تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 306 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 306

306 : تفسير الصفحة رقم 306 من القرآن الكريم

** يَيَحْيَىَ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً * وَحَنَاناً مّن لّدُنّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبّاراً عَصِيّاً * وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً
وهذا أيضاً تضمن محذوفاً تقديره أنه وجد هذا الغلام المبشر به وهو يحيى عليه السلام, وأن الله علمه الكتاب وهو التوارة التي كانوا يتدارسونها بينهم, ويحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار, وقد كان سنه إذ ذاك صغيراً فلهذا نوه بذكره وبما أنعم به عليه وعلى والديه فقال: {يا يحيى خذ الكتاب بقوة} أي تعلم الكتاب بقوة أي بجد وحرص واجتهاد {وآتيناه الحكم صبي} أي الفهم والعلم والجد والعزم والإقبال على الخير والإكباب عليه والاجتهاد فيه وهو صغير حدث, قال عبد الله بن المبارك: قال معمر: قال الصبيان ليحيى بن زكريا: اذهب بنا نلعب, فقال: ما للعب خلقت, فلهذا أنزل الله {وآتيناه الحكم صبي}.
وقوله: {وحناناً من لدن} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {وحناناً من لدن} يقول: ورحمة من عندنا, وكذا قال عكرمة وقتادة والضحاك وزاد: لا يقدر عليها غيرنا, وزاد قتادة: رحم الله بها زكريا. وقال مجاهد: {وحناناً من لدن} وتعطفاً من ربه عليه. وقال عكرمة: {وحناناً من لدن} قال: محبة عليه. وقال ابن زيد أما الحنان فالمحبة, وقال عطاء بن أبي رباح: {وحناناً من لدن} قال: تعظيماً من لدنا, وقال ابن جريج: أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع عكرمة عن ابن عباس أنه قال: لا والله ما أدري ما حناناً.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد, حدثنا جرير عن منصور, سألت سعيد بن جبير عن قوله: {وحناناً من لدن} فقال: سألت عنها ابن عباس فلم يجد فيها شيئاً, والظاهر من السياق أن قوله وحناناً معطوف على قوله {وآتيناه الحكم صبي} أي وآتيناه الحكم وحناناً وزكاة, أي وجعلناه ذا حنان وزكاة, فالحنان هو المحبة في شفقة وميل, كما تقول العرب: حنت الناقة على ولدها وحنت المرأة على زوجها, ومنه سميت المرأة حنة من الحَنّة, وحن الرجل إلى وطنه, ومنه التعطف والرحمة, كما قال الشاعر:
تحنن عليّ هداك المليكفإن لكل مقام مقالا
وفي المسند للإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «يبقى رجل في النار ينادي ألف سنة: يا حنان يا منان» وقد يثنى, ومنهم من يجعل ما ورد في ذلك لغة بذاتها, كما قال طرفة:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضناحنانيك بعض الشر أهون من بعض
وقوله: {وزكاة} معطوف على وحناناً, فالزكاة الطهارة من الدنس والاَثام والذنوب, وقال قتادة: الزكاة العمل الصالح, وقال الضحاك وابن جريج: العمل الصالح الزكي. وقال العوفي عن ابن عباس {وزكاة} قال: بركة, {وكان تقي} ذا طهر فلم يهمّ بذنب. وقوله {وبراً بوالديه ولم يكن جباراً عصي} لما ذكر تعالى طاعته لربه, وأنه خلقه ذا رحمة وزكاة وتقى, عطف بذكر طاعته لوالديه وبره بهما, ومجانبته عقوقهما قولاً وفعلاً, أمراً ونهياً, ولهذا قال: {ولم يكن جباراً عصي} ثم قال بعد هذه الأوصاف الجميلة جزاء له على ذلك {وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حي}أي له الأمان في هذه الثلاثة الأحوال. وقال سفيان بن عيينة: أوحش ما يكون المرء في ثلاثة مواطن: يوم يولد فيرى نفسه خارجاً مما كان فيه, ويوم يموت فيرى قوماً لم يكن عاينهم, ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر عظيم, قال: فأكرم الله فيها يحيى بن زكريا فخصّه بالسلام عليه, فقال: {وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حي} رواه ابن جرير عن أحمد بن منصور المروزي عن صدقة بن الفضل عنه.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: {جباراً عصي} قال: كان ابن المسيب يذكر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما من أحد يلقى الله يوم القيامة إلا ذا ذنب إلا يحيى بن زكريا» قال قتادة: ما أذنب ولا هم بامرأة, مرسل, وقال محمد بن إسحاق عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب, حدثني ابن العاص أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب, إلا ما كان من يحيى بن زكريا بن إسحاق هذا مدلس, وقد عنعن هذا الحديث, فالله أعلم. وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا حماد, أخبرنا علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أحد من ولد آدمَ إلا وقد أخطأ أو هم بخطيئة, ليس يحيى بن زكريا وما ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى» وهذا أيضاً ضعيف, لأن علي بن زيد بن جدعان له منكرات كثيرة, والله أعلم. وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة أن الحسن قال: إن يحيى وعيسى عليهما السلام التقيا, فقال له عيسى: استغفر لي أنت خير مني, فقال له الاَخر: استغفر لي أنت خير مني, فقال له عيسى: أنت خير مني سلمت على نفسي, وسلم الله عليك فعرف والله فضلهما.

** وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً * فَاتّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً * قَالَتْ إِنّيَ أَعُوذُ بِالرّحْمَـَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً * قَالَ إِنّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ لاَِهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً * قَالَتْ أَنّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً * قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبّكَ هُوَ عَلَيّ هَيّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لّلْنّاسِ وَرَحْمَةً مّنّا وَكَانَ أَمْراً مّقْضِيّاً
لما ذكر تعالى قصة زكريا عليه السلام, وأنه أوجد منه في حال كبره وعقم زوجته ولداً زكياً طاهراً مباركاً, عطف بذكر قصة مريم في إيجاده ولدها عيسى عليهما السلام منها من غير أب, فإن بين القصتين مناسبة ومشابهة, ولهذا ذكرهما في آل عمران وههنا, وفي سورة الأنبياء يقرن بين القصتين لتقارب ما بينهما في المعنى, ليدل عباده على قدرته وعظمة سلطانه, وأنه على ما يشاء قادر, فقال {واذكر في الكتاب مريم} وهي مريم بنت عمران من سلالة داود عليه السلام. وكانت من بيت طاهر طيب في بني إسرائيل, وقد ذكر الله تعالى قصة ولادة أمها لها في سورة آل عمران, وأنها نذرتها محررة, أي تخدم مسجد بيت المقدس, وكانوا يتقربون بذلك {فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسن} ونشأت في بني إسرائيل نشأة عظيمة, فكانت إحدى العابدات الناسكات المشهورات بالعبادة العظيمة والتبتل والدؤوب, وكانت في كفالة زوج أختها زكريا نبي بني إسرائيل إذ ذاك, وعظيمهم الذي يرجعون إليه في دينهم, ورأى لها زكريا من الكرامات الهائلة ما بهره {كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب} فذكر أنه كان يجد عندها ثمر الشتاء في الصيف, وثمر الصيف في الشتاء, كما تقدم بيانه في سورة آل عمران, فلما أراد الله تعالى وله الحكمة والحجة البالغة, أن يوجد منها عبده ورسوله عيسى عليه السلام أحد الرسل أولي العزم الخمسة العظام {انتبذت من أهلها مكاناً شرقي} أي اعتزلتهم وتنحت عنهم, وذهبت إلى شرق المسجد المقدس. وقال السدي لحيض أصابها, وقيل لغير ذلك.
قال أبو كدينة عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس قال: إن أهل الكتاب كتب عليهم الصلاة إلى البيت والحج إليه, وما صرفهم عنه إلا قيل ربك: {فانتبذت من أهلها مكاناً شرقي} قال: خرجت مريم مكاناً شرقياً, فصلوا قبل مطلع الشمس, رواه ابن أبي حاتم وابن جرير. وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا إسحاق بن شاهين, حدثنا خالد بن عبد الله عن داود عن عامر, عن ابن عباس قال: إني لأعلم خلق الله لأي شيء اتخذت النصارى المشرق قبلة لقول الله تعالى: {فانتبذت من أهلها مكاناً شرقي} واتخذوا ميلاد عيسى قبلة. وقال قتادة {مكاناً شرقي} شاسعاً منتحياً, وقال محمد بن إسحاق: ذهبت بقلتها لتستقي الماء. وقال نوف البكالي: اتخذت لها منزلاً تتعبد فيه, فالله أعلم.
