والـمرو ولذلك أدخـل فـيهما الألف واللام, لـيعلـم عبـاده أنه عنى بذلك الـجبلـين الـمعروفـين بهذين الاسمين دون سائر الأصفـاء والـمرو.
وأما قوله: مِنْ شَعَائِرِ اللّهِ فإنه يعنـي من معالـم الله التـي جعلها تعالـى ذكره لعبـاده معلـما ومشعرا يعبدونه عندها, إما بـالدعاء وإما بـالذكر وإما بأداء ما فرض علـيهم من العمل عندها ومنه قول الكميت:
نُقَتّلُهُمْ جِيلاً فجِيلاً تَرَاهُمُشَعَائِرَ قُرْبـانٍ بِهِمْ يُتَقَرّبُ
وكان مـجاهد يقول فـي الشعائر بـما:
1827ـ حدثنـي به مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّهِ قال: من الـخبر الذي أخبركم عنه.
1828ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد مثله. فكأنّ مـجاهدا كان يرى أن الشعائر إنـما هو جمع شعيرة من إشعار الله عبـاده أمر الصفـا والـمروة وما علـيهم فـي الطواف بهما, فمعناه إعلامهم ذلك وذلك تأويـل من الـمفهوم بعيد.
وإنـما أعلـم الله تعالـى ذكره بقوله: إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّهِ عبـاده الـمؤمنـين أن السعي بـينهما من مشاعر الـحجّ التـي سنّها لهم, وأمر بها خـلـيـله إبراهيـم صلى الله عليه وسلم, إذ سأله أن يريه مناسك الـحج. وذلك وإن كان مخرجه مخرج الـخبر, فإنه مراد به الأمر لأن الله تعالـى ذكره قد أمر نبـيه مـحمدا صلى الله عليه وسلم بـاتبـاع ملة إبراهيـم علـيه السلام, فقال له: ثم أوْحَيْنَا إلـيكَ أن اتّبِعْ مِلّةَ إبْرَاهِيـمَ حَنِـيفـا وجعل تعالـى ذكره إبراهيـم إماما لـمن بعده. فإذا كان صحيحا أن الطواف والسعي بـين الصفـا والـمروة من شعائر الله ومن مناسك الـحج, فمعلوم أن إبراهيـم صلى الله عليه وسلم قد عمل به وسنّه لـمن بعده, وقد أمر نبـينا صلى الله عليه وسلم أمته بـاتبـاعه, فعلـيهم العمل بذلك علـى ما بـينه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَمَنْ حَجّ البَـيْتَ أوِ اعْتَـمَرَ.
يعنـي تعالـى ذكره: فَمَنْ حَجّ البَـيْتَ فمن أتاه عائدا إلـيه بعد بدء, وكذلك كل من أكثر الاختلاف إلـى شيء فهو حاجّ إلـيه ومنه قول الشاعر:
وأشْهَدَ مِنْ عَوْفٍ حُلُولاً كَثِـيرَةًيَحُجّونَ بَـيْتَ الزّبْرَقانِ الـمُزَعْفَرَا
يعنـي بقوله يحجون: يكثرون التردّد إلـيه لسؤدده ورياسته. وإنـما قـيـل للـحاج حاج لأنه يأتـي البـيت قبل التعريف, ثم يعود إلـيه لطواف يوم النـحر بعد التعريف, ثم ينصرف عنه إلـى منى, ثم يعود إلـيه لطواف الصدر, فلتكراره العود إلـيه مرّة بعد أخرى قـيـل له حاجّ. وأما الـمعتـمر فإنـما قـيـل له معتـمر لأنه إذا طاف به انصرف عنه بعد زيارته إياه. وإنـما يعنـي تعالـى ذكره بقوله: أوِ اعْتَـمَرَ أو اعتـمر البـيت, ويعنـي بـالاعتـمار الزيارة, فكل قاصد لشيء فهو له معتـمر ومنه قول العجاج:
لَقَدْ سَمَا ابْنُ مَعْمَرٍ حِينَ اعْتَـمَرْمَغْزًى بَعِيدا مِنْ بَعِيدٍ وضَبَرْ
يعنـي بقوله «حين اعتـمر»: حين قصده وأمه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ أنْ يَطّوّفَ بِهِما.
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ أنْ يَطّوّفَ بِهِما يقول: فلا خرج علـيه ولا مأثم فـي طوافه بهما.
فإن قال قائل: وما وجه هذا الكلام, وقد قلت لنا إن قوله: إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّه وإن كان ظاهره ظاهر الـخبر فإنه فـي معنى الأمر بـالطواف بهما؟ فكيف يكون أمرا بـالطواف, ثم يقال: لا جناح علـى من حجّ البـيت أو اعتـمر فـي الطواف بهما؟ وإنـما يوضع الـجناح عمن أتـى ما علـيه بإتـيانه الـجناح والـحرج, والأمر بـالطواف بهما, والترخيص فـي الطواف بهما غير جائز اجتـماعهما فـي حال واحدة؟ قـيـل: إن ذلك بخلاف ما إلـيه ذهب, وإنـما معنى ذلك عند أقوام أن النبـي صلى الله عليه وسلم لـما اعتـمر عمرة القضية تـخوّف أقوام كانوا يطوفون بهما فـي الـجاهلـية قبل الإسلام لصنـمين كانا علـيهما تعظيـما منهم لهما فقالوا: وكيف نطوف بهما, وقد علـمنا أن تعظيـم الأصنام وجميع ما كان يعبد من ذلك من دون الله شرك؟ ففـي طوافنا بهذين الـحجرين أحد ذلك, لأن الطواف بهما فـي الـجاهلـية إنـما كان للصنـمين اللذين كانا علـيهما, وقد جاء الله بـالإسلام الـيوم ولا سبـيـل إلـى تعظيـم شيء مع الله بـمعنى العبـادة له. فأنزل الله تعالـى ذكره فـي ذلك من أمرهم: إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّهِ يعنـي أن الطواف بهما, فترك ذكر الطواف بهما اكتفـاء بذكرهما عنه. وإذ كان معلوما عند الـمخاطبـين به أن معناه: من معالـم الله التـي جعلها علـما لعبـاده يعبدونه عندهما بـالطواف بـينهما ويذكرونه علـيهما وعندهما بـما هو له أهل من الذكر, فمن حجّ البـيت أو اعتـمر فلا يتـخوّفن الطواف بهما, من أجل ما كان أهل الـجاهلـية يطوفون بهما, من أجل الصنـمين اللذين كانا علـيهما, فإن أهل الشرك كانوا يطوفون بهما كفرا, وأنتـم تطوفون بهما إيـمانا وتصديقا لرسولـي وطاعة لأمري, فلا جناح علـيكم فـي الطواف بهما. والـجناح: الإثم. كما:
1829ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ أنْ يَطّوفَ بِهِما يقول: لـيس علـيه إثم ولكن له أجر.
وبـمثل الذي قلنا فـي ذلك تظاهرت الرواية عن السلف من الصحابة والتابعين. ذكر الأخبـار التـي رويت بذلك:
1830ـ حدثنا مـحمد بن عبد الـملك بن أبـي الشوارب, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا داود, عن الشعبـي: أن وثنا كان فـي الـجاهلـية علـى الصفـا يسمى إسافـا, ووثنا علـى الـمروة يسمى نائلة فكان أهل الـجاهلـية إذا طافوا بـالبـيت مسحوا الوثنـين فلـما جاء الإسلام وكسرت الأوثان, قال الـمسلـمون: إن الصفـا والـمروة إنـما كان يطاف بهما من أجل الوثنـين, ولـيس الطواف بهما من الشعائر. قال: فأنزل الله: إنهما من الشعائر فَمَنْ حَجّ البَـيْتَ أو اعْتَـمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ أنْ يَطّوفَ بِهِما.
