تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 284 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 284

284 : تفسير الصفحة رقم 284 من القرآن الكريم

** مّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نّرِيدُ ثُمّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مّدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الاَخِرَةَ وَسَعَىَ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مّشْكُوراً
يخبر تعالى أنه ما كل من طلب الدنيا وما فيها من النعيم يحصل عليه, بل إنما يحصل لمن أراد الله وما يشاء, وهذه مقيدة لإطلاق ما سواها من الاَيات, فإنه قال: {عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم} أي في الدار الاَخرة {يصلاه} أي يدخلها حتى تغمره من جميع جوانبه {مذموم} أي في حال كونه مذموماً على سوء تصرفه وصنيعه, إذ اختار الفاني على الباقي {مدحور} مبعداً مقصياً ذليلاً مهاناً.
روى الإمام أحمد: حدثنا حسين, حدثنا رويد عن أبي إسحاق, عن زرعة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدنيا دار من لا دار له, ومال من لا مال له, ولها يجمع من لا عقل له». وقوله: {ومن أراد الاَخرة} أي أراد الدار الاَخرة وما فيها من النعيم والسرور {وسعى لها سعيه} أي طلب ذلك من طريقه وهو متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم {وهو مؤمن} أي قلبه مؤمن, أي مصدق بالثواب والجزاء {فأولئك كان سعيهم مشكور}.

** كُلاّ نّمِدّ هَـَؤُلآءِ وَهَـَؤُلآءِ مِنْ عَطَآءِ رَبّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبّكَ مَحْظُوراً * انظُرْ كَيْفَ فَضّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىَ بَعْضٍ وَلَلاَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً
يقول تعالى: {كل} أي كل واحد من الفريقين الذين أرادوا الدنيا والذين أرادوا الاَخرة نمدهم فيما فيه {من عطاء ربك} أي هو المتصرف الحاكم الذي لا يجور, فيعطي كلاً ما يستحقه من السعادة والشقاوة, فلا راد لحكمه ولا مانع لما أعطى ولا مغير لما أراد, ولهذا قال {وما كان عطاء ربك محظور} أي لا يمنعه أحد, ولا يرده راد. قال قتادة {وما كان عطاء ربك محظور} أي منقوصاً, وقال الحسن وغيره: أي ممنوعاً, ثم قال تعالى: {انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض} أي في الدنيا, فمنهم الغني والفقير وبين ذلك, والحسن والقبيح وبين ذلك, ومن يموت صغيراً, ومن يعمر حتى يبقى شيخاً كبيراً, وبين ذلك {وللاَخرة أكبر درجات وأكبر تفضيل} أي ولتفاوتهم في الدار الاَخرة أكبر من الدنيا, فإن منهم من يكون في الدركات في جهنم وسلاسلها وأغلالها, ومنهم من يكون في الدرجات العليا ونعيمها وسرورها, ثم أهل الدركات يتفاتون في ما هم فيه, كما أن أهل الدرجات يتفاوتون, فإن الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض. وفي الصحيحين «إن أهل الدرجات العلى ليرون أهل عليين كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء» ولهذا قال تعالى: {وللاَخرة أكبر درجات وأكبر تفضيل} وفي الطبراني من رواية زاذان عن سلمان مرفوعاً «ما من عبد يريد أن يرتفع في الدنيا درجة فارتفع, إلا وضعه الله في الاَخرة أكبر منها» ثم قرأ {وللاَخرة أكبر درجات وأكبر تفضيل}.

** لاّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مّخْذُولاً
يقول تعالى, والمراد المكلفون من الأمة: لا تجعل أيها المكلف في عبادتك ربك له شريكا {فتقعد مذموم} أي على إشراكك به {مخذول} لأن الرب تعالى لا ينصرك بل يكلك إلى الذي عبدت معه, وهو لا يملك لك ضراً ولا نفعاً, لأن مالك الضر والنفع هو الله وحده لا شريك له, وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو أحمد الزبيري, حدثنا بشير بن سلمان عن سيار أبي الحكم, عن طارق بن شهاب, عن عبد لله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته, ومن أنزلها بالله أرسل الله له بالغنى إما آجلاً وإما غنى عاجلاً» رواه أبو داود والترمذي من حديث بشير بن سلمان به, وقال الترمذي: حسن صحيح غريب .