وقوله: {فاتخذت من دونهم حجاب} أي استترت منهم وتوارت, فأرسل الله تعالى إليها جبريل عليه السلام {فتمثل لها بشراً سوي} أي على صورة إنسان تام كامل. قال مجاهد والضحاك وقتادة وابن جريج ووهب بن منبه والسدي في قوله: {فأرسلنا إليها روحن} يعني جبرائيل عليه السلام, وهذا الذي قالوه هو ظاهر القرآن, فإنه تعالى قد قال في الاَية الأخرى: {نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين} وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال: إن روح عيسى عليه السلام من جملة الأرواح التي أخذ عليها العهد في زمان آدم عليه السلام, وهو الذي تمثل لها بشراً سوياً, أي روح عيسى, فحملت الذي خاطبها, وحل في فيها, وهذا في غاية الغرابة والنكارة وكأنه إسرائيلي {قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقي} أي لما تبدى لها الملك في صورة بشر وهي في مكان منفرد وبينها وبين قومها حجاب, خافته وظنت أنه يريدها على نفسها, فقالت: {إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقي} أي إن كنت تخاف الله تذكيراً له بالله وهذا هو المشروع في الدفع أن يكون بالأسهل فالأسهل, فخوفته أولاً بالله عز وجل.
قال ابن جرير: حدثني أبو كريب, حدثنا أبو بكر عن عاصم قال: قال أبو وائل وذكر قصة مريم, فقال: قد علمت أن التقي ذو نهية حين قالت: {إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً * قال إنما أنا رسول ربك} أي فقال لها الملك مجيباً لها ومزيلاً لما حصل عندها من الخوف على نفسها لست مما تظنين ولكني رسول ربك أي بعثني الله إليك, ويقال إنها لما ذكرت الرحمن انتفض جبريل فرقاً وعاد إلى هيئته وقال {إنما أنا رسول ربك ليهب لك غلاماً زكي} هكذا قرأ أبو عمرو بن العلاء أحد مشهوري القراء, وقرأ الاَخرون {لأهب لك غلاماً زكي} وكلا القرائتين له وجه حسن ومعنى صحيح, وكل تستلزم الأخرى {قالت أنى يكون لي غلام} أي فتعجبت مريم من هذا وقالت: كيف يكون لي غلام ؟ أي على أي صفة يوجد هذا الغلام مني, ولست بذات زوج, ولا يتصور مني الفجور, ولهذا قالت: {ولم يمسسني بشر ولم أك بغي} والبغي هي الزانية, ولهذا جاء في الحديث نهي عن مهر البغي {قال كذلك قال ربك هو علي هين} أي فقال لها الملك مجيباً لها عما سألت: إن الله قد قال إنه سيوجد منك غلاماً وإن لم يكن لك بعل, ولا توجد منك فاحشة, فإنه على ما يشاء قادر, ولهذا قال: {ولنجعله آية للناس} أي دلالة وعلامة للناس على قدرة بارئهم وخالقهم الذي نوع في خلقهم, فخلق أباهم آدم من غير ذكر ولا أنثى وخلق حواء من ذكر بلا أنثى, وخلق بقية الذرية من ذكر وأنثى إلا عيسى, فإنه أوجده من أنثى بلا ذكر, فتمت القسمة الرباعية الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه فلا إله غيره ولا رب سواه.
وقوله: {ورحمة من} أي ونجعل هذا الغلام رحمة من الله ونبياً من الأنبياء, يدعو إلى عبادة الله تعالى وتوحيده, كما قال تعالى في الاَية الأخرى: {إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهاً في الدنيا والاَخرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد وكهلاً ومن الصالحين} أي يدعو إلى عبادة ربه في مهده وكهولته, قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عبد الرحيم بن إبراهيم, حدثنا مروان, حدثنا العلاء بن الحارث الكوفي عن مجاهد: قال: قالت مريم عليها السلام: كنت إذا خلوت حدثني عيسى وكلمني وهو في بطني, وإذا كنت مع الناس سبح في بطني وكبر.
وقوله: {وكان أمراً مقضي} يحتمل أن هذا من تمام كلام جبريل لمريم, يخبرها أن هذا أمر مقدر في علم الله)تعالى وقدرته ومشيئته, ويحتمل أن يكون من خبر الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأنه كنى بهذا عن النفخ في فرجها, كما قال تعالى: {ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحن} وقال: {والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحن} قال محمد بن إسحاق: {وكان أمراً مقضي} أي إن الله قد عزم على هذا فليس منه بد, واختار هذا أيضاً ابن جرير في تفسيره ولم يحك غيره, والله أعلم.

** فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً * فَأَجَآءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىَ جِذْعِ النّخْلَةِ قَالَتْ يَلَيْتَنِي مِتّ قَبْلَ هَـَذَا وَكُنتُ نَسْياً مّنسِيّاً
يقول تعالى مخبراً عن مريم أنها لما قال لها جبريل عن الله تعالى ما قال, أنها استسلمت لقضاء الله تعالى, فذكر غير واحد من علماء السلف أن الملك وهو جبرائيل عليه السلام عند ذلك نفخ في جيب درعها, فنزلت النفخة حتى ولجت في الفرج فحملت بالولد بإذن الله تعالى, فلما حملت به ضاقت ذرعاً, ولم تدر ماذا تقول للناس, فإنها تعلم أن الناس لا يصدقونها فيما تخبرهم به, غير أنها أفشت سرها وذكرت أمرها لأختها امرأة زكريا, وذلك أن زكريا عليه السلام كان قد سأل الله الولد فأجيب إلى ذلك, فحملت امرأته, فدخلت عليها مريم, فقامت إليها فاعتنقتها وقالت: أشعرت يا مريم أني حبلى ؟ فقالت لها مريم: وهل علمت أيضاً أني حبلى, وذكرت لها شأنها وما كان من خبرها, وكانوا بيت إيمان وتصديق, ثم كانت امرأة زكريا بعد ذلك إذا واجهت مريم تجد الذي في بطنها يسجد للذي في بطن مريم, أي يعظمه ويخضع له, فإن السجود كان في ملتهم عند السلام مشروعاً, كما سجد ليوسف أبواه وإخوته, وكما أمر الله الملائكة أن يسجدوا لاَدم عليه السلام, ولكن حرم في ملتنا هذه تكميلاً لتعظيم جلال الرب تعالى.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين قال: قُرىء على الحارث بن مسكين وأنا أسمع, قال أخبرنا عبد الرحمن بن القاسم قال: قال مالك رحمه الله: بلغني أن عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا عليهما السلام ابنا خالة, وكان حملهما جميعاً معاً, فبلغني أن أم يحيى قالت لمريم: إني أرى أن ما في بطني يسجد لما في بطنك. قال مالك: أرى ذلك لتفضيل عيسى عليه السلام, لأن الله جعله يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص, ثم اختلف المفسرون في مدة حمل عيسى عليه السلام, فالمشهور عن الجمهور أنها حملت به تسعة أشهر. وقال عكرمة: ثمانية أشهر, قال: ولهذا لا يعيش ولد الثمانية أشهر. وقال ابن جريج: أخبرني المغيرة بن عثمان بن عبد الله الثقفي, سمع ابن عباس وسئل عن حمل مريم قال: لم يكن إلا أن حملت فوضعت, وهذا غريب, وكأنه مأخوذ من ظاهر قوله تعالى: {فحملته فانتبذت به مكاناً قصيا, فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة} فالفاء وإن كانت للتعقيب, لكن تعقيب كل شيء بحسبه, كقوله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظام} فهذه الفاء للتعقيب بحسبها.
وقد ثبت في الصحيحين أن بين كل صفتين أربعين يوماً, وقال تعالى: {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة} فالمشهور الظاهر, والله على كل شيء قدير أنها حملت به كما تحمل النساء بأولادهن. ولهذا لما ظهرت مخايل الحمل عليها, وكان معها في المسجد رجل صالح من قراباتها يخدم معها البيت المقدس يقال له يوسف النجار, فلما رأى ثقل بطنها وكبره, أنكر ذلك من أمرها, ثم صرفه ما يعلم من براءتها ونزاهتها ودينها وعبادتها, ثم تأمل ما هي فيه, فجعل أمرها يجوس في فكره لا يستطيع صرفه عن نفسه, فحمل نفسه على أن عرض لها في القول فقال: يا مريم إني سائلك عن أمر فلا تعجلي علي. قالت: وما هو ؟ قال: هل يكون قط شجر من غير حب, وهل يكون زرع من غير بذر. وهل يكون ولد من غير أب ؟ فقالت: نعم, وفهمت ما أشار إليه.
أما قولك: هل يكون شجر من غير حب وزرع من غير بذر, فإن الله قد خلق الشجر والزرع أول ما خلقهما من غير حب ولا بذر, وهل يكون ولد من غير أب ؟ فإن الله تعالى قد خلق آدم من غير أب ولا أم, فصدقها وسلم لها حالها, ولما استشعرت مريم من قومها اتهامها بالريبة, انتبذت منهم مكاناً قصياً, أي قاصياً منهم بعيداً عنهم لئلا تراهم ولا يروها.
