تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 283 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 283

283 : تفسير الصفحة رقم 283 من القرآن الكريم

** إِنّ هَـَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشّرُ الْمُؤْمِنِينَ الّذِينَ يَعْمَلُونَ الصّالِحَاتِ أَنّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً * وأَنّ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
يمدح تعالى كتابه العزيز الذي أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم, وهو القرآن بأنه يهدي لأقوم الطرق وأوضح السبل, ويبشر المؤمنين به الذين يعملون الصالحات على مقتضاه, أن لهم أجراً كبيراً, أي يوم القيامة, وأن الذين لا يؤمنون بالاَخرة, أي ويبشر الذين لا يؤمنون بالاَخرة أن لهم عذاباً أليماً, أي يوم القيامة, كما قال تعالى: {فبشرهم بعذاب أليم}.

** وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشّرّ دُعَآءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً
يخبر تعالى عن عجلة الإنسان ودعائه في بعض الأحيان على نفسه أو ولده أو ماله بالشر أي بالموت أو الهلاك والدمار واللعنة ونحو ذلك, فلو استجاب له ربه لهلك بدعائه, كما قال تعالى {ولو يعجل الله للناس الشر} الاَية, وكذا فسره ابن عباس ومجاهد وقتادة, وقد تقدم في الحديث «لا تدعوا على أنفسكم, ولا على أموالكم أن توافقوا من الله ساعة إجابة يستجيب فيها» وإنما يحمل ابن آدم على ذلك قلقه وعجلته, ولهذا قال تعالى: {وكان الإنسان عجول} وقد ذكر سلمان الفارسي وابن عباس ههنا قصة آدم عليه السلام حين همّ بالنهوض قائماً قبل أن تصل الروح إلى رجليه, وذلك أنه جاءته النفخة من قبل رأسه, فلما وصلت إلى دماغه عطس, فقال: الحمد لله, فقال الله: يرحمك ربك يا آدم. فلما وصلت إلى عينيه فتحهما, فلما سرت إلى أعضائه وجسده, جعل ينظر إليه ويعجبه, فهم بالنهوض قبل أن تصل إلى رجليه فلم يستطع, وقال: يا رب عجل قبل الليل.

** وَجَعَلْنَا الْلّيْلَ وَالنّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ الْلّيْلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ النّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رّبّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلّ شَيْءٍ فَصّلْنَاهُ تَفْصِيلاً
يمتن تعالى على خلقه بآياته العظام, فمنها مخالفته بين الليل والنهار ليسكنوا في الليل, وينتشروا في النهار للمعايش والصنائع, والأعمال والأسفار, وليعلموا عدد الأيام والجمع والشهور والأعوام, ويعرفوا مضي الاَجال المضروبة للديون والعبادات والمعاملات والإجارات وغير ذلك, ولهذا قال: {لتبتغوا فضلاً من ربكم} أي في معايشكم وأسفاركم ونحو ذلك, {ولتعلموا عدد السنين والحساب} فإنه لو كان الزمان كله نسقاً واحداً وأسلوباً متساوياً لما عرف شيء من ذلك, كما قال تعالى: {قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء ؟ أفلا تسمعون * قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون * ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون} وقال تعالى: {تبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكور} وقال تعالى: {وله اختلاف الليل والنهار} وقال: {يكوّر الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار} وقال تعالى: {فالق الإصباح وجعل الليل سكناً والشمس والقمر حسباناً ذلك تقدير العزيز العليم} وقال تعالى: {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم} ثم إنه تعالى جعل لليل آية, أي علامة يعرف بها, وهي الظلام وظهور القمر فيه, وللنهار علامة وهي النور وطلوع الشمس النيرة فيه, وفاوت بين نور القمر وضياء الشمس ليعرف هذا من هذا, كما قال تعالى: {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدّره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق ـ إلى قوله ـ لاَيات لقوم يتقون} وقال تعالى: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} الاَية.
