تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 280 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 280

279

111- "يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها" قال الزجاج: يوم تأتي منتصب بقوله رحيم، أو بإضمار اذكر، أو ذكرهم أو أنذرهم، وقد استشكل إضافة ضمير النفس إلى النفس، ولا بد من التغاير بين المضاف والمضاف إليه. وأجيب بأن المراد بالنفس الأولى جملة بدن الإنسان، وبالنفس الثانية الذات، فكأن قيل يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته لا يهمه غيرها، ومعنى المجادلة عنها الاعتذار عنها، فهو مجادل ومخاصم عن نفسه لا يتفرغ لغيرها يوم القيامة. وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهاجر إلى المدينة قال لأصحابه: تفرقوا عني فمن كانت به قوة فليتأخر إلى آخر الليل، ومن لم تكن به قوة فليذهب في أول الليل، فإذا سمعتم بي قد استقرت بي الأرض فالحقوا بي، فأصبح بلال المؤذن وخباب وعمار وجارية من قريش كانت أسلمت، فأخذهم المشركون وأبو جهل، فعرضوا على بلال أن يكفر فأبى، فجعلوا يضعون درعاً من حديد في الشمس ثم يلبسونها إياه، فإذا ألبسوها إياه قال: أحد أحد، وأما خباب فجعلوا يجرونه في الشوك، وأما عمار فقال لهم كلمة أعجبتهم تقية، وأما الجارية فوتد لها أبو جهل أربعة أوتاد، ثم مدها فأدخل الحربة في قبلها حتى قتلها، ثم خلوا عن بلال وخباب وعمار فلحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بالذي كان من أمرهم، واشتد على عمار الذي كان تكلم به، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كان قبلك حين قلت الذي قلت، أكان منشرحاً بالذي قلت أم لا؟ قال لا، فأنزل الله "إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان". وأخرج عبد الرزاق وابن سعد وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي وابن عساكر من طريق أبي عبيدة بن محمد بن عمار عن أبيه قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير فتركوه، فلما أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما وراءك؟ قال: شر ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئناً بالإيمان، قال: إن عادوا فعد، فنزلت "إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان" قال: ذاك عمار بن ياسر "ولكن من شرح بالكفر صدراً" عبد الله بن أبي سرح. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن عساكر عن أبي مالك في قوله: "إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان" قال: نزلت في عمار بن ياسر، وفي الباب روايات مصرحة بأنها نزلت في عمار بن ياسر. وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن سيرين قال: نزلت هذه الآية "إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان" في عياش بن أبي ربيعة. وأخرج ابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: في سورة النحل " فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم " ثم نسخ واستثنى من ذلك فقال: "ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا" الآية قال: وهو عبد الله بن أبي سرح الذي كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأزله الشيطان فلحق بالكفار، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتل يوم فتح مكة، فاستجار له عثمان بن عفان فأجاره النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير عن عكرمة والحسن مثله. وأخرج ابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية "ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا" فيمن كان يفتي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن مردويه عنه قال: كان قوم من أهل مكة قد أسلموا وكانوا يستخفون بالإسلام فنزلت فيهم "ثم إن ربك للذين هاجروا" الآية فكتبوا إليهم بذلك إن الله قد جعل لكم مخرجاً فاخرجوا، فأدركهم المشركون فقاتلوهم فنجا من نجا، وقتل من قتل. وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن أن عيوناً لمسيلمة أخذوا رجلين من المسلمين فأتوه بهما، فقال لأحدهما: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، قال: أتشهد أني رسول الله فأهوى إلى أذنيه فقال: إني أصم، فأمر به فقتل، وقال للآخر: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم، فأرسله فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له أما صاحبك فمضى على إيمانه، وأما أنت فأخذت بالرخصة. وهو مرسل.