قال محمد بن إسحاق: فلما حملت به وملأت قلتها ورجعت, استمسك عنها الدم وأصابها ما يصيب الحامل على الولد من الوصب والتوحم وتغير اللون, حتى فطر لسانها فما دخل على أهل بيت ما دخل على آل زكريا, وشاع الحديث في بني إسرائيل فقالوا: إنما صاحبها يوسف ولم يكن معها في الكنيسة غيره, وتوارت من الناس واتخذت من دونهم حجاباً, فلا يراها أحد ولا تراه. وقوله: {فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة} أي فاضطرها وألجأها الطلق إلى جذع النخلة في المكان الذي تنحت إليه, وقد اختلفوا فيه, فقال السدي: كان شرقي محرابها الذي تصلي فيه من بيت المقدس. وقال وهب بن منبه: ذهبت هاربة, فلما كانت بين الشام وبلاد مصر ضربها الطلق. وفي رواية عن وهب: كان ذلك على ثمانية أميال من بيت المقدس في قرية هناك يقال لها بيت لحم, قلت: وقد تقدم في أحاديث الإسراء من رواية النسائي عن أنس رضي الله عنه, والبيهقي عن شداد بن أوس رضي الله عنه أن ذلك ببيت لحم, فا لله أعلم, وهذا هو المشهور الذي تلقاه الناس بعضهم عن بعض, ولا تشك فيه النصارى أنه ببيت لحم, وقد تلقاه الناس, وقد ورد به الحديث إن صح.
وقوله تعالى إخباراً عنها: {قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسي} فيه دليل على جواز تمني الموت عند الفتنة, فإنها عرفت أنها ستبتلى وتمتحن بهذا المولود الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد, ولا يصدقونها في خبرها, وبعد ما كانت عندهم عابدة ناسكة تصبح عندهم فيما يظنون عاهرة زانية, فقالت: {يا ليتني مت قبل هذ} أي قبل هذا الحال, {وكنت نسياً منسي} أي لم أخلق ولم أك شيئاً, قاله ابن عباس. وقال السدي: قالت وهي تطلق من الحبل استحياء من الناس: ياليتني مت قبل هذا الكرب الذي أنا فيه والحزن بولادتي المولود من غير بعل, {وكنت نسياً منسي} نسي فترك طلبه كخرق الحيض التي إذا ألقيت وطرحت لم تطلب ولم تذكر, وكذلك كل شيء نسي وترك فهو نسي. وقال قتادة: {وكنت نسياً منسي} أي شيئاً لا يعرف ولا يذكر ولا يدري من أنا. وقال الربيع بن أنس: {وكنت نسياً منسي} هو السقط. وقال ابن زيد: لم أكن شيئاً قط, وقد قدمنا الأحاديث الدالة على النهي عن تمني الموت إلا عند الفتنة عند قوله: {توفني مسلماً وألحقني بالصالحين}.

** فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلاّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً * وَهُزّىَ إِلَيْكِ بِجِذْعِ النّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرّي عَيْناً فَإِمّا تَرَيِنّ مِنَ البَشَرِ أَحَداً فَقُولِيَ إِنّي نَذَرْتُ لِلرّحْمَـَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً
قرأ بعضهم: {من تحته} بمعنى الذي تحتها, وقرأ الاَخرون: {من تحته} على أنه حرف جر, واختلف المفسرون في المراد بذلك من هو ؟ فقال العوفي وغيره عن ابن عباس {فناداها من تحته} جبريل, ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها, وكذا قال سعيد بن جبير والضحاك وعمرو بن ميمون والسدي وقتادة: إنه الملك جبرائيل عليه الصلاة والسلام, أي ناداها من أسفل الوادي. وقال مجاهد: {فناداها من تحته} قال: عيسى بن مريم, وكذا قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: قال الحسن: هو ابنها, وهو إحدى الروايتين عن سعيد بن جبير أنه ابنها, قال: أو لم تسمع الله يقول: {فأشارت إليه} واختاره ابن زيد وابن جرير في تفسيره.
وقوله: {أن لا تحزني} أي ناداها قائلاً لا تحزني {قد جعل ربك تحتك سري} قال سفيان الثوري وشعبة عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب {قد جعل ربك تحتك سري} قال: الجدول, وكذا قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: السري النهر, وبه قال عمرو بن ميمون نهر تشرب منه. وقال مجاهد: هو النهر بالسريانية. وقال سعيد بن جبير: السري النهر الصغير بالنبطية. وقال الضحاك: هو النهر الصغير بالسريانية. وقال إبراهيم النخعي: هو النهر الصغير. وقال قتادة: هو الجدول بلغة أهل الحجاز, وقال وهب بن منبه: السري هو ربيع الماء. وقال السدي: هو النهر, واختار هذا القول ابن جرير.