قال ابن جريج عن عبد الله بن كثير في قوله: {فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة} قال: ظلمة الليلة وسدف النهار. وقال ابن جريج عن مجاهد: الشمس آية النهار والقمر آية الليل, {فمحونا آية الليل} قال: السواد الذي في القمر, وكذلك خلقه الله تعالى. وقال ابن جريج: قال ابن عباس: كان القمر يضيء كما تضيء الشمس, والقمر آية الليل, والشمس آية النهار, فمحونا آية الليل السواد الذي في القمر. وقد روى أبو جعفر بن جرير من طرق متعددة جيدة أن ابن الكواء سأل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب, فقال: يا أمير المؤمنين ما هذه اللطخة التي في القمر ؟ فقال: ويحك أما تقرأ القرآن ؟ فقال: فمحونا آية الليل فهذه محوه. وقال قتادة في قوله: {فمحونا آية الليل} كنا نحدث أن محو آية الليل سواد القمر الذي فيه, وجعلنا آية النهار مبصرة أي منيرة, وخلق الشمس أنور من القمر وأعظم, وقال ابن أبي نجيح عن ابن عباس {وجعلنا الليل والنهار آيتين} قال ليلاً ونهاراً, كذلك خلقهما الله عز وجل.

** وَكُلّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَىَ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً
يقول تعالى بعد ذكر الزمان وذكر ما يقع فيه من أعمال بني آدم: {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه} وطائره هو ما طار عنه من عمله, كما قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما, من خير وشر ويلزم به ويجازى عليه, {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} وقال تعالى: {عن اليمين وعن الشمال قعيد * ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} وقال: {وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون} وقال: {إنما تجزون ما كنتم تعملون} وقال {من يعمل سوءاً يجز به} الاَية, والمقصود أن عمل ابن آدم محفوظ عليه قليله وكثيره, ويكتب عليه ليلاً ونهاراً, صباحاً ومساء.
وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة, حدثنا ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر, سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «طائر كل إنسان في عنقه» قال ابن لهيعة: يعني الطيرة, وهذا القول من ابن لهيعة في تفسير هذا الحديث غريب جداً, والله أعلم.
وقوله: {ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشور} أي نجمع له عمله كله في كتاب يعطاه يوم القيامة إما بيمينه إن كان سعيداً أو بشماله إن كان شقياً, منشوراً أي مفتوحاً يقرؤه هو وغيره فيه جميع عمله من أول عمره إلى آخره {ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر * بل الإنسان على نفسه بصيرة * ولو ألقى معاذيره} ولهذا قال تعالى: {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيب} أي إنك لم تظلم ولم يكتب عليك إلا ما عملت, لأنك ذكرت جميع ما كان منك, ولا ينسى أحد شيئاً مما كان منه, وكل أحد يقرأ كتابه من كاتب وأمي. وقوله: {ألزمناه طائره في عنقه} إنما ذكر العنق لأنه عضو من الأعضاء لا نظير له في الجسد, ومن ألزم بشيء فيه فلا محيد له عنه, كما قال الشاعر.
اذهب بها اذهب بهاطوقتها طوق الحمام
قال قتادة عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا عدوى ولا طيرة, وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه» كذا رواه ابن جرير, وقد رواه الإمام عبد بن حميد في مسنده متصلاً, فقال: حدثنا الحسن بن موسى, حدثنا ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «طير كل عبد في عنقه».
وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن إسحاق, حدثنا عبد الله, حدثنا ابن ليهعة, حدثني يزيد أن أبا الخير حدثه أنه سمع عقبة بن عامر رضي الله عنه, يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس من عمل يوم إلا وهو يختم عليه فإذا مرض المؤمن قالت الملائكة: يا ربنا عبدك فلان قد حبسته, فيقول الرب جل جلاله: اختموا له على مثل عمله حتى يبرأ أو يموت» إسناده جيد قوي, ولم يخرجوه. وقال معمر عن قتادة: {ألزمناه طائره في عنقه} قال عمله {ونخرج له يوم القيامة} قال: نخرج ذلك العمل {كتاباً يلقاه منشور} قال معمر, وتلا الحسن البصري {عن اليمين وعن الشمال قعيد} يا ابن آدم بسطت لك صحيفتك, ووكل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك والاَخر عن شمالك, فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك, وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك, فاعمل ما شئت أقلل أو أكثر حتى إذا مت طويت صحيفتك فجعلت في عنقك معك في قبرك, حتى تخرج يوم القيامة كتاباً تلقاه منشوراً, اقرأ كتابك الاَية, فقد عدل والله من جعلك حسيب نفسك, هذا من أحسن كلام الحسن, رحمه الله.

