تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 279 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 279

279 : تفسير الصفحة رقم 279 من القرآن الكريم

** وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنّهُمْ يَقُولُونَ إِنّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ لّسَانُ الّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيّ وَهَـَذَا لِسَانٌ عَرَبِيّ مّبِينٌ
يقول تعالى مخبراً عن المشركين ما كانوا يقولونه من الكذب والافتراء والبهت أن محمداً إنما يعلمه هذا الذي يتلوه علينا من القرآن بشر, ويشيرون إلى رجل أعجمي كان بين أظهرهم غلام لبعض بطون قريش, وكان بياعاً يبيع عند الصفا, وربما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس إليه ويكلمه بعض الشيء, وذاك كان أعجمي اللسان لا يعرف العربية أو أنه كان يعرف الشيء اليسير بقدر ما يرد جواب الخطاب فيما لا بد منه, فلهذا قال الله تعالى: راداً عليهم في افترائهم ذلك {لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين} أي القرآن, أي فكيف يتعلم من جاء بهذا القرآن في فصاحته وبلاغته ومعانيه التامة الشاملة التي هي أكمل من معاني كل كتاب نزل على بني أُرسل, كيف يتعلم من رجل أعجمي ؟ لا يقول هذا من له أدنى مسكة من العقل.
قال محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلمـ فيما بلغني ـ كثيراً ما يجلس عند المروة إلى مبيعة غلام نصراني يقال له جبر, عبد لبعض بني الحضرمي, فأنزل الله {ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر, لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين} وكذا قال عبد الله بن كثير, وعن عكرمة وقتادة: كان اسمه يعيش . وقال ابن جرير: حدثني أحمد بن محمد الطوسي, حدثنا أبو عامر, حدثنا إبراهيم بن طهمان عن مسلم بن عبد الله الملائي, عن مجاهد, عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم قيناً بمكة, وكان اسمه بلعام, وكان أعجمي اللسان, وكان المشركون يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل عليه ويخرج من عنده, فقالوا: إنما يعلمه بلعام, فأنزل الله هذه الاَية {ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر, لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين}, وقال الضحاك بن مزاحم: هو سلمان الفارسي, وهذا القول ضعيف, لأن هذه الاَية مكية, وسلمان إنما أسلم بالمدينة, وقال عبيد الله بن مسلم: كان لنا غلامان روميان يقرآن كتاباً لهما بلسانهما فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بهما فيقوم فيسمع منهما, فقال المشركون: يتعلم منهما, فأنزل الله هذه الاَية. وقال الزهري عن سعيد بن المسيب: الذي قال ذلك من المشركين رجل كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فارتد بعد ذلك عن الإسلام وافترى هذه المقالة, قبحه الله.

** إِنّ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * إِنّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلـَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ
يخبر تعالى أنه لا يهدي من أعرض عن ذكره وتغافل عما أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يكن له قصد إلى الايمان بما جاء من عند الله, فهذا الجنس من الناس لا يهديهم الله إلى الايمان بآياته وما أرسل به رسله في الدنيا, ولهم عذاب أليم موجع في الاَخرة, ثم أخبر تعالى أن رسوله صلى الله عليه وسلم ليس بمفتر ولا كذاب, لأنه إنما يفتري الكذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم شرار الخلق, {الذين لا يؤمنون بآيات الله} من الكفرة والملحدين المعروفين بالكذب عند الناس, والرسول محمد صلى الله عليه وسلم كان أصدق الناس وأبرهم وأكملهم علماً وعملاً وإيماناً وإيقاناً, معروفاً بالصدق في قومه, لا يشك في ذلك أحد منهم بحيث لا يدعى بينهم إلا بالأمين محمد صلى الله عليه وسلم, ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان عن تلك المسائل التي سألها من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فيما قال له: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قال: لا , فقال هرقل: فما كان ليدع الكذب على الناس ويذهب فيكذب على الله عز وجل.

** مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنّ بِالإِيمَانِ وَلَـَكِن مّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنّهُمُ اسْتَحَبّواْ الْحَيَاةَ الْدّنْيَا عَلَىَ الاَخِرَةِ وَأَنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * أُولَـَئِكَ الّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَـَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ * لاَ جَرَمَ أَنّهُمْ فِي الاَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ
أخبر تعالى عمن كفر به بعد الإيمان والتبصر, وشرح صدره بالكفر واطمأن به, أنه قد غضب عليه لعلمهم بالإيمان ثم عدولهم عنه, وأن لهم عذابا عظيماً في الدار الاَخرة, لأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الاَخرة, فأقدموا على ما أقدموا عليه من الردة لأجل الدنيا, ولم يهد الله قلوبهم ويثبتهم على الدين الحق, فطبع على قلوبهم, فهم لا يعقلون بها شيئاً ينفعهم, وختم على سمعهم وأبصارهم فلا ينتفعون بها, ولا أغنت عنهم شيئاً فهم غافلون عما يراد بهم, {لا جرم} أي لا بد ولا عجب أن من هذه صفته {أنهم في الاَخرة هم الخاسرون} أي الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ـ وأما قوله: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} فهو استثناء ممن كفر بلسانه ووافق المشركين بلفظه مكرهاً لما ناله من ضرب وأذى, وقلبه يأبى ما يقول, وهو مطمئن بالإيمان بالله ورسوله.
وقد روى العوفي عن ابن عباس أن هذه الاَية نزلت في عمار بن ياسر حين عذبه المشركون حتى يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم, فوافقهم على ذلك مكرهاً, وجاء معتذراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فأنزل الله هذه الاَية. وهكذا قال الشعبي وقتادة وأبو مالك, وقال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى, حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن عبد الكريم الجزري, عن أبي عبيدة محمد بن عمار بن ياسر قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه حتى قاربهم في بعض ما أرادوا فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كيف تجد قلبك ؟} قال: مطمئناً بالإيمان. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن عادوا فعد» ورواه البيهقي بأبسط من ذلك, وفيه أنه سب النبي صلى الله عليه وسلم, وذكر آلهتهم بخير, فشكا ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله ما تركت حتى سببتك وذكرت آلهتهم بخير, قال: «كيف تجد قلبك ؟» قال: مطمئناً بالإيمان, فقال «إن عادوا فعد», وفي ذلك أنزل الله {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} ولهذا اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له أن يوالي إبقاء لمهجته, ويجوز له أن يأبى كما كان بلال رضي الله عنه يأبى عليهم ذلك وهم يفعلون به الأفاعيل, حتى إنهم ليضعوا الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر, ويأمرونه بالشرك بالله فيأبى عليهم, وهو يقول: أحد, أحد. ويقول: والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها, رضي الله عنه وأرضاه. وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري لما قال له مسيلمة الكذاب: أتشهد أن محمداً رسول الله ؟ فيقول: نعم. فيقول: أتشهد أني رسول الله ؟ فيقول: لا أسمع. فلم يزل يقطعه إرباً إرباً وهو ثابت على ذلك. وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل, حدثنا أيوب عن عكرمة أن علياً رضي الله عنه حرق ناساً ارتدوا عن الأسلام, فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لم أكن لأحرقهم بالنار, إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تعذبوا بعذاب الله» وكنت أقاتلهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه» فبلغ ذلك علياً فقال: ويح أم ابن عباس, رواه البخاري.
وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا عبد الرزاق, أنبأنا معمر عن أيوب عن حميد بن هلال العدوي, عن أبي بردة قال: قدم على أبي موسى معاذ بن جبل باليمن, فإذا رجل عنده, قال: ما هذا ؟ قال: رجل كان يهودياً فأسلم, ثم تهود ونحن نريده على الإسلام منذ قال أحسبه شهرين, فقال: والله لا أقعد حتى تضربوا عنقه, فضربت عنقه, فقال: قضى الله ورسوله أن من رجع عن دينه فاقتلوه أو قال: «من بدل دينه فاقتلوه» وهذه القصة في الصحيحين بلفظ آخر. والأفضل والأولى أن يثبت المسلم على دينه ولو أفضى إلى قتله, كما ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن حذافة السهمي أحد الصحابة أنه أسرته الروم, فجاءوا به إلى ملكهم فقال له: تنصر وأنا أشركك في ملكي وأزوجك ابنتي, فقال له: لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملكه العرب على أن أرجع عن دين محمد صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما فعلت, فقال: إذاً أقتلك, فقال: أنت وذاك, قال: فأمر به فصلب, وأمر الرماة فرموه قريباً من يديه ورجليه وهو يعرض عليه دين النصرانية فيأبى, ثم أمر به فأنزل, ثم أمر بقدر, وفي رواية ببقرة من نحاس فأحميت, وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر, فإذا هو عظام تلوح, وعرض عليه فأبى, فأمر به أن يلقى فيها, فرفع في البكرة ليلقى فيها, فبكى فطمع فيه ودعاه, فقال: إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة تلقى في هذه القدر الساعة في الله, فأحببت أن يكون لي بعدد كل شعرة في جسدي نفس تعذب هذا العذاب في الله. وفي بعض الروايات أنه سجنه ومنع منه الطعام والشراب أياماً, ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير فلم يقربه, ثم استدعاه فقال: ما منعك أن تأكل ؟ فقال: أما إنه قد حل لي, ولكن لم أكن لأشمتك بي, فقال له الملك: فقبل رأسي وأنا أطلقك, فقال: وتطلق معي جميع أسارى المسلمين ؟ قال: نعم, فقبل رأسه فأطلقه وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده, فلما رجع قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة, وأنا أبدأ, فقام فقبل رأسه رضي الله عنهما.

** ثُمّ إِنّ رَبّكَ لِلّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنّ رَبّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رّحِيمٌ * يَوْمَ تَأْتِي كُلّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نّفْسِهَا وَتُوَفّىَ كُلّ نَفْسٍ مّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
هؤلاء صنف آخر كانو مستضعفين بمكة مهانين في قومهم فوافقوهم على الفتنة, ثم إنهم أمكنهم الخلاص بالهجرة فتركوا بلادهم وأهليهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله وغفرانه, وانتظموا في سلك المؤمنين, وجاهدوا معهم الكافرين, وصبروا, فأخبر تعالى أنه من بعدها, أي تلك الفعلة وهي الإجابة إلى الفتنة لغفور لهم رحيم بهم يوم معادهم {يوم تأتي كل نفس تجادل} أي تحاج {عن نفسه} ليس أحد يحاج عنها لا أب ولا ابن ولا أخ ولا زوجة {وتوفى كل نفس ما عملت} أي من خير وشر {وهم لا يظلمون} أي لا ينقص من ثواب الخير, ولا يزاد على ثواب الشر, ولا يظلمون نقيراً. )