سورة البقرة | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 24 من المصحف
154- " ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون " وأموات وأحياء مرتفعان على أنهما خبران لمحذوفين: أي لا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله هم أموات بل هم أحياء، ولكن لا تشعرون بهذه الحياة عند مشاهدتكم لأبدانهم بعد سلب روحهم، لأنكم تحكمون عليها بالموت في ظاهر الأمر بحسب ما يبلغ إليه علمكم الذي هو بالنسبة إلى علم الله كما يأخذ الطائر في منقاره من ماء البحر، وليسوا كذلك في الواقع بل هم أحياء في البرزخ. وفي الآية دليل على ثبوت عذاب القبر، ولا اعتداد بخلاف من خالف في ذلك، فقد تواترت به الأحاديث الصحيحة ودلت عليه الآيات القرآنية، ومثل هذه الآية قوله تعالى: "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون".
والبلاء أصله المحنة، ومعنى نبلونكم: تمتحنكم لنختبركم هل تصبرون على القضاء أم لا؟ وتنكير شيء للتقليل: أي بشيء قليل من هذه الأمور. وقرأ الضحاك بأشياء. والمراد بالخوف: ما يحصل لمن يخشى من نزول ضرر به من عدو أو غيره. وبالجوع: المجاعة التي تحصل عند الجدب والقحط. وبنقص الأموال: ما يحدث فيها بسبب الجوائح وما أوجه الله فيها من الزكاة ونحوها. وبنقص الأنفس: الموت والقتل في الجهاد. وبنقص الثمرات: ما يصيبها من الآفات وهو من عطف الخاص على العام لشمول الأموال للثمرات وغيرها- وقيل: المراد بنقص الثمرات: موت الأولاد. وقوله: 155- "وبشر الصابرين" أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يقدر على التبشير. وقد تقدم معنى البشارة. والصبر أصله الحبس، ووصفهم بأنهم المسترجعون عند المصيبة، لأن ذلك تسليم ورضا.
والمصيبة واحدة المصائب: وهي النكبة التي يتأذى بها الإنسان وإن صغرت. وقوله: 156- "إنا لله وإنا إليه راجعون" فيه بيان أن هذه الكلمات ملجأ للمصابين وعصمة للممتحنين، فإنها جامعة بين الإقرار بالعبودية لله، والاعتراف بالبعث والنشور.
ومعنى الصلوات هنا: المغفرة والثناء الحسن قاله الزجاج. وعلى هذا فذكر الرحمة لقصد التأكيد. وقال في الكشاف: الصلاة الرحمة والتعطف، فوضعت موضع الرأفة، وجمع بينها وبين الرحمة كقوله: رأفة ورحمة "رؤوف رحيم" والمعنى: عليهم رأفة بعد رأفة ورحمة بعد رحمة انتهى. وقيل: المراد بالرحمة: كشف الكربة وقضاء الحاجة. 157- و"المهتدون" قد تقدم معناه، وإنما وصفوا هنا بذلك لكونهم فعلوا ما فيه الوصول إلى طريق الصواب من الاسترجاع والتسليم. وأخرج الحاكم والبيهقي في الدلائل عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: غشي على عبد الرحمن بن عوف في وجعه غشية ظنوا أنه قد فاضت نفسه فيها، حتى قاموا من عنده وجللوه ثوباً، وخرجت أم كلثوم بنت عقبة امرأته إلى المسجد تستعين بما أمرت به من الصبر والصلاة، فلبثوا ساعة وهو في غشيته ثم أفاق. وأخرج ابن منده في المعرفة عن ابن عباس قال: قتل تميم بن الحمام ببدر، وفيه وفي غيره نزلت: "ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات" الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: "في سبيل الله" في طاعة الله في قتال المشركين. وقد وردت أحاديث أن أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر تأكل من ثمار الجنة. فمنها عن كعب بن مالك مرفوعاً عند أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه. وروي أن أرواح الشهداء تكون على صور طيور بيض، كما أخرجه عبد الرزاق عن قتادة قال: بلغنا، فذكر ذلك. وأخرجه عبد بن حميد وابن جرير عنه أيضاً بنحوه، وروي أنها على صور طيور خضر، كما أخرجه ابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي العالية. وأخرجه ابن أبي شيبة في البعث والنشور عن كعب. وأخرجه هناد بن يسرى عن هذيل. وأخرجه عنه عبد الرزاق في المصنف عن عبد الله بن كعب بن مالك مرفوعاً، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عطاء في قوله: "ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع" قال: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله: "ولنبلونكم" الآية، قال: أخبر الله المؤمنين أن الدنيا دار بلاء وأنه مبتليهم فيها، وأمرهم بالصبر وبشرهم فقال: "وبشر الصابرين" وأخبر أن المؤمن إذا سلم لأمر الله ورجع واسترجع عند المصيبة كتب الله له ثلاث خصال من الخير: الصلاة من الله، والرحمة، وتخفيف سبيل الهدى. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته، وأحسن عقباه، وجعل له خلفاً صالحاً يرضاه". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن رجاء بن حيوة في قوله: "ونقص من الثمرات" قال: يأتي على الناس زمان لا تحمل النخلة فيه إلا تمرة. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أعطيت أمتي شيئاً لم يعطه أحد من الأمم أن يقولوا عند المصيبة: إنا لله وإنا إليه راجعون" وقد ورد في فضل الاسترجاع عند المصيبة أحاديث كثيرة.