** مّنِ اهْتَدَىَ فَإِنّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلّ فَإِنّمَا يَضِلّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىَ وَمَا كُنّا مُعَذّبِينَ حَتّىَ نَبْعَثَ رَسُولاً
يخبر تعالى أن من اهتدى واتبع الحق, واقتفى أثر النبوة, فإنما يحصل عاقبة ذلك الحميدة لنفسه, {ومن ضل} أي عن الحق, وزاغ عن سبيل الرشاد, فإنما يجني على نفسه, وإنما يعود وبال ذلك عليه, ثم قال: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} أي لا يحمل أحد ذنب أحد, ولا يجني جان إلا على نفسه, كما قال تعالى: {وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء} ولا منافاة بين هذا وبين وقوله: {وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم},)وقوله: {ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم} فإن الدعاة عليهم إثم ضلالتهم في أنفسهم, وإثم آخر بسبب ما أضلوا من أضلوا من غير أن ينقص من أوزار أولئك, ولا يحمل عنهم شيئاً, وهذا من عدل الله ورحمته بعباده, وكذا قوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسول} إخبار عن عدله تعالى, وأنه لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه بإرسال الرسول إليه, كقوله تعالى: {كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير * قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير} وكذا قوله: {وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا, قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين} وقال تعالى: {وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل, أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير} إلى غير ذلك من الاَيات الدالة على أن الله تعالى لا يدخل أحداً النار إلا بعد إرسال الرسول إليه, ومن ثم طعن جماعة من العلماء في اللفظة التي جاءت معجمة في صحيح البخاري عند قوله تعالى: {إن رحمة الله قريب من المحسنين}.
حدثنا عبد الله بن سعد, حدثنا يعقوب, حدثنا أبي عن صالح بن كيسان عن الأعرج بإسناده إلى أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اختصمت الجنة والنار» فذكر الحديث إلى أن قال «وأما الجنة فلا يظلم الله من خلقه أحداً, وإنه ينشىء للنار خلقاً فيلقون فيها, فتقول هل من مزيد ؟ ثلاثاً» وذكر تمام الحديث, فهذا إنما جاء في الجنة, لأنها دار فضل, وأما النار فإنها دار عدل لا يدخلها أحد إلا بعد الإعذار إليه وقيام الحجة عليه. وقد تكلم جماعة من الحفاظ في هذه اللفظة, وقالوا: لعله انقلب على الراوي بدليل ما أخرجاه في الصحيحين, واللفظ للبخاري من حديث عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تحاجت الجنة والنار» فذكر الحديث إلى أن قال: «فأما النار فلا تمتلىء حتى يضع فيها قدمه, فتقول: قط قط, فهناك تمتلىء وينزوي بعضها إلى بعض. ولا يظلم الله من خلقه أحداً, وأما الجنة فإن الله ينشىء لها خلقاً».
بقي ههنا مسألة قد اختلف الأئمة رحمهم الله تعالى فيها قديماً وحديثاً, وهي الولدان الذين ماتوا وهم صغار وآباؤهم كفار: ماذا حكمهم ؟ وكذا المجنون والأصم والشيخ الخرف ومن مات في الفترة ولم تبلغه دعوة ؟ وقد ورد في شأنهم أحاديث أنا أذكرها لك بعون الله وتوفيقه, ثم نذكر فصلاً ملخصاً من كلام الأئمة في ذلك والله المستعان.
(فالحديث الأول) عن الأسود بن سريع. قال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عبد الله, حدثنا معاذ بن هشام, حدثنا أبي عن قتادة عن الأحنف بن قيس. عن الأسود بن سريع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أربعة يحتجون يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئاً, ورجل أحمق, ورجل هرم, ورجل مات في فترة, فأما الأصم فيقول: رب قد جاء الإسلام وما أسمع شيئاً, وأما الأحمق فيقول: رب قد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر, وأما الهرم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئاً, وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب ما أتاني لك رسول. فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه, فيرسل إليهم أن ادخلوا النار, فوالذي نفس محمد بيده, لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاماً». وبالإسناد عن قتادة عن الحسن عن أبي رافع عن أبي هريرة مثله, غير أنه قال في آخره: «فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً, ومن لم يدخلها يسحب إليها», وكذا رواه إسحاق بن راهويه عن معاذ بن هشام, ورواه البيهقي في كتاب الاعتقاد من حديث أحمد بن إسحاق عن علي بن عبد الله المديني به, وقال: هذا إسناد صحيح, وكذا رواه حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي رافع عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أربعة كلهم يدلي على الله بحجة» فذكر نحوه, ورواه ابن جرير من حديث معمر عن همام عن أبي هريرة, فذكره موقوفاً, ثم قال أبو هريرة: فاقرؤوا إن شئتم {وما كنا معذبين حتى نبعث رسول} وكذا رواه معمر عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة موقوفاً.