1831ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا عبد الوهاب, قال: حدثنا داود, عن عامر, قال: كان صنـم بـالصفـا يدعى إسافـا, ووثن بـالـمروة يدعى نائلة. ثم ذكر نـحو حديث ابن أبـي الشوارب, وزاد فـيه, قال: فذكّر الصفـا من أجل الوثن الذي كان علـيه, وأنّث الـمروة من أجل الوثن الذي كان علـيه مؤنثا.
1832ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا ابن علـية, عن داود بن أبـي هند, عن الشعبـي, وذكر نـحو حديث ابن أبـي الشوارب, عن يزيد, وزاد فـيه, قال: فجعله الله تطوّع خير.
1833ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن أبـي زائدة, قال: أخبرنـي عاصم الأحول, قال: قلت لأنس بن مالك: أكنتـم تكرهون الطواف بـين الصفـا والـمروة حتـى نزلت هذه الآية؟ فقال: نعم كنا نكره الطواف بـينهما لأنهما من شعائر الـجاهلـية حتـى نزلت هذه الآية: إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّهِ.
1834ـ حدثنـي علـيّ بن سهل الرملـي, قال: حدثنا مؤمل بن إسماعيـل, قال: حدثنا سفـيان, عن عاصم, قال: سألت أنسا عن الصفـا والـمروة, فقال: كانتا من مشاعر الـجاهلـية, فلـما كان الإسلام أمسكوا عنهما, فنزلت: إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّهِ.
1835ـ حدثنـي عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث, قال: حدثنـي أبو الـحسين الـمعلـم, قال: حدثنا سنان أبو معاوية, عن جابر الـجعفـي, عن عمرو بن حبشي, قال: قلت لابن عمر: إن الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجّ البَـيْتَ أو اعْتَـمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ أنْ يَطّوفَ بِهِما قال: انطلق إلـى ابن عبـاس فـاسأله, فإنه أعلـم من بقـي بـما أنزل علـى مـحمد صلى الله عليه وسلم فأتـيته فسألته, فقال: إنه كان عندهما أصنام, فلـما حرّمن أمسكوا عن الطواف بـينهما حتـى أنزلت: إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجّ البَـيْتَ أو اعْتَـمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ أنْ يَطّوّفَ بِهِما.
1836ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: حدثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة عن ابن عبـاس قوله: إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّه وذلك أن ناسا كانوا يتـحرّجون أن يطوفوا بـين الصفـا والـمروة, فأخبر الله أنهما من شعائره, والطواف بـينهما أحب إلـيه, فمضت السنّة بـالطواف بـينهما.
1837ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجّ البَـيْتَ أو اعْتَـمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ أنْ يَطّوّفَ بِهِما قال: زعم أبو مالك عن ابن عبـاس أنه كان فـي الـجاهلـية شياطين تعزف اللـيـل أجمع بـين الصفـا والـمروة, وكانت بـينهما آلهة, فلـما جاء الإسلام وظهر, قال الـمسلـمون: يا رسول الله لا نطوف بـين الصفـا والـمروة, فإنه شرك كنا نفعله فـي الـجاهلـية فأنزل الله: فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ أنْ يَطّوّفَ بِهِما.
1838ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا ابن علـية, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّه قال: قالت الأنصار: إن السعي بـين هذين الـحجرين من أمر الـجاهلـية. فأنزل الله تعالـى ذكره: إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّهِ.
1839ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد نـحوه.
1840ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ أنْ يَطّوّفَ بِهِما قال: كان أهل الـجاهلـية قد وضعوا علـى كل واحد منهما صنـما يعظمونهما فلـما أسلـم الـمسلـمون كرهوا الطواف بـالصفـا والـمروة لـمكان الصنـمين, فقال الله تعالـى: إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجّ البَـيْتَ أو اعْتَـمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ أنْ يَطّوّفَ بِهِما وقرأ: وَمَنْ يُعَظّمْ شَعَائِرَ اللّه فإنّها مِنْ تَقْوَى القُلُوب وسنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بهما.
1841ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن عاصم, قال: قلت لأنس: الصفـا والـمروة أكنتـم تكرهون أن تطوفوا بهما مع الأصنام التـي نهيتـم عنها؟ قال: نعم حتـى نزلت: إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّهِ.
1842ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, قال: أخبرنا عاصم, قال: سمعت أنس بن مالك يقول: إن الصفـا والـمروة من مشاعر قريش فـي الـجاهلـية, فلـما كان الإسلام تركناهما.
وقال آخرون: بل أنزل الله تعالـى ذكره هذه الآية فـي سبب قوم كانوا فـي الـجاهلـية لا يسعون بـينهما, فلـما جاء الإسلام تـخوفوا السعي بـينهما كما كانوا يتـخوّفونه فـي الـجاهلـية. ذكر من قال ذلك:
1843ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة قوله: إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّهِ الآية, فكان حيّ من تهامة فـي الـجاهلـية لا يسعون بـينهما, فأخبرهم الله أن الصفـا والـمروة من شعائر الله, وكان من سنة إبراهيـم وإسماعيـل الطواف بـينهما.
1844ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, قال: كان ناس من أهل تهامة لا يطوفون بـين الصفـا والـمروة, فأنزل الله: إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّهِ.
1845ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح قال: حدثنـي اللـيث, قال: حدثنـي عقـيـل, عن ابن شهاب, قال: حدثنـي عروة بن الزبـير, قال: سألت عائشة فقلت لها: أرأيت قول الله: إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجّ البَـيْتَ أو اعْتَـمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ أنْ يَطّوّفَ بِهِما؟ وقلت لعائشة: والله ما علـى أحد جناح أن لا يطوف بـالصفـا والـمروة فقالت عائشة: بئس ما قلت يا ابن أختـي, إن هذه الآية لو كانت كما أوّلتها كانت لا جناح علـيه أن لا يطوّف بهما, ولكنها إنـما أنزلت فـي الأنصار كانوا قبل أن يسلـموا يهلّون لـمناة الطاغية التـي كانوا يعبدون بـالـمشلّل, وكان من أهلّ لها يتـحرّج أن يطوف بـين الصفـا والـمروة, فلـما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك, فقالوا: يا رسول الله إنا كنا نتـحرّج أن نطوف بـين الصفـا والـمروة أنزل الله تعالـى ذكره: إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجّ البَـيْتَ أو اعْتَـمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ أنْ يَطّوّفَ بِهِما. قالت عائشة: ثم قد سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بـينهما, فلـيس لأحد أن يترك الطواف بـينهما.
1846ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر, عن الزهري, عن عروة, عن عائشة, قالت: كان رجال من الأنصار مـمن يهلّ لـمناة فـي الـجاهلـية ومناة صنـم بـين مكة والـمدينة, قالوا: يا نبـيّ الله إنا كنا لا نطوف بـين الصفـا والـمروة تعظيـما لـمناة, فهل علـينا من حرج أن نطوف بهما؟ فأنزل الله تعالـى ذكره: إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجّ البَـيْتَ أوِ اعْتَـمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ أنْ يَطّوّفَ بِهِما. قال عروة: فقلت لعائشة: ما أبـالـي أن لا أطوف بـين الصفـا والـمروة, قال الله: فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ قالت: يا ابن أختـي ألا ترى أنه يقول: إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّهِ؟ قال الزهري: فذكرت ذلك لأبـي بكر بن عبد الرحمَن بن الـحارث بن هشام, فقال: هذا العلـم قال أبو بكر: ولقد سمعت رجالاً من أهل العلـم يقولون: لـما أنزل الله الطواف بـالبـيت ولـم ينزل الطواف بـين الصفـا والـمروة, قـيـل للنبـي صلى الله عليه وسلم: إنا كنا نطوف فـي الـجاهلـية بـين الصفـا والـمروة, وإن الله قد ذكر الطواف بـالبـيت, ولـم يذكر الطواف بـين الصفـا والـمروة, فهل علـينا من حرج أن لا نطوف بهما؟ فأنزل الله تعالـى ذكره: إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّهِ الآية كلها. قال أبو بكر: فأسمع أن هذه الآية نزلت فـي الفريقـين كلـيهما فـيـمن طاف وفـيـمن لـم يطف.