أصل 158- "الصفا" في اللغة: الحجر الأملس، وهو هنا علم لجبل من جبال مكة معروف، وكذلك "المروة" علم لجبل بمكة معروف، وأصلها في اللغة: واحدة المروى، وهي الحجارة الصغار التي فيها لين. وقيل: التي فيها صلابة، وقيل: تعم الجميع. قال أبو ذؤيب: حتى كأني للحوادث مروة بصفا المشقر كل يوم تقرع وقيل: إنها الحجارة البيض البراقة: وقيل: إنها الحجارة السود. والشعائر جمع شعيرة، وهي العلامة: أي من أعلام مناسكه. والمراد بها مواضع العبادة التي أشعرها الله إعلاماً للناس من الموقف والسعي والمنحر، ومنه إشعار الهدي: أي إعلامه بغرز حديدة في سنامه، ومنه قول الكميت: نقتلهم جيلاً فجيلاً تراهم شعائر قربان بهم يتقرب وحج البيت في اللغة: قصده، ومنه قول الشاعر: وأشهد من عوف حئولاً كثيرة يحجون سب الزبرقان المزعفرا والسب: العمامة. وفي الشرع: الإتيان بمناسك الحج التي شرعها الله سبحانه. والعمرة في اللغة: الزيارة. وفي الشرع: الإتيان بالنسك المعروف على الصفة الثابتة. والجناح أصله من الجنوح، وهو الميل، ومنه الجوانح لاعوجاجها. وقوله: "يطوف" أصله يتطوف فأدغم. وقرئ: "أن يطوف"، ورفع الجناح يدل على عدم الوجوب، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري. وحكى الزمخشري في الكشاف عن أبي حنيفة أنه يقول: إنه واجب وليس بركن وعلى تاركه دم. وقد ذهب إلى عدم الوجوب ابن عباس وابن الزبير وأنس بن مالك وابن سيرين. ومما يقوي دلالة هذه الآية على عدم الوجود قوله تعالى في آخر الآية: "ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم" وذهب الجمهور إلى أن السعي واجب ونسك من جملة المناسك، واستدلوا بما أخرجه الشيخان وغيرهما عن عائشة أن عروة قال لها: أرأيت قول الله: "إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما" فما أرى على أحد جناحاً أن لا يطوف بهما؟ فقالت عائشة: بئس ما قلت يا ابن أختي، إنها لو كانت على ما أولتها كانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بها، ولكنها إنما أنزلت أن الأنصار قبل أن يسلموا كانوا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها، وكان من أهل لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة في الجاهلية، فأنزل الله: "إن الصفا والمروة من شعائر الله" الآية، قالت عائشة: ثم قد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بهما، فليس لأحد أن يدع الطواف بهما. وأخرج مسلم وغيره عنها أنها قالت: لعمري ما أتم الله حج من لم يسع بين الصفا والمروة ولا عمرته، لأن الله قال: "إن الصفا والمروة من شعائر الله". وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا". وأخرج أحمد في سنده والشافعي وابن سعد وابن المنذر وابن قانع والبيهقي عن حبيبة بنت أبي تجرأة قالت: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه وهو وراءهم يسعى حتى أرى ركبتيه من شدة السعي يدور به إزاره وهو يقول: اسعوا فإن الله عز وجل كتب عليكم السعي" وهي في مسند أحمد من طريق شيخه عبد الله بن المؤمل عن عطاء بن أبي رباح عن صفية بنت شيبة عنها، ورواه من طريق أخرى عن عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن واصل مولى أبي عيينة عن موسى بن عبيدة عن صفية بنت شيبة أن امرأة أخبرتها فذكرته. ويؤيد ذلك حديث: "خذوا عني مناسككم" اهـ.
قوله: 159- "إن الذين يكتمون" إلى آخر الآية، فيه الإخبار بأن الذي يكتم ذلك ملعون- واختلفوا من المراد بذلك؟ فقيل: أحبار اليهود ورهبان النصارى الذين كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: كل من كتم الحق وترك بيان ما أوجب الله بيانه، وهو الراجح لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما تقرر في الأصول، فعلى فرض أن سبب النزول ما وقع من اليهود والنصارى من الكتم فلا ينافي ذلك تناول هذه الآية كل من كتم الحق. وفي هذه الآية من الوعيد الشديد ما لا يقادر قدره، فإن من لعنه الله ولعنه كل من يتأتى منه اللعن من عباده قد بلغ من الشقاوة والخسران إلى الغاية التي لا تلحق ولا يدرك كنهها. وفي قوله: "من البينات والهدى" دليل على أنه يجوز كتم غير ذلك كما قال أبو هريرة: "حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين: أما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم" أخرجه البخاري. والضمير في قوله: "من بعد ما بيناه" راجع إلى ما أنزلنا، والكتاب اسم جنس، وتعريفه يفيد شموله لجميع الكتب، وقيل: المراد به التوراة. واللعن: الإبعاد والطرد. والمراد بقوله: "اللاعنون" الملائكة والمؤمنون قاله الزجاج وغيره، ورجحه ابن عطية، وقيل: كل من يتأتى منه اللعن فيدخل في ذلك الجن، وقيل: هم الحشرات والبهائم.
وقوله: 160- "إلا الذين تابوا" إلخ، فيه استثناء التائبين والمصلحين لما فسد من أعمالهم، والمبيني للناس ما بينه الله في كتبه وعلى ألسن رسله.
قوله: 161- "وماتوا وهم كفار" هذه الجملة حالية، وقد استدل بذلك على أنه لا يجوز لعن كافر معين، لأن حاله عند الوفاة لا يعلم، ولا ينافي ذلك ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من لعنه لقوم من الكفار بأعيانعم، لأنه يعلم بالوحي ما لا نعلم، وقيل: يجوز لعنه عملاً بظاهر الحال كما يجوز قتاله. قوله: "أولئك عليهم لعنة الله" إلخ، استدل به على جواز لعن الكفار على العموم. قال القرطبي: ولا خلاف في ذلك. قال: وليس لعن الكافر بطريق الزجر له عن الكفر، بل هو جزاء على الكفر وإظهار قبح كفره سواء كان الكافر عاقلاً أو مجنوناً. وقال قوم من السلف: لا فائدة في لعن ما جن أو مات منهم لا بطريق الجزاء ولا بطريق الزجر. قال: ويدل على هذا القول أن الآية دالة على الإخبار عن الله والملائكة والناس بلعنهم لا على الأمر به. قال ابن العربي: إن لعن العاصي المعين لا يجوز باتفاق، لما روي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بشارب خمر مراراً، فقال بعض من حضر: لعنه الله ما أكثر ما يشربه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم" والحديث في الصحيحين. وقوله: "والناس أجمعين" قيل: هذا يوم القيامة، وأما في الدنيا ففي الناس المسلم والكافر، ومن يعلم بالمعاصي ومعصيته ومن لا يعلم، فلا يتأتى اللعن له من جميع الناس، وقيل: في الدنيا، والمراد أنه يلعنه غالب الناس أو كل من علم بمعصيته منهم.
وقوله: 162- "خالدين فيها" أي في النار، وقيل: في اللعنة. والإنظار: الإمهال، وقيل: معنى لا ينظرون: لا ينظر الله إليهم فهو من النظر، وقيل: هو من الانتظار: أي لا ينتظرون ليعتذروا.
