تفسير الطبري تفسير الصفحة 284 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 284
285
283
 الآية : 18
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {مّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نّرِيدُ ثُمّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مّدْحُوراً }.
يقول تعالـى ذكره: من كان طلبه الدنـيا العاجلة ولها يعمل ويسعى، وإياها يبتغي، لا يوقن بـمعاد، ولا يرجو ثوابـا ولا عقابـا من ربه علـى عمله عَجّلْنا لَهُ فِـيها ما نَشاءُ لِـمَنْ نُرِيدُ يقول: يعجل الله له فـي الدنـيا ما يشاء من بسط الدنـيا علـيه، أو تقتـيرها لـمن أراد الله أن يفعل ذلك به، أو إهلاكه بـما يشاء من عقوبـاته. ثُمّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنّـمَ يَصْلاها يقول: ثم أصلـيناه عند مقدمه علـينا فـي الاَخرة جهنـم، مَذْمُوما علـى قلة شكره إيانا، وسوء صنـيعه فـيـما سلف من أيادينا عنده فـي الدنـيا مَدْحُورا يقول: مبعدا: مقصى فـي النار. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
16750ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: مَنْ كانَ يُرِيدُ العاجِلَةَ عَجّلْنا لَهُ فِـيها ما نَشاءُ لِـمَنْ نُرِيدُ يقول: من كانت الدنـيا همّه وسَدَمَه وطلبته ونـيته، عجّل الله له فـيها ما يشاء، ثم اضطّره إلـى جهنـم. قال: ثمّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنّـمَ يَصْلاَهَا مَذْمُوما مَدْحُورا مذموما فـي نعمة الله مدحورا فـي نقمة الله.
16751ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي أبو طيبة شيخ من أهل الـمصيصة، أنه سمع أبـا إسحاق الفزاري يقول: عَجّلْنا لَهُ فِـيها ما نَشاءُ لِـمَنْ نُرِيدُ قال: لـمن نريد هلكته.
16752ـ حدثنـي علـيّ بن داود، قال: حدثنا عبد الله، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، قوله مَذْمُوما يقول: ملوما.
16753ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجّلْنا لَهُ فِـيها ما نَشاءُ لِـمَنْ نُرِيدُ قال: العاجلة: الدنـيا.
الآية : 19
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَنْ أَرَادَ الاَخِرَةَ وَسَعَىَ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مّشْكُوراً }.
يقول تعالـى ذكره: من أراد الاَخرة وإياها طلب، ولها عمل عملها، الذي هو طاعة الله وما يرضيه عنه. وأضاف السعي إلـى الهاء والألف، وهي كناية عن الاَخرة، فقال: وسعى للاَخرة سعى الاَخرة، ومعناه: وعمل لها عملها لـمعرفة السامعين بـمعنى ذلك، وأن معناه: وسعى لها سعيه لها وهو مؤمن، يقول: هو مؤمن مصدّق بثواب الله، وعظيـم جزائه علـى سعيه لها، غير مكذّب به تكذيب من أراد العاجلة، يقول الله جلّ ثناؤه: فَأوُلئِكَ يعنـي: فمن فعل ذلك كانَ سَعْيُهُمْ يعنـي عملهم بطاعة الله مَشْكُورا وشكر الله إياهم علـى سعيهم ذلك حسن جزائه لهم علـى أعمالهم الصالـحة، وتـجاوزه لهم عن سيئها برحمته. كما:
16754ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وَمَنْ أرَادَ الاَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورا شكر الله لهم حسناتهم، وتـجاوز عن سيئاتهم.
الآية : 20
القول فـي تأويـل قوله تعالـى {انظُرْ كَيْفَ فَضّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىَ بَعْضٍ وَلَلاَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: انظر يا مـحمد بعين قلبك إلـى هذين الفريقـين اللذين هم أحدهما الدار العاجلة، وإياها يطلب، ولها يعمل والاَخر الذي يريد الدار الاَخرة، ولها يسعى موقنا بثواب الله علـى سعيه، كيف فضّلنا أحد الفريقـين علـى الاَخر، بأن بصرّنا هذا رشده، وهديناه للسبـيـل التـي هي أقوم، ويسرناه للذي هو أهدى وأرشد، وخذلنا هذا الاَخر، فأضللناه عن طريق الـحقّ، وأغشينا بصره عن سبـيـل الرشد وَللاَخِرَةُ أكْبَرُ دَرَجاتٍ يقول: وفريق مريد الاَخرة أكبر فـي الدار الاَخرة درجات بعضهم علـى بعض لتفـاوت منازلهم بأعمالهم فـي الـجنة وأكبر تفضيلاً بتفضيـل الله بعضهم علـى بعض من هؤلاء الفريق الاَخرين فـي الدنـيا فـيـما بسطنا لهم فـيها. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
16759ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله انْظُرْ كَيْفَ فَضّلْنا بَعْضَهُمْ عَلـى بَعضٍ: أي فـي الدنـيا وَللاَخِرَةُ أكْبَرُ دَرَجاتٍ وأكْبَرُ تَفْصِيلاً وإن للـمؤمنـين فـي الـجنة منازل، وإن لهم فضائل بأعمالهم. وذكر لنا أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ بـينَ أعْلَـى أهْلِ الـجَنّةِ وأسْفَلِهِمْ دَرَجَةً كالنّـجْمِ يُرَى فِـي مَشارِقِ الأرْضِ ومَغَارِبها».