1847ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, قال: كان ناس من أهل تهامة لا يطوفون بـين الصفـا والـمروة, فأنزل الله: إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّهِ.
والصواب من القول فـي ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالـى ذكره قد جعل الطواف بـين الصفـا والـمروة من شعائر الله, كما جعل الطواف بـالبـيت من شعائره. فأما قوله: فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ أنْ يَطّوّفَ بِهِما فجائز أن يكون قـيـل لكلا الفريقـين اللذين تـخوّف بعضهم الطواف بهما من أجل الصنـمين اللذين ذكرهما الشعبـي, وبعضهم من أجل ما كان من كراهتهم الطواف بهما فـي الـجاهلـية علـى ما روي عن عائشة. وأيّ الأمرين كان من ذلك فلـيس فـي قول الله تعالـى ذكره: فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ أنْ يَطّوّفَ بِهِما الآية, دلالة علـى أنه عنى به وضع الـحرج عمن طاف بهما, من أجل أن الطواف بهما كان غير جائز بحظر الله ذلك ثم جعل الطواف بهما رخصة لإجماع الـجميع, علـى أن الله تعالـى ذكره لـم يحظر ذلك فـي وقت, ثم رخص فـيه بقوله: فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ أنْ يَطّوّفَ بِهِما.
وإنـما الاختلاف فـي ذلك بـين أهل العلـم علـى أوجه فرأى بعضهم أن تارك الطواف بـينهما تارك من مناسك حجه ما لا يجزيه منه غير قضائه بعينه, كما لا يجزي تارك الطواف الذي هو طواف الإفـاضة إلا قضاؤه بعينه, وقالوا: هما طوافـان أمر الله بأحدهما بـالبـيت, والاَخر بـين الصفـا والـمروة.
ورأى بعضهم أن تارك الطواف بهما يجزيه من تركه فدية, ورأوا أن حكم الطواف بهما حكم رمي بعض الـجمرات, والوقوف بـالـمشعر, وطواف الصّدَر, وما أشبه ذلك مـما يجزي تاركه من تركه فدية ولا يـلزمه العود لقضائه بعينه.
ورأى آخرون أن الطواف بهما تطوّع, إن فعله صاحبه كان مـحسنا, وإن تركه تارك لـم يـلزمه بتركه شيء. والله تعالـى أعلـم.
ذكر من قال: إن السعي بـين الصفـا والـمروة واجب ولا يجزي منه فدية ومن تركه فعلـيه العودة.
1848ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن هشام بن عروة, عن أبـيه, عن عائشة قالت: لعمري ما حجّ من لـم يَسْعَ بـين الصفـا والـمروة, لأن الله قال: إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّهِ.
1849ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال مالك بن أنس: من نسي السعي بـين الصفـا والـمروة حتـى يستبعد من مكة فلـيرجع فلـيسع, وإن كان قد أصاب النساء فعلـيه العمرة والهدي. وكان الشافعي يقول: علـى من ترك السعي بـين الصفـا والـمروة حتـى رجع إلـى بلده العَوْد إلـى مكة حتـى يطوف بـينهما لا يجزيه غير ذلك. حدثنا بذلك عنه الربـيع.
ذكر من قال: يجزى منه دم ولـيس علـيه عود لقضائه: قال الثوري بـما:
1850ـ حدثنـي به علـيّ بن سهل, عن زيد بن أبـي الزرقاء عنه, وأبو حنـيفة, وأبو يوسف, ومـحمد: إن عاد تارك الطواف بـينهما لقضائه فحسن, وإن لـم يعد فعلـيه دم.
ذكر من قال: الطواف بـينهما تطوّع ولا شيء علـى من تركه, ومن كان يقرأ: فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ أنْ لاَ يَطّوّفَ بِهِما.
1851ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا ابن جريج, قال: قال عطاء: لو أن حاجّا أفـاض بعدما رمى جمرة العقبة فطاف بـالبـيت ولـم يسع, فأصابها يعنـي امرأته لـم يكن علـيه شيء, لا حجّ ولا عمرة من أجل قول الله فـي مصحف ابن مسعود: «فَمَنْ حَجّ البَـيْتَ أوِ اعْتَـمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ أنْ لاَ يَطّوّفَ بِهِما» فعاودته بعد ذلك, فقلت: إنه قد ترك سنة النبـيّ صلى الله عليه وسلم, قال: ألا تسمعهُ يقول: فمن تطوع خيرا, فأبى أن يجعل علـيه شيئا؟
1852ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا عبد الـملك, عن عطاء, عن ابن عبـاس أنه كان يقرأ: إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّهِ الآية, «فلا جناح علـيه أن لا يطوف بهما».
1853ـ حدثنـي علـيّ بن سهل, قال: حدثنا مؤمل, قال: حدثنا سفـيان, عن عاصم, قال سمعت أنسا يقول: الطواف بـينهما تطوّع.
1854ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا حجاج, قال: حدثنا حماد, قال: أخبرنا عاصم الأحول, قال: قال أنس بن مالك: هما تطوّع.
1855ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد نـحوه.
1856ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجّ البَـيْتَ أوِ اعْتَـمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ أنْ يَطّوّفَ بِهِما قال: فلـم يُحرّجْ من لـم يطف بهما.
1857ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا حجاج, قال: حدثنا أحمد, عن عيسى بن قـيس, عن عطاء, عن عبد الله بن الزبـير, قال: هما تطوّع.
1858ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن عاصم, قال: قلت لأنس بن مالك: السعي بـين الصفـا والـمروة تطوع؟ قال: تطوّع.
والصواب من القول فـي ذلك عندنا أن الطواف بهما فرض واجب, وأن علـى من تركه العود لقضائه ناسيا كان أو عامدا لأنه لا يجزيه غير ذلك, لتظاهر الأخبـار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حجّ بـالناس فكان مـما علـمهم من مناسك حجهم الطواف بهما. ذكر الرواية عنه بذلك:
1859ـ حدثنـي يوسف بن سلـمان, قال: حدثنا حاتـم بن إسماعيـل, قال: حدثنا جعفر بن مـحمد, عن أبـيه, عن جابر قال: لـما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصفـا فـي حجه, قال: «إنّ الصّفـا وَالـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّهِ ابْدَءُوا بِـمَا بَدأ اللّهُ بِذِكْرِه» فبدأ بـالصفـا فرقـي علـيه.
1860ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا مـحمود بن ميـمون أبو الـحسن, عن أبـي بكر بن عياش, عن ابن عطاء عن أبـيه, عن ابن عبـاس: أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّهِ», فأتـى الصفـا فبدأ بها, فقام علـيها, ثم أتـى الـمروة فقام علـيها وطاف وسعى.