(الحديث الثاني) عن أنس بن مالك قال أبو داود الطيالسي: حدثنا الربيع عن يزيد بن أبان قال: قلنا لأنس: يا أبا حمزة ما تقول في أطفال المشركين ؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم يكن لهم سيئات فيعذبوا بها, فيكونوا من أهل النار, ولم يكن لهم حسنات فيجازوا بها, فيكونوا من أهل الجنة».
(الحديث الثالث) عن أنس أيضاً. قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو خيثمة, حدثنا جرير عن ليث عن عبد الوارث, عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يؤتى بأربعة يوم القيامة: بالمولود, والمعتوه, ومن مات في الفترة, والشيخ الفاني الهرم كلهم يتكلم بحجته» فيقول الرب تبارك وتعالى: لعنق من النار ابرز, ويقول لهم: إني كنت أبعث إلى عبادي رسلاً من أنفسهم, وإني رسول نفسي إليكم ادخلوا هذه, قال: فيقول من كتب عليه الشقاء: يا رب أنى ندخلها ومنها كنا نفر ؟ قال: ومن كتب عليه السعادة يمضي فيقتحم فيها مسرعاً, فقال: فيقول الله تعالى: أنتم لرسلي أشد تكذيباً ومعصية, فيدخل هؤلاء الجنة وهؤلاء النار, وهكذا رواه الحافظ أبو بكر البزار عن يوسف بن موسى عن جرير بن عبد الحميد بإسناده مثله.
(الحديث الرابع) عن البراء بن عازب رضي الله عنه. قال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده أيضاً: حدثنا قاسم بن أبي شيبة, حدثنا عبد الله يعني ابن داود عن عمر بن ذر عن يزيد بن أمية, عن البراء قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أطفال المسلمين, قال: «هم مع آبائهم» وسئل عن أولاد المشركين, فقال: «هم مع آبائهم» فقيل: يا رسول الله ما يعملون ؟ قال: «الله أعلم بهم» ورواه عمر بن ذر عن يزيد بن أمية عن رجل عن البراء عن عائشة, فذكره.
(الحديث الخامس) عن ثوبان. قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده: حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري, حدثنا ريحان بن سعيد, حدثنا عباد بن منصور عن أيوب, عن أبي قلابة عن أبي أسماء, عن ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم عظم شأن المسألة قال «إذا كان يوم القيامة جاء أهل الجاهلين يحملون أوزارهم على ظهورهم, فيسأهلم ربهم, فيقولون: ربنا لم ترسل إلينا رسولاً, ولم ياتنا لك أمر, ولو أرسلت إلينا رسولاً لكنا أطوع عبادك, فيقول لهم ربهم: أرأيتم إن أمرتكم بأمر تطيعوني ؟ فيقولون: نعم, فيأمرهم أن يعمدوا إلى جهنم فيدخلوها, فينطلقون حتى إذا دنوا منها وجدوا لها تغيظاً وزفيراً, فرجعوا إلى ربهم, فيقولون: ربنا أخرجنا أو أجرنا منها, فيقول لهم: ألم تزعموا أني إن أمرتكم بأمر تطيعوني فيأخذ على ذلك مواثيقهم, فيقول: اعمدوا إليها فادخلوها, فينطلقون حتى إذا رأوها فرقوا منها ورجعوا وقالوا: ربنا فرقنا منها ولا نستطيع أن ندخلها, فيقول: ادخلوها داخرين «فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «لو دخلوها أول مرة كانت عليهم برداً وسلاماً» ثم قال البزار: ومتن هذا الحديث غير معروف إلا من هذا الوجه, لم يروه عن أيوب إلا عباد, ولا عن عباد إلا ريحان بن سعيد, قلت: وقد ذكره ابن حيان في ثقاته, وقال يحيى بن معين والنسائي: لا بأس به, ولم يرضه أبو داود, وقال أبو حاتم: شيخ لا بأس به يكتب حديثه ولا يحتج به.
