تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 245 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 245

244

فأجاب يوسف عليهم بقوله: 79- "معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده" أي نعوذ بالله معاذاً، فهو مصدر منصوب بفعل محذوف، والمستعيذ بالله هو المعتصم به، وأن نأخذ منصوب بنزع الخافض، والأصل من أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده، وهو بنيامين لأنه الذي وجد الصواع في رحله فقد حل لنا استعباده بفتواكم التي أفتيتمونا بقولكم: "جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه". "إنا إذا لظالمون" أي إنا إذا أخذنا غير من وجدنا متاعنا عنده لظالمون في دينكم وما تقتضيه فتواكم.
80- "فلما استيأسوا منه" أي يئسوا من يوسف وإسعلفهم منه إلى مطلبهم الذي طلبوه، والسين والتاء للمبالغة "خلصوا نجياً" أي انفردوا حال كونهم متناجين فيما بينهم، وهو مصدر يقع على الواحد والجمع كما في قوله "وقربناه نجياً". قال الزجاج: معناه انفردوا وليس معهم أخوهم متناجين فيما يعملون به في ذهابهم إلى ابيهم من غير أخيهم "قال كبيرهم"، قيل هو روبيل لأنه الأسن، وقيل يهوذا لأنه الوفر عقلاً، وقيل شمعون لأنه رئيسهم "ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقاً من الله" أي عهداً من الله في حفظ ابنه ورده إليه، ومعنى كونه من الله أنه بإذنه "ومن قبل ما فرطتم في يوسف" معطوف على ما قبله، والتقدير: ألم تعلموا أن أباكم وتعلموا تفريطكم في يوسف، ذكر هذا النحاس وغيره، ومن قبل متعلقة بتعلموا: أي وتعلموا تفريطكم في يوسف من قبل، على أن ما مصدرية، ويجوز أن تكون زائدة، وقيل ما فرطتم مرفوع المحل على الإبنداء، وخبره من قبل وقيل إن ما موصولة أو موصوفة، وكلاهما في محل النصب أو الرفع، وما ذكرناه هو الأولى، ومعنى فرطتم: قصرتم في شأنه، ولم تحفظوا عهد أبيكم فيه "فلن أبرح الأرض"، يقال برح براحاً وبروحاً: أي زال، فإذا دخله النفي صار مثبتاً: أي لن أبرح من الأرض، بل ألزمها ولا أزال مقيماً فيها "حتى يأذن لي أبي" في مفارقتها والخروج منها، وإنما قال ذلك لأنه يستحي من أبيه أن يأتي إليه بغير ولده الذي أخذ عليهم الموثق بإرجاعه إليه إلا أن يحاط بهم كما تقدم "أو يحكم الله لي" بمفارقتها والخروج منها، وقيل المعنى: أو يحكم الله لي بالنصر على من أخذ أخي فأحاربه وآخذ أخي منه، أو أعجز فأنصرف بعد ذلك "وهو خير الحاكمين" لأن أحاكمه لا تجري إلا على ما يوافق الحق. ويطابق الصواب.
ثم قال كبيرهم مخاطباً لهم 81- " ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق " قرأ الجمهور سرق على البناء للفاعل، لأنهم قد شاهدوا استخراج الصواع من وعائه. وقرأ ابن عباس والضحاك وأبو رزين على البناء للمفعول، وروى ذلك النحاس عن الكسائي. قال الزجاج: إن سرق يحتمل معنيين: أحدهما علم منه السرق، والآخر اتهم بالسرق "وما شهدنا إلا بما علمنا" من استخراج الصواع من وعائه، وقيل المعنى: ما شهدنا عند يوسف بأن السارق يسترق إلا بما علمنا من شريعتك وشريعة آبائك "وما كنا للغيب حافظين" حتى يتضح لنا هل الأمر على ما شاهدناه أو على خلافه؟ وقيل المعنى: ما كنا وقت أخذنا له منك ليخرجا معنا إلى مصر للغيب حافظين بأنه سيقع منه السرق الذي افتضحنا به، وقيل الغيب هو الليل، ومرادهم أنه سرق وهم نيام، وقيل مرادهم أنه فعل ذلك وهو غائب عنهم.