وقد تقدم تفسير 163- "الرحمن الرحيم". وقوله: "وإلهكم إله واحد" فيه الإرشاد إلى التوحيد وقطع علائق الشرك، والإشارة إلى أن أول ما يجب بيانه ويحرم كتمانه هو أمر التوحيد. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: سأل معاذ بن جبل أخو بني سلمة وسعد بن معاذ أخو بني الأشهل وخارجة بن زيد أخو بني الحارث بن الخزرج نفراً من أحبار اليهود عن بعض ما في التوراة، فكتموهم إياه وأبوا أن يخبروهم، فأنزل الله فيهم: "إن الذين يكتمون ما أنزلنا" الآية. وقد روي عن جماعة من السلف أن الآية نزلت في أهل الكتاب لكتمهم نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن ماجه وابن المنذر وابن أبي حاتم عن البراء بن عازب قال: " كنا في جنازة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن الكافر يضرب ضربة بين عينيه فتسمعه كل دابة الثقلين، فتلعنه كل دابة سمعت صوته، فذلك قول الله تعالى: "ويلعنهم اللاعنون" " يعني دواب الأرض. وأخرج عبد بن حميد عن عطاء قال: الجن والإنس وكل دابة. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الإيمان قال في تفسير الآية: إن دواب الأرض والعقارب والخنافس يقولون: إنما منعنا القطر بذنوبهم فيلعنونهم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عكرمة نحوه. وأخرج عبد بن حميد عن أبي جعفر قال: يلعنهم كل شيء حتى الخنفساء. وقد وردت أحاديث كثيرة في النهي عن كتم العلم والوعيد لفاعله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله: "إلا الذين تابوا وأصلحوا" قال: أصلحوا ما بينهم وبين الله، وبينوا الذي جاءهم من الله ولم يكتموه ولم يجحدوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "أتوب عليهم" يعني أتجاوز عنهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: إن الكافر يوقف يوم القيامة فيلعنه الله، ثم تلعنه الملائكة، ثم يلعنه الناس أجمعون. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال: يعني بالناس أجمعين المؤمنين. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله: "خالدين فيها" يقول: خالدين في جهنم في اللعنة. وقال في قوله: "ولا هم ينظرون" يقول: ألا ينظرون فيعتذرون. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ولا هم ينظرون" قال: لا يؤخرون. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والدارمي والترمذي وصححه وابن ماجه عن أسماء بنت يزيد بن السكن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين "وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم"، و" الم * الله لا إله إلا هو الحي القيوم "". وأخرج الديلمي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس شيء أشد على مردة الجن من هؤلاء الآيات التي في سورة البقرة "وإلهكم إله واحد" الآيتين".
لما ذكر سبحانه التوحيد بقوله: "وإلهكم إله واحد" عقب ذلك بالدليل الدال عليه، وهو هذه الأمور التي هي من أعظم صنعة الصانع الحكيم، مع علم كل عاقل بأنه لا يتهيأ من أحد من الآلهة التي أثبتها الكفار أن يأبى بشيء منها، أو يقتدر عليه أو على بعضه، وهي خلق السموات، وخلق الأرض، وتعاقب الليل والنهار، وجري الفلك في البحر، وإنزال المطر من السماء، وإحياء الأرض به، وبث الدواب منها بسببه، وتصريف الرياح، فإن من أمعن نظره وأعمل فكره في واحد منها انبهر له، وضاق ذهنه عن تصور حقيقته. وتحتم عليه التصديق بأن صانعه هو الله سبحانه، وإنما جمع السموات لأنها أجناس مختلفة، كل سماء من جنس غير جنس الأخرى، ووحد الأرض لأنها كلها من جنس واحد وهو التراب. والمراد باختلاف الليل والنهار تعاقبهما بإقبال أحدهما وإدبار الآخر، وإضاءة أحدهما وإظلام الآخر. والنهار: ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس. وقال النضر بن شميل: أول النهار طلوع الشمس، ولا يعد ما قبل ذلك من النهار. وكذا قال ثعلب، واستشهد بقول أمية بن أبي الصلت: والشمس تطلع كل آخر ليلة حمراء يصبح لونها يتورد وكذا قال الزجاج. وقسم ابن الأنباري الزمان إلى ثلاثة أقسام: قسماً جعله ليلاً محضاً، وهو من غروب الشمس إلى طلوع الفجر. وقسماً جعله نهاراً محضاً، وهو من طلوع الشمس إلى غروبها. وقسماً جعله مشتركاً بين النهار والليل، وهو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس لبقايا ظلمة الليل ومبادئ ضوء النهار. هذا باعتبار مصطلح أهل اللغة. وأما في الشرع فالكلام في ذلك معروف. والفلك: السفن، وإفراده وجمعه بلفظ واحد، وهو هذا ويذكر ويؤنث. قال الله تعالى: "في الفلك المشحون"، 164- "والفلك التي تجري في البحر" وقال: "حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم" وقيل: واحده فلك بالتحريك، مثل أسد وأسد. وقوله: "بما ينفع الناس" يحتمل أن تكون ما موصولة أي بالذي ينفعهم، أو مصدرية: أي بنفعهم، والمراد بما أنزل من السماء المطر الذي به حياة العالم وإخراج النبات والأرزاق. والبث: النشر، والظاهر أن قوله: "بث" معطوف على قوله: "فأحيا" لأنهما أمران متسببان عن إنزال المطر. وقال في الكشاف: إن الظاهر عطفه على أنزل. والمراد بتصريف الرياح: إرسالها عقيماً، وملقحة وصراً ونصراً، وهلاكاً وحارةً وباردةً، ولينةً عاصفةً، وقيل تصريفها: إرسالها جنوباً وشمالاً ودبوراً، وصباً ونكباً وهي التي تأتي بين مهبي ريحين، وقيل تصريفها: أن تأتي السفن الكبار بقدر ما تحملها والصغار كذلك، ولا مانع من حمل التصريف على جميع ما ذكر. والسحاب سمي سحاباً لانسحابه في الهواء، وسحبت ذيلي سحباً وتسحب فلان على فلان: اجترأ. والمسخر: المذلل، وسخره: بعثه من مكان إلى آخر، وقيل تسخيره: ثبوته بين السماء والأرض من غير عمد ولا علائق. والأول أظهر. والآيات الدلالات على وحدانيته سبحانه لمن ينظر ببصره ويتفكر بعقله. وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: ادع الله أن يجعل لنا الصفا ذهباً نتقوى به على عدونا، فأوحى الله إليه: إني معطيهم فأجعل لهم الصفا ذهباً، ولكن إن كفروا بعد ذلك عذبتهم عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين، فقال: "رب دعني وقومي فأدعوهم يوماً بيوم"، فأنزل الله هذه الآية. وأخرج نحوه عبد بن حميد وابن جرير عن سعيد بن جبير. وأخرج وكيع والفريابي وآدم بن أبي إياس وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي الضحى قال: لما نزلت "وإلهكم إله واحد" عجب المشركون وقالوا: إن محمداً يقول: "وإلهكم إله واحد" فليأتنا بآية إن كان من الصادقين، فأنزل الله "إن في خلق السموات والأرض" الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عطاء نحوه. وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن سليمان قال: الليل موكل به ملك يقال له شراهيل، فإذا حان وقت الليل أخذ خرزة سوداء فدلاها من قبل المغرب، فإذا نظرت إليها الشمس وجبت في أسرع من طرفة عين، وقد أمرت الشمس أن لا تغرب حتى ترى الخرزة، فإذا غربت جاء الليل، فلا تزال الخرزة معلقة حتى يجيء ملك آخر يقال له هراهيل بخرزة بيضاء فيعلقها من قبل المطلع، فإذا رآها شراهيل مد إليه خرزته، وترى الشمس الخرزة البيضاء، فتطلع، وقد أمرت أن لا تطلع حتى تراها، فإذا طلعت جاء النهار. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله: "والفلك" قال: السفينة. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: "بث" خلق، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "وتصريف الرياح" قال: إذا شاء جعلها رحمة لواقح للسحاب، وبشراً بين يدي رحمته، وإذا شاء جعلها عذاباً ريحاً عقيماً لا تلقح. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي بن كعب قال: كل شيء في القرآن من الرياح فهي رحمة، وكل شيء في القرآن من الريح فهي عذاب. وقد ورد في النهي عن سب الريح وأوصافها أحاديث كثيرة لا تعلق لها بالآية.
لما فرغ سبحانه من الدليل على وحدانيته، أخبر أن مع هذا الدليل الظاهر المفيد لعظيم سلطانه، وجليل قدرته وتفرده بالخلق، قد وجد في الناس من يتخذ معه سبحانه نداً يعبده من الأصنام. وقد تقدم تفسير الأنداد، مع أن هؤلاء الكفار لم يقتصروا على مجرد عبادة الأنداد، بل أحبوها حباً عظيماً وأفرطوا في ذلك إفراطاً بالغاً، حتى صار حبهم لهذه الأوثان ونحوها متمكناً في صدورهم كتمكن حب المؤمنين لله سبحانه، فالمصدر في قوله: 165- "كحب الله" مضاف إلى المفعول، والفاعل محذوف وهو المؤمنون. ويجوز أن يكون المراد كحبهم لله: أي عبدة الأوثان قاله ابن كيسان والزجاج. ويجوز أن يكون هذا المصدر من المبني للمجهول: أي كما يحب الله. والأول أولى لقوله: "والذين آمنوا أشد حباً لله" فإنه استدراك لما يفيده التشبيه من التساوي: أي أن حب المؤمنين لله أشد من حب الكفار للأنداد، لأن المؤمنين يخصون الله سبحانه بالعبادة والدعاء، والكفار لا يخصون أصنامهم بذلك، بل يشركون الله معهم، ويعترفون بأنهم إنما يعبدون أصنامهم ليقربوهم إلى الله، ويمكن أن يجعل هذا: أعني قوله: "والذين آمنوا أشد حباً لله" دليلاً على الثاني، لأن المؤمنين كانوا أشد حباً لله لم يكن حب الكفار للأنداد كحب المؤمنين لله، وقيل: المراد بالأنداد هنا الرؤساء: أي يطيعونهم في معاصي الله، ويقوي هذا الضمير في قولهم: "يحبونهم" فإن لمن يعقل، ويقويه أيضاً قوله سبحانه عقب ذلك: "إذ تبرأ الذين اتبعوا" الآية. قوله: " ولو يرى الذين ظلموا " قراءة أهل مكة والكوفة وأبو عمرو بالياء التحتية، وهو اختيار أبي عبيد. وقراءة أهل المدينة وأهل الشام بالفوقية، والمعنى على القراءة الأولى: لو يرى الذين ظلموا في الدنيا عذاب الآخرة لعلموا حين يرونه أن القوة لله جميعاً قاله أبو عبيد. قال النحاس: وهذا القول هو الذي عليه أهل التفسير انتهى. وعلى هذا فالرؤية هي البصرية لا القلبية. وروي عن محمد بن يزيد المبرد أنه قال: هذا التفسير الذي جاء به أبو عبيد بعيد، وليست عبارته فيه بالجيدة، لأنه يقدر: ولو يرى الذين ظلموا العذاب، فكأنه يجعله مشكوكاً فيه. وقد أوجبه الله تعالى، ولكن التقدير وهو الأحسن: ولو يرى الذين ظلموا أن القوة لله- ويرى بمعنى يعلم: أي لو يعلمون حقيقة قوة الله وشدة عذابه. قال: وجواب لو محذوف: أي ليتبينوا ضرر اتخاذهم الآلهة كما حذف في قوله: "ولو ترى إذ وقفوا على النار" "ولو ترى إذ وقفوا على ربهم" ومن قرأ بالفوقية فالتقدير: ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم العذاب وفزعهم منه لعلمت أن القوة لله جميعاً. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم علم ذلك ولكن خوطب بهذا الخطاب، والمراد به أمته، وقيل: "أن" في موضع نصب مفعول لأجله: أي لأن القوة لله، كما قال الشاعر: وأغفر عوراء الكريم ادخاره وأعرض عن شتم اللئيم تكرما أي لادخاره، والمعنى: ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم للعذاب، لأن القوة لله لعلمت مبلغهم من النكال، ودخلت "إذ" وهي لما مضى في إثبات هذه المستقبلات تقريباً للأمر وتصحيحاً لوقوعه. وقرأ ابن عامر "إذ يرون" بضم الياء، والباقون بفتحها. وقرأ الحسن ويعقوب وأبو جعفر " أن القوة " و"إن الله" بكسر الهمزة فيهما على الاستئناف، وعلى تقدير القول.