(الحديث السادس) عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري. قال الإمام محمد بن يحيى الذهلي: حدثنا سعيد بن سليمان عن فضيل بن مرزوق عن عطية, عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الهالك في الفترة والمعتوه والمولود, يقول الهالك في الفترة: لم يأتني كتاب, ويقول المعتوه: رب لم تجعل لي عقلاً أعقل به خيراً ولا شراً, ويقول المولود: رب لم أدرك العقل, فترفع لهم نار, فيقال لهم: ردوها, قال: فيردها من كان في علم الله سعيداً لو أدرك العمل, ويمسك عنها من كان في علم الله شقياً لو أدرك العمل, فيقول: إياي عصيتم, فكيف لو أن رسلي أتتكم ؟!» وكذا رواه البزار عن محمد بن عمر بن هياج الكوفي عن عبيد الله بن موسى عن فضيل بن مرزوق به, ثم قال: لا يعرف من حديث أبي سعيد إلا من طريقه عن عطية عنه, وقال في آخره «فيقول الله إياي عصيتم, فكيف برسلي بالغيب ؟».
(الحديث السابع) عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال هشام بن عمار ومحمد بن المبارك الصوري: حدثنا عمرو بن واقد عن يونس بن حلبس عن أبي إدريس الخولاني, عن معاذ بن جبل عن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلاً وبالهالك في الفترة وبالهالك صغيراً, فيقول الممسوخ: يا رب لو آتيتني عقلاً ما كان من آتيته عقلاً بأسعد مني» وذكر في الهالك في الفترة والصغير نحو ذلك «فيقول الرب عز وجل: إني آمركم بأمر فتطيعوني ؟ فيقولون: نعم, فيقول: اذهبوا فادخلوا النار, قال: ولو دخلوها ما ضرتهم, فتخرج عليهم قوابض فيظنون أنها قد أهلكت ما خلق الله من شيء فيرجعون سراعاً, ثم يأمرهم ثانية, فيرجعون كذلك, فيقول الرب عز وجل: قبل أن أخلقكم علمت ما أنتم عاملون, وعلى علمي خلقتكم, وإلى علمي تصيرون, ضميهم, فتأخذهم النار».
(الحديث الثامن) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل مولود يولد على الفطرة, فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه, كما تنتج البهيمة جمعاء, هل تحسون فيها من جدعاء ؟» وفي رواية قالوا: يارسول الله, أفرأيت من يموت صغيراً ؟ قال: «الله أعلم بما كانوا عاملين». وقال الإمام أحمد: حدثنا موسى بن داود, حدثنا عبد الرحمن بن ثابت عن عطاء بن قرة عن عبد الله بن ضمرة, عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما أعلم ـ شك موسى ـ قال: «ذراري المسلمين في الجنة يكفلهم إبراهيم عليه السلام» وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل أنه قال «إني خلقت عبادي حنفاء», وفي رواية لغيره «مسلمين».
(الحديث التاسع) عن سمرة رضي الله عنه. رواه الحافظ أبو بكر البرقاني في كتابه المستخرج على البخاري من حديث عوف الأعرابي. عن أبي رجاء العطاردي عن سمرة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل مولود يولد على الفطرة» فناداه الناس: يا رسول الله وأولاد المشركين ؟ قال: «وأولاد المشركين». وقال الطبراني: حدثنا عبد الله بن أحمد, حدثنا عقبة بن مكرم الضبي عن عيسى بن شعيب, عن عباد بن منصور عن أبي رجاء, عن سمرة قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أطفال المشركين, فقال: «هم خدم أهل الجنة».
(الحديث العاشر) عن عم حسناء قال أحمد: حدثنا روح, حدثنا عوف عن حسناء بنت معاوية, من بني صريم قالت: حدثني عمي قال: قلت: يا رسول الله من في الجنة ؟ قال «النبي في الجنة, والشهيد في الجنة, والمولود في الجنة, والوئيد في الجنة». فمن العلماء من ذهب إلى الوقوف فيهم لهذا الحديث, ومنهم من جزم لهم بالجنة لحديث سمرة بن جندب في صحيح البخاري أنه عليه الصلاة والسلام قال في جملة ذلك المنام حين مر على ذلك الشيخ تحت الشجرة وحوله ولدان, فقال له جبريل: هذا إبراهيم عليه السلام, وهؤلاء أولاد المسلمين وأولاد المشركين, قالوا: يا رسول الله وأولاد المشركين ؟ قال: «نعم وأولاد المشركين» ومنهم من جزم لهم بالنار لقوله عليه السلام: «هم مع آبائهم» ومنهم من ذهب إلى أنّهم (يمتحنون يوم القيامة في العرصات), فمن أطاع دخل الجنة وانكشف على الله فيهم بسابق السعادة, ومن عصى دخل النار داخراً وانكشف علم الله به بسابق الشقاوة وهذا القول يجمع بين الأدلة كلها, وقد صرحت به الأحاديث المتقدمة المتعاضدة الشاهد بعضها لبعض, وهذا القول هو الذي حكاه الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري عن أهل السنة والجماعة, وهو الذي نصره الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب الاعتقاد, وكذلك غيره من محققي العلماء والحفاظ والنقاد. وقد ذكره الشيخ أبو عمر بن عبد البر النمري بعد ما تقدم من أحاديث الامتحان, ثم قال: وأحاديث هذا الباب ليست قوية ولا تقوم بها حجة, وأهل العلم ينكرونها, لأن الاَخرة دار جزاء وليست بدار عمل ولا ابتلاء, فكيف يكلفون دخول النار وليس ذلك في وسع المخلوقين والله لا يكلف نفساً إلا وسعها ؟.