فإذا كان صحيحا بإجماع الـجميع من الأمة أن الطواف بهما علـى تعلـيـم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته فـي مناسكهم وعمله فـي حجه وعمرته, وكان بـيانه صلى الله عليه وسلم لأمته جمل ما نصّ الله فـي كتابه وفَرَضه فـي تنزيـله, وأمر به مـما لـم يدرك علـمه إلا ببـيانه لازما العمل به أمته كما قد بـينا فـي كتابنا «كتاب البـيان عن أصول الأحكام» إذا اختلفت الأمة فـي وجوبه, ثم كان مختلفـا فـي الطواف بـينهما هل هو واجب أو غير واجب كان بـيّنا وجوب فرضه علـى من حجّ أو اعتـمر لـما وصفنا, وكذلك وجوب العود لقضاء الطواف بـين الصفـا والـمروة, لـما كان مختلفـا فـيـما علـى من تركه مع إجماع جميعهم, علـى أن ذلك مـما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلـمه أمته فـي حجهم وعمرتهم إذ علـمهم مناسك حجهم, كما طاف بـالبـيت وعلـمه أمته فـي حجهم وعمرتهم, إذ علـمهم مناسك حجهم وعمرتهم, وأجمع الـجميع علـى أن الطواف بـالبـيت لا تـجزي منه فدية ولا بدل, ولا يجزي تاركه إلا العود لقضائه كان نظيرا له الطواف بـالصفـا والـمروة, ولا تـجزي منه فدية ولا جزاء, ولا يجزي تاركه إلا العود لقضائه, إذ كانا كلاهما طوافـين أحدهما بـالبـيت والاَخر بـالصفـا والـمروة. ومن فرّق بـين حكمهما عكس علـيه القول فـيه, ثم سئل البرهان علـى التفرقة بـينهما, فإن اعتلّ بقراءة من قرأ: فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ أنْ لاَ يَطّوّفَ بِهِما قـيـل: ذلك خلاف ما فـي مصاحف الـمسلـمين, غير جائز لأحد أن يزيد فـي مصاحفهم ما لـيس فـيها. وسواء قرأ ذلك كذلك قارىء, أو قرأ قارىء: ثُمّ لْـيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ولْـيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْـيَطّوّفُوا بِـالْبَـيْتِ العَتِـيق فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ أنْ لاَ يَطّوّفُوا بِهِ. فإن جاءت إحدى الزيادتـين اللتـين لـيستا فـي الـمصحف كانت الأخرى نظيرتها, وإلا كان مـجيز إحداهما إذا منع الأخرى متـحكما, والتـحكم لا يعجز عنه أحد. وقد رُوي إنكار هذه القراءة وأن يكون التنزيـل بها عن عائشة.
1861ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنـي مالك بن أنس, عن هشام بن عروة, عن أبـيه, قال: قلت لعائشة زوج النبـيّ صلى الله عليه وسلم وأنا يومئذ حديث السنّ: أرأيت قول الله عزّ وجل: إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجّ البَـيْتَ أو اعْتَـمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ أنْ يَطّوّفَ بِهِما فما نرى علـى أحد شيئا أن لا يطوف بهما؟ فقالت عائشة: كلا لو كانت كما تقول كانت «فلا جناح علـيه أن لا يطوف بهما», إنـما أنزلت هذه الآية فـي الأنصار كانوا يهلون لـمناة وكانت مناة حذو قديد, وكانوا يتـحرّجون أن يطوفوا بـين الصفـا والـمروة فلـما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك, فأنزل الله: إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجّ البَـيْتَ أوِ اعْتَـمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ أنْ يَطّوفَ بِهِما.
وقد يحتـمل قراءة من قرأ: «فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ أنْ لاَ يَطّوّفَ بِهِما» أن تكون «لا» التـي مع «أن» صلة فـي الكلام, إذ كان قد تقدمها جحد فـي الكلام قبلها, وهو قوله: فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ, فـيكون نظير قول الله تعالـى ذكره: قَالَ مَا مَنَعَكَ أنْ لاَ تَسْجُدَ إذْ أمَرْتُكَ بـمعنى ما منعك أن تسجد, وكما قال الشاعر:
ما كانَ يَرْضَى رَسُولُ اللّهِ فِعْلَهُماوالطّيّبـان أبُو بَكْرٍ وَلا عُمَرُ
ولو كان رسم الـمصحف كذلك لـم يكن فـيه لـمـحتـجّ حجة مع احتـمال الكلام ما وصفنا لـما بـينا أن ذلك مـما علّـم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته فـي مناسكهم علـى ما ذكرنا, ولدلالة القـياس علـى صحته, فكيف وهو خلاف رسوم مصاحف الـمسلـمين, ومـما لو قرأه الـيوم قارىء كان مستـحقا العقوبة لزيادته فـي كتاب الله عزّ وجل ما لـيس منه؟
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَمَنْ تَطَوّعَ خَيْرا فإنّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِـيـمٌ.
اختلف القراء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء أهل الـمدينة والبصرة: وَمَنْ تَطَوّعَ خَيْرا علـى لفظ الـمضي بـالتاء وفتـح العين. وقرأته عامة قراء الكوفـيـين: «وَمَنْ يَطّوَعَ خَيْرا» بـالـياء وجزم العين وتشديد الطاء, بـمعنى: ومن يتطوّع. وذكر أنها فـي قراءة عبد الله: «ومن يتطوّع». فقرأ ذلك قرّاء أهل الكوفة علـى ما وصفنا اعتبـارا بـالذي ذكرنا من قراءة عبد الله سوى عاصم فإنه وافق الـمدنـيـين, فشددوا الطاء طلبـا لإدغام التاء فـي الطاء. وكلتا القراءتـين معروفة صحيحة متفق معنـياهما غير مختلفـين, لأن الـماضي من الفعل مع حروف الـجزاء بـمعنى الـمستقبل, فبأيّ القراءتـين قرأ ذلك قارىء فمصيب.
ومعنى ذلك: ومن تطوّع بـالـحجّ والعمرة بعد قضاء حجته الواجبة علـيه, فإن الله شاكر له علـى تطوّعه له بـما تطوّع به من ذلك ابتغاء وجهه فمـجازيه به, علـيـم بـما قصد وأراد بتطوّعه بـما تطوّع به.
وإنـما قلنا إن الصواب فـي معنى قوله: فَمَنْ تَطَوّعَ خَيْرا هو ما وصفنا دون قول من زعم أنه معنـيّ به: فمن تطوّع بـالسعي والطواف بـين الصفـا والـمروة لأن الساعي بـينهما لا يكون متطوّعا بـالسعي بـينهما إلا فـي حجّ تطوّع أو عمرة تطوّع لـما وصفنا قبل وإذ كان ذلك كذلك كان معلوما أنه إنـما عنى بـالتطوّع بذلك التطوّع بـما يعمل ذلك فـيه من حجّ أو عمرة.
وأما الذين زعموا أن الطواف بهما تطوّع لا واجب, فإن الصواب أن يكون تأويـل ذلك علـى قولهم: فمن تطوّع بـالطواف بهما فإن الله شاكر لأن للـحاجّ والـمعتـمر علـى قولهم الطواف بهما إن شاء وترك الطواف, فـيكون معنى الكلام علـى تأويـلهم: فمن تطوّع بـالطواف بـالصفـا والـمروة, فإن الله شاكر تطوّعه ذلك, علـيـم بـما أراد ونوى الطائف بهما كذلك. كما:
1862ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وَمَنْ تَطَوّعَ خَيْرا فإنّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِـيـمٌ قال: من تطوّع خيرا فهو خير له, تطوّع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت من السنن.
وقال آخرون: معنى ذلك: ومن تطوّع خيرا فـاعتـمر. ذكر من قال ذلك:
1863ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَمَنْ تَطَوّعَ خَيْرا فإنّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِـيـمٌ من تطوّع خيرا فـاعتـمر فإن الله شاكر علـيـم قال: فـالـحجّ فريضة, والعمرة تطوّع, لـيست العمرة واجبة علـى أحد من الناس.
