تفسير الطبري تفسير الصفحة 306 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 306
307
305
 الآية : 12 و13
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { يَيَحْيَىَ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً * وَحَنَاناً مّن لّدُنّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً }.
يقول تعالـى ذكره: فولد لزكريا يحيى, فلـما ولد, قال الله له: يا يحيى, خذ هذا الكتاب بقوّة, يعنـي كتاب الله الذي أنزله علـى موسى, وهو التوراة. بقوّة, يقول: بجدّ. كما:
17740ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, فـي قوله: خُذِ الكِتابَ بِقُوّةٍ قال: بجدّ.
17741ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد خُذِ الكِتابَ بِقُوّةٍ قال: بجدّ.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, مثله.
وقال ابن زيد فـي ذلك ما:
17742ـ حدثنـي به يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: يا يَحْيَى خُذِ الكِتابَ بِقُوّةٍ قال: القوّة: أن يعمل ما أمره الله به, ويجانب فـيه ما نهاه الله.
قال أبو جعفر: وقد بـيّنت معنى ذلك بشواهده فـيـما مضى من كتابنا هذا, فـي سورة آل عمران, فأغنى ذلك عن إعادته فـي هذا الـموضع.
وقوله: وآتَـيْناهُ الـحُكْمَ صَبِـيّا يقول تعالـى ذكره: وأعطيناه الفهم لكتاب الله فـي حال صبـاه قبل بلوغه أسنان الرجال. وقد:
17743ـ حدثنا أحمد بن منـيع, قال: حدثنا عبد الله بن الـمبـارك, قال: أخبرنـي معمر, ولـم يذكره عن أحد فـي هذه الاَية وآتَـيْناهُ الـحُكْمَ صَبِـيّا قال: بلغنـي أن الصبـيان قالوا لـيحيى: اذهب بنا نلعب, فقال: ما للعب خُـلِقتُ, فأنزل الله: وآتَـيْناهُ الـحُكْمَ صَبِـيّا.
وقوله: وَحَنانا مِنْ لَدُنّا يقول تعالـى ذكره: ورحمة منا ومـحبة له آتـيناه الـحكم صبـيا.
وقد اختلف أهل التأويـل فـي معنى الـحنان, فقال بعضهم: معناه: الرحمة, ووجهوا الكلام إلـى نـحو الـمعنى الذي وجهناه إلـيه. ذكر من قال ذلك:
17744ـ حدثنا علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: وَحَنانا مِنْ لَدُنّا يقول: ورحمة من عندنا.
17745ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن سماك, عن عكرمة, فـي هذه الاَية وَحَنانا مِنْ لَدُنّا قال: رحمة.
17746ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, فـي قوله: وَحَنانا مِنْ لَدُنّا قال: رحمة من عندنا.
17747ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا جويبر, عن الضحاك, قوله: وَحَنانا مِنْ لَدُنّا قال: رحمة من عندنا لا يـملك عطاءها أحد غيرنا.
حُدثت عن الـحسين بن الفرج, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله وَحَنانا مِنْ لَدُنّا يقول: رحمة من عندنا, لا يقدر علـى أن يعطيها أحد غيرنا.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ورحمة من عندنا لزكريا, آتـيناه الـحكم صبـيا, وفعلنا به الذي فعلنا. ذكر من قال ذلك:
17748ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَحَنانا مِنْ لَدُنّا يقول: رحمة من عندنا.
وقال آخرون: معنى ذلك: وتعطفـا من عندنا علـيه, فعلنا ذلك. ذكر من قال ذلك:
17749ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: وَحَنانا مِنْ لَدُنّا قال: تعطفـا من ربه علـيه.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, مثله.
وقال آخرون: بل معنى الـحنان: الـمـحبة. ووجهوا معنى الكلام إلـى: ومـحبة من عندنا فعلنا ذلك. ذكر من قال ذلك:
17750ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن يحيى بن سعيد, عن عكرمة وَحَنانا مِنْ لَدُنّا قال: مـحبة علـيه.