الآية : 21
القول فـي تأويـل قوله تعالـى {انظُرْ كَيْفَ فَضّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىَ بَعْضٍ وَلَلاَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: انظر يا مـحمد بعين قلبك إلـى هذين الفريقـين اللذين هم أحدهما الدار العاجلة، وإياها يطلب، ولها يعمل والاَخر الذي يريد الدار الاَخرة، ولها يسعى موقنا بثواب الله علـى سعيه، كيف فضّلنا أحد الفريقـين علـى الاَخر، بأن بصرّنا هذا رشده، وهديناه للسبـيـل التـي هي أقوم، ويسرناه للذي هو أهدى وأرشد، وخذلنا هذا الاَخر، فأضللناه عن طريق الـحقّ، وأغشينا بصره عن سبـيـل الرشد وَللاَخِرَةُ أكْبَرُ دَرَجاتٍ يقول: وفريق مريد الاَخرة أكبر فـي الدار الاَخرة درجات بعضهم علـى بعض لتفـاوت منازلهم بأعمالهم فـي الـجنة وأكبر تفضيلاً بتفضيـل الله بعضهم علـى بعض من هؤلاء الفريق الاَخرين فـي الدنـيا فـيـما بسطنا لهم فـيها. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
16759ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله انْظُرْ كَيْفَ فَضّلْنا بَعْضَهُمْ عَلـى بَعضٍ: أي فـي الدنـيا وَللاَخِرَةُ أكْبَرُ دَرَجاتٍ وأكْبَرُ تَفْصِيلاً وإن للـمؤمنـين فـي الـجنة منازل، وإن لهم فضائل بأعمالهم. وذكر لنا أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ بـينَ أعْلَـى أهْلِ الـجَنّةِ وأسْفَلِهِمْ دَرَجَةً كالنّـجْمِ يُرَى فِـي مَشارِقِ الأرْضِ ومَغَارِبها».
الآية : 22
القول فـي تأويـل قوله تعالـى {لاّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مّخْذُولاً }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: لا تـجعل يا مـحمد مع الله شريكا فـي ألوهته وعبـادته، ولكن أخـلص له العبـادة، وأفرد له الألوهة، فإنه لا إله غيره، فإنك إن تـجعل معه إلها غيره، وتعبد معه سواه، تقعد مذموما يقول: تصير ملوما علـى ما ضيعت من شكر الله علـى ما أنعم به علـيك من نعمه، وتصيـيرك الشكر لغير من أولاك الـمعروف، وفـي إشراكك فـي الـحمد من لـم يشركه فـي النعمة علـيك غيره، مخذولاً قد أسلـمك ربك لـمن بغاك سوءا، وإذا أسلـمك ربك الذي هو ناصر أولـيائه لـم يكن لك من دونه ولـيّ ينصرك ويدفع عنك. كما:
16760ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله لا تَـجْعَلْ مَعَ اللّهِ إلَها آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوما مَخْذُولاً يقول: مذموما فـي نعمة الله. وهذا الكلام وإن كان خرج علـى وجه الـخطاب النبـيّ لله صلى الله عليه وسلم، فهو معنـيّ به جميع من لزمه التكلـيف من عبـاد الله جلّ وعزّ.
الآية : 23
القول فـي تأويـل قوله تعالـى {وَقَضَىَ رَبّكَ أَلاّ تَعْبُدُوَاْ إِلاّ إِيّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمّا يَبْلُغَنّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لّهُمَآ أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً }.
يعنـي بذلك تعالـى ذكره حكم ربك يا مـحمد بأمره إياكم ألا تعبدوا إلا الله، فإنه لا ينبغي أن يعبد غيره.
وقد اختلفت ألفـاظ أهل التأويـل فـي تأويـل قوله وَقَضَى رَبّكَ وإن كان معنى جميعهم فـي ذلك واحدا. ذكر ما قالوا فـي ذلك:
16761ـ حدثنـي علـيّ بن داود، قال: حدثنا عبد الله بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس وَقَضَى رَبّكَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاه يقول: أمر.
16762ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الـحكم بن بشير، قال: حدثنا زكريا بن سلام، قال: جاء رجل إلـى الـحسن، فقال: إنه طلق امرأته ثلاثا، فقال: إنك عصيتَ ربك، وبـانت منك امرأتك، فقال الرجل: قضى الله ذلك علـيّ، قال الـحسن، وكان فصيحا: ما قضى الله: أي ما أمر الله، وقرأ هذه الاَية وَقَضَى رَبّكَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاهُ فقال الناس: تكلـم الـحسن فـي القدر.
16763ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله وَقَضَى رَبّكَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاهُ: أي أمر ربك فـي ألا تعبدوا إلا إياه، فهذا قضاء الله العاجل، وكان يُقال فـي بعض الـحكمة: من أرضى والديه: أرض خالقه، ومن أسخط والديه، فقد أسخط ربه.
حدثنا ابن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة وَوَقَضَى رَبّكَ ألاّ تَعْبُدوا إلاّ إيّاهُ قال: أمر ألا تعبدوا إلا إياه، وفـي حرف ابن مسعود: «وَصّى رَبّكَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاهُ».
16764ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يحيى بن عيسى، قال: حدثنا نصير بن أبـي الأشعث، قال: ثنـي ابن حبـيب بن أبـي ثابت، عن أبـيه، قال: أعطانـي ابن عبـاس مصحفـا، فقال: هذا علـى قراءة أبـيّ بن كعب، قال أبو كريب: قال يحيى: رأيت الـمصحف عند نصير فـيه: «وَوَصّى رَبّكَ» يعنـي: وقضى ربك.
16765ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد وَقَضَى رَبّكَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاهُ قال: وأوصى ربك.
16766ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله وَقَضَى رَبّكَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاهُ قال: أمر ألا تعبدوا إلا إياه.
16767ـ حدثنـي الـحرث، قال: حدثنا القاسم، قال: حدثنا هشيـم، عن أبـي إسحاق الكوفـي، عن الضحاك بن مزاحم، أنه قرأها: «وَوَصّى رَبّكَ» وقال: إنهم ألصقوا الواو بـالصاد فصارت قافـا.
وقوله: وَبـالوَالِدَيْنِ إحْسانا يقول: وأمركم بـالوالدين إحسانا أن تـحسنوا إلـيهما وتبرّوهما. ومعنى الكلام: وأمركم أن تـحسنوا إلـى الوالدين فلـما حذفت «أن» تعلق القضاء بـالإحسان، كما يقال فـي الكلام: آمرك به خيرا، وأوصيك به خيرا، بـمعنى: آمرك أن تفعل به خيرا، ثم تـحذف «أن» فـيتعلق الأمر والوصية بـالـخير، كما قال الشاعر:
عَجِبْتُ مِنْ دَهْماءَ إذْ تَشْكُوناومِنْ أبـي دَهْماءَ إذْ يُوصِينا خَيْرا بها كأننا جافُونا
وعمل يوصينا فـي الـخير.
واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله إمّا يَبْلُغَنّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أحَدُهُما أوْ كِلاهُما فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الـمدينة والبصرة، وبعض قرّاء الكوفـيـين: إمّا يَبْلُغَنّ علـى التوحيد علـى توجيه ذلك إلـى أحدهما لأن أحدهما واحد، فوحدوا يَبْلُغَنّ لتوحيده، وجعلوا قوله أوْ كِلاهُما معطوفـا علـى الأحد. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفـيـين: «إما يَبْلُغانّ» علـى التثنـية وكسر النون وتشديدها، وقالوا: قد ذكر الوالدان قبل، وقوله: «يَبْلُغانّ» خبر عنهما بعد ما قدّم أسماءهما. قالوا: والفعل إذا جاء بعد الاسم كان الكلام أن يكون فـيه دلـيـل علـى أنه خبر عن اثنـين أو جماعة. قالوا: والدلـيـل علـى أنه خبر عن اثنـين فـي الفعل الـمستقبل الألف والنون. قالوا: وقوله أحَدُهُما أوْ كِلاهُما كلام مستأنف، كما قـيـل: فَعَمُوا وَصَمّوا ثم تَاب اللّهُ عَلَـيْهِمْ، ثم عَمُوا وَصَمّوا كَثِـيرٌ منهُمْ وكقوله وأسَرّوا النّـجْوَى ثم ابتدأ فقال الّذِينَ ظَلَـمُوا.
وأولـى القراءتـين بـالصواب عندي فـي ذلك، قراءة من قرأه إما يَبْلُغَنّ علـى التوحيد علـى أنه خبر عن أحدهما، لأن الـخبر عن الأمر بـالإحسان فـي الوالدين، قد تناهى عند قوله وَبـالوَالِدَيْنِ إحْسانا ثم ابتدأ قوله إمّا يَبْلُغَنّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أحَدُهُما أوْ كِلاهُما.
وقوله: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفَ يقول: فلا تؤفف من شيء تراه من أحدهما أو منهما مـما يتأذّى به الناس، ولكن اصبر علـى ذلك منهما، واحتسب فـي الأجر صبرك علـيه منهما، كما صبرا علـيك فـي صغرك. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
16768ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا مـحمد بن مـحبب، قال: حدثنا سفـيان، عن لـيث، عن مـجاهد، فـي قوله: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفّ وَلا تَنْهَرْهُما قال: إن بلغا عندك من الكبر ما يبولان ويخرآن، فلا تقل لهما أفّ تقذّرهما.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد: إما يَبْلُغانّ عِندك الكبر فلا تَقُل لهما أف حين ترى الأذى، وتـميط عنهما الـخلاء والبول، كما كانا يـميطانه عنك صغيرا، ولا تؤذهما.
وقد اختلف أهل الـمعرفة بكلام العرب فـي معنى «أفّ»، فقال بعضهم: معناه: كلّ ما غلظ من الكلام وقبُح. وقال آخرون: الأفّ: وسخ الأظفـار والتف كلّ ما رفعت بـيدك من الأرض من شيء حقـير. وللعرب فـي «أُفّ» لغات ستّ رفعها بـالتنوين وغير التنوين وخفضها كذلك ونصبها فمن خفض ذلك بـالتنوين، وهي قراءة عامة أهل الـمدينة. شبهها بـالأصوات التـي لا معنى لها، كقولهم فـي حكاية الصوت غاق غاق، فخفضوا القاف ونوّنوها، وكان حكمها السكون، فإنه لا شيء يعربها من أجل مـجيئها بعد حرف ساكن وهو الألف، فكرهوا أن يجمعوا بـين ساكنـين، فحرّكوا إلـى أقرب الـحركات من السكون، وذلك الكسر، لأن الـمـجزوم إذا حرّك، فإنـما يحرّك إلـى الكسر. وأما الذين خفضوا بغير تنوين، وهي قراءة عامة قرّاء الكوفـيـين والبصريـين، فإنهم قالوا: إنـما يدخـلون التنوين فـيـما جاء من الأصوات ناقصا، كالذي يأتـي علـى حرفـين مثل: مَه وصَه وبَخ، فـيتـمـم بـالتنوين لنقصانه عن أبنـيه الأسماء. قالوا: وأفّ تامّ لا حاجة بنا إلـى تتـمته بغيره، لأنه قد جاء علـى ثلاثة أحرف. قالوا: وإنـما كسرنا الفـاء الثانـية لئلا نـجمع بـين ساكنـين. وأما من ضمّ ونوّن، فإنه قال: هو اسم كسائر الأسماء التـي تُعرب ولـيس بصوت، وعدل به عن الأصوات. وأما من ضمّ ذلك بغير تنوين، فإنه قال: لـيس هو بـاسم متـمكن فـيُعرب بإعراب الأسماء الـمتـمكنة، وقالوا: نضمه كما نضمّ قوله لِلّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ، وكما نضمّ الاسم فـي النداء الـمفرد، فنقول: يا زيد. ومن نصبه بغير تنوين، وهو قراءة بعض الـمكيـين وأهل الشام فإنه شبهه بقولهم: مدّ يا هذا وردّ. ومن نصب بـالتنوين، فإنه أعمل الفعل فـيه، وجعله اسما صحيحا، فـيقول: ما قلت له: أفـا ولا تفـا. وكان بعض نـحويـي البصرة يقول: قُرِئت: أفّ، وأفـا لغة جعلوها مثل نعتها. وقرأ بعضهم «أُفّ»، وذلك أن بعض العرب يقول: «أفّ لك» علـى الـحكاية: أي لا تقل لهما هذا القول. قال: والرفع قبـيح، لأنه لـم يجيء بعده بلام، والذين قالوا: «أُفّ» فكسروا كثـير، وهو أجود. وكسر بعضهم ونوّن. وقال بعضهم: «أُفّـي»، كأنه أضاف هذا القول إلـى نفسه، فقال: أُفّـي هذا لكما، والـمكسور من هذا منوّن وغير منوّن علـى أنه اسم غير متـمكن، نـحو أمس وما أشبهه، والـمفتوح بغير تنوين كذلك. وقال بعض أهل العربـية: كل هذه الـحركات الستّ تدخـل فـي «أفّ» حكاية تشبه بـالاسم مرّة وبـالصوت أخرى. قال: وأكثر ما تُكسر الأصوات بـالتنوين إذا كانت علـى حرفـين مثل صه ومه وبخ. وإذا كانت علـى ثلاثة أحرف شبهت بـالأدوات «أفّ» مثل: لـيت ومَدّ، وأُفّ مثل مُدّ يُشبه بـالأدوات. وإذا قال أَفّ مثل صَهّ. وقالوا سمعت مِضّ يا هذا ومِضّ. وحُكي عن الكسائي أنه قال: سمعت «ما علـمك أهلك إلا مِضّ ومِضّ»، وهذا كأفّ وأفّ. ومن قال: «أُفّـا» جعله مثل سُحْقا وبُعدا.