فتح القدير - صفحة القرآن رقم 24
023154- " ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون " وأموات وأحياء مرتفعان على أنهما خبران لمحذوفين: أي لا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله هم أموات بل هم أحياء، ولكن لا تشعرون بهذه الحياة عند مشاهدتكم لأبدانهم بعد سلب روحهم، لأنكم تحكمون عليها بالموت في ظاهر الأمر بحسب ما يبلغ إليه علمكم الذي هو بالنسبة إلى علم الله كما يأخذ الطائر في منقاره من ماء البحر، وليسوا كذلك في الواقع بل هم أحياء في البرزخ. وفي الآية دليل على ثبوت عذاب القبر، ولا اعتداد بخلاف من خالف في ذلك، فقد تواترت به الأحاديث الصحيحة ودلت عليه الآيات القرآنية، ومثل هذه الآية قوله تعالى: "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون".
والبلاء أصله المحنة، ومعنى نبلونكم: تمتحنكم لنختبركم هل تصبرون على القضاء أم لا؟ وتنكير شيء للتقليل: أي بشيء قليل من هذه الأمور. وقرأ الضحاك بأشياء. والمراد بالخوف: ما يحصل لمن يخشى من نزول ضرر به من عدو أو غيره. وبالجوع: المجاعة التي تحصل عند الجدب والقحط. وبنقص الأموال: ما يحدث فيها بسبب الجوائح وما أوجه الله فيها من الزكاة ونحوها. وبنقص الأنفس: الموت والقتل في الجهاد. وبنقص الثمرات: ما يصيبها من الآفات وهو من عطف الخاص على العام لشمول الأموال للثمرات وغيرها- وقيل: المراد بنقص الثمرات: موت الأولاد. وقوله: 155- "وبشر الصابرين" أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يقدر على التبشير. وقد تقدم معنى البشارة. والصبر أصله الحبس، ووصفهم بأنهم المسترجعون عند المصيبة، لأن ذلك تسليم ورضا.
والمصيبة واحدة المصائب: وهي النكبة التي يتأذى بها الإنسان وإن صغرت. وقوله: 156- "إنا لله وإنا إليه راجعون" فيه بيان أن هذه الكلمات ملجأ للمصابين وعصمة للممتحنين، فإنها جامعة بين الإقرار بالعبودية لله، والاعتراف بالبعث والنشور.
ومعنى الصلوات هنا: المغفرة والثناء الحسن قاله الزجاج. وعلى هذا فذكر الرحمة لقصد التأكيد. وقال في الكشاف: الصلاة الرحمة والتعطف، فوضعت موضع الرأفة، وجمع بينها وبين الرحمة كقوله: رأفة ورحمة "رؤوف رحيم" والمعنى: عليهم رأفة بعد رأفة ورحمة بعد رحمة انتهى. وقيل: المراد بالرحمة: كشف الكربة وقضاء الحاجة. 157- و"المهتدون" قد تقدم معناه، وإنما وصفوا هنا بذلك لكونهم فعلوا ما فيه الوصول إلى طريق الصواب من الاسترجاع والتسليم. وأخرج الحاكم والبيهقي في الدلائل عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: غشي على عبد الرحمن بن عوف في وجعه غشية ظنوا أنه قد فاضت نفسه فيها، حتى قاموا من عنده وجللوه ثوباً، وخرجت أم كلثوم بنت عقبة امرأته إلى المسجد تستعين بما أمرت به من الصبر والصلاة، فلبثوا ساعة وهو في غشيته ثم أفاق. وأخرج ابن منده في المعرفة عن ابن عباس قال: قتل تميم بن الحمام ببدر، وفيه وفي غيره نزلت: "ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات" الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: "في سبيل الله" في طاعة الله في قتال المشركين. وقد وردت أحاديث أن أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر تأكل من ثمار الجنة. فمنها عن كعب بن مالك مرفوعاً عند أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه. وروي أن أرواح الشهداء تكون على صور طيور بيض، كما أخرجه عبد الرزاق عن قتادة قال: بلغنا، فذكر ذلك. وأخرجه عبد بن حميد وابن جرير عنه أيضاً بنحوه، وروي أنها على صور طيور خضر، كما أخرجه ابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي العالية. وأخرجه ابن أبي شيبة في البعث والنشور عن كعب. وأخرجه هناد بن يسرى عن هذيل. وأخرجه عنه عبد الرزاق في المصنف عن عبد الله بن كعب بن مالك مرفوعاً، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عطاء في قوله: "ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع" قال: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله: "ولنبلونكم" الآية، قال: أخبر الله المؤمنين أن الدنيا دار بلاء وأنه مبتليهم فيها، وأمرهم بالصبر وبشرهم فقال: "وبشر الصابرين" وأخبر أن المؤمن إذا سلم لأمر الله ورجع واسترجع عند المصيبة كتب الله له ثلاث خصال من الخير: الصلاة من الله، والرحمة، وتخفيف سبيل الهدى. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته، وأحسن عقباه، وجعل له خلفاً صالحاً يرضاه". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن رجاء بن حيوة في قوله: "ونقص من الثمرات" قال: يأتي على الناس زمان لا تحمل النخلة فيه إلا تمرة. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أعطيت أمتي شيئاً لم يعطه أحد من الأمم أن يقولوا عند المصيبة: إنا لله وإنا إليه راجعون" وقد ورد في فضل الاسترجاع عند المصيبة أحاديث كثيرة.