فخفي عليم فعله 82- "واسأل القرية التي كنا فيها" هذا من تمام قول كبيرهم لهم: أي قولوا لأبيكم اسأل القرية التي كنا فيها: أي مصر، والمراد أهلها: أي اسأل أهل القرية، وقيل هي قرية من قرى مصر نزلوا فيها وامتاروا منها، وقيل المعنى: واسأل القرية نفسها وإن كانت جماداً فإنك نبي الله، والله سبحانه سينطقها فتجيبك، ومما يؤيد هذا أنه قال سيبويه: لا يجوز كلم هنداً وأنت تريد غلام هند "والعير التي أقبلنا فيها" أي وقولوا لأبيكم اسأل العير التي أقبلنا فيها: أي أصحابهاوكانوا قوماً معروفين من جيران يعقوب "وإنا لصادقون" فيما قلنا، جاءوا بهذ الجملة مؤكدة هذا التأكيد لأن ما قد تقدم منهم مع أبيهم يعقوب يوجب كمال الريبة في خبرهم هذا عند السامع.وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل" قال: يعنون يوسف. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال: سرق مكحلة لخالته، يعني يوسف. وأخرج أبو الشيخ عن عطية قال: سرق في صباه ميلين من ذهب. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سرق يوسف صنماً لجده أبي أمه من ذهب وفضة فكسره وألقاه على الطريق فعيره بذلك إخوته". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير مثله غير مرفوع، وقد روى نحوه عن جماعة من التابعين. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فأسرها يوسف في نفسه" قال: أسر في نفسه قوله: "أنتم شر مكاناً والله أعلم بما تصفون". وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن قتادة مثله. وأخرج ابن جرير عن ابن إسحاق في قوله: " فلما استيأسوا منه " قال: أيسوا منه، ورأوا شدته في أمره. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "خلصوا نجياً" قال: وحدهم. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "قال كبيرهم" قال: شمعون الذي تخلف أكبرهم عقلاً، وأكبر منه في الميلاد روبيل. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة "قال كبيرهم" هو روبيل، وهو الذي كان نهاهم عن قتله وكان أكبر القوم. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد في قوله: "أو يحكم الله لي" قال: أقاتل بسيفي حتى أقتل. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن أبي صالح نحوه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة "وما كنا للغيب حافظين" قال: ما كنا نعلم أن ابنك يسرق. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "واسأل القرية" قال: يعنون مصر. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة مثله.
قوله: 83- "قال بل سولت لكم أنفسكم أمراً" أي زينت، والأمر هنا قولهم "إن ابنك سرق"وما سرق في الحقيقة، وقيل المراد بالأمر إخراجهم بنيامين، والمضي به إلى مصر طلباً للمنفعة فعاد ذلك بالمضرة، وقيل التسويل: التخييل: أي خيلت لكم أنفسكم أمراً لا أصل له، وقيل الأمر الذي سولت لهم أنفسهم فتياهم بأن السارق يؤخذ بسرقته، والإضراب هنا هو باعتبار ما أثبتوه من البراءة لأنفسم، لا باعتبار أصل الكلام فإنه صحيح، والجملة مستأنفة مبنية على سؤال مقدر كغيرها. وجملة "فصبر جميل" خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف: أي فأمري صبر جميل أجمل بي وأولى لي والصبر الجميل هو الذي لا يبوح صاحبه بالشكوى بل يفوض أمره إلى الله ويسترجع، وقد ورد أن الصبر عند أول الصدمة "عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً" أي بيوسف وأخيه بنيامين، والأخ الثالث الباقي بمصر، وهو كبيرهم كما تقدم، وإنما قال هكذا لأنه قد كان عنده أن يوسف لم يمت، وأنه باق على الحياة وإن غاب عنه خبره "إنه هو العليم" بحالي "الحكيم" فيما يقضي به.
84- "وتولى عنهم" أي أعرض عنهم، وقطع الكلام معهم " وقال يا أسفى على يوسف ". قال الزجاج: الأصل يا أسفي، فأبدل من الياء ألفاً لخفة الفتحة، والأسف: شدة الجزع، وقيل شدة الحزن، ومنه قول كثير: فيا أسفا للقلب كيف انصرافه وللنفس لما سليت فتسلت قال يعقوب هذه المقالة لما بلغ منه الحزن غاية مبالغة بسبب فراقه ليوسف، وانضمام فراقه لأخيه بنيامين، وبلوغ ما بلغه من كونه أسيراً عند ملك مصر، فتضاعفت أحزانه، وهاج عليه الوجد القديم بما أثاره من الخبر الأخير. وقد روى عن سعيد بن جبير أن يعقوب لم يكن عنه ما ثبت في شريعتنا من الاسترجاع والصبر على المصائب، ولو كان عنده ذلك لما قال: يا أسفا على يوسف. ومعنى المناداة للأسف طلب حضوره، كأنه قال: تعال يا أسفي وأقبل إلي "وابيضت عيناه من الحزن" أي انقلب سواد عينيه بياضاً من كثرة البكاء. قيل إنه زال إدراكه بحاسة البصر بالمرة، وقيل كان يدرك إدراكاً ضعيفاً. وقد قيل في توجيه ما وقع من يعقوب عليه السلام من هذا الحزن العظيم المفضي إلى ذهاب بصره كلاً أو بعضاً بأنه إنما وقع منه ذلك لأنه علم أن يوسف حي، فخاف على دينه مع كونه بأرض مصر وأهلها حينئذ كفار، وقيل إن مجرد الحزن ليس بمحرم، وإنما المحرم ما يفضي منه إلى الوله وشق الثياب والتكلم بما لا ينبغي. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عند موت ولده إبراهيم: "تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون". ويؤيد هذا قوله: "فهو كظيم" أي مكظوم، فإن معناه: أنه مملوء من الحزن ممسك له لا يبثه، ومنه كظم الغيظ وهو إخفاؤه، فالمكظوم المسدودعليه طريق حزنه، من كظم السقاء: إذا سده على ما فيه، والكظم بفتح الظاء: مخرج النفس، يقال أخذ بأكظامه وقيل الكظيم بمعنى الكاظم: أي المشتمل على حزنه الممسك له، ومنه: فإن أك كاظماً لمصاب ناس فإني اليوم منطلق لساني ومنه "والكاظمين الغيظ". وقال الزجاج: معنى كظيم: محزون. وروي عن ابن عباس أنه قال: معناه مغموم مكروب. قال بعض أهل اللغة: الحزن بالضم والسكون: البكاء، وبفتحتين: ضد الفرح.
