تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 245 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 245

245 : تفسير الصفحة رقم 245 من القرآن الكريم

** فَلَمّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوَاْ أَنّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مّوْثِقاً مّنَ اللّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأرْضَ حَتّىَ يَأْذَنَ لِيَ أَبِيَ أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ * ارْجِعُوَاْ إِلَىَ أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يَأَبَانَا إِنّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَآ إِلاّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ * وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الّتِي كُنّا فِيهَا وَالّعِيْرَ الّتِيَ أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنّا لَصَادِقُونَ
يخبر تعالى عن إخوة يوسف أنهم لما يئسوا من تخليص أخيهم بنيامين الذي قد التزموا لأبيهم برده إليه, وعاهدوه على ذلك, فامتنع عليهم ذلك {خلصو} أي انفردوا عن الناس {نجي} يتناجون فيما بينهم {قال كبيرهم} وهو روبيل, وقيل: يهوذا, وهو الذي أشار عليهم بإلقائه في البئر عندما هموا بقتله, قال لهم: {ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقاً من الله} لتردنه إليه فقد رأيتم كيف تعذر عليكم ذلك مع ما تقدم لكم من إضاعة يوسف عنه {فلن أبرح الأرض} أي لن أفارق هذه البلدة {حتى يأذن لي أبي} في الرجوع إليه راضياً عني {أو يحكم الله لي} قيل: بالسيف, وقيل: بأن يمكنني من أخذ أخي {وهو خير الحاكمين}, ثم أمرهم أن يخبروا أباهم بصورة ما وقع, حتى يكون عذراً لهم عنده, ويتنصلوا إليه ويبرؤا مما وقع بقولهم وقوله: {وما كنا للغيب حافظين} قال قتادة وعكرمة: ما علمنا أن ابنك سرق. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ما علمنا في الغيب أنه سرق له شيئاً, إنما سألنا ما جزاء السارق ؟ {واسأل القرية التي كنا فيه}: قيل المراد مصر, قاله قتادة, وقيل غيرها, {والعير التي أقبلنا فيه} أي التي رافقناها, عن صدقنا وأمانتنا وحفظنا وحراستنا, {وإنا لصادقون} فيما أخبرناك به من أنه سرق وأخذوه بسرقته.

** قَالَ بَلْ سَوّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَتَوَلّىَ عَنْهُمْ وَقَالَ يَأَسَفَا عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتّىَ تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنّمَآ أَشْكُو بَثّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
قال لهم كما قال لهم حين جاءوا على قميص يوسف بدم كذب {بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل} قال محمد بن إسحاق: لما جاءوا يعقوب وأخبروه بما جرى, اتهمهم فظن أنها كفعلتهم بيوسف, قال: {بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل} وقال بعض الناس: لما كان صنيعهم هذا مرتباً على فعلهم الأول, سحب حكم الأول عليه, وصح قوله: {بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل} ثم ترجى من الله أن يرد عليه أولاده الثلاثة: يوسف وأخاه بنيامين وروبيل الذي أقام بديار مصر ينتظر أمر الله فيه, إما أن يرضى عنه أبوه, فيأمره بالرجوع إليه, وإما أن يأخذ أخاه خفية, ولهذا قال: {عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً إنه هو العليم} أي العليم بحالي, {الحكيم} في أفعاله وقضائه وقدره, {وتولى عنهم وقال يا أسفا على يوسف} أي أعرض عن بنيه, وقال متذكراً حزن يوسف القديم الأول {يا أسفا على يوسف} جدد له حزن الابنين الحزن الدفين, قال عبد الرزاق: أنبأنا الثوري عن سفيان العصفري, عن سعيد بن جبير أنه قال: لم يعط أحد غير هذه الأمة الاسترجاع, ألا تسمعون إلى قول يعقوب عليه السلام {يا أسفا على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم} أي ساكت لا يشكو أمره إلى مخلوق, قاله قتادة وغيره. وقال الضحاك: فهو كظيم كئيب حزين.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي. حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن الحسن, عن الأحنف بن قيس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن داود عليه السلام قال: يا رب إن بني إسرائيل يسألونك بإبراهيم وإسحاق ويعقوب, فاجعلني لهم رابعاً, فأوحى الله تعالى إليه: أن يا داود إن إبراهيم ألقي في النار بسببي فصبر, وتلك بلية لم تنلك, وإن إسحاق بذل مهجة دمه بسببي فصبر, وتلك بلية لم تنلك, وإن يعقوب أخذت منه حبيبه فابيضت عيناه من الحزن فصبر, وتلك بلية لم تنلك». وهذا مرسل وفيه نكارة, فإن الصحيح أن إسماعيل هو الذبيح, ولكن علي بن زيد بن جدعان له, مناكير وغرائب كثيرة, والله أعلم, وأقرب ما في هذا أن الأحنف بن قيس رحمه الله حكاه عن بعض بني إسرائيل ككعب ووهب ونحوهما, والله أعلم, فإن بني إسرائيل ينقلون أن يعقوب كتب إلى يوسف لما احتبس أخاه بسبب السرقة يتلطف له في رد ابنه, ويذكر له أنهم أهل بيت مصابون بالبلاء, فإبراهيم ابتلي بالنار, وإسحاق بالذبح, ويعقوب بفراق يوسف, في حديث طويل لا يصح, والله أعلم, فعند ذلك رق له بنوه, وقالوا له على سبيل الرفق به والشفقة عليه: {تالله تفتؤ تذكر يوسف} أي لا تفارق تذكر يوسف {حتى تكون حرض} أي ضعيف القوة {أو تكون من الهالكين} يقولون إن استمر بك هذا الحال خشينا عليك الهلاك والتلف {قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} أي أجابهم عما قالوا بقوله: {إنما أشكو بثي وحزني} أي همي وما أنا فيه {إلى الله} وحده, {وأعلم من الله ما لا تعلمون} أي أرجو منه كل خير, وعن ابن عباس {وأعلم من الله ما لا تعلمون} يعني رؤيا يوسف أنها صدق, وأن الله لا بد أن يظهرها, وقال العوفي عنه في الاَية: أعلم أن رؤيا يوسف صادقة وأني سوف أسجد له.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة, حدثنا يحيى بن عبد الملك بن أبي غنية عن حفص بن عمر بن أبي الزبير, عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان ليعقوب النبي عليه السلام أخ مؤاخ له, فقال له ذات يوم: ما الذي أذهب بصرك, وقوس ظهرك ؟ قال: أما الذي أذهب بصري فالبكاء على يوسف, وأما الذي قوس ظهري فالحزن على بنيامين, فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يا يعقوب إن الله يقرئك السلام ويقول لك: أما تستحي أن تشكوني إلى غيري ؟ فقال يعقوب: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله, فقال جبريل عليه السلام: الله أعلم بما تشكو» وهذا حديث غريب فيه نكارة.