(والجواب) عما قال أن أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح كما قد نص على ذلك كثير من أئمة العلماء, ومنها ما هو حسن ومنها ما هو ضعيف يتقوى بالصحيح والحسن, وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متصلة متعاضدة على هذا النمط, أفادت الحجة عند الناظر فيها. وأما قوله إن الدار الاَخرة دار جزاء, فلا شك أنها دار جزاء, ولا ينافي التكليف في عرصاتها قبل دخول الجنة أو النار, كما حكاه الشيخ أبو الحسن الأشعري عن مذهب أهل السنة والجماعة من امتحان الأطفال وقد قال تعالى: {يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود} الاَية,
وقد ثبت في الصحاح وغيرها أن المؤمنين يسجدون لله يوم القيامة, وأن المنافق لا يستطيع ذلك ويعود ظهره كالصفيحة الواحدة طبقاً واحداً كلما أراد السجود خرّ لقفاه. وفي الصحيحين في الرجل الذي يكون آخر أهل النار خروجاً منها, أن الله يأخذ عهوده ومواثيقه أن لا يسأل غير ما هو فيه, ويتكرر ذلك مراراً ويقول الله تعالى: يا ابن آدم ما أغدرك, ثم يأذن له في دخول الجنة, وأما قوله: فكيف يكلفهم الله دخول النار وليس ذلك في وسعهم, فليس هذا بمانع من صحة الحديث, فإن الله يأمر العباد يوم القيامة بالجواز على الصراط, وهو جسر على جهنم أحدّ من السيف وأدق من الشعرة, ويمر المؤمنون عليه بحسب أعمالهم كالبرق وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب, ومنهم الساعي ومنهم الماشي ومنهم من يحبو حبواً ومنهم المكدوش على وجهه في النار, وليس ما ورد في أولئك بأعظم من هذا بل هذا أطم وأعظم.
وأيضاً فقد أثبتت السنة بأن الدجال يكون معه جنة ونار, وقد أمر الشارع المؤمنين الذين يدركونه أن يشرب أحدهم من الذي يرى أنه نار, فإنه يكون عليه برداً وسلاماً, فهذا نظير ذاك, وأيضاً فإن الله تعالى أمر بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم فقتل بعضهم بعضاً حتى قتلوا فيما قيل في غداة واحدة سبعين ألفاً, يقتل الرجل أباه وأخاه, وهم في عماية غمامة أرسلها الله عليهم, وذلك عقوبة لهم على عبادتهم العجل, وهذا أيضاً شاق على النفوس جداً لا يتقاصر عما ورد في الحديث المذكور, والله أعلم.
(فصل) إذا تقرر هذا فقد اختلف الناس في ولدان المشركين على أقوال (أحدها) أنهم في الجنة. واحتجوا بحديث سمرة أنه عليه السلام رأى مع إبراهيم عليه السلام أولاد المسلمين وأولاد المشركين, وبما تقدم في رواية أحمد عن حسناء عن عمها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والمولود في الجنة» وهذا استدلال صحيح, ولكن أحاديث الامتحان أخص منه. فمن علم الله منه أنه يطيع جعل روحه في البرزخ مع إبراهيم وأولاد المسلمين الذين ماتوا على الفطرة, ومن علم منه أنه لا يجيب, فأمره إلى الله تعالى يوم القيامة يكون في النار, كما دلت عليه أحاديث الامتحان, ونقله الأشعري عن أهل السنة, ثم إن هؤلاء القائلين بأنهم في الجنة منهم من جعلهم مستقلين فيها, ومنهم من جعلهم خدماً لهم, كما جاء في حديث علي بن زيد عن أنس عند أبي داود الطيالسي وهو ضعيف, والله أعلم.