والذي هو أولـى بـالصحة عندي فـي قراءة ذلك، قراءة من قرأه: «فلا تَقُلْ لَهُما أُفّ» بكسر الفـاء بغير تنوين لعلّتـين إحداهما: أنها أشهر اللغات فـيها وأفصحها عند العرب والثانـية: أن حظّ كلّ ما لـم يكن له معرَب من الكلام السكون فلـما كان ذلك كذلك. وكانت الفـاء فـي أفّ حظها الوقوف، ثم لـم يكن إلـى ذلك سبـيـل لاجتـماع الساكنـين فـيه، وكان حكم الساكن إذا حُرّك أن يحرّك إلـى الكسر حرّكت إلـى الكسر، كما قـيـل: مُدّ وشُدّ ورُدّ البـاب.
وقوله: وَلا تَنْهَرْهُما يقول جلّ ثناؤه: ولا تزجُرهما. كما:
16769ـ حدثنا مـحمد بن إسماعيـل الأحمَسي، قال: حدثنا مـحمد بن عبـيد، قال: حدثنا واصل الرّقاشَيّ، عن عطاء ابن أبـي رَبـاح، فـي قوله: وَلا تَقُلْ لَهُما أُفَ وَلا تَنْهَرْهُما قال: لا تنفض يدك علـى والديك. يقال منه: نَهرَه يَنهره نَهْرا، وانتهره ينتهره انتهارا.
وأما قوله: وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيـما فإنه يقول جلّ ثناؤه: وقل لهما قولاً جميلاً حسنا. كما:
16770ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيـما قال: أحسن ما تـجد من القول.
16771ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا الـمتعمر بن سلـيـمان، عن عبد الله بن الـمختار، عن هشام بن عروة، عن أبـيه، عن عمر بن الـخطاب قَوْلاً كَرِيـما قالا: لا تـمتنع من شيء يريدانه.
قال أبو جعفر: وهذا الـحديث خطأ، أعنـي حديث هشام بن عُروة، إنـما هو عن هشام بن عروة، عن أبـيه، لـيس فـيه عمر، حدّث عن ابن عُلـية وغيره، عن عبد الله بن الـمختار.
16772ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيـما: أي قولاً لـيّنا سهلاً.
حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، مثله.
16773ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنـي حَرْملة بن عمران، عن أبـي الهَدّاج التّـجِيبـي، قال: قلت لسعيد بن الـمسيب: كلّ ما ذكر الله عزّ وجلّ فـي القرآن من برّ الوالدين، فقد عرفته، إلاّ قوله وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيـما ما هذا القول الكريـم؟ فقال ابن الـمسيب: قول العبد الـمذنب للسيد الفظّ.
الآية : 24
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذّلّ مِنَ الرّحْمَةِ وَقُل رّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبّيَانِي صَغِيراً }.
يقول تعالـى ذكره: وكن لهما ذلـيلاً رحمة منك بهما تطيعهما فـيـما أمراك به مـما لـم يكن لله معصية، ولا تـخـلفهما فـيـما أحبّـا. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
16774ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن هشام بن عروة، عن أبـيه، فـي قوله وَاخْفِضْ لَهُما جنَاحَ الذّلّ مِنَ الرّحْمَةِ قال: لا تـمتنع من شيء يُحبـانه.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا الأشجعي، قال: سمعت هشام بن عروة، عن أبـيه، فـي قوله وَاخْفِض لَهُما جنَاحَ الذّلّ مِنَ الرّحْمَةِ قال: هو أن تلـين لهما حتـى لا تـمتنع من شيء أحبّـاه.
حدثنـي مـحمد بن عبد الله بن عبد الـحكم، قال: حدثنا أيوب بن سويد، قال: حدثنا الثوري، عن هشام بن عروة، عن أبـيه، فـي قوله وَاخْفِضْ لَهُما جنَاحَ الذّلّ مِنَ الرّحْمَةِ قال: لا تـمتنع من شيء أحبـاه.
حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن عُلَـية، عن عبد الله بن الـمختار، عن هشام بن عروة، عن أبـيه، فـي قوله وَاخْفِضْ لَهُما جنَاحَ الذّلّ مِنَ الرّحْمَةِ قال: هو أن لا تـمتنع من شيء يريدانه.
16775ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا الـمقرىء أبو عبد الرحمن، عن حرملة بن عمران، عن أبـي الهداج، قال: قلت لسعيد بن الـمسيب: ما قوله وَاخْفِضْ لَهُما جنَاحَ الذّلّ مِنَ الرّحْمَةِ قال: ألـم تر إلـى قول العبد الـمذنب للسيد الفظّ الغلـيظ.
والذّلّ بضم الذال والذّلّة مصدران من الذلـيـل، وذلك أن يتذلل، ولـيس بذلـيـل فـي الـخـلقة من قول القائل: قد ذَلَلت لك أذلّ ذلة وذلاً، وذلك نظير القلّ والقلة، إذا أسقطت الهاء ضمت الذال من الذّلّ، والقاف من القُلّ، وإذا أثبتت الهاء كُسِرت الذال من الذّلة، والقاف من القِلّة، لـما قال الأعشى:
(وَمَا كُنْتُ قُلاّ قبلَ ذلكَ أزْيَبَـا )
يريد: القلة. وأما الذّل بكسر الذال وإسقاط الهاء فإنه مصدر من الذّلول من قولهم: دابة ذَلول: بـينة الذلّ، وذلك إذا كانت لـينة غير صعبة. ومنه قول الله جلّ ثناؤه: هُوَ الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولاً يُجمع ذلك ذُلُلاً، كما قال جلّ ثناؤه: فـاسْلُكِي سُبُلَ رَبّكَ ذُلُلاً. وكان مـجاهد يتأوّل ذلك أنه لا يتوعّر علـيها مكان سلكته.
واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامّة قرّاء الـحجاز والعراق والشام وَاخْفِضْ لَهُما جنَاحَ الذّلّ بضمّ الذال علـى أنه مصدر من الذلـيـل. وقرأ ذلك سعيد بن جبـير وعاصم الـجَحْدَرِيّ: «جنَاحَ الذّلّ» بكسر الذال.
16776ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا بهز بن أسد، قال: حدثنا أبو عَوانة، عن أبـي بشر، عن سعيد بن جبـير أنه قرأ: «وَاخْفِضْ لَهُما جُناحَ الذّلّ مِنَ الرّحْمَةِ قال: كن لهما ذلـيلاً، ولا تكن لهما ذلولاً.
16777ـ حدثنا نصر بن علـيّ، قال: أخبرنـي عمر بن شقـيق، قال: سمعت عاصما الـجحدري يقرأ: «وَاخْفِضْ لَهُما جنَاجَ الذّلّ مِنَ الرّحْمَةِ» قال: كن لهما ذلـيلاً، ولا تكن لهما ذَلولاً.
حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عمر بن شقـيق، عن عاصم، مثله.
قال أبو جعفر: وعلـى هذا التأويـل الذي تأوّله عاصم كان ينبغي أن تكون قراءته بضم الذال لا بكسرها.
حدثنا نصر وابن بشار وحُدثت عن الفراء، قال: ثنـي هشيـم، عن أبـي بشر جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبـير، أنه قرأ: «وَاخفِضْ لَهُما جنَاحَ الذّلّ». قال الفرّاء: وأخبرنـي الـحكيـم بن ظهير، عن عاصم بن أبـي النّـجود، أنه قرأها الذّلّ أيضا، فسألت أبـا بكر فقال: الذّلّ قرأها عاصم.
وأما قوله: وَقُلْ رَبّ ارْحمْهُما كمَا رَبّـيَانِـي صَغِيرا فإنه يقول: ادع الله لوالديك بـالرحمة، وقل ربّ ارحمهما، وتعطف علـيهما بـمغفرتك ورحمتك، كما تعطّفـا علـيّ فـي صغري، فرحمانـي وربـيانـي صغيرا، حتـى استقللت بنفسي، واستغنـيت عنهما. كما:
16778ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَاخْفِضْ لَهُما جنَاحَ الذّلّ مِنَ الرّحْمَةِ وَقُلْ رَبّ ارْحَمْهُما كمَا رَبّـيانِـي صَغِيرا هكذا عُلّـمتـم، وبهذا أمرتـم، خذوا تعلـيـم الله وأدبه.
ذُكر لنا أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم وهو مادّ يديه رافع صوته يقول: «مَنْ أدْرَكَ وَالِدَيهِ أوْ أحَدَهُما ثُمّ دَخَـلَ النّارَ بَعْدَ ذلكَ فَأبْعَدَهُ اللّهُ وأسْحَقَهُ». ولكن كانوا يرون أنه من بَرّ والديه، وكان فـيه أدنى تُقـي، فإن ذلك مُبْلِغه جسيـم الـخير. وقال جماعة من أهل العلـم: إن قول الله جلّ ثناؤه: وَقُل رَبّ ارحَمْهُما كمَا رَبّـيانِـي صَغِيرا منسوخ بقوله: ما كانَ للنّبِـيّ والّذِينَ آمَنُوا أن يَسْتَغْفِرُوا للْـمُشْرِكِينَ وَلَو كانُوا أُولـي قُربَى من بَعْدِ ما تَبَـيّنَ لَهُم أنّهُم أصْحابُ الـجَحِيـمِ. ذكر من قال ذلك:
16779ـ حدثنـي علـيّ بن داود، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، قوله: وَقُل رَبّ ارحَمْهُما كمَا رَبّـيانِـي صَغِيرا ثم أنزل الله عزّ وجلّ بعد هذا: ما كانَ للنّبِـيّ وَالّذِينَ آمَنُوا أن يَسْتَغْفِرُوا للْـمُشْرِكِينَ وَلَو كانُوا أُولـي قُربَى.
16780ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا الـحسين، عن يزيد، عن عكرمة، قال فـي سورة بنـي إسرائيـل إمّا يَبْلُغانّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أحَدُهُما أو كِلاهُما... إلـى قوله وَقُل رَبّ ارْحَمْهُما كمَا رَبّـيانِـي صَغِيرا فنسختها الاَية التـي فـي براءة ما كانَ للنّبِـيّ وَالّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا للْـمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولـي قُرْبَى... الاَية.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج، قال ابن عبـاس وَقُلْ رَبّ ارْحَمْهُما... الاَية، قال: نسختها الاَية التـي فـي براءة ما كانَ للنّبِـيّ وَالّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا للْـمُشْرِكينَ... الاَية.
وقد تـحتـمل هذه الاَية أن تكون وإن كان ظاهرها عامّا فـي كلّ الاَبـاء بغير معنى النسخ، بأن يكون تأويـلها علـى الـخصوص، فـيكون معنى الكلام: وقل ربّ ارحمهما إذا كانا مؤمنـين، كما رَبـيانـي صغيرا، فتكون مرادا بها الـخصوص علـى ما قلنا غير منسوخ منها شيء. وعَنَى بقول ربـيانـي: نَـمّيَانـي.
الآية : 25
القول فـي تأويـل قوله تعالـى {رّبّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنّهُ كَانَ لِلأوّابِينَ غَفُوراً }.