الآية : 159
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ الّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيّنَاتِ وَالْهُدَىَ مِن بَعْدِ مَا بَيّنّاهُ لِلنّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ }
يقول: إن الذين يكتـمون ما أنزلنا من البـينات, علـماء الـيهود وأحبـارها وعلـماء النصارى, لكتـمانهم الناس أمر مـحمد صلى الله عليه وسلم, وتركهم اتبـاعه, وهم يجدونه مكتوبـا عندهم فـي التوراة والإنـجيـل من البـينات التـي أنزلها الله ما بـين من أمر نبوّة مـحمد صلى الله عليه وسلم ومبعثه وصفته فـي الكتابـين اللذين أخبر الله تعالـى ذكره, أن أهلهما يجدون صفته فـيهما.
ويعنـي تعالـى ذكره بـالهدى, ما أوضح لهم من أمره فـي الكتب التـي أنزلها علـى أنبـيائهم, فقال تعالـى ذكره: إن الذين يكتـمون الناس الذي أنزلنا فـي كتبهم من البـيان من أمر مـحمد صلى الله عليه وسلم ونبوّته وصحة الـملة التـي أرسلته بها وحقـيتها فلا يخبرونهم به ولا يعلـمون من تبـيـينـي ذلك للناس وإيضاحي لهم فـي الكتاب الذي أنزلته إلـى أنبـيائهم, أُولَئِكَ يَـلْعَنُهُمُ اللّهُ وَيَـلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ إلاّ الّذِينَ تَابُوا الآية. كما:
1864ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا يونس بن بكير وحدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قالا جميعا: حدثنا مـحمد بن إسحاق, قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت, قال: حدثنـي سعيد بن جبـير, أو عكرمة, عن ابن عبـاس, قال: سأل معاذ بن جبل أخو بنـي سلـمة وسعد بن معاذ أخو بنـي عبد الأشهل وخارجة بن زيد أخو بنـي الـحارث بن الـخزرج, نفرا من أحبـار يهود قال أبو كريب: عما فـي التوراة, وقال ابن حميد عن بعض ما فـي التوراة فكتـموهم إياه, وأبوا أن يخبروهم عنه, فأنزل الله تعالـى ذكره فـيهم: إنّ الّذِينَ يَكْتُـمُونَ مَا أنْزَلْنَا مِنَ البَـيّنَاتِ والهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَـيّنَاهُ لِلنّاسِ فِـي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَـلْعَنُهُمُ اللّهُ وَيَـلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ.
1865ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: إنّ الّذِينَ يَكْتُـمُونَ مَا أنْزَلْنَا مِنَ البَـيّناتِ والهُدَى قال: هم أهل الكتاب.
1866ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
1867ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: إنّ الّذِينَ يَكْتُـمُونَ مَا أنْزَلْنَا مِنَ البَـيّنَاتِ وَالْهُدَى قال: كتـموا مـحمدا صلى الله عليه وسلم وهم يجدونه مكتوبـا عندهم, فكتـموه حسدا وبغيا.
1868ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: إنّ الّذِينَ يَكْتُـمُونَ مَا أنْزَلْنَا مِنَ البَـيّنَاتِ والْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَـيّنَاهُ لِلنّاسِ فِـي الْكِتابِ أولئك أهل الكتاب كتـموا الإسلام وهو دين الله, وكتـموا مـحمدا صلى الله عليه وسلم, وهم يجدونه مكتوبـا عندهم فـي التوراة والإنـجيـل.
1869ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: إنّ الّذِينَ يَكْتُـمُونَ مَا أنْزَلْنَا مِنَ البَـيّنَاتِ والْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَـيّنَاهُ لِلنّاسِ فِـي الْكِتابِ زعموا أن رجلاً من الـيهود كان له صديق من الأنصار يقال له ثعلبة بن غنـمة, قال له: هل تـجدون مـحمدا عندكم؟ قال: لا. قال: مـحمد «البـينات».
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: مِنْ بَعْدِ مَا بَـيّنَاهُ لِلنّاسِ فِـي الْكِتَابِ.
بعض الناس لأن العلـم بنبوّة مـحمد صلى الله عليه وسلم وصفته ومبعثه لـم يكن إلا عند أهل الكتاب دون غيرهم, وإياهم عنى تعالـى ذكره بقوله: للنّاسِ فـي الكتاب ويعنـي بذلك التوراة والإنـجيـل. وهذه الآية وإن كانت نزلت فـي خاصّ من الناس, فإنها معنـيّ بها كل كاتـم علـما فرض الله تعالـى بـيانه للناس. وذلك نظير الـخبر الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْـمٍ يَعْلَـمُهُ فَكَتَـمَهُ, أُلْـجِمَ يَوْمَ الْقِـيَامَةِ بِلِـجَامٍ مِنْ نَارِ».
وكان أبو هريرة يقول ما:
1870ـ حدثنا به نصر بن علـيّ الـجهضمي, قال: حدثنا حاتـم بن وردان, قال: حدثنا أيوب السختـيانـي, عن أبـي هريرة, قال: لولا آية من كتاب الله ما حدثتكم. وتلا: إنّ الّذِينَ يَكْتُـمُونَ مَا أنْزَلْنَا مِنَ البَـيّنَاتِ والهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَـيّنَاهُ لِلنّاسِ فِـي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَـلْعَنُهُمُ اللّهُ ويَـلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ.
1871ـ حدثنـي مـحمد بن عبد الله بن عبد الـحكم, قال: حدثنا أبو زرعة وعبد الله بن راشد عن يونس قال: قال ابن شهاب, قال ابن الـمسيب, قال أبو هريرة: لولا آيتان أنزلهما الله فـي كتابه ما حدثت شيئا: إنّ الّذِينَ يَكْتُـمُونَ مَا أنْزَلْنَا مِنَ البَـيّنَاتِ إلـى آخر الآية. والآية الأخرى: وَإذْ أخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَـيّنُنّهُ لِلنّاسِ إلـى آخر الآية.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: أُولَئِكَ يَـلْعَنُهُمُ اللّهُ وَيَـلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ.
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: أُولَئِكَ يَـلْعَنُهُمُ اللّهُ هؤلاء الذين يكتـمون ما أنزله الله من أمر مـحمد صلى الله عليه وسلم وصفته وأمر دينه أنه الـحق من بعدما بـينه الله لهم فـي كتبهم, يـلعنهم بكتـمانهم ذلك وتركهم تبـيـينه للناس. واللعنة الفَعْلة, من لعنه الله بـمعنى: أقصاه وأبعده وأسحقه. وأصل اللعن: الطرد, كما قال الشماخ بن ضرار, وذكر ماءً ورد علـيه:
ذَعَرْتُ بِهِ القَطا ونَفَـيْتُ عَنْهُمَقامَ الذّئْبِ كالرّجُلِ اللّعِين
يعنـي مقام الذئب الطريد. واللعين من نعت الذئب, وإنـما أراد مقام الذئب الطريد واللعين كالرجل.
فمعنى الآية إذا: أولئك يبعدهم الله منه ومن رحمته, ويسأل ربهم اللاعنون أن يـلعنهم لأن لعنة بنـي آدم وسائر خـلق الله ما لعنوا أن يقولوا: اللهم العنه, إذ كان معنى اللعن هو ما وصفنا من الإقصاء والإبعاد.
وإنـما قلنا إن لعنة اللاعنـين هي ما وصفنا: من مسألتهم ربهم أن يـلعنهم, وقولهم: لعنه الله, أو علـيه لعنة الله لأن:
1872ـ حدثنـي مـحمد بن خالد بن خداش ويعقوب بن إبراهيـم حدثانـي قالا: حدثنا إسماعيـل بن علـية, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: أُولَئِكَ يَـلْعَنُهُمُ اللّهُ وَيَـلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ البهائم, قال: إذا أسنت السنة, قالت البهائم: هذا من أجل عصاة بنـي آدم, لعن الله عصاة بنـي آدم
ثم اختلف أهل التأويـل فـيـمن عنى الله تعالـى ذكره بـاللاعنـين, فقال بعضهم: عنى بذلك دوابّ الأرض وهوامها. ذكر من قال ذلك:
1873ـ حدثنا مـحمد بن حميد, قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن مـجاهد, قال: تلعنهم دوابّ الأرض وما شاء الله من الـخنافس والعقارب تقول: نـمنع القطر بذنوبهم.