(والقول الثاني) أنهم مع آبائهم في النار. واستدل عليه بما رواه الإمام أحمد بن حنبل عن أبي المغيرة, حدثنا عتبة بن ضمرة بن حبيب, حدثني عبد الله بن أبي قيس مولى غطيف أنه أتى عائشة فسألها عن ذراري الكفار, فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هم تبع لاَبائهم» فقلت: يارسول الله بلا أعمال ؟ فقال: «الله أعلم بما كانوا عاملين» وأخرجه أبو داود من حديث محمد بن حرب عن محمد بن زياد الألهاني, سمعت عبد الله بن أبي قيس, سمعت عائشة تقول: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذراري المؤمنين, قال: «هم مع آبائهم» قلت: فذراري المشركين ؟ قال: «هم مع آبائهم» فقلت بلا عمل ؟ قال: «الله أعلم بما كانوا عاملين» ورواه أحمد أيضاً عن وكيع عن أبي عقيل يحيى بن المتوكل وهو متروك عن مولاته بهية عن عائشة أنها ذكرت أطفال المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن شئت أسمعتك تضاغيهم في النار».
وروى عبد الله بن الإمام أحمد: حدثنا عثمان بن أبي شيبة عن محمد بن فضيل بن غزوان, عن محمد بن عثمان عن زاذان عن علي رضي الله عنه قال: سألت خديجة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ولدين لها ماتا في الجاهلية, فقال: «هما في النار» قال: فلما رأى الكراهية في وجهها فقال لها: «لو رأيت مكانهما لأبغضتهما» قال: فولدي منك ؟ قال: «إن المؤمنين وأولادهم في الجنة, وإن المشركين وأولادهم في النار ـ ثم قرأ ـ {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم} وهذا حديث غريب, فإن في إسناده محمد بن عثمان مجهول الحال, وشيخه زاذان لم يدرك علياً, والله أعلم.
وروى أبو داود من حديث ابن أبي زائدة عن أبيه عن الشعبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الوائدة والموؤودة في النار» ثم قال الشعبي: حدثني به علقمة عن أبي وائل عن ابن مسعود, وقد رواه جماعة عن داود بن أبي هند, عن الشعبي عن علقمة عن سلمة بن قيس الأشجعي قال: أتيت أنا وأخي النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: إن أمنا ماتت في الجاهلية, وكانت تقري الضيف, وتصل الرحم, وإنها وأدت أختاً لنا في الجاهلية لم تبلغ الحنث. فقال: «الوائدة الموؤودة في النار إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فتسلم» وهذا إسناد حسن.
(والقول الثالث) التوقف فيهم. واعتمدوا على قوله صلى الله عليه وسلم: «الله أعلم بما كانوا عاملين» وهو في الصحيحين من حديث جعفر بن أبي إياس عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين, قال: «الله أعلم بما كانوا عاملين» وكذلك هو في الصحيحين من حديث الزهري عن عطاء بن يزيد, وعن أبي سلمة عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن أطفال المشركين, فقال: «الله أعلم بما كانوا عاملين» ومنهم من جعلهم من أهل الأعراف, وهذا القول يرجع إلى قول من ذهب إلى أنهم من أهل الجنة, لأن الأعراف ليس دار قرار ومآل أهلها الجنة, كما تقدم تقرير ذلك في سورة الأعراف, والله أعلم.
(فصل) وليعلم أن هذا الخلاف مخصوص بأطفال المشركين, فأما ولدان المؤمنين فلا خلاف بين العلماء كما حكاه القاضي أبو يعلى بن الفراء الحنبلي عن الإمام أحمد أنه قال: لا يختلف فيهم أنهم من أهل الجنة, وهذا هو المشهور بين الناس, وهو الذي نقطع به إن شاء الله عز وجل, فأما ما ذكره الشيخ أبو عمر بن عبد البر عن بعض العلماء أنهم توقفوا في ذلك وأن الولدان كلهم تحت المشيئة, قال أبو عمر: ذهب إلى هذا القول جماعة من أهل الفقه والحديث, منهم حماد بن زيد وحماد بن سلمة وابن المبارك وإسحاق بن راهويه وغيرهم, قالوا: وهو يشبه ما رسم مالك في موطئه في أبواب القدر, وما أورده من الأحاديث في ذلك, وعلى ذلك أكثر أصحابه, وليس عن مالك فيه شيء منصوص إلا أن المتأخرين من أصحابه ذهبوا إلى أن أطفال المسلمين في الجنة وأطفال المشركين خاصة في المشيئة, انتهى كلامه, وهو غريب جداً, وقد ذكر أبو عبد الله القرطبي في كتاب التذكرة نحو ذلك أيضاً, والله أعلم.