يقول تعالـى ذكره رَبّكُمْ أيها الناس أعْلَـمُ منكم بِـمَا فِـي نُفُوسِكُمْ من تعظيـمكم أمر آبـائكم وأمهاتكم وتكرمتهم، والبرّ بهم، وما فـيها من اعتقاد الاستـخفـاف بحقوقهم، والعقوق لهم، وغير ذلك من ضمائر صدوركم، لا يخفـى علـيه شيء من ذلك، وهو مـجازيكم علـى حَسَن ذلك وسيّئه، فـاحذروا أن تُضمروا لهم سوءا، وتعقِدوا لهم عقوقا. وقوله إنْ تَكُونُوا صَالِـحِينَ يقول: إن أنتـم أصلـحتـم نـياتكم فـيهم، وأطعتـم الله فـيـما أمركم به من البرّ بهم، والقـيام بحقوقهم علـيكم، بعد هفوة كانت منكم، أو زلة فـي واجب لهم علـيكم مع القـيام بـما ألزمكم فـي غير ذلك من فرائضه، فإنه كان للأوّابـين بعد الزّلة، والتائبـين بعد الهَفْوة غفورا لهم. وبنـحو الذي قلنا فـي تأويـل ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
16781ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت أبـي وعمي عن حبـيب بن أبـي ثابت، عن سعيد بن جبـير رَبّكُمْ أعْلَـمُ بِـمَا فِـي نُفُوسِكُمْ قال: البـادرة تكون من الرجل إلـى أبويه لا يريد بذلك إلا الـخير، فقال: ربّكُمْ أعْلَـمُ بِـمَا فِـي نُفُوسِكُمْ.
حدثنا أبو السائب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: أخبرنـي أبـي، عن حبـيب بن أبـي ثابت، عن سعيد بن جبـير، بـمثله.
16782ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الـحكم بن بشير، قال: حدثنا عمرو، عن حبـيب بن أبـي ثابت، فـي قوله فإنّهُ كانَ للأَوّابِـينَ غَفُورا قال: هو الرجل تكون منه البـادرة إلـى أبويه وفـي نـيته وقلبه أنه لا يؤاخَذ به.
واختلف أهل التأويـل، فـي تأويـل قوله: فإنّهُ كانَ للأَوّابِـينَ غَفُورا فقال بعضهم: هم الـمسبّحون. ذكر من قال ذلك:
16783ـ حدثنـي سلـيـمان بن عبد الـجبـار، قال: حدثنا مـحمد بن الصلت، قال: حدثنا أبو كدينة وحدثنـي ابن سنان القزاز، قال: حدثنا الـحسين بن الـحسن الأشقر، قال: حدثنا أبو كدينة، عن عطاء، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس فإنّهُ كانَ للأوّابِـينَ غَفُورا قال: الـمسبحين.
16784ـ حدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا أبو خيثمة زهير، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن أبـي ميسرة، عن عمرو بن شرحبـيـل، قال: الأوّاب: الـمسبح.
وقال آخرون: هم الـمطيعون الـمـحسنون. ذكر من قال ذلك:
16785ـ حدثنـي علـيّ بن داود، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، قوله فإنّهُ كانَ للأَوّابِـينَ غَفُورا يقول: للـمطيعين الـمـحسنـين.
16786ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله فإنّهُ كانَ للأَوّابِـينَ غَفُورا قال: هم الـمطيعون، وأهل الصلاة.
حدثنا ابن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة فإنه كانَ للأَوّابِـينَ غَفُورا قال: للـمطيعين الـمصلـين.
وقال آخرون: بل هم الذين يصلون بـين الـمغرب والعشاء. ذكر من قال ذلك:
16787ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، عن أبـي صخر حميد بن زياد، عن ابن الـمنكدر يرفعه فإنّهُ كان للأَوّابِـينَ غَفُورا قال: الصلاة بـين الـمغرب والعشاء.
وقال آخرون: هم الذين يصلّون الضّحَى. ذكر من قال ذلك:
16788ـ حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: حدثنا ربـاح أبو سلـيـمان الرقاء، قال: سمعت عونا العُقـيـلـيّ يقول فـي هذه الاَية فإنّهُ كانَ للأَوّابِـينَ غَفُورا قال: الذين يصلون صلاة الضحى.
وقال آخرون: بل هو الراجع من ذنبه، التائب منه. ذكر من قال ذلك:
16789ـ حدثنا أحمد بن الولـيد القرشيّ، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن الـمسيب أنه قال فـي هذه الاَية فإنّهُ كانَ للأَوّابِـينَ غَفُورا قال: الذي يصيب الذنب ثم يتوب ثم يصيب الذنب ثم يتوب.
حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا سلـيـمان بن داود، عن شعبة، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن الـمسيب، قال: هو الذي يذنب ثم يتوب، ثم يذنب ثم يتوب فـي هذا الاَية فإنّهُ كانَ للأَوّابِـينَ غَفُورا.
حدثنا مـجاهد بن موسى، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا يحيى بن سعيد، أنه سمع سعيد بن الـمسيب يُسْأَل عن هذه الاَية فإنّهُ كانَ للأَوّابِـينَ غَفُورا قال: هو الذي يذنب ثم يتوب، ثم يذنب ثم يتوب.
حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنـي جرير بن حازم، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن الـمسيب، بنـحوه.
حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن سعيد بن الـمسيب، بنـحوه.
حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنـي مالك، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن الـمسيب فإنّهُ كانَ للأَوّابِـينَ غَفُورا قال: هو العبد يذنب ثم يتوب، ثم يذنب ثم يتوب.
حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي اللـيث بن سعد، عن يحيى بن سعيد، قال: سمعت سعيد بن الـمسيب يقول: فذكر مثله.
حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزّاق، قال: أخبرنا الثّوريّ ومعمر، عن يحيى بن سعيد، عن ابن الـمسيب، قال: الأوّاب: الذي يذنب ثم يتوب، ثم يذنب ثم يتوب، ثم يذنب ثم يتوب.
16790ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبـي بشر، عن سعيد بن جبـير فـي هذه الاَية فإنّهُ كانَ للأَوّابِـينَ غَفُورا قال: الراجعين إلـى الـخير.
حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الصمد وأبو داود وهشام، عن شعبة، عن أبـي بشر، عن سعيد بن جبـير، بنـحوه.
16791ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو، جميعا عن منصور، عن مـجاهد، عن عبـيد بن عمير فإنّهُ كان للأوّابِـين غَفُورا قال: الذي يذكر ذنوبه فـي الـخلاء، فـيستغفر الله منها.
16792ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوريّ، عن منصور، عن مـجاهد، قال: الأوّاب: الذي يذكر ذنوبه فـي الـخلاء فـيستغفر الله منها.
حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن منصور، عن مـجاهد، عن عبـيد بن عمير، أنه قال فـي هذه الاَية إنّهُ كان للأوّابِـينَ غَفُورا قال: الذي يذكر ذنبه ثم يتوب.
حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، فـي قوله جلّ ثناؤه للأوّابِـين غَفُورا قال: الأوّابون: الراجعون التائبون.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، مثله.
قال ابن جريج، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن الـمسيب: الرجل يذنب ثم يتوب ثلاثا.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مـجاهد، عن عبـيد بن عمير، قوله فإنّه كان للأوّابِـين غَفُورا قال: الذي يتذكر ذنوبه، فـيستغفر الله لها.
16793ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي ابن شريح، عن عقبة بن مسلـم، عن عطاء بن يسار، أنه قال فـي قوله فإنّهُ كان للأوّابِـين غَفُورا يذنب العبد ثم يتوب، فـيتوب الله علـيه ثم يذنب فـيتوب، فـيتوب الله علـيه ثم يذنب الثالثة، فإن تاب، تاب الله علـيه توبة لا تُـمْـحَى.
وقد رُوي عن عبـيد بن عمير، غير القول الذي ذكرنا عن مـجاهد، وهو ما:
16794ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا مـحمد بن مسلـم، عن عمرو بن دينار، عن عبـيد بن عمير، فـي قوله فإنّهُ كان للأوّابِـين غَفُورا قال: كنا نَعُدّ الأوّاب: الـحفـيظ، أن يقول: اللهمّ اغفر لـي ما أصبت فـي مـجلسي هذا.
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب، قول من قال: الأوّاب: هو التائب من الذنب، الراجع من معصية الله إلـى طاعته، ومـما يكرهه إلـى ما يرضاه، لأن الأوّاب إنـما هو فعّال، من قول القائل: آب فلان من كذا إما من سفره إلـى منزله، أو من حال إلـى حال، كما قال عبَـيد بن الأبرص:
وكُلّ ذِي غَيْبَةٍ يَئُوبُ وغائِبُ الـمَوْتِ لا يَئُوبُ
فهو يئوب أوبـا، وهو رجل آئب من سفره، وأوّاب من ذنوبه.
الآية : 26 و27
القول فـي تأويـل قوله تعالـى {وَآتِ ذَا الْقُرْبَىَ حَقّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السّبِيلِ وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيراً * إِنّ الْمُبَذّرِينَ كَانُوَاْ إِخْوَانَ الشّيَاطِينِ وَكَانَ الشّيْطَانُ لِرَبّهِ كَفُوراً }.
اختلف أهل التأويـل فـي الـمعنـيّ بقوله وآتِ ذَا القُرْبى فقال بعضهم: عَنى به: قرابة الـميت من قِبل أبـيه وأمه، أمرا الله جلّ ثناؤه عبـاده بصلتها. ذكر من قال ذلك:
16795ـ حدثنا عمرانُ بن موسى، قال: حدثنا عبد الوارث بن سعيد، قال: حدثنا حبـيب الـمعلـم، قال: سأل رجل الـحسن، قال: أُعْطِي قرابتـي زكاة مالـي، فقال: إن لهم فـي ذلك لـحقا سوى الزكاة، ثم تلا هذه الاَية وآت ذا القُرْبى حَقّهُ.
16796ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، قوله وآتِ ذَا القُرْبى حَقّهُ قال: صلته التـي تريد أن تصله بها ما كنت تريد أن تفعله إلـيه.
16797ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قوله وآتِ ذَا القُرْبى حَقّهُ وَالـمِسْكِينَ وَابْنَ السّبِـيـلِ قال: هو أن تصل ذا القربة والـمسكين وتـحسُن إلـى ابن السبـيـل.
وقال آخرون: بل عنى به قرابه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:
16798ـ حدثنـي مـحمد بن عمارة الأسدي، قال: حدثنا إسماعيـل بن أبـان، قال: حدثنا الصبـاح بن يحيى الـمَزنـيّ، عن السّديّ، عن أبـي الديـلـم، قال: قال علـيّ بن الـحسين علـيهما السلام لرجل من أهل الشام: أقرأت القرآن؟ قال: نعم، قال: أفما قرأت فـي بنـي إسرائيـل وآتِ ذَا القُرْبى حَقّهُ قال: وإنكم للقْرابة التـي أمر الله جلّ ثناؤه أن يُؤتـي حقه؟ قال: نعم.
وأولـى التأويـلـين عندي بـالصواب، تأويـل من تأوّل ذلك أنها بـمعنى وصية الله عبـاده بصلة قرابـات أنفسهم وأرحامهم من قِبَل آبـائهم وأمهاتهم، وذلك أن الله عزّ وجلّ عَقّب ذلك عقـيب حَضّه عبـاده علـى بر الاَبـاء والأمّهات، فـالواجب أن يكون ذلك حَضّا علـى صلة أنسابهم دون أنساب غيرهم التـي لـم يجر لها ذكر. وإذا كان ذلك كذلك، فتأويـل الكلام: وأعط يا مـحمد ذا قرابتك حقه من صلتك إياه، وبرّك به، والعطف علـيه. وخرج ذلك مَخْرج الـخطاب لنبـيّ الله صلى الله عليه وسلم، والـمراد بحكمه جميع من لزمته فرائض الله، يدلّ علـى ذلك ابتداؤه الوصية بقوله جلّ ثناؤه: وَقَضَى رَبّكَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاهُ وَبـالوَالِدَيْنِ إحْسانا إمّا يَبْلُغَنّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أحَدُهُما فوجّه الـخطاب بقوله وَقَضَى رَبّكَ إلـى نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاهُ فرجع بـالـخطاب به إلـى الـجميع، ثم صرف الـخطاب بقوله إمّا يَبْلُغَنّ عِنْدَكَ إلـى إفراده به. والـمعنـيّ بكل ذلك جميع من لزمته فرائض الله عزّ وجلّ، أفرد بـالـخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، أو عمّ به هو وجميع أمته.
