تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 276 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 276

276 : تفسير الصفحة رقم 276 من القرآن الكريم

** وَاللّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ الأنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَىَ حِينٍ * وَاللّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّمّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلّكُمْ تُسْلِمُونَ * فَإِن تَوَلّوْاْ فَإِنّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ * يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللّهِ ثُمّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ
يذكر تبارك وتعالى تمام نعمه على عبيده بما جعل لهم من البيوت التي هي سكن لهم, يأوون إليها, ويستترون بها, وينتفعون بها بسائر وجوه الانتفاع, وجعل لهم أيضاً من جلود الأنعام بيوتاً أي من الأدم, يستخفون حملها في أسفارهم ليضربوها لهم في إقامتهم في السفر والحضر, ولهذا قال: {تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافه} أي الغنم, {وأوباره} أي الإبل, {وأشعاره} أي المعز, والضمير عائد على الأنعام {أثاث} أي تتخذون منه أثاثاً وهو المال, وقيل: المتاع, وقيل: الثياب, والصحيح أعم من هذا كله فإنه يتخذ من الأثاث البسط والثياب وغير ذلك, ويتخذ مالاً وتجارة, وقال ابن عباس: الأثاث المتاع, وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وعطية العوفي وعطاء الخراساني والضحاك وقتادة. وقوله: {إلى حين} أي إلى أجل مسمى ووقت معلوم.
وقوله: { والله جعل لكم مما خلق ظلال} قال قتادة: يعني الشجر {وجعل لكم من الجبال أكنان} أي حصوناً ومعاقل, كما {جعل لكم سرابيل تقيكم الحر} وهي الثياب من القطن والكتان والصوف {وسرابيل تقيكم بأسكم} كالدروع من الحديد المصفح والزرد وغير ذلك, {كذلك يتم نعمته عليكم} أي هكذا يجعل لكم ما تستعينون به على أمركم وما تحتاجون إليه ليكون عوناً لكم على طاعته وعبادته {لعلكم تسلمون} هكذا فسره الجمهور, وقرءوه بكسر اللام من {تسلمون} أي من الإسلام.
وقال قتادة في قوله: {كذلك يتم نعمته عليكم} هذه السورة تسمى سورة النعم. وقال عبد الله بن المبارك وعباد بن العوام عن حنظلة السدوسي, عن شهر بن حوشب, عن ابن عباس أنه كان يقرؤها {تسلمون} بفتح اللام, يعني من الجراح, رواه أبو عبيد القاسم بن سلام عن عباد, ,أخرجه ابن جرير من الوجهين, ورد هذه القراءة. وقال عطاء الخراساني: إنما نزل القرآن على قدر معرفة العرب, ألا ترى إلى قوله تعالى: { والله جعل لكم مما خلق ظلالاً وجعل لكم من الجبال أكنان} وما جعل من السهل أعظم وأكثر, ولكنهم كانوا أصحاب جبال ؟ ألا ترى إلى قوله: {ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين} وما جعل لهم من غير ذلك أعظم وأكثر, ولكنهم كانوا أصحاب وبر وشعر ؟ ألا ترى إلى قوله: {وينزل من السماء من جبال فيها من برد} لعجبهم من ذلك وما أنزل من الثلج أعظم وأكثر, ولكنهم كانوا لا يعرفونه ؟ ألا ترى إلى قوله تعالى: {سرابيل تقيكم الحر} وما تقي من البرد أعظم وأكثر, ولكنهم كانوا أصحاب حر.
وقوله: {فإن تولو} أي بعد هذ البيان وهذا الامتنان, فلا عليك منهم {فإنما عليك البلاغ المبين} وقد أديته إليهم {يعرفون نعمة الله ثم ينكرونه} أي يعرفون أن الله تعالى هو المسدي إليهم ذلك وهو المتفضل به عليهم ومع هذا ينكرون ذلك ويعبدون معه غيره ويسندون النصر والرزق إلى غيره {وأكثرهم الكافرون} كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا صفوان, حدثنا الوليد, حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن مجاهد أن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله, فقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم { والله جعل لكم من بيوتكم سكن} فقال الأعرابي: نعم, قال: {وجعل لكم من جلود الأنعام بيوت} الاَية, قال الأعرابي: نعم, ثم قرأ عليه كل ذلك, يقول الأعرابي: نعم حتى بلغ {كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون} فولى الأعرابي, فأنزل الله {يعرفون نعمة الله ثم ينكرونه} الاَية.

** وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلّ أُمّةٍ شَهِيداً ثُمّ لاَ يُؤْذَنُ لِلّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ * وَإِذَا رَأى الّذِينَ ظَلَمُواْ الْعَذَابَ فَلاَ يُخَفّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ * وَإِذَا رَأى الّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ قَالُواْ رَبّنَا هَـَؤُلاَءِ شُرَكَآؤُنَا الّذِينَ كُنّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنّكُمْ لَكَاذِبُونَ * وَأَلْقَوْاْ إِلَىَ اللّهِ يَوْمَئِذٍ السّلَمَ وَضَلّ عَنْهُم مّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ * الّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ
يخبر تعالى عن شأن المشركين يوم معادهم في الدار الاَخرة, وأنه يبعث من كل أمة شهيداً وهو نبيها, يشهد عليها بما أجابته فيما بلغها عن الله تعالى: {ثم لا يؤذن للذين كفرو} أي في الاعتذار, لأنهم يعلمون بطلانه وكذبه, كقوله: {هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون} فلهذا قال: {ولا هم يستعتبون * وإذا رأى الذين ظلمو} أي الذين أشركوا {العذاب فلا يخفف عنهم} أي لا يفتر عنهم ساعة واحدة. {ولا هم ينظرون} أي لا يؤخر عنهم بل يأخذهم سريعاً من الموقف بلا حساب, فإنه إذا جيء بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام, مع كل زمام سبعون ألف ملك, فيشرف عنق منها على الخلائق, وتزفر زفرة لا يبقى أحد إلا جثا لركبتيه, فتقول: إني وكلت بكل جبار عنيد الذي جعل مع الله إلها آخر وبكذا وبكذا, وتذكر أصنافاً من الناس, كما جاء في الحديث, ثم تنطوي عليهم وتلتقطهم من الموقف كما يلتقط الطائر الحب, قال الله تعالى: {إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظاً وزفيراً, وإذا ألقوا منها مكاناً ضيقاً مقرنين دعوا هنالك ثبوراً, لا تدعوا اليوم ثبوراً واحداً, وادعوا ثبوراً كثير}, وقال تعالى: {ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرف} وقال تعالى: {لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون * بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون}.
ثم أخبر تعالى عن تبري آلهتهم منهم أحوج ما يكونون إليها فقال: {وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم} أي الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا {قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك * فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون} أي قالت لهم الاَلهه: كذبتم ما نحن أمرناكم بعبادتنا, كما قال تعالى: {ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين} وقال تعالى: {واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزاً * كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضد} وقال الخليل عليه الصلاة والسلام {ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض} الاَية, وقال تعالى: {وقيل ادعوا شركاءكم}الاَية, والاَيات في هذا كثيرة.
وقوله: {وألقوا إلى الله يومئذ السلم} قال قتادة وعكرمة: ذلوا واستسلموا يومئذ, أي استسلموا لله جميعهم فلا أحد إلا سامع مطيع, وكقوله تعالى: {أسمع بهم وأبصر يوم يأتونن} أي ما أسمعهم وما أبصرهم يومئذ, وقال: {ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعن} الاَية, وقال: {وعنت الوجوه للحي القيوم} أي خضعت وذلت واستكانت وأنابت واستسلمت. وقوله {وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون} أي ذهب واضمحل ما كانوا يعبدونه افتراء على لله فلا ناصر لهم ولا معين ولا مجير.
ثم قال تعالى: {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذاب} الاَية, أي عذاباً على كفرهم وعذاباً على صدهم الناس عن اتباع الحق كقوله تعالى: {وهم ينهون عنه وينأون عنه} أي ينهون الناس عن اتباعه ويبتعدون هم منه أيضاً {وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون} وهذا دليل على تفاوت الكفار في عذابهم كما يتفاوت المؤمنون في منازلهم في الجنة ودرجاتهم, كما قال تعالى: {قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون} وقد قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا سريج بن يونس, حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة, عن مسروق, عن عبد الله قي قول الله: {زدناهم عذاباً فوق العذاب} قال: زيدوا عقارب أنيابها كالنخل الطوال. وحدثنا شريح بن يونس, حدثنا إبراهيم بن سليمان, حدثنا الأعمش عن الحسن, عن ابن عباس في الاَية أنه قال: {زدناهم عذابا فوق العذاب} قال: هي خمسة أنهار تحت العرش يعذبون ببعضها في الليل وببعضها في النهار.