1874ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمَن, قال: حدثنا سفـيان, عن منصور, عن مـجاهد: أُولَئِكَ يَـلْعَنُهُمُ اللّهُ وَيَـلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ قال: دوابّ الأرض العقارب والـخنافس يقولون: منعنا القطر بخطايا بنـي آدم.
1875ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عمرو, عن منصور, عن مـجاهد: وَيَـلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ قال: تلعنهم الهوامّ ودوابّ الأرض تقول: أُمسك القطر عنا بخطايا بنـي آدم.
1876ـ حدثنا مشرف بن أبـان الـخطاب البغدادي, قال: حدثنا وكيع, عن سفـيان, عن خصيف, عن عكرمة فـي قوله: أُولَئِكَ يَـلْعَنُهُمُ اللّهُ وَيَـلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ قال: يـلعنهم كل شيء حتـى الـخنافس والعقارب يقولون: منعنا القطر بذنوب بنـي آدم.
1877ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وَيَـلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ قال: اللاعنون البهائم.
1878ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: وَيَـلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ البهائم تلعن عصاة بنـي آدم حين أمسك الله عنهم بذنوب بنـي آدم الـمطر فتـخرج البهائم فتلعنهم.
1879ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنـي مسلـم بن خالد, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: أُولَئِكَ يَـلْعَنُهُمُ اللّهُ وَيَـلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ البهائم: الإبل والبقر والغنـم, فتلعن عصاة بنـي آدم إذا أجدبت الأرض.
فإن قال لنا قائل: وما وجه الذين وجهوا تأويـل قوله: وَيَـلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ إلـى أن اللاعنـين هم الـخنافس والعقارب ونـحو ذلك من هوامّ الأرض, وقد علـمت أنها إذا جمعت ما كان من نوع البهائم وغير بنـي آدم, فإنـما تـجمعه بغير الـياء والنون وغير الواو والنون, وإنـما تـجمعه بـالتاء, وما خالف ما ذكرنا, فتقول اللاعنات ونـحو ذلك؟ قـيـل: الأمر وإن كان كذلك, فإن من شأن العرب إذا وصفت شيئا من البهائم أو غيرها مـما حكم جمعه أن يكون بـالتاء وبغير صورة جمع ذكران بنـي آدم بـما هو من صفة الاَدميـين أن يجمعوه جمع ذكورهم, كما قال تعالـى ذكره: وَقَالُوا لِـجُلُودهِمْ لِـمَ شَهِدْتُـمْ عَلَـيْنَا فأخرج خطابهم علـى مثال خطاب بنـي آدم إذ كلـمتهم وكلـموها, وكما قال: يا أيّهَا النّـملُ ادْخُـلُوا مَسَاكِنَكُمْ وكما قال: والشّمْسَ وَالقَمَرَ رَأيْتُهُمْ لـي سَاجِدِينَ.
وقال آخرون: عنى الله تعالـى ذكره بقوله: وَيَـلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ الـملائكة والـمؤمنـين. ذكر من قال ذلك:
1880ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَيَـلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ قال: يقول اللاعنون من ملائكة الله ومن الـمؤمنـين.
1881ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: وَيَـلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ الـملائكة.
1882ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع بن أنس, قال: اللاعنون من ملائكة الله والـمؤمنـين.
وقال آخرون: يعنـي بـاللاعنـين: كل ما عدا بنـي آدم والـجن. ذكر من قال ذلك:
1883ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: وَيَـلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ قال: قال البراء بن عازب: إن الكافر إذا وضع فـي قبره أتته دابة كأن عينـيها قدران من نـحاس معها عمود من حديد, فتضربه ضربة بـين كتفـيه فـيصيح, فلا يسمع أحد صوته إلا لعنه, ولا يبقـى شيء إلا سمع صوته, إلا الثقلـين الـجن والإنس.
1884ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك فـي قوله: أُولَئِكَ يَـلْعَنُهُمُ اللّه ويَـلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ قال: الكافر إذا وضع فـي حفرته ضرب ضربة بـمطرق فـيصيح صيحة يسمع صوته كل شيء إلا الثقلـين الـجنّ والإنس فلا يسمع صيحته شيء إلا لعنه.
وأولـى هذه الأقوال بـالصحة عندنا قول من قال: اللاعنون: الـملائكة والـمؤمنون لأن الله تعالـى ذكره قد وصف الكفـار بأن اللعنة التـي تـحلّ بهم إنـما هي من الله والـملائكة والناس أجمعين, فقال تعالـى ذكره: إنّ الّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفّـارٌ أُولَئِكَ عَلَـيْهِمْ لَعْنَةُ اللّه وَالـمَلاَئِكَةِ والنّاسِ أجْمَعِينَ. فكذلك اللعنة التـي أخبر الله تعالـى ذكره أنها حالة بـالفريق الاَخر الذين يكتـمون ما أنزل الله من البـينات والهدى من بعد ما بـيناه للناس, هي لعنة الله التـي أخبر أن لعنتهم حالة بـالذين كفروا وماتوا وهم كفـار, وهم اللاعنون, لأن الفريقـين جميعا أهل كفر.
وأما قول من قال: إن اللاعنـين هم الـخنافس والعقارب وما أشبه ذلك من دبـيب الأرض وهوامّها, فإنه قول لا تدرك حقـيقته إلا بخبر عن الله أن ذلك من فعلها تقوم به الـحجة, ولا خبر بذلك عن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم, فـيجوز أن يقال إن ذلك كذلك.
وإذ كان ذلك كذلك, فـالصواب من القول فـيـما قالوه أن يقال: إن الدلـيـل من ظاهر كتاب الله موجود بخلاف أهل التأويـل, وهو ما وصفنا. فإن كان جائزا أن تكون البهائم وسائر خـلق الله تلعن الذين يكتـمون ما أنزل الله فـي كتابه من صفة مـحمد صلى الله عليه وسلم ونعته ونبوّته, بعد علـمهم به, وتلعن معهم جميع الظلـمة, فغير جائز قطع الشهادة فـي أن الله عنى بـاللاعنـين البهائم والهوامّ ودبـيب الأرض, إلا بخبر للعذر قاطع, ولا خبر بذلك وظاهر كتاب الله الذي ذكرناه دالّ علـى خلافه.
الآية : 160
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِلاّ الّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التّوّابُ الرّحِيمُ }
يعنـي تعالـى ذكره بذلك أن الله واللاعنـين يـلعنون الكاتـمين الناس ما علـموا من أمر نبوّة مـحمد صلى الله عليه وسلم وصفته ونعته فـي الكتاب الذي أنزله الله وبـينه للناس, إلا من أناب من كتـمانه ذلك منهم وراجع التوبة بـالإيـمان بـمـحمد صلى الله عليه وسلم, والإقرار به وبنبوّته, وتصديقه فـيـما جاء به من عند الله, وبـيان ما أنزل الله فـي كتبه التـي أنزل إلـى أنبـيائه من الأمر بـاتبـاعه, وأصلـح حال نفسه بـالتقرّب إلـى الله من صالـح الأعمال بـما يرضيه عنه, وبـين الذي علـم من وحي الله الذي أنزله إلـى أنبـيائه وعهد إلـيهم فـي كتبه فلـم يكتـمه وأظهره فلـم يخفه. فأولئك, يعنـي هؤلاء الذين فعلوا هذا الذي وصفت منهم, هم الذين أتوب علـيهم, فأجعلهم من أهل الإياب إلـى طاعتـي والإنابة إلـى مرضاتـي.