17751ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَحَنانا قال: أما الـحَنان فـالـمـحبة.
وقال آخرون معناه تعظيـما منا له. ذكر من قال ذلك:
17752ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو تـميـلة, عن أبـي حمزة, عن جابر, عن عطاء بن أبـي ربـاح وَحَنانا مِنْ لَدُنّا قال: تعظيـما من لدنا. وقد ذكر عن ابن عبـاس رضي الله عنهما أنه قال: لا أدري ما الـحنان.
17753ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: أخبرنـي عمرو بن دينار أنه سمع عكرمة, عن ابن عبـاس, قال: والله ما أدري ما حنانا.
وللعرب فـي حَنَانَك لغتان: حَنَانَك يا ربنا, وحَنانَـيك كما قال طَرَفة بن العبد فـي حنانـيك:
أبـا مُنْذِرٍ أفْنَـيْتَ فـاسْتَبْقِ بَعْضَنا حَنانَـيْكَ بعضُ الشّرّ أهْوَنُ مِن بعض
وقال امرؤ القـيس فـي اللغة الأخرى:
ويَـمْنَـحُها بَنُو شَمَـجَي بْنِ جَرْمٍ مَعِيزَهُمُ حَنانَكَ ذَا الـحَنانِ
وقد اختلف أهل العربـية فـي «حنانـيك» فقال بعضهم: هو تثنـية «حنان». وقال آخرون: بل هي لغة لـيست بتثنـية قالوا: وذلك كقولهم: حَوَالـيك وكما قال الشاعر:
ضَرْبـا هَذَا ذَيْكَ وطَعْنا وَخْضا
وقد سوّي بـين جميع ذلك الذين قالوا حنانـيك تثنـية, فـي أن كل ذلك تثنـية. وأصل ذلك أعنـي الـحنان, من قول القائل: حنّ فلان إلـى كذا, وذلك إذا ارتاح إلـيه واشتاق, ثم يقال: تـحّننَ فلان علـى فلان, إذا وصف بـالتعطّف علـيه والرقة به, والرحمة له, كما قال الشاعر:
تَـحَنّنْ عَلـيّ هَدَاكَ الـمَلِـيكُ فإنّ لِكُلّ مَقامٍ مَقالا
بـمعنى: تعطّف علـيّ. فـالـحنان: مصدر من قول القائل: حنّ فلان علـى فلان, يقال منه: حننت علـيه, فأنا أحنّ علـيه حنـينا وحنانا, ومن ذلك قـيـل لزوجة الرجل: حَنّته, لتـحننه علـيها وتعطفه, كما قال الراجز:
وَلَـيْـلَةٍ ذَاتِ دُجىً سَرَيْتُولَـم تَضِرْنِـي حَنّةٌ وَبَـيْتُ
وقوله: وَزَكَاةً يقول تعالـى ذكره: وآتـينا يحيى الـحكم صبـيا, وزكاة: وهو الطهارة من الذنوب, واستعمال بدنه فـي طاعة ربه, فـالزكاة عطف علـى الـحكم من قوله: وآتَـيْناهُ الـحُكْمَ. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
17754ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وزَكاةً قال: الزكاة: العمل الصالـح.
17755ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قوله: وزَكاةً قال: العمل الصالـح الزكيّ.
17756ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول: فـي قوله وزَكاةً يعنـي العمل الصالـح الزاكيّ.
وقوله: وكانَ تَقِـيّا يقول تعالـى ذكره: وكان لله خائفـا مؤدّيا فرائضه, مـجتنبـا مـحارمه مسارعا فـي طاعته. كما:
17757ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس وَزَكاةً وكانَ تَقِـيّا قال: طهر فلـم يعمل بذنب.
17758ـ حدثنـي يونس, قال: خبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَزَكاةً وكانَ تَقِـيّا قال: أما الزكاة والتقوى فقد عرفهما الناس.