وقال أكثر أهل اللغة: هما لغتان بمعنى 85- " قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف " أي لا تفتؤ، فحذف حرف النفي لعدم اللبس. قال الكسائي: فتأت وفتئت أفعل كذا: أي ما زالت، وقال الفراء:إن لا مضمرة: أي لا تفتأ.قال النحاس: والذي قال صحيح. وقد روي عن الخليل وسيبويه مثل قول الفراء، وأنشد الفراء محتجاً على ما قاله: فقلت يمين الله أبرح قاعداً ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي ويقال فتىء وفتأ لغتان، ومنه قول الشاعر: فما فتئت حتى كأن غبارها سرادق يوم ذي رياح ترفع "حتى تكون حرضاً" الحرض مصدر يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث والصفة المشبهة، حرض بكسر الراء كدنف ودنف، وأصل الحرض: الفساد في الجسم أو العقل من الحزن أو العشق أو الهرم، حكي ذلك عن أبي عبيدة وغيره، ومنه قول الشاعر: سرى همي فأمرضني وقد ما زادني مرضا كذاك الحب قبل اليو م مما يورث الحرضا وقيل الحرض: ما دون الموت، وقيل الهرم، وقيل الحارض: البالي الدائر. وقال الفراء: الحارض: الفاسد الجسم والعقل، وكذا الحرض. وقال مؤرج: هو الذائب من الهم، ويدل عليه قول الشاعر: إني امرؤلج بي حب فأحرضني حتى بليت وحتى شفني السقم ويقال رجل محرض، ومنه قول الشاعر: طلبته الخيل يوماً كاملاً ولو ألفته لأضحى محرضاً قال النحاس: وحكى أهل اللغة أحرضه الهم: إذا أسقمه، ورجل حارض: أي أحمق. وقال الأخفش: الحارض الذاهب. وقال ابن الأنباري: هو الهالك. والأولى تفسير الحرض هنا بغير الموت والهلاك من هذه المعاني المذكورة حتى يكون لقوله "أو تكون من الهالكين" معنى غير معنى الحرض، فالتأسيس أولى من التأكيد، ومعنى من الهالكين: من الميتين، وغرضهم منع يعقوب من البكاء والحزن شفقة عليه وإن كانوا هم سبب أحزانه ومنشأ همومه وغمومه.
86- "قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله" هذه الجملة مستأنفة، كأنه قيل فما قال يعقوب لما قالوا له ما قالوا؟ والبث: ما برد على الإنسان من الأشياء التي يعظم حزن صاحبها بها حتى لا يقدر على إخفائها، كذا قال أهل اللغة، وهو مأخوذ من بثثه: أي فرقته، فسميت المصيبة بثاً مجازاً. قال ذو الرمة: وقفت على ربع لمية يا فتى فما زلت أبكي عنده وأخاطبه وأسقيه حتى كاد مما أبثه تكلمني أحجاره وملاعبه وقد ذكر المفسرون أن الإنسان إذا قدر على كتم ما نزل به من المصائب كان ذلك حزناً، وإن لم يقدر على كتمه كان ذلك بثاً، فالبث على هذا: أعظم الحزن وأصعبه، وقيل البث: الهم، وقيل هو الحاجة، وعلى هذا القول يكون عطف الحزن على البث واضح المعنى. وأما على تفسير البث بالحزن العظيم، فكأنه قال: إنما أشكو حزني العظيم وما دونه من الحزن إلى الله لا إلى غيره من الناس. وقد قرىء حزني بضم الحاء وسكون الزاي وحزني بفتحهما "وأعلم من الله ما لا تعلمون" أي أعلم من لطفه وإحسانه وثوابه على المصيبة ما لا تعلمونه أنتم، وقيل أراد علمه بأن يوسف حي، وقيل أراد علمه بأن رؤياه صادقة، وقيل أعلم من إجابة المضطرين إلى الله ما لا تعلمون.