ثم قال تعالـى ذكره: وأنَا التّوَابُ الرّحِيـمُ يقول: وأنا الذي أرجع بقلوب عبـيدي الـمنصرفة عنـي إلـيّ, والرادّها بعد إدبـارها عن طاعتـي إلـى طلب مـحبتـي, والرحيـم بـالـمقبلـين بعد إقبـالهم إلـيّ أتغمدهم منـي بعفو وأصفح عن عظيـم ما كانوا اجترموا فـيـما بـينـي وبـينهم بفضل رحمتـي لهم.
فإن قال قائل: وكيف يتاب علـى من تاب؟ وما وجه قوله: إلاّ الّذِينَ تَابُوا فأُولَئِكَ أتُوبُ عَلَـيْهِمْ وهل يكون تائب إلا وهو متوب علـيه أو متوب علـيه إلا وهو تائب؟ قـيـل: ذلك مـما لا يكون أحدهما إلا والاَخر معه, فسواء قـيـل: إلا الذين تـيب علـيهم فتابوا, أو قـيـل: إلا الذين تابوا فإنـي أتوب علـيهم وقد بـينا وجه ذلك فـيـما جاء من الكلام هذا الـمـجيء فـي نظيره فـيـما مضى من كتابنا هذا, فكرهنا إعادته فـي هذا الـموضع. وبنـحو ما قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
1885ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة فـي قوله: إلاّ الّذِينَ تَابُوا وأصْلَـحُوا وَبَـيّنُوا يقول: أصلـحوا فـيـما بـينهم وبـين الله, وبـينوا الذي جاءهم من الله, فلـم يكتـموه, ولـم يجحدوا به: أُولَئِكَ أتُوبُ عَلَـيْهِمْ وأنا التّوّابُ الرّحِيـم.
1886ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: إلاّ الّذِينَ تَابُوا وأصْلَـحُوا وَبَـيّنُوا قال: بـينوا ما فـي كتاب الله للـمؤمنـين, وما سألوهم عنه من أمر النبـيّ صلى الله عليه وسلم, وهذا كله فـي يهود.
وقد زعم بعضهم أن معنى قوله: وَبَـيّنُوا إنـما هو: وبـينوا التوبة بإخلاص العمل.
ودلـيـل ظاهر الكتاب والتنزيـل بخلافه, لأن القوم إنـما عوتبوا قبل هذه الآية علـى كتـمانهم ما أنزل الله تعالـى ذكره وبـينه فـي كتابه فـي أمر مـحمد صلى الله عليه وسلم ودينه. ثم استثنى منهم تعالـى ذكره الذين يبـينون أمر مـحمد صلى الله عليه وسلم ودينه فـيتوبون مـما كانوا علـيه من الـجحود والكتـمان, فأخرجهم من عذاب من يـلعنه الله ويـلعنه اللاعنون. ولـم يكن العتاب علـى تركهم تبـيـين التوبة بإخلاص العمل. والذين استثنى الله من الذين يكتـمون ما أنزل الله من البـينات والهدى من بعد ما بـينه للناس فـي الكتاب: عبد الله بن سلام وذووه من أهل الكتاب الذين أسلـموا فحسن إسلامهم واتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الآية : 161
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِن الّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ }
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: إنّ الّذِينَ كَفَرُوا إن الذين جحدوا نبوّة مـحمد صلى الله عليه وسلم وكذبوا به من الـيهود والنصارى, وسائر أهل الـملل والـمشركين من عبدة الأوثان, وَمَاتُوا وَهُمْ كُفّـارٌ يعنـي وماتوا وهم علـى جحودهم ذلك وتكذيبهم مـحمدا صلى الله عليه وسلم أولئك علـيهم لعنة الله والـملائكة, يعنـي: فأولئك الذين كفروا وماتوا وهم كفـار علـيهم لعنة الله يقول: أبعدهم الله وأسحقهم من رحمته, والـمَلاَئِكَة يعنـي ولعنهم الـملائكة والناس أجمعون. ولعنة الـملائكة والناس إياهم قولهم: علـيهم لعنة الله, وقد بـينا معنى اللعنة فـيـما مضى قبل بـما أغنى عن إعادته.
فإن قال قائل: وكيف تكون علـى الذي يـموت كافرا بـمـحمد صلى الله عليه وسلم من أصناف الأمـم, وأكثرهم مـمن لا يؤمن به ويصدقه؟ قـيـل: إن معنى ذلك علـى خلاف ما ذهبت إلـيه.
وقد اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك, فقال بعضهم: عنى الله بقوله: وَالنّاسِ أجْمَعِينَ أهل الإيـمان به وبرسوله خاصة دون سائر البشر. ذكر من قال ذلك: 1887ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: وَالنّاسِ أجْمَعِينَ يعنـي بـالناس أجمعين: الـمؤمنـين.
1888ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: وَالنّاسِ أجْمَعِينَ يعنـي بـالناس أجمعين: الـمؤمنـين.
وقال آخرون: بل ذلك يوم القـيامة يوقـف علـى رؤوس الأشهاد الكافر فـيـلعنه الناس كلهم. ذكر من قال ذلك:
1889ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, عن أبـي العالـية: أن الكافر يوقـف يوم القـيامة فـيـلعنه الله, ثم تلعنه الـملائكة, ثم يـلعنه الناس أجمعون.
وقال آخرون: بل ذلك قول القائل كائنا من كان: لعن الله الظالـم, فـيـلـحق ذلك كل كافر لأنه من الظلـمة. ذكر من قال ذلك:
1890ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي قوله: أُولَئِكَ عَلَـيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالـمَلاَئِكَةِ وَالنّاسِ أجْمَعِينَ فإنه لا يتلاعن اثنان مؤمنان ولا كافران فـيقول أحدهما: لعن الله الظالـم إلا وجبت تلك اللعنة علـى الكافر لأنه ظالـم, فكل أحد من الـخـلق يـلعنه.
وأولـى هذه الأقوال بـالصواب عندنا قول من قال: عنى الله بذلك جميع الناس بـمعنى لعنهم إياهم بقولهم: لعن الله الظالـم أو الظالـمين, فإن كل أحد من بنـي آدم لا يـمنع من قـيـل ذلك كائنا من كان, ومن أيّ أهل ملة كان, فـيدخـل بذلك فـي لعنته كل كافر كائنا من كان. وذلك بـمعنى ما قاله أبو العالـية, لأن الله تعالـى ذكره أخبر عمن شهدهم يوم القـيامة أنهم يـلعنونهم, فقال: فَمَنْ أظْلَـمُ مِـمّنِ افْتَرَىَ عَلَـىَ اللّهِ كَذِبـا أُولَئِكَ يُعْرضُونَ عَلَـىَ رَبّهِمْ وَيَقُولُ الأشْهَادُ هَؤُلاَء الّذِينَ كَذَبُوا عَلَـىَ رَبّهِمْ ألاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَـىَ الظّالِـمِينَ.
وأما ما قاله قتادة من أنه عنى به بعض الناس, فقول ظاهر التنزيـل بخلافه, ولا برهان علـى حقـيقته من خبر ولا نظر. فإن كان ظنّ أن الـمعنـيّ به الـمؤمنون من أجل أن الكفـار لا يـلعنون أنفسهم ولا أولـياءهم, فإن الله تعالـى ذكره قد أخبر أنهم يـلعنونهم فـي الاَخرة, ومعلوم منهم أنهم يـلعنون الظلـمة, وداخـل فـي الظلـمة كل كافر بظلـمه نفسه, وجحوده نعمة ربه, ومخالفته أمره.