وقد ورد في ذلك حديث مرفوع, فقال الطبراني: حدثنا أبو شعيب الحراني, حدثنا يحيى بن عبد الله البابلي, حدثنا أيوب بن نهيك, سمعت عكرمة مولى ابن عباس يقول, سمعت ابن عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن السري الذي قال الله لمريم {قد جعل ربك تحتك سري} نهر أخرجه الله لتشرب منه» وهذا حديث غريب جداً من هذا الوجه. وأيوب بن نهيك هذا هو الحبلى, قال فيه أبو حاتم الرازي: ضعيف. وقال أبو زرعة: منكر الحديث. وقال أبو الفتح الأزدي: متروك الحديث. وقال آخرون المراد بالسري عيسى عليه السلام, وبه قال الحسن والربيع بن أنس ومحمد بن عباد بن جعفر, وهو إحدى الروايتين عن قتادة, وقول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم والقول الأول أظهر. ولهذا قال بعده: {وهزي إليك بجذع النخلة} أي وخذي إليك بجذع النخلة. قيل: كانت يابسة, قاله ابن عباس. وقيل: مثمرة. قال مجاهد: كانت عجوة. وقال الثوري عن أبي داود نفيع الأعمى: كانت صرفانة, والظاهر أنها كانت شجرة, ولكن لم تكن في إبان ثمرها, قاله وهب بن منبه, ولهذا امتن عليها بذلك بأن جعل عندها طعاماً وشراباً فقال: {تساقط عليك رطباً جنباً * فكلي واشربي وقري عين} أي طيبي نفساً, ولهذا قال عمرو بن ميمون: ما من شيء خير للنفساء من التمر والرطب, ثم تلا هذه الاَية الكريمة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا شيبان, حدثنا مسرور بن سعيد التميمي, حدثنا عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي عن عروة بن رويم, عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكرموا عمتكم النخلة, فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم عليه السلام, وليس من الشجر شيء يلقح غيرها» وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أطعموا نساءكم الولد الرطب, فإن لم يكن رطب فتمر, وليس من الشجر شجرة أكرم على الله من شجرة نزلت تحتها مريم بنت عمران» هذا حديث منكر جداً ورواه أبو يعلى عن شيبان به. وقرأ بعضهم {تساقط} بتشديد السين, وآخرون بتخفيفها. وقرأ أبو نهيك {تُسْقط عليك رطباً جني} وروى أبو إسحاق عن البراء أنه قرأها {يَسّاقَطُ} أي الجذع, والكل متقارب.
وقوله: {فإما ترين من البشر أحد} أي مهما رأيت من أحد {فقولي إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسي} المراد بهذا القول الإشارة إليه بذلك, لا أن المراد به القول اللفظي لئلا ينافي {فلن أكلم اليوم إنسي} قال أنس بن مالك في قوله: {إني نذرت للرحمن صوم} قال: صمتاً, وكذا قال ابن عباس والضحاك, وفي رواية عن أنس: صوماً وصمتاً, وكذا قال قتادة وغيرهما, والمراد أنهم كانوا إذا صاموا في شريعتهم يحرم عليهم الطعام والكلام, نص على ذلك السدي وقتادة وعبد الرحمن بن زيد. وقال أبو إسحاق عن حارثة قال: كنت عند ابن مسعود, فجاء رجلان فسلم أحدهما ولم يسلم الاَخر, فقال: ما شأنك ؟ قال أصحابه: حلف أن لا يكلم الناس اليوم, فقال عبد الله بن مسعود: كلم الناس وسلم عليهم, فإن تلك امرأة علمت أن أحداً لا يصدقها أنها حملت من غير زوج, يعني بذلك مريم عليها السلام, ليكون عذراً لها إذا سئلت. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير رحمها الله. وقال عبد الرحمن بن زيد: لما قال عيسى لمريم: {لا تحزني} قالت: وكيف لا أحزن وأنت معي, لا ذات زوج ولا مملوكة ؟ أي شيء عذري عند الناس ؟ يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً, قال لها عيسى: أنا أكفيك الكلام {فإما ترين من البشر أحداً فقولي إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسي} قال هذا كله من كلام عيسى لأمه, وكذا قال وهب.