وقوله: والـمِسْكِينَ وهو الذلّة من أهل الـحاجة. وقد دللنا فـيـما مضى علـى معنى الـمسكين بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع. وقوله وَابْنَ السّبِـيـلِ يعنـي: الـمسافر الـمنقطع به، يقول تعالـى: وصِل قرابتك، فأعطه حقه من صلتك إياه، والـمسكين ذا الـحاجة، والـمـجتاز بك الـمنقطع به، فأعنه، وقوّه علـى قطع سفره. وقد قـيـل: إنـما عنى بـالأمر بإتـيان ابن السبـيـل حقه أن يضاف ثلاثة أيام.
والقول الأوّل عندي أولـى بـالصواب، لأن الله تعالـى لـم يخصُصْ من حقوقه شيئا دون شيء فـي كتابه، ولا علـى لسان رسوله، فذلك عامّ فـي كلّ حقّ له أن يُعطاه من ضيافة أو حمولة أو مَعُونة علـى سفره.
وقوله وَلا تُبَذّرْ تَبْذِيرا يقول: ولا تفرّق يا مـحمد ما أعطاك الله من مال فـي معصيته تفريقا. وأصل التبذير: التفريق فـي السّرَف ومنه قول الشاعر:
أُناسٌ أجارُونا فَكانَ جِوَارُهُمْأعاصِيرَ مِنْ فِسْقِ العِرَاقِ الـمُبَذّرِ
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
16799ـ حدثنـي مـحمد بن عبـيد الـمـحاربـي، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن أبـي إسحاق، عن أبـي العبـيدين، قال: قال عبد الله فـي قوله وَلا تُبَذّرْ تَبْذِيرا قال: التبذير فـي غير الـحقّ، وهو الإسراف.
حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن سلـمة، عن مسلـم البطين، عن أبـي العبـيدين، قال: سُئل عبد الله عن الـمبذّر فقال: الإنفـاق فـي غير حقّ.
حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن الـحكم، قال: سمعت يحيى بن الـجزار يحدّث عن أبـي العبُـيدين، ضرير البصر، أنه سأل عبد الله بن مسعود عن هذه الاَية ولا تُبَذّرْ تَبْذِيرا قال: إنفـاق الـمال فـي غير حقه.
حدثنـي زكريا بن يحيى بن أبـي زائدة، قال: حدثنا ابن إدريس، عن الأعمش، عن الـحكم، عن يحيى بن الـجزار، عن أبـي العُبـيدين، عن عبد الله، مثله.
حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، قال: أخبرنا شعبة، عن الـحكم بن عتـيبة، عن يحيى بن الـجزار أن أبـا العبـيدين، كان ضرير البصر، سأل ابن مسعود فقال: ما التبذير؟ فقال: إنفـاق الـمال فـي غير حقه.
حدثنا خلاد بن أسلـم، قال: أخبرنا النضر بن شميـل، قال: أخبرنا الـمسعودي، قال: أخبرنا سلـمة بن كُهيـل، عن أبـي العُبـيدين، وكانت به زَمانة، وكان عبد الله يعرف له ذلك، فقال: يا أبـا عبد الرحمن، ما التبذير؟ فذكر مثله.
حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، قال: حدثنا أبو الـحوءَب، عن عمار بن زُريق، عن أبـي إسحاق، عن حارثة بن مُضرِب، عن أبـي العُبـيدين، عن عبد الله بن مسعود، قال: كنا أصحاب مـحمد صلى الله عليه وسلم نتـحدّث أن التبذير: النفقة فـي غير حقه.
حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا يحيى بن كثـير العنبري، قال: حدثنا شعبة، قال: كنت أمشي مع أبـي إسحاق فـي طريق الكوفة، فأتـى علـى دار تُبنى بجصّ وآجر، فقال: هذا التبذير فـي قول عبد الله: إنفـاق الـمال فـي غير حقه.
16800ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قوله وَلا تُبَذّرْ تَبْذِيرا قال: الـمبذّر: الـمنفق فـي غير حقه.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا عبـاد، عن حصين، عن عكرمة، عن ابن عبـاس، قال: الـمبذّر: الـمنفق فـي غير حقه.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الـخراسانـي، عن ابن عبـاس، قال: لا تنفق فـي البـاطل، فإن الـمبذّر: هو الـمسرف فـي غير حقّ.
قال ابن جريج وقال مـجاهد: لو أنفق إنسان ماله كله فـي الـحقّ ما كان تبذيرا، ولو أنفق مدّا فـي بـاطل كان تبذيرا.
16801ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله وَلا تُبَذّرْ تَبْذِيرا قال: التبذير: النفقة فـي معصية الله، وفـي غير الـحقّ وفـي الفساد.
16802ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله وآتِ ذَا القُرْبَى حَقّهُ وَالـمِسْكينَ وَابْنَ السّبِـيـلِ قال: بدأ بـالوالدين قبل هذا، فلـما فرغ من الوالدين وحقهما، ذكر هؤلاء وقال لا تُبَذّرْ تَبْذِيرا: لا تعطِ فـي معاصي الله.
وأما قوله إنّ الـمُبَذّرِينَ كانُوا إخْوَانَ الشّياطِينِ فإنه يعنـي: إنّ الـمفرّقـين أموالهم فـي معاصي الله الـمنفقـيها فـي غير طاعته أولـياء الشياطين وكذلك تقول العرب لكلّ ملازم سنة قوم وتابع أثرهم: هو أخوهم وكانَ الشّيُطانُ لِرَبّهِ كَفُورا يقول: وكان الشيطان لنعمة ربه التـي أنعمها علـيه جحودا لا يشكره علـيه، ولكنه يكفرها بترك طاعة الله، وركوبه معصيته، فكذلك إخوانه من بنـي آدم الـمبذّرون أموالهم فـي معاصي الله، لا يشكرون الله علـى نعمه علـيهم، ولكنهم يخالفون أمره ويعصُونه، ويستنون فـيـما أنعم الله علـيهم به من الأموال التـي خوّلهموها وجل عزّ سنته من ترك الشكر علـيها، وتلقّـيها بـالكُفران. كالذي:
16803ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله إنّ الـمُبَذّرِينَ: إن الـمنفقـين فـي معاصي الله كانُوا إخْوَانَ الشّياطينِ وكانَ الشّيْطانُ لرَبّهِ كَفُورا