قوله: 112- "وضرب الله مثلاً قرية" قد قدمنا أن ضرب مضمن معنى جعل حتى تكون "قرية" المفعول الأول و "مثلاً" المفعول الثاني، وإنما تأخرت "قرية" لئلا يقع الفصل بينهما وبين صفاتها، وقدمنا أيضاً أنه يجوز أن يكون ضرب على بابه غير مضمن ويكون "مثلاً" مفعوله الأول " قرية " بدلاً منه. وقد اختلف المفسرون هل المراد بهذه القرية قرية معينة، أو المراد قرية غير معينة، بل كل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة؟ فذهب الأكثر إلى الأول وصرحوا بأنها مكة، وذلك لما دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف"، فابتلوا بالقحط حتى أكلوا العظام. والثاني أرجح لأن تنكير قرية يفيد ذلك، ومكة تدخل في هذا العموم البدلي دخولاً أولياً، وأيضاً يكون الوعيد أبلغ، والمثل أكمل، وغير مكة مثلها، وعلى فرض إرادتها ففي المثل إنذار لغيرها من مثل عاقبتها، ثم وصف القرية بأنها "كانت آمنة" غير خائفة "مطمئنة" غير منزعجة، أي لا يخاف أهلها ولا ينزعجون "يأتيها رزقها" أي ما يرتزق به أهلها "رغداً" واسعاً "من كل مكان" من الأمكنة التي يجلب ما فيها إليها "فكفرت" أي كفر أهلها "بأنعم الله" التي أنعم بها عليهم، والأنعم جمع نعمة كالأشد جمع شدة، وقيل جمع نعمى مثل بؤسى وأبؤس، وهذا الكفر منهم هو كفرهم بالله سبحانه وتكذيب رسله "فأذاقها الله" أي أذاق أهلها "لباس الجوع والخوف" سمي ذلك لباساً لأنه يظهر به عليهم من الهزال وشحوبة اللون وسوء الحال ما هو كاللباس، فاستعير له إسمه وأوقع عليه الإذاقة، وأصلها الذوق بالفم، ثم استعيرت لمطلق الاتصال مع إنبائها بشدة الإصابة لما فيها من اجتماع الإدراكين: إدراك اللمس، والذوق. روي أن ابن الراوندي الزنديق قال لابن الأعرابي إمام اللغة والأدب: هل يذاق اللباس؟ فقال له ابن الأعرابي: لا بأس أيها النسناس، هب أن محمداً ما كان نبياً أما كان عربياً؟ كأنه طعن في الآية بأن المناسب أن يقال: فكساها الله لباس الجوع أو فأذاقها الله طعم الجوع. فرد عليه ابن الأعرابي. وقد أجاب علماء البيان أن هذا من تجريد الاستعارة، وذلك أنه استعار اللباس لما غشي الإنسان من بعض الحوادث كالجوع والخوف لاشتماله عليه اشتمال اللباس على اللابس، ثم ذكر الوصف ملائماً للمستعار له وهو الجوع والخوف، لأن إطلاق الذوق على إدراك الجوع والخوف جرى عندهم مجرى الحقيقة، فيقولون ذاق فلان البؤس والضر وأذاقه غيره، فكانت الاستعارة مجردة، ولو قال فكساها كانت مرشحة. قيل وترشيح الاستعارة وإن كان مستحسناً من جهة المبالغة إلا أن للتجريد ترجيحاً من حيث إنه روعي جانب المستعار له فازداد الكلام وضوحاً: وقيل إن أصل الذوق بالفم ثم قد يستعار فيوضع موضع التعرف والاختبار، ومن ذلك قول الشاعر: ومن يذق الدنيا فإني طعمتها وسيق إلينا عذبها وعذابها وقرأ حفص بن غياث ونصر بن عاصم وابن أبي إسحاق وأبو عمرو فيما روى عنه عبد الوارث بنصب الخوف عطفاً على لباس، وقرأ الباقون بالضم عطفاً على الجوع. قال الفراء: كل الصفات أجريت على القرية إلا قوله: "يصنعون" تنبيهاً على أن المراد في الحقيقة أهلها.
113- "ولقد جاءهم" يعني أهل مكة "رسول منهم" من جنسهم يعرفونه ويعرفون نسبه، فأمرهم بما فيه نفعهم ونهاهم عما فيه ضرهم "فكذبوه" فيما جاء به "فأخذهم العذاب" النازل بهم من الله سبحانه، والحال أنهم في حال أخذ العذاب لهم "ظالمون" لأنفسهم بإيقاعها في العذاب الأبدي ولغيرهم بالإضرار بهم وصدهم عن سبيل الله، وهذا الكلام من تمام المثل المضروب. وقيل إن المراد بالعذاب هنا هو الجوع الذي أصابهم، وقيل القتل يوم بدر.