الآية : 14 و 15
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبّاراً عَصِيّاً * وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً }.
يقول تعالـى ذكره: وكان برّا بوالديه, مسارعا فـي طاعتهما ومـحبتهما, غير عاقّ بهما ولَـمْ يَكُنْ جَبّـارا عَصِيّا يقول جلّ ثناؤه: ولـم يكن مستكبرا عن طاعة ربه وطاعة والديه, ولكنه كان لله ولوالديه متواضعا متذللاً, يأتـمر لـما أمر به, وينتهى عما نُهِي عنه, لا يَعْصِي ربه, ولا والديه.
وقوله: عَصِيّا فعيـل بـمعنى أنه ذو عصيان, من قول القائل: عَصَى فلان ربه, فهو يعصيه عصيا.
وقوله: سَلامٌ عَلَـيْهِ يَوْمَ وُلِدَ ويَوْمَ يَـمُوتُ ويَوْمَ يُبْعَثُ حَيّا يقول: وأمان من الله يوم ولد, من أن يناله الشيطان من السوء, بـما ينال به بنـي آدم, وذلك أنه رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كُلّ بَنِـي آدَمَ يَأْتِـي يَوْمَ القِـيامَةِ وَلَهُ ذَنْبٌ إلاّ ما كانَ مِنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيّا».
17759ـ حدثنا بذلك ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن يحيى بن سعيد, عن سعيد بن الـمسيب, قال: ثنـي ابن العاص, أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك.
17760ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, فـي قوله: جَبّـارا عَصِيّا قال: كان ابن الـمسيب يذكر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما مِنْ أحَدٍ يَـلْقـي اللّهَ يَوْمَ القِـيامَةِ, إلاّ ذَا ذَنْبٍ, إلاّ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيّا».
قال: وقال قتادة: ما أذنب, ولا هم بـامرأة.
وقوله: ويَوْمَ يَـمُوتُ يقول: وأمان من الله تعالـى ذكره له من فَتّانَـيِ القبر, ومن هول الـمطلع وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّا يقول: وأمان له من عذاب الله يوم القـيامة, يوم الفزع الأكبر, من أن يروعه شيء, أو أن يفزعه ما يفزع الـخـلق. وقد ذكر ابن عيـينة فـي ذلك ما:
حدثنـي أحمد بن منصور الفَـيروزِيّ, قال: أخبرنـي صدقة بن الفضل قال: سمعت ابن عطية يقول: أوحش ما يكون الـخـلق فـي ثلاثة مواطن: يوم يولد فـيرى نفسه خارجا مـما كان فـيه, ويوم يـموت فـيرى قوما لـم يكن عاينهم, ويوم يُبعث فـيرى نفسه فـي مـحشر عظيـم, قال: فأكرم الله فـيها يحيى بن زكريا, فخصه بـالسلام علـيه, فقال سَلامٌ عَلَـيْهِ يَوْمَ وُلِدَ ويَوْمَ يَـمُوتُ ويَوْمَ يُبْعَثُ حَيّا.
17761ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, أن الـحسن قال: إن عيسى ويحيى التقـيا فقال له عيسى: استغفر لـي, أنت خير منـي, فقال له الاَخر: استغفر لـي, أنت خير منـي, فقال له عيسى: أنت خير منـي, سَلّـمت علـى نفسي, وسلّـم الله علـيك, فعرف والله فضلها.

الآية : 16 و 17
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً * فَاتّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: واذكر يا مـحمد فـي كتاب الله الذي أنزله علـيك بـالـحقّ مريـم ابنة عمران, حين اعتزلت من أهلها, وانفردت عنهم, وهو افتعل من النّبذ, والنّبذ: الطّرْح, وقد بـيّنا ذلك بشواهده فـيـما مضى قبلُ. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
17762ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, فـي قوله: وَاذْكُرْ فِـي الكِتابِ مَرْيَـمَ إذِ انْتَبَذَتْ أي انفردت من أهلها.