أصل 158- "الصفا" في اللغة: الحجر الأملس، وهو هنا علم لجبل من جبال مكة معروف، وكذلك "المروة" علم لجبل بمكة معروف، وأصلها في اللغة: واحدة المروى، وهي الحجارة الصغار التي فيها لين. وقيل: التي فيها صلابة، وقيل: تعم الجميع. قال أبو ذؤيب: حتى كأني للحوادث مروة بصفا المشقر كل يوم تقرع وقيل: إنها الحجارة البيض البراقة: وقيل: إنها الحجارة السود. والشعائر جمع شعيرة، وهي العلامة: أي من أعلام مناسكه. والمراد بها مواضع العبادة التي أشعرها الله إعلاماً للناس من الموقف والسعي والمنحر، ومنه إشعار الهدي: أي إعلامه بغرز حديدة في سنامه، ومنه قول الكميت: نقتلهم جيلاً فجيلاً تراهم شعائر قربان بهم يتقرب وحج البيت في اللغة: قصده، ومنه قول الشاعر: وأشهد من عوف حئولاً كثيرة يحجون سب الزبرقان المزعفرا والسب: العمامة. وفي الشرع: الإتيان بمناسك الحج التي شرعها الله سبحانه. والعمرة في اللغة: الزيارة. وفي الشرع: الإتيان بالنسك المعروف على الصفة الثابتة. والجناح أصله من الجنوح، وهو الميل، ومنه الجوانح لاعوجاجها. وقوله: "يطوف" أصله يتطوف فأدغم. وقرئ: "أن يطوف"، ورفع الجناح يدل على عدم الوجوب، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري. وحكى الزمخشري في الكشاف عن أبي حنيفة أنه يقول: إنه واجب وليس بركن وعلى تاركه دم. وقد ذهب إلى عدم الوجوب ابن عباس وابن الزبير وأنس بن مالك وابن سيرين. ومما يقوي دلالة هذه الآية على عدم الوجود قوله تعالى في آخر الآية: "ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم" وذهب الجمهور إلى أن السعي واجب ونسك من جملة المناسك، واستدلوا بما أخرجه الشيخان وغيرهما عن عائشة أن عروة قال لها: أرأيت قول الله: "إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما" فما أرى على أحد جناحاً أن لا يطوف بهما؟ فقالت عائشة: بئس ما قلت يا ابن أختي، إنها لو كانت على ما أولتها كانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بها، ولكنها إنما أنزلت أن الأنصار قبل أن يسلموا كانوا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها، وكان من أهل لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة في الجاهلية، فأنزل الله: "إن الصفا والمروة من شعائر الله" الآية، قالت عائشة: ثم قد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بهما، فليس لأحد أن يدع الطواف بهما. وأخرج مسلم وغيره عنها أنها قالت: لعمري ما أتم الله حج من لم يسع بين الصفا والمروة ولا عمرته، لأن الله قال: "إن الصفا والمروة من شعائر الله". وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا". وأخرج أحمد في سنده والشافعي وابن سعد وابن المنذر وابن قانع والبيهقي عن حبيبة بنت أبي تجرأة قالت: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه وهو وراءهم يسعى حتى أرى ركبتيه من شدة السعي يدور به إزاره وهو يقول: اسعوا فإن الله عز وجل كتب عليكم السعي" وهي في مسند أحمد من طريق شيخه عبد الله بن المؤمل عن عطاء بن أبي رباح عن صفية بنت شيبة عنها، ورواه من طريق أخرى عن عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن واصل مولى أبي عيينة عن موسى بن عبيدة عن صفية بنت شيبة أن امرأة أخبرتها فذكرته. ويؤيد ذلك حديث: "خذوا عني مناسككم" اهـ.
قوله: 159- "إن الذين يكتمون" إلى آخر الآية، فيه الإخبار بأن الذي يكتم ذلك ملعون- واختلفوا من المراد بذلك؟ فقيل: أحبار اليهود ورهبان النصارى الذين كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: كل من كتم الحق وترك بيان ما أوجب الله بيانه، وهو الراجح لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما تقرر في الأصول، فعلى فرض أن سبب النزول ما وقع من اليهود والنصارى من الكتم فلا ينافي ذلك تناول هذه الآية كل من كتم الحق. وفي هذه الآية من الوعيد الشديد ما لا يقادر قدره، فإن من لعنه الله ولعنه كل من يتأتى منه اللعن من عباده قد بلغ من الشقاوة والخسران إلى الغاية التي لا تلحق ولا يدرك كنهها. وفي قوله: "من البينات والهدى" دليل على أنه يجوز كتم غير ذلك كما قال أبو هريرة: "حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين: أما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم" أخرجه البخاري. والضمير في قوله: "من بعد ما بيناه" راجع إلى ما أنزلنا، والكتاب اسم جنس، وتعريفه يفيد شموله لجميع الكتب، وقيل: المراد به التوراة. واللعن: الإبعاد والطرد. والمراد بقوله: "اللاعنون" الملائكة والمؤمنون قاله الزجاج وغيره، ورجحه ابن عطية، وقيل: كل من يتأتى منه اللعن فيدخل في ذلك الجن، وقيل: هم الحشرات والبهائم.
وقوله: 160- "إلا الذين تابوا" إلخ، فيه استثناء التائبين والمصلحين لما فسد من أعمالهم، والمبيني للناس ما بينه الله في كتبه وعلى ألسن رسله.
قوله: 161- "وماتوا وهم كفار" هذه الجملة حالية، وقد استدل بذلك على أنه لا يجوز لعن كافر معين، لأن حاله عند الوفاة لا يعلم، ولا ينافي ذلك ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من لعنه لقوم من الكفار بأعيانعم، لأنه يعلم بالوحي ما لا نعلم، وقيل: يجوز لعنه عملاً بظاهر الحال كما يجوز قتاله. قوله: "أولئك عليهم لعنة الله" إلخ، استدل به على جواز لعن الكفار على العموم. قال القرطبي: ولا خلاف في ذلك. قال: وليس لعن الكافر بطريق الزجر له عن الكفر، بل هو جزاء على الكفر وإظهار قبح كفره سواء كان الكافر عاقلاً أو مجنوناً. وقال قوم من السلف: لا فائدة في لعن ما جن أو مات منهم لا بطريق الجزاء ولا بطريق الزجر. قال: ويدل على هذا القول أن الآية دالة على الإخبار عن الله والملائكة والناس بلعنهم لا على الأمر به. قال ابن العربي: إن لعن العاصي المعين لا يجوز باتفاق، لما روي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بشارب خمر مراراً، فقال بعض من حضر: لعنه الله ما أكثر ما يشربه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم" والحديث في الصحيحين. وقوله: "والناس أجمعين" قيل: هذا يوم القيامة، وأما في الدنيا ففي الناس المسلم والكافر، ومن يعلم بالمعاصي ومعصيته ومن لا يعلم، فلا يتأتى اللعن له من جميع الناس، وقيل: في الدنيا، والمراد أنه يلعنه غالب الناس أو كل من علم بمعصيته منهم.
وقوله: 162- "خالدين فيها" أي في النار، وقيل: في اللعنة. والإنظار: الإمهال، وقيل: معنى لا ينظرون: لا ينظر الله إليهم فهو من النظر، وقيل: هو من الانتظار: أي لا ينتظرون ليعتذروا.