الآية : 162
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ }
إن قال لنا قائل: ما الذي نصب خَالِدِينَ فِـيهَا؟ قـيـل: نصب علـى الـحال من الهاء والـميـم اللتـين فـي علـيهم. وذلك أن معنى قوله: أُولَئِكَ عَلَـيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ: أولئك يـلعنهم الله والـملائكة والناس أجمعون خالدين فـيها. ولذلك قرأ ذلك: «أُولَئِكَ عَلَـيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالـمَلاَئِكَةُ وَالنّاسِ أجْمَعُون» من قرأه كذلك توجيها منه إلـى الـمعنى الذي وصفت. وذلك وإن كان جائزا فـي العربـية, فغير جائزة القراءة به لأنه خلاف لـمصاحف الـمسلـمين وما جاء به الـمسلـمون من القراءة مستفـيضا فـيها, فغير جائز الاعتراض بـالشاذّ من القول علـى ما قد ثبتت حجته بـالنقل الـمستفـيض. وأما الهاء والألف اللتان فـي قوله: فِـيهَا فإنهما عائدتان علـى اللعنة, والـمراد بـالكلام ما صار إلـيه الكافر بـاللعنة من الله ومن ملائكته ومن الناس والذي صار إلـيه بها نار جهنـم. وأجرى الكلام علـى اللعنة والـمراد بها ما صار إلـيه الكافر كما قد بـينا من نظائر ذلك فـيـما مضى قبل. كما:
1891ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, عن أبـي العالـية: خَالِدِينَ فِـيهَا يقول: خالدين فـي جهنـم فـي اللعنة.
وأما قوله: لا يُخَفّفُ عَنْهُمُ العَذَابُ فإنه خبر من الله تعالـى ذكره عن دوام العذاب أبدا من غير توقـيت ولا تـخفـيف, كما قال تعالـى ذكره: وَالّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنّـمَ لاَ يُقْضَىَ عَلَـيْهِمْ فَـيَـمُوتُوا وَلاَ يُخَفّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا وكما قال: كُلّـمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدّلْنَاهُمْ جُلُودا غَيْرَها.
وأما قوله: وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ فإنه يعنـي ولا هم ينظرون بـمعذرة يعتذرون. كما:
1892ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, عن أبـي العالـية: وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ يقول: لا ينظرون فـيعتذرون, كقوله: هَذَا يَوْمُ لاَ يَنْطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَـيَعْتَذِرُون.
الآية : 163
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِلَـَهُكُمْ إِلَـَهٌ وَاحِدٌ لاّ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ الرّحْمَـَنُ الرّحِيمُ }
قد بـينا فـيـما مضى معنى الألوهية وأنها اعتبـاد الـخـلق. فمعنى قوله: وإلهُكُمْ إلهٌ وَاحِدٌ لا إلهَ إلاّ هُوَ الرّحْمَنُ الرّحِيـمِ والذي يستـحقّ علـيكم أيها الناس الطاعة له, ويستوجب منكم العبـادة معبود واحد وربّ واحد, فلا تعبدوا غيره ولا تشركوا معه سواه, فإن من تشركونه معه فـي عبـادتكم إياه هو خـلق من خـلق إلهكم مثلكم, وإلهكم إله واحد, لا مثل له ولا نظير.
واختلف فـي معنى وحدانـيته تعالـى ذكره, فقال بعضهم: معنى وحدانـية الله معنى نفـي الأشبـاه والأمثال عنه كما يقال: فلان واحد الناس وهو واحد قومه, يعنـي بذلك أنه لـيس له فـي ا.لناس مثل, ولا له فـي قومه شبـيه ولا نظير فكذلك معنى قول: الله واحد, يعنـي به الله لا مثل له ولا نظير. فزعموا أن الذي دلهم علـى صحة تأويـلهم ذلك أن قول القائل واحد يفهم لـمعان أربعة, أحدها: أن يكون واحدا من جنس كالإنسان الواحد من الإنس, والاَخر: أن يكون غير متفرّق كالـجزء الذي لا ينقسم, والثالث: أن يكون معنـيا به الـمثل والاتفـاق كقول القائل: هذان الشيئان واحد, يراد بذلك أنهما متشابهان حتـى صارا لاشتبـاههما فـي الـمعانـي كالشيء الواحد, والرابع: أن يكون مرادا به نفـي النظير عنه والشبـيه. قالوا: فلـما كانت الـمعانـي الثلاثة من معانـي الواحد منتفـية عنه صحّ الـمعنى الرابع الذي وصفناه.
وقال آخرون: معنى وحدانـيته تعالـى ذكره معنى انفراده من الأشياء, وانفراد الأشياء منه. قالوا: وإنـما كان منفردا وحده, لأنه غير داخـل فـي شيء ولا داخـل فـيه شيء. قالوا: ولا صحة لقول القائل واحد من جميع الأشياء إلا ذلك.
وأنكر قائلو هذه الـمقالة الـمعانـي الأربعة التـي قالها الاَخرون.
وأما قوله: لاَ إلهَ إلاّ هُوَ فإنه خبر منه تعالـى ذكره أنه لا ربّ للعالـمين غيره, ولا يستوجب علـى العبـاد العبـادة سواه, وأن كل ما سواه فهم خـلقه, والواجب علـى جميعهم طاعته, والانقـياد لأمره, وترك عبـادة ما سواه من الأنداد والاَلهة وهجر الأوثان والأصنام, لأن جميع ذلك خـلقه وعلـى جميعهم الدينونة له بـالوحدانـية والألوهة, ولا تنبغي الألوهة إلا له, إذ كان ما بهم من نعمة فـي الدنـيا فمنه دون ما يعبدونه من الأوثان, ويشركون معه من الأشراك, وما يصيرون إلـيه من نعمة فـي الاَخرة فمنه, وأن ما أشركوا معه من الأشراك لا يضرّ ولا ينفع فـي عاجل ولا فـي آجل, ولا فـي دنـيا, ولا فـي آخرة. وهذا تنبـيه من الله تعالـى ذكره أهل الشرك به علـى ضلالهم, ودعاء منه لهم إلـى الأوبة من كفرهم, والإنابة من شركهم. ثم عرّفهم تعالـى ذكره بـالآية التـي تتلوها موضع استدلال ذوي الألبـاب منهم علـى حقـيقة ما نبههم علـيه من توحيده وحججه الواضحة القاطعة عذرهم, فقال تعالـى ذكره: أيها الـمشركون إن جهلتـم أو شككتـم فـي حقـيقة ما أخبرتكم من الـخبر من أن إلهكم إله واحد دون ما تدّعون ألوهيته من الأنداد والأوثان, فتدبروا حججي وفكروا فـيها, فإن من حججي: خـلق السمَوات والأرض, واختلاف اللـيـل والنهار, والفلك التـي تـجري فـي البحر بـما ينفع الناس, وما أنزلت من السماء من ماء فأحيـيت به الأرض بعد موتها, وما بثثت فـيها من كل دابة, والسحاب الذي سخرته بـين السماء والأرض. فإن كان ما تعبدونه من الأوثان والاَلهة والأنداد وسائر ما تشركون به إذا اجتـمع جميعه فتظاهر أو انفرد بعضه دون بعض يقدر علـى أن يخـلق نظير شيء من خـلقـي الذي سميت لكم, فلكم بعبـادتكم ما تعبدون من دونـي حينئذ عذر, وإلا فلا عذر لكم فـي اتـخاذ إله سواي, ولا إله لكم ولـما تعبدون غيري. فلـيتدبر أولو الألبـاب إيجاز الله احتـجاجه علـى جميع أهل الكفر به والـملـحدين فـي توحيده فـي هذه الآية وفـي التـي بعدها بأوجز كلام وأبلغ حجة وألطف معنى يشرف بهم علـى معرفة فضل حكمة الله وبـيانه