17763ـ حدثنـي سلـيـمان بن عبد الـجبـار, قال: حدثنا مـحمد بن الصّلْت, قال: حدثنا أبو كُدَينة, عن قابوس, عن أبـيه, عن ابن عبـاس إذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أهْلِها مَكانا شَرْقِـيّا قال: خرجت مكانا شرقـيا.
17764ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قال: خرجت مريـم إلـى جانب الـمـحراب لـحيض أصابها, وهو قوله: فـانتبذت من أهلها مكانا شرقـيا: فـي شرقـيّ الـمـحراب.
وقوله: مَكانا شَرْقِـيّا يقول: فتنـحت واعتزلت من أهلها فـي موضع قِبَلَ مَشرق الشمس دون مَغربها, كما:
17765ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, فـي قوله: مَكانا شَرْقِـيّا قال: من قِبَل الـمشرق.
17766ـ حدثنـي إسحاق بن شاهين, قال: حدثنا خالد بن عبد الله, عن داود, عن عامر, عن ابن عبـاس, قال: إنـي لأعلـم خـلق الله لأيّ شيء اتـخذت النصارى الـمشرق قبلة؟ لقول الله: فـانتبذت من أهلها مكانا شرقـيا, فـاتـخذوا ميلاد عيسى قبلة.
حدثنا ابن الـمثنى, قال: ثنـي عبد الأعلـى, قال: حدثنا داود, عن عامر, عن ابن عبـاس, مثله.
17767ـ حدثنـي سلـيـمان بن عبد الـجبـار, قال: أخبرنا مـحمد بن الصّلْت, قال: حدثنا أبو كُدَينة, عن قابوس, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قال: إن أهل الكتاب كتب علـيهم الصلاة إلـى البـيت, والـحجّ لله, وما صرفهم عنهما إلا قـيـل ربك إذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أهْلِها مَكانا شَرْقِـيّا فصلوا قبل مطلع الشمس.
17768ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة إذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أهْلِها مَكانا شَرْقِـيّا قال: شاسعا متنـحيا, وقـيـل: إنها إنـما صارت بـمكان يـلـي مشرق الشمس, لأن ما يـلـي الـمشرق عندهم كان خيرا مـما يـلـي الـمغرب, وكذلك ذلك فـيـما ذُكر عند العرب.
وقوله: فـاتّـخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجابـا يقول: فـاتـخذت من دون أهلها سترا يسترها عنهم وعن الناس. وذُكر عن ابن عبـاس, أنها صارت بـمكان يـلـي الـمشرق, لأن الله أظلها بـالشمس, وجعل لها منها حجابـا.
17769ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: انْتَبَذَتْ مِنْ أهْلِها مَكانا شَرْقِـيّا قال: مكانا أظلتها الشمس أن يراها أحد منهم.
وقال غيره فـي ذلك ما.
17770ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ فـاتّـخَذَتْ مِنْ دونِهِمْ حِجابـا من الـجدران.
وقوله: فأرْسَلْنا إلَـيْها رُوحَنا يقول تعالـى ذكره: فأرسلنا إلـيها حين انتبذت من أهلها مكانا شرقـيا, واتـخذت من دونهم حجابـا: جبريـل. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
17771ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: فأرْسَلْنا إلَـيْها رُوحَنا قال: أرسل إلـيها فـيـما ذُكر لنا جبريـل.
17772ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عمن لا يتهم, عن وهب بن منبه, قال: وجدت عندها جبريـل قد مثله الله بشرا سويا.
17773ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قوله: فأرْسَلْنا إلَـيْها رُوحَنا قال: جبريـل.