وقد تقدم تفسير 163- "الرحمن الرحيم". وقوله: "وإلهكم إله واحد" فيه الإرشاد إلى التوحيد وقطع علائق الشرك، والإشارة إلى أن أول ما يجب بيانه ويحرم كتمانه هو أمر التوحيد. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: سأل معاذ بن جبل أخو بني سلمة وسعد بن معاذ أخو بني الأشهل وخارجة بن زيد أخو بني الحارث بن الخزرج نفراً من أحبار اليهود عن بعض ما في التوراة، فكتموهم إياه وأبوا أن يخبروهم، فأنزل الله فيهم: "إن الذين يكتمون ما أنزلنا" الآية. وقد روي عن جماعة من السلف أن الآية نزلت في أهل الكتاب لكتمهم نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن ماجه وابن المنذر وابن أبي حاتم عن البراء بن عازب قال: " كنا في جنازة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن الكافر يضرب ضربة بين عينيه فتسمعه كل دابة الثقلين، فتلعنه كل دابة سمعت صوته، فذلك قول الله تعالى: "ويلعنهم اللاعنون" " يعني دواب الأرض. وأخرج عبد بن حميد عن عطاء قال: الجن والإنس وكل دابة. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الإيمان قال في تفسير الآية: إن دواب الأرض والعقارب والخنافس يقولون: إنما منعنا القطر بذنوبهم فيلعنونهم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عكرمة نحوه. وأخرج عبد بن حميد عن أبي جعفر قال: يلعنهم كل شيء حتى الخنفساء. وقد وردت أحاديث كثيرة في النهي عن كتم العلم والوعيد لفاعله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله: "إلا الذين تابوا وأصلحوا" قال: أصلحوا ما بينهم وبين الله، وبينوا الذي جاءهم من الله ولم يكتموه ولم يجحدوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "أتوب عليهم" يعني أتجاوز عنهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: إن الكافر يوقف يوم القيامة فيلعنه الله، ثم تلعنه الملائكة، ثم يلعنه الناس أجمعون. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال: يعني بالناس أجمعين المؤمنين. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله: "خالدين فيها" يقول: خالدين في جهنم في اللعنة. وقال في قوله: "ولا هم ينظرون" يقول: ألا ينظرون فيعتذرون. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ولا هم ينظرون" قال: لا يؤخرون. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والدارمي والترمذي وصححه وابن ماجه عن أسماء بنت يزيد بن السكن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين "وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم"، و" الم * الله لا إله إلا هو الحي القيوم "". وأخرج الديلمي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس شيء أشد على مردة الجن من هؤلاء الآيات التي في سورة البقرة "وإلهكم إله واحد" الآيتين".
لما ذكر سبحانه التوحيد بقوله: "وإلهكم إله واحد" عقب ذلك بالدليل الدال عليه، وهو هذه الأمور التي هي من أعظم صنعة الصانع الحكيم، مع علم كل عاقل بأنه لا يتهيأ من أحد من الآلهة التي أثبتها الكفار أن يأبى بشيء منها، أو يقتدر عليه أو على بعضه، وهي خلق السموات، وخلق الأرض، وتعاقب الليل والنهار، وجري الفلك في البحر، وإنزال المطر من السماء، وإحياء الأرض به، وبث الدواب منها بسببه، وتصريف الرياح، فإن من أمعن نظره وأعمل فكره في واحد منها انبهر له، وضاق ذهنه عن تصور حقيقته. وتحتم عليه التصديق بأن صانعه هو الله سبحانه، وإنما جمع السموات لأنها أجناس مختلفة، كل سماء من جنس غير جنس الأخرى، ووحد الأرض لأنها كلها من جنس واحد وهو التراب. والمراد باختلاف الليل والنهار تعاقبهما بإقبال أحدهما وإدبار الآخر، وإضاءة أحدهما وإظلام الآخر. والنهار: ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس. وقال النضر بن شميل: أول النهار طلوع الشمس، ولا يعد ما قبل ذلك من النهار. وكذا قال ثعلب، واستشهد بقول أمية بن أبي الصلت: والشمس تطلع كل آخر ليلة حمراء يصبح لونها يتورد وكذا قال الزجاج. وقسم ابن الأنباري الزمان إلى ثلاثة أقسام: قسماً جعله ليلاً محضاً، وهو من غروب الشمس إلى طلوع الفجر. وقسماً جعله نهاراً محضاً، وهو من طلوع الشمس إلى غروبها. وقسماً جعله مشتركاً بين النهار والليل، وهو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس لبقايا ظلمة الليل ومبادئ ضوء النهار. هذا باعتبار مصطلح أهل اللغة. وأما في الشرع فالكلام في ذلك معروف. والفلك: السفن، وإفراده وجمعه بلفظ واحد، وهو هذا ويذكر ويؤنث. قال الله تعالى: "في الفلك المشحون"، 164- "والفلك التي تجري في البحر" وقال: "حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم" وقيل: واحده فلك بالتحريك، مثل أسد وأسد. وقوله: "بما ينفع الناس" يحتمل أن تكون ما موصولة أي بالذي ينفعهم، أو مصدرية: أي بنفعهم، والمراد بما أنزل من السماء المطر الذي به حياة العالم وإخراج النبات والأرزاق. والبث: النشر، والظاهر أن قوله: "بث" معطوف على قوله: "فأحيا" لأنهما أمران متسببان عن إنزال المطر. وقال في الكشاف: إن الظاهر عطفه على أنزل. والمراد بتصريف الرياح: إرسالها عقيماً، وملقحة وصراً ونصراً، وهلاكاً وحارةً وباردةً، ولينةً عاصفةً، وقيل تصريفها: إرسالها جنوباً وشمالاً ودبوراً، وصباً ونكباً وهي التي تأتي بين مهبي ريحين، وقيل تصريفها: أن تأتي السفن الكبار بقدر ما تحملها والصغار كذلك، ولا مانع من حمل التصريف على جميع ما ذكر. والسحاب سمي سحاباً لانسحابه في الهواء، وسحبت ذيلي سحباً وتسحب فلان على فلان: اجترأ. والمسخر: المذلل، وسخره: بعثه من مكان إلى آخر، وقيل تسخيره: ثبوته بين السماء والأرض من غير عمد ولا علائق. والأول أظهر. والآيات الدلالات على وحدانيته سبحانه لمن ينظر ببصره ويتفكر بعقله. وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: ادع الله أن يجعل لنا الصفا ذهباً نتقوى به على عدونا، فأوحى الله إليه: إني معطيهم فأجعل لهم الصفا ذهباً، ولكن إن كفروا بعد ذلك عذبتهم عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين، فقال: "رب دعني وقومي فأدعوهم يوماً بيوم"، فأنزل الله هذه الآية. وأخرج نحوه عبد بن حميد وابن جرير عن سعيد بن جبير. وأخرج وكيع والفريابي وآدم بن أبي إياس وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي الضحى قال: لما نزلت "وإلهكم إله واحد" عجب المشركون وقالوا: إن محمداً يقول: "وإلهكم إله واحد" فليأتنا بآية إن كان من الصادقين، فأنزل الله "إن في خلق السموات والأرض" الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عطاء نحوه. وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن سليمان قال: الليل موكل به ملك يقال له شراهيل، فإذا حان وقت الليل أخذ خرزة سوداء فدلاها من قبل المغرب، فإذا نظرت إليها الشمس وجبت في أسرع من طرفة عين، وقد أمرت الشمس أن لا تغرب حتى ترى الخرزة، فإذا غربت جاء الليل، فلا تزال الخرزة معلقة حتى يجيء ملك آخر يقال له هراهيل بخرزة بيضاء فيعلقها من قبل المطلع، فإذا رآها شراهيل مد إليه خرزته، وترى الشمس الخرزة البيضاء، فتطلع، وقد أمرت أن لا تطلع حتى تراها، فإذا طلعت جاء النهار. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله: "والفلك" قال: السفينة. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: "بث" خلق، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "وتصريف الرياح" قال: إذا شاء جعلها رحمة لواقح للسحاب، وبشراً بين يدي رحمته، وإذا شاء جعلها عذاباً ريحاً عقيماً لا تلقح. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي بن كعب قال: كل شيء في القرآن من الرياح فهي رحمة، وكل شيء في القرآن من الريح فهي عذاب. وقد ورد في النهي عن سب الريح وأوصافها أحاديث كثيرة لا تعلق لها بالآية.
لما فرغ سبحانه من الدليل على وحدانيته، أخبر أن مع هذا الدليل الظاهر المفيد لعظيم سلطانه، وجليل قدرته وتفرده بالخلق، قد وجد في الناس من يتخذ معه سبحانه نداً يعبده من الأصنام. وقد تقدم تفسير الأنداد، مع أن هؤلاء الكفار لم يقتصروا على مجرد عبادة الأنداد، بل أحبوها حباً عظيماً وأفرطوا في ذلك إفراطاً بالغاً، حتى صار حبهم لهذه الأوثان ونحوها متمكناً في صدورهم كتمكن حب المؤمنين لله سبحانه، فالمصدر في قوله: 165- "كحب الله" مضاف إلى المفعول، والفاعل محذوف وهو المؤمنون. ويجوز أن يكون المراد كحبهم لله: أي عبدة الأوثان قاله ابن كيسان والزجاج. ويجوز أن يكون هذا المصدر من المبني للمجهول: أي كما يحب الله. والأول أولى لقوله: "والذين آمنوا أشد حباً لله" فإنه استدراك لما يفيده التشبيه من التساوي: أي أن حب المؤمنين لله أشد من حب الكفار للأنداد، لأن المؤمنين يخصون الله سبحانه بالعبادة والدعاء، والكفار لا يخصون أصنامهم بذلك، بل يشركون الله معهم، ويعترفون بأنهم إنما يعبدون أصنامهم ليقربوهم إلى الله، ويمكن أن يجعل هذا: أعني قوله: "والذين آمنوا أشد حباً لله" دليلاً على الثاني، لأن المؤمنين كانوا أشد حباً لله لم يكن حب الكفار للأنداد كحب المؤمنين لله، وقيل: المراد بالأنداد هنا الرؤساء: أي يطيعونهم في معاصي الله، ويقوي هذا الضمير في قولهم: "يحبونهم" فإن لمن يعقل، ويقويه أيضاً قوله سبحانه عقب ذلك: "إذ تبرأ الذين اتبعوا" الآية. قوله: " ولو يرى الذين ظلموا " قراءة أهل مكة والكوفة وأبو عمرو بالياء التحتية، وهو اختيار أبي عبيد. وقراءة أهل المدينة وأهل الشام بالفوقية، والمعنى على القراءة الأولى: لو يرى الذين ظلموا في الدنيا عذاب الآخرة لعلموا حين يرونه أن القوة لله جميعاً قاله أبو عبيد. قال النحاس: وهذا القول هو الذي عليه أهل التفسير انتهى. وعلى هذا فالرؤية هي البصرية لا القلبية. وروي عن محمد بن يزيد المبرد أنه قال: هذا التفسير الذي جاء به أبو عبيد بعيد، وليست عبارته فيه بالجيدة، لأنه يقدر: ولو يرى الذين ظلموا العذاب، فكأنه يجعله مشكوكاً فيه. وقد أوجبه الله تعالى، ولكن التقدير وهو الأحسن: ولو يرى الذين ظلموا أن القوة لله- ويرى بمعنى يعلم: أي لو يعلمون حقيقة قوة الله وشدة عذابه. قال: وجواب لو محذوف: أي ليتبينوا ضرر اتخاذهم الآلهة كما حذف في قوله: "ولو ترى إذ وقفوا على النار" "ولو ترى إذ وقفوا على ربهم" ومن قرأ بالفوقية فالتقدير: ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم العذاب وفزعهم منه لعلمت أن القوة لله جميعاً. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم علم ذلك ولكن خوطب بهذا الخطاب، والمراد به أمته، وقيل: "أن" في موضع نصب مفعول لأجله: أي لأن القوة لله، كما قال الشاعر: وأغفر عوراء الكريم ادخاره وأعرض عن شتم اللئيم تكرما أي لادخاره، والمعنى: ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم للعذاب، لأن القوة لله لعلمت مبلغهم من النكال، ودخلت "إذ" وهي لما مضى في إثبات هذه المستقبلات تقريباً للأمر وتصحيحاً لوقوعه. وقرأ ابن عامر "إذ يرون" بضم الياء، والباقون بفتحها. وقرأ الحسن ويعقوب وأبو جعفر " أن القوة " و"إن الله" بكسر الهمزة فيهما على الاستئناف، وعلى تقدير القول.
الصفحة رقم 24 من المصحف تحميل و استماع mp3