ثم لما وعظهم الله سبحانه بما ذكره من حال أهل القرية المذكورة أمرهم أن يأكلوا مما رزقهم الله من الغنائم ونحوها، وجاء بالفاء للاشعار بأن ذلك متسبب عن ترك الكفر. والمعنى: أنكم لما آمنتم وتركتم الكفر فكلوا الحلال الطيب وهو الغنيمة واتركوا الخبائث وهو الميتة والدم "واشكروا نعمة الله" التي أنعم بها عليكم واعرفوا حقها "إن كنتم إياه تعبدون" ولا تعبدون غيره، أو إن صح زعمكم أنكم تقصدون بعبادة الآلهة التي زعمتم عبادة الله تعالى، وقيل إن الفاء في فكلوا داخلة على الأمر بالشكر، وإنما أدخلت على الأمر بالأكل لأن الأكل ذريعة إلى الشكر.
115- "إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله" كرر سبحانه ذكر هذه المحرمات في البقرة والمائدة والأنعام وفي هذه السورة قطعاً للأعذار وإزالة للشبهة، ثم ذكر الرخصة في تناول شيء مما ذكر فقال: " فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم " وقد تقدم الكلام على جميع ما هو مذكور هنا مستوفى.
ثم زيف طريقة الكفار في الزيادة على هذه المحرمات كالبحيرة والسائبة وفي النقصان عنها كتحليل الميتة والدم فقال: 116- "ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب" قال الكسائي والزجاج: ما هنا مصدرية وانتصاب الكذب بلا تقولوا: أي لا تقولوا الكذب لأجل وصف ألسنتكم، ومعناه: لا تحرموا ولا تحللوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم من غير حجة، ويجوز أن تكون ما موصولة والكذب منتصب بتصف: أي لا تقولوا للذي تصف ألسنتكم الكذب فيه "هذا حلال وهذا حرام" فحذف لفظة فيه لكونه معلوماً، فيكون قوله هذا حلال وهذا حرام بدلاً من الكذب، ويجوز أن يكون في الكلام حذف بتقدير القول: أي ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم فتقول هذا حلال وهذا حرام، أو قائلة هذا حلال وهذا حرام، ويجوز أن ينتصب الكذب أيضاً بتصف وتكون ما مصدرية: أي لا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب. وقرئ الكذب بضم الكاف والذال والباء على أنه نعت للألسنة، وقرأ الحسن بفتح الكاف وكسر الذال والباء نعتاً لما. وقيل على البدل من ما: أي ولا تقولوا الكذب الذي تصفه ألسنتكم هذا حلال وهذا حرام، واللام في "لتفتروا على الله الكذب" هي لام العاقبة لا لام العرض: أي فيتعقب ذلك افتراؤكم على الله الكذب بالتحليل والتحريم وإسناد ذلك إليه من غير أن يكون منه "إن الذين يفترون على الله الكذب" أي افتراء كان "لا يفلحون" بنوع من أنواع الفلاح وهو الفوز بالمطلوب.
وارتفاع 117- "متاع قليل" على أنه خبر مبتدأ محذوف. قال الزجاج: أي متاعهم متاع قليل، أو هو مبتدأ خبره محذوف: أي لهم متاع قليل " ولهم عذاب أليم " يردون إليه في الآخرة.
ثم خص محرمات اليهود بالذكر فقال: 118- "وعلى الذين هادوا حرمنا" أي حرمنا عليهم خاصة دون غيرهم "ما قصصنا عليك" بقولنا: "حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما" الآية، و "من قبل" متعلق بقصصنا أو بحرمنا "وما ظلمناهم" بذلك التحريم بل جزيناهم ببغيهم "ولكن كانوا أنفسهم يظلمون" حيث فعلوا أسباب ذلك فحرمنا عليهم تلك الأشياء عقوبة لهم.