تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 280 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 280

280 : تفسير الصفحة رقم 280 من القرآن الكريم

** وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مّطْمَئِنّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ * وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مّنْهُمْ فَكَذّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ
هذا مثل أريد به أهل مكة, فإنها كانت آمنة مطمئنة مستقرة يتخطف الناس من حولها, ومن دخلها كان آمنا لا يخاف, كما قال تعالى: {وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أو لم نمكن لهم حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقاً من لدن}, وهكذا قال ههنا: {يأتيها رزقها رغد} أي هنيئاً سهلاً {من كل مكان فكفرت بأنعم الله} أي جحدت آلاء الله عليها وأعظمها بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إليهم, كما قال تعالى: {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار} ولهذا بدلهم الله بحاليهم الأولين خلافهما, فقال: {فأذاقها الله لباس الجوع والخوف} أي ألبسها وأذاقها الجوع بعد أن كان يجبى إليهم ثمرات كل شيء, ويأيتها رزقها رغداً من كل مكان, وذلك لمّا استعصوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوا إلا خلافه فدعا عليهم بسبع كسبع يوسف, فأصابتهم سنة أذهبت كل شيء لهم, فأكلوا العلهز وهو وبر البعير يخلط بدمه إذا نحروه.
وقوله: {والخوف} وذلك أنهم بدلوا بأمنهم خوفاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين هاجروا إلى المدينة من سطوته وسراياه وجيوشه, وجعل كل ما لهم في دمار وسفال حتى فتحها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وذلك بسبب صنيعهم وبغيهم وتكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله فيهم منهم, وامتن به عليهم في قوله: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم} الاَية. وقوله تعالى: {فاتقوا الله يا أولي الألباب * الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكراً رسول} الاَية, وقوله: {كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ـ الى قوله ـ ولا تكفرون} وكما أنه انعكس على الكافرين حالهم فخافوا بعد الأمن, وجاعوا بعد الرغد, فبدل الله المؤمنين من بعد خوفهم أمناً, ورزقهم بعد العيلة, وجعلهم أمراء الناس وحكامهم وسادتهم وقادتهم وأئمتهم, وهذا الذي قلناه من أن هذا المثل ضرب لأهل مكة قاله العوفي عن ابن عباس, وإليه ذهب مجاهد وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم, وحكاه مالك عن الزهري رحمهم الله.
وقال ابن جرير: حدثني ابن عبد الرحيم البرقي, حدثنا ابن أبي مريم, حدثنا نافع بن يزيد, حدثنا عبد الرحمن بن شريح أن عبد الكريم بن الحارث الحضرمي حدثه أنه سمع مشرح بن هاعان يقول: سمعت سليم بن عتر يقول: صدرنا من الحج مع حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وعثمان رضي الله عنه محصور بالمدينة, فكانت تسأل عنه ما فعل ؟ حتى رأت راكبين فأرسلت إليهما تسألهما فقالا: قتل, فقالت حفصة: والذي نفسي بيده إنها القرية ـ تعني المدينة ـ التي قال الله تعالى: {وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله} قال ابن شريح: وأخبرني عبيد الله بن المغيرة عمن حدثه أنه كان يقول إنها المدينة.

** فَكُلُواْ مِمّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلالاً طَيّباً وَاشْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ إِن كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنّمَا حَرّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدّمَ وَلَحْمَ الْخَنْزِيرِ وَمَآ أُهِلّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ * وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـَذَا حَلاَلٌ وَهَـَذَا حَرَامٌ لّتَفْتَرُواْ عَلَىَ اللّهِ الْكَذِبَ إِنّ الّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَىَ اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بأكل رزقه الحلال الطيب وبشكره على ذلك فإنه المنعم المتفضل به ابتداء الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له, ثم ذكر تعالى ما حرمه عليهم مما فيه مضرة لهم في دينهم ودنياهم من الميتة والدم ولحم الخنزير {وما أهل لغير الله به} أي ذبح على غير اسم الله, ومع هذا {فمن اضطر} إليه أي احتاج من غير بغي ولا عدوان {فإن الله غفور رحيم}. وقد تقدم الكلام على مثل هذه الاَية في سورة البقرة بما فيه كفاية عن إعادته, ولله الحمد.
ثم نهى تعالى عن سلوك سبيل المشركين الذين حللوا وحرموا بمجرد ما وصفوه واصطلحوا عليه من الأسماء بآرائهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وغير ذلك, مما كان شرعاً لهم ابتدعوه في جاهليتهم, فقال: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب} ويدخل في هذا كل من ابتدع بدعة ليس له فيها مستند شرعي, أو حلل شيئاً مما حرم الله, أو حرم شيئاً مما أباح الله بمجرد رأيه وتشهيه, وما في قوله: {لما تصف} مصدرية, أي ولا تقولوا الكذب لوصف ألسنتكم, ثم توعد على ذلك فقال: {إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون} أي في الدنيا ولا في الاَخرة, أما في الدنيا فمتاع قليل, وأما في الاَخرة فلهم عذاب أليم, كما قال: {نمتعهم قليلاً ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ} وقال {إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون, متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون}.

** وَعَلَىَ الّذِينَ هَادُواْ حَرّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـَكِن كَانُوَاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * ثُمّ إِنّ رَبّكَ لِلّذِينَ عَمِلُواْ السّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوَاْ إِنّ رَبّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رّحِيمٌ
لما ذكر تعالى أنه إنما حرم علينا الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به وإنما أرخص فيه عند الضرورة ـ وفي ذلك توسعة لهذه الأمة التي يريد الله بها اليسرى ولا يريد بها العسرى ـ ذكر سبحانه وتعالى ما كان حرمه على اليهود في شريعتهم قبل أن ينسخها, وما كانوا فيه من الاَصار والتضييق والأغلال والحرج, فقال: {وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل} أي في سورة الأنعام في قوله: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ماحملت ظهورهما ـ إلى قوله ـ لصادقون} ولهذا قال ههنا: {وما ظلمناهم} أي فيما ضيقنا عليهم {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} أي فاستحقوا ذلك, كقوله: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثير} ثم أخبر تعالى تكرماً وامتناناً في حق العصاة المؤمنين أن من تاب منهم إليه تاب عليه, فقال: {ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة} قال بعض السلف: كل من عصى الله فهو جاهل {ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحو} أي أقلعوا عما كانوا فيه من المعاصي وأقبلوا على فعل الطاعات {إن ربك من بعده} أي تلك الفعلة والزلة {لغفور رحيم}.