تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 275 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 275

275 : تفسير الصفحة رقم 275 من القرآن الكريم

** وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مّنَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ شَيْئاً وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ * فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأمْثَالَ إِنّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ
يقول تعالى إخباراً عن المشركين الذين عبدوا معه غيره مع أنه هو المنعم المتفضل الخالق الرازق, وحده لا شريك ومع هذا يعبدون من دونه من الأصنام والأنداد والأوثان ما لا يملك لهم رزقاً من السموات والأرض شيئاً, أي لا يقدر على إنزال مطر ولا إنبات زرع ولا شجر, ولا يملكون ذلك لأنفسهم, أي ليس لهم ذلك, ولا يقدرون عليه لو أرادوه, ولهذا قال تعالى: {فلا تضربوا لله الأمثال} أي لا تجعلوا له أنداداً وأشباهاً وأمثالاً {إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون}أي أنه يعلم ويشهد أنه لا إله إلا هو, وأنتم بجهلكم تشركون به غيره. )

** ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْداً مّمْلُوكاً لاّ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَمَن رّزَقْنَاهُ مِنّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
قال العوفي عن ابن عباس: هذا مثل ضربه الله للكافر والمؤمن, وكذا قال قتادة, واختاره ابن جرير, فالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء مثل الكافر والمرزوق الرزق الحسن, فهو ينفق منه سراً وجهراً هو المؤمن, وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: هو مثل مضروب للوثن وللحق تعالى, فهل يستوي هذا وهذا ؟ ولما كان الفرق بينهما ظاهرا واضحاً بيناً لا يجهله إلا كل غبي قال الله تعالى: {الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون}.

** وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلّ عَلَىَ مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجّههّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ
قال مجاهد: وهذا أيضاً المراد به الوثن والحق تعالى يعني أن الوثن أبكم لا يتكلم ولا ينطق بخير ولا بشيء ولا يقدر على شيء بالكلية, فلا مقال ولا فعال, وهو مع هذا كل أي عيال وكلفة على مولاه {أينما يوجهه} أي يبعثه {لا يأت بخير} ولا ينجح مسعاه {هل يستوي} من هذه صفاته {ومن يأمر بالعدل} أي بالقسط, فمقاله حق وفعاله مستقيمة {وهو على صراط مستقيم} وقيل: الأبكم مولى لعثمان, وبهذا قال السدي وقتادة وعطاء الخراساني, واختار هذا القول ابن جرير.
وقال العوفي عن ابن عباس: هو مثل للكافر والمؤمن أيضاً كما تقدم, وقال ابن جرير: حدثنا الحسن بن الصباح البزار, حدثنا يحيى بن إسحاق السالحيني, حدثنا حماد حدثنا عبد الله بن عثمان بن خيثم عن إبراهيم عن عكرمة, عن يعلى بن أمية عن ابن عباس في قوله: {ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء} قال: نزلت في رجل من قريش وعبده, يعني قوله {عبداً مملوك} الاَية, وفي قوله: {وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم ـ إلى قوله ـ وهو على صراط مستقيم} قال: هو عثمان بن عفان: قال: والأبكم الذي أينما يوجهه لا يأت بخير, قال: هو مولى لعثمان بن عفان, كان عثمان ينفق عليه ويكلفه ويكفيه المؤونه, وكان الاَخر يكره الإسلام ويأباه وينهاه عن الصدقة والمعروف, فنزلت فيهما.

** وَلِلّهِ غَيْبُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَآ أَمْرُ السّاعَةِ إِلاّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ * أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىَ الطّيْرِ مُسَخّرَاتٍ فِي جَوّ السّمَآءِ مَا يُمْسِكُهُنّ إِلاّ اللّهُ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
يخبر تعالى عن كمال علمه وقدرته على الأشياء في علمه غيب السموات والأرض واختصاصه بعلم الغيب, فلا اطلاع لأحد على ذلك إلا أن يطلعه تعالى على ما يشاء, وفي قدرته التامة التي لا تخالف ولا تمانع, وأنه إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون, كما قال: {وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر} أي فيكون ما يريد كطرف العين, وهكذا قال ههنا: {وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شيء قدير} كما قال: {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة} ثم ذكر تعالى منته على عباده في إخراجه إياهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئاً, ثم بعد هذا يرزقهم السمع الذي به يدركون الأصوات والأبصار التي بها يحسون المرئيات والأفئدة, وهي العقول التي مركزها القلب على الصحيح, وقيل: الدماغ والعقل به يميز بين الأشياء ضارها ونافعها, وهذه القوى والحواس تحصل للإنسان على التدريج قليلاً قليلاً كلما كبر زيد في سمعه وبصره وعقله حتى يبلغ أشده. وإنما جعل تعالى هذه في الإنسان ليتمكن بها من عبادة ربه تعالى, فيستعين بكل جارحة وعضو وقوة على طاعة مولاه.
كما جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول تعالى: من عادى لي ولياً فقد بارزني بالحرب, وما تقرب إلي عبدي بشيء أفضل من أداء ما افترضت عليه, ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه, فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به, وبصره الذي يبصر به, ويده التي يبطش بها, ورجله التي يمشي بها, ولئن سألني لأعطينه, ولئن دعاني لأجيبنه, ولئن استعاذ بي لأعيذنه, وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه» فمعنى الحديث أن العبد إذا أخلص الطاعة صارت أفعاله كلها لله عز وجل, فلا يسمع إلا لله, ولا يبصر إلا لله أي ما شرعه الله له, ولا يبطش ولا يمشي إلا في طاعة الله عز وجل, مستعيناً بالله في ذلك كله, ولهذا جاء في بعض رواية الحديث في غير الصحيح بعد قوله ورجله التي يمشي بها «فبي يسمع, وبي يبصر, وبي يبطش, وبي يمشي» ولهذا قال تعالى: {وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون} كقوله تعالى في الاَية الأخرى: {قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون * قل هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون} ثم نبه تعالى عباده إلى النظر إلى الطير المسخر بين السماء والأرض, كيف جعله يطير بجناحين بين السماء والأرض في جو السماء, ما يمسكه هناك إلا الله بقدرته تعالى التي جعل فيها قوى تفعل ذلك, وسخر الهواء يحملها ويسير الطير كذلك, كما قال تعالى في سورة الملك: { أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير} وقال ههنا: {إن في ذلك لاَيات لقوم يؤمنون}.