وقد ذكروا في ذلك أيضاً حديث عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين قالت: دعي النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار, فقلت: يا رسول الله طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه, فقال: «أو غير ذلك يا عائشة, إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلاً وهم في أصلاب آبائهم. وخلق النار وخلق لها أهلاً وهم في أصلاب آبائهم» رواه مسلم وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
ولما كان الكلام في هذه المسألة يحتاج إلى دلائل صحيحة جيدة وقد يتكلم فيها من لا علم عنده عن الشارع, كره جماعة من العلماء الكلام فيها, روي ذلك عن ابن عباس والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ومحمد بن الحنفية وغيرهم, وأخرج ابن حبان في صحيحه عن جرير بن حازم: سمعت أبا رجاء العطاردي, سمعت ابن عباس رضي الله عنهما وهو على المنبر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال أمر هذه الأمة مواتياً أو مقارباً ما لم يتكلموا في الوالدان والقدر» قال ابن حبان: يعني أطفال المشركين, وهكذا رواه أبو بكر البزار من طريق جرير بن حازم, ثم قال: وقد رواه جماعة عن أبي رجاء عن ابن عباس موقوفاً.

** وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمّرْنَاهَا تَدْمِيراً
اختلف القراء في قراءة قوله {أمرن} فالمشهور قراءة التخفيف, واختلف المفسرون فيها معناها, فقيل: معناها أمرنا مترفيها ففسقوا فيها أمراً قدرياً, كقوله تعالى: {أتاها أمرنا ليلاً أو نهار} فإن الله لا يأمر بالفحشاء, قالوا: معناه أنه سخرهم إلى فعل الفواحش, فاستحقوا العذاب, وقيل: معناه أمرناهم بالطاعات ففعلوا الفواحش, فاستحقوا العقوبة, رواه ابن جريج عن ابن عباس, وقاله سعيد بن جبير أيضاً. وقال ابن جرير: يحتمل أن يكون معناه جعلناهم أمراء, قلت إنما يجيء هذا على قراءة من قرأ {أمّرنا مترفيه}, قال علي بن طلحة عن ابن عباس قوله: {أمرنا مترفيها ففسقوا فيه} يقول: سلطنا أشرارها فعصوا فيها, فإذا فعلوا ذلك أهلكهم الله بالعذاب, وهو قوله: {وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميه} الاَية, وكذا قال أبو العالية ومجاهد والربيع بن أنس.
وقال العوفي عن ابن عباس {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيه} يقول, أكثرنا عددهم, وكذا قال عكرمة والحسن والضحاك وقتادة. وعن مالك, عن الزهري {أمرنا مترفيه} أكثرنا, وقد استشهد بعضهم بالحديث الذي رواه الإمام أحمد, حيث قال: حدثنا روح بن عبادة, حدثنا أبو نعيم العدوي عن مسلم بن بديل, عن إياس بن زهير, عن سويد بن هبيرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «خير مال امرىء له مهرة مأمورة, أو سكة مأبورة» قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله في كتابه الغريب: «المأمورة كثيرة النسل, والسكة الطريقة المصطفة من النخل, والمأبورة من التأبير» وقال بعضهم: إنما جاء هذا متناسباً كقوله «مأزورات غير مأجورات».

** وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَىَ بِرَبّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً
يقول تعالى منذراً كفار قريش في تكذيبهم رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم, بأنه قد أهلك من المكذبين للرسل من بعد نوح, ودل هذا على أن القرون التي كانت بين آدم ونوح على الإسلام كما قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام, ومعناه أنكم أيها المكذبون لستم أكرم على الله منهم وقد كذّبتم أشرف الرسل وأكرم الخلائق, فعقوبتكم أولى وأحرى. وقوله: {وكفى بربك بذنوب عباده خبيراً بصير} أي هو عالم بجميع أعمالهم: خيرها وشرها لا يخفى عليه منها خافية سبحانه وتعالى.