** وَقَضَىَ رَبّكَ أَلاّ تَعْبُدُوَاْ إِلاّ إِيّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمّا يَبْلُغَنّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لّهُمَآ أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذّلّ مِنَ الرّحْمَةِ وَقُل رّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبّيَانِي صَغِيراً
يقول تعالى آمراً بعبادته وحده لا شريك له, فإن القضاء ههنا بمعنى الأمر, قال مجاهد {وقضى} يعني وصى, وكذا قرأ أبي بن كعب وابن مسعود والضحاك بن مزاحم {ووصى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه} ولهذا قرن بعبادته برّ الوالدين, فقال: {وبالوالدين إحسان} أي وأمر بالوالدين إحساناً, كقوله في الاَية الأخرى {أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير}. وقوله {إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف} أي لا تسمعهما قولاً سيئاً حتى ولا التأفيف الذي هو أدنى مراتب القول السيء {ولا تنهرهم} أي ولا يصدر منك إليهما فعل قبيح, كما قال عطاء بن رباح في قوله {ولا تنهرهم} أي لا تنفض يدك عليهما, ولما نهاه عن القول القبيح والفعل القبيح, أمره بالقول والفعل الحسن, فقال: {وقل لهما قولاً كريم} أي ليناً طيباً حسناً بتأدب وتوقير وتعظيم, {واخفض لهما جناح الذي من الرحمة} أي تواضع لهما بفعلك {وقل رب ارحمهما كما ربياني صغير} أي في كبرهما وعند وفاتهما, قال ابن عباس: ثم أنزل الله {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين} الاَية.
وقد جاء في بر الوالدين أحاديث كثيرة منها الحديث المروي من طرق عن أنس وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صعد المنبر قال: «آمين آمين آمين» قيل يا رسول الله علام أمنت ؟ قال: «أتاني جبريل فقال: يا محمد رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليك, قل: آمين, فقلت آمين, ثم قال رغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان ثم خرج فلم يغفر له, قل: آمين, فقلت آمين, ثم قال: رغم أنف رجل أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة, قل: آمين, فقلت آمين».
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا هشيم, حدثنا علي بن زيد أخبرنا زرارة بن أوفى عن مالك بن الحارث, عن رجل منهم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من ضم يتيماً من أبوين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يستغني عنه, وجبت له الجنة البتة, ومن أعتق امرأ مسلماً, كان فكاكه من النار يجزى بكل عضو منه عضواً منه» ثم قال: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة, سمعت علي بن زيد فذكر معناه, إلا أنه قال عن رجل من قومه يقال له مالك أو ابن مالك, وزاد «ومن أدرك والديه أو أحدهما, فدخل النار فأبعده الله».
(حديث آخر) وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان عن حماد بن سلمة, حدثنا علي بن زيد عن زرارة بن أوفى عن مالك بن عمرو القشيري, سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أعتق رقبة مسلمة فهي فداؤه من النار, فإن كل عظم من عظامه محررة بعظم من عظامه, ومن أدرك أحد والديه ثم لم يغفر له فأبعده الله عز وجل, ومن ضم يتيماً من أبوين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يغنيه الله وجبت له الجنة».
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج ومحمد بن جعفر قالا: حدثنا شعبة عن قتادة, سمعت زرارة بن أوفى يحدث عن أبي بن مالك القشيري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أدرك والديه أو أحدهما ثم دخل النار من بعد ذلك, فأبعده الله وأسحقه», ورواه أبو داود الطيالسي عن شعبة به, وفيه زيادات أخر.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد حدثنا عفان, حدثنا أبو عوانة, حدثنا سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «رغم أنف, ثم رغم أنف ثم رغم أنف رجل أدرك أحد أبويه أو كلاهما عند الكبر ولم يدخل الجنة» صحيح من هذا الوجه, ولم يخرجوه, سوى مسلم من حديث أبي عوانة وجرير وسليمان بن بلال عن سهيل به.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا ربعي بن إبراهيم, قال أحمد وهو أخو إسماعيل بن علية وكان يفضل على أخيه, عن عبد الرحمن بن إسحاق, عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي, ورغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان فانسلخ فلم يغفر له, ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر, فلم يدخلاه الجنة» قال ربعي: ولا أعلمه إلا قال «أو أحدهما». ورواه الترمذي عن أحمد بن إبراهيم الدورقي عن ربعي بن إبراهيم, ثم قال: غريب من هذا الوجه.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا يونس بن محمد, حدثنا عبد الرحمن بن الغسيل, حدثنا أسيد بن علي عن أبيه علي بن عبيد, عن أبي أسيل وهو مالك بن ربيعة الساعدي قال: بينما أنا جالس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, إذ جاءه رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله هل بقي علي من بر أبوي شيء بعد موتهما أبرهما به ؟ قال: «نعم خصال أربع: الصلاة عليهما, والاستغفار لهما, وإنفاذ عهدهما, وإكرام صديقهما, وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما, فهو الذي بقي عليك من برهما بعد موتهما» ورواه أبو داود وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن سليمان وهو ابن الغسيل به.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا روح, حدثنا ابن جريج, أخبرني محمد بن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن عن معاوية بن جاهمة)السلمي أن جاهمة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أردت الغزو وجئتك أستشيرك فقال: «فهل لك من أم» قال نعم قال: «فالزمها فإن الجنة عند رجليها» ثم الثانية ثم الثالثة في مقاعد شتى كمثل هذا القول, ورواه النسائي وابن ماجه من حديث ابن جريج به.
(حديث آخر) ـ قال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد حدثنا ابن عياش عن يحيى بن سعد عن خالد بن معدان عن المقدام بن معد يكرب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يوصيكم بآبائكم إن الله يوصيكم بأمهاتكم إن الله يوصيكم بأمهاتكم إن الله يوصيكم بأمهاتكم إن الله يوصيكم بالأقرب فالأقرب» وأخرجه ابن ماجه من حديث عبد الله بن عياش به.
(حديث آخر) قال أحمد: حدثنا يونس, حدثنا أبو عوانة عن أشعث بن سليم عن أبيه, عن رجل من بني يربوع قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته وهو يكلم الناس يقول: «يد المعطي العليا, أمك وأباك, وأختك وأخاك, ثم أدناك أدناك».
(حديث آخر) قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده: حدثنا إبراهيم بن المستمر العروقي, حدثنا عمرو بن سفيان, حدثنا الحسن بن أبي جعفر عن ليث بن أبي سليم عن علقمة بن مرثد, عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن رجلاً كان في الطواف حاملاً أمه يطوف بها فسأل النبي صلى الله عليه وسلم: هل أديت حقها ؟ قال «لا ولا بزفرة واحدة» أو كما قال, ثم قال البزار: لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه. قلت: والحسن بن أبي جعفر ضعيف, والله أعلم.

** رّبّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنّهُ كَانَ لِلأوّابِينَ غَفُوراً
قال سعيد بن جبير: هو الرجل تكون منه البادرة إلى أبويه, وفي نيته وقلبه أنه لا يؤخذ به, وفي رواية: لا يريد إلا الخير بذلك, فقال: {ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين}. وقوله: {فإنه كان للأوابين غفور} قال قتادة: للمطيعين أهل الصلاة, وعن ابن عباس: المسبحين, وفي رواية عنه: المطيعين المحسنين, وقال بعضهم: هم الذين يصلون بين العشاءين وقال بعضهم: هم الذين يصلون الضحى. وقال شعبة عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب في قوله: {فإنه كان للأوابين غفور} قال: الذين يصيبون الذنب ثم يتوبون, ويصيبون الذنب ثم يتوبون, وكذا رواه عبد الرزاق عن الثوري ومعمر عن يحيى بن سعيد, عن ابن المسيب بنحوه, وكذا رواه الليث وابن جرير عن ابن المسيب به.
وقال عطاء بن يسار بن جبير ومجاهد: هم الراجعون إلى الخير. وقال مجاهد عن عبيد بن عمير في الاَية: هو الذي إذا ذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر الله منها, ووافقه مجاهد في ذلك. وقال عبد الرزاق: حدثنا محمد بن مسلم عن عمرو بن دينار عن عبيد بن عمير في قوله: {فإنه كان للأوابين غفور} قال: كنا نعد الأواب الحفيظ أن يقول: اللهم اغفر لي ما أصبت في مجلسي هذا. وقال ابن جرير: والأولى في ذلك قول من قال: هو التائب من الذنب, الراجع من المعصية إلى الطاعة مما يكره الله إلى ما يحبه ويرضاه, وهذا الذي قاله هو الصواب, لأن الأواب مشتق من الأوب, وهو الرجوع, يقال: آب فلان إذا رجع, قال تعالى: {إن إلينا إيابهم} وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رجع من سفر قال: «آيبون تائبون, عابدون لربنا حامدون».