حدثنـي مـحمد بن سهل, قال: حدثنا إسماعيـل بن عبد الكريـم, قال: ثنـي عبد الصمد بن معقل بن أخي وهب, قال: سمعت وهب بن منبه, قال: أرسل الله جبريـل إلـى مريـم, فَمَثَلَ لها بشرا سويا.
17774ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قال: فلـما طهرت, يعنـي مريـم من حيضها, إذا هي برجل معها, وهي قوله: فأرْسَلْنا إلَـيْها رُوحَنا فَتَـمَثّلَ لَها بَشَرا سَوِيّا يقول تعالـى ذكره: فتشبه لها فـي صورة آدميّ سويّ الـخـلق منهم, يعنـي فـي صورة رجل من بنـي آدم معتدل الـخـلق.
الآية : 18 و 19
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { قَالَتْ إِنّيَ أَعُوذُ بِالرّحْمَـَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً * قَالَ إِنّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ لاَِهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً }.
يقول تعالـى ذكره: فخافت مريـم رسولنا, إذ تـمثّل لها بشرا سويا, وظنته رجلاً يريدها علـى نفسها.
17775ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قوله إنّـي أعُوذُ بـالرّحْمَنِ مِنْكَ إنْ كُنْتَ تَقِـيّا قال: خشيت أن يكون إنـما يريدها علـى نفسها.
17776ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ فَتَـمَثّلَ لَهَا بَشَرا سَوِيّا فلـما رأته فزعت منه وقالت: إنّـي أعُوذُ بـالرّحْمَنِ مِنْكَ إنْ كُنْتَ تَقِـيّا.
فقالت: إنـي أعوذ أيها الرجل بـالرحمن منك, تقول: أستـجير بـالرحمن منك أن تنال منـي ما حرّمه علـيك إن كنت ذا تقوى له تتقـي مـحارمه, وتـجتنب معاصيه لأن من كان لله تقـيا, فإنه يجتنب ذلك. ولو وجه ذلك إلـى أنها عَنَت: إنـي أعوذ بـالرحمن منك إن كنت تتقـي الله فـي استـجارتـي واستعاذتـي به منك كان وجها. كما:
17777ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عمن لا يتهم, عن وهب بن منبه قالَتْ إنّـي أعُوذُ بـالرّحْمَنِ مِنْكَ إنْ كُنْتَ تَقِـيّا ولا ترى إلا أنه رجل من بنـي آدم.
17778ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا أبو بكر, عن عاصم, قال: قال ابن زيد: وذكر قَصَص مريـم فقال: قد علـمت أن التقـيّ ذو نُهية حين قالت: إنّـي أعُوذُ بـالرّحْمَنِ مِنْكَ إنْ كُنْتَ تَقِـيّا قالَ إنّـمَا أنا رَسُولُ رَبّكِ.
يقول تعالـى ذكره: فقال لها روحنا: إنـما أنا رسول ربك يا مريـم أرسلنـي إلـيك لأهَبَ لكِ غُلاما زكيا.
واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامّة قرّاء الـحجاز والعراق غير أبـي عمرو: لاِءَهَبَ لَكِ بـمعنى: إنـما أنا رسول ربك: يقول: أرسلنـي إلـيك لأهب لك غُلاَما زَكِيّا علـى الـحكاية. وقرأ ذلك أبو عمرو بن العلاء: «لِـيَهَبَ لَكِ غُلاما زَكِيّا» بـمعنى: إنـما أنا رسول ربك أرسلنـي إلـيك لـيهب الله لك غلاما زكيا.
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة فـي ذلك, ما علـيه قرّاء الأمصار, وهو لاِءَهَبَ لَكِ بـالألف دون الـياء, لأن ذلك كذلك فـي مصاحف الـمسلـمين, وعلـيه قراءة قديـمهم وحديثهم, غير أبـي عمرو, وغير جائز خلافهم فـيـما أجمعوا علـيه, ولا سائغ لأحد خلاف مصاحفهم, والغلام الزكيّ: هو