** وَآتِ ذَا الْقُرْبَىَ حَقّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السّبِيلِ وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيراً * إِنّ الْمُبَذّرِينَ كَانُوَاْ إِخْوَانَ الشّيَاطِينِ وَكَانَ الشّيْطَانُ لِرَبّهِ كَفُوراً * وَإِمّا تُعْرِضَنّ عَنْهُمُ ابْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مّن رّبّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لّهُمْ قَوْلاً مّيْسُوراً
لما ذكر تعالى بر الوالدين, عطف بذكر الإحسان إلى القرابة وصلة الأرحام, وفي الحديث «أمك وأباك ثم أدناك أدناك» وفي رواية «ثم الأقرب فالأقرب», وفي الحديث «من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أجله, فليصل رحمه» وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا عباد بن يعقوب, حدثنا أبو يحيى التميمي, حدثنا فضيل بن مرزوق عن عطية عن أبي سعيد قال: لما نزلت {وآت ذا القربي حقه} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة فأعطاها فدك, ثم قال: لا نعلم حدث به عن فضيل بن مرزوق إلا أبو يحيى التميمي وحميد بن حماد بن أبي الخوار, وهذا الحديث مشكل لو صح إسناده, لأن الاَية مكية, وفدك إنما فتحت مع خيبر سنة سبع من الهجرة, فكيف يلتئم هذا مع هذا ؟ فهو إذاً حديث منكر, والأشبه أنه من وضع الرافضة, والله أعلم, وقد تقدم الكلام على المساكين وأبناء السبيل في سورة براءة بما أغنى عن إعادته ههنا.
وقوله {ولا تبذر تبذير} لما أمر بالإنفاق, نهى عن الإسراف فيه, بل يكون وسطاً كما قال في الاَية الأخرى {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقترو} الاَية, ثم قال منفراً عن التبذير والسرف {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين} أي أشباههم في ذلك. قال ابن مسعود: التبذير الإنفاق في غير حق, وكذا قال ابن عباس, وقال مجاهد: لو أنفق إنسان ماله كله في الحق لم يكن مبذراً, ولو أنفق مداً في غير حق كان مبذراً. وقال قتادة: التبذير النفقة في معصية الله تعالى, وفي غير الحق والفساد.
وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم, حدثنا الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال, عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: أتى رجل من بني تميم إلى رسول الله فقال: يا رسول الله إني ذو مال كثير, وذو أهل وولد وحاضرة, فأخبرني كيف أنفق, وكيف أصنع ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تخرج الزكاة من مالك إن كان, فإنها طهرة تطهرك, وتصل أقرباءك, وتعرف حق السائل والجار والمسكين» فقال: يا رسول الله أقلل لي ؟ «فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيراً» فقال: حسبي يا رسول الله إذا أديت الزكاة إلى رسولك فقد برئت منها إلى الله وإلى رسوله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم إذا أديتها إلى رسولي فقد برئت منها ولك أجرها, وإثمها على من بدلها».
وقوله: {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين} أي في التبذير والسفه وترك طاعة الله وارتكاب معصيته, ولهذا قال {وكان الشيطان لربه كفور} أي جحوداً, لأنه أنكر نعمة الله عليه ولم يعمل بطاعته, بل أقبل على معصيته ومخالفته. وقوله: {وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك} الاَية, أي إذا سألك أقاربك ومن أمرناك بإعطائهم وليس عندك شيء, أعرضت عنهم لفقد النفقة {فقل لهم قولاً ميسور} أي عدهم وعداً بسهولة ولين, إذا جاء رزق الله فسنصلكم إن شاء الله, هكذا فسر قوله: {فقل لهم قولاً ميسور} بالوعد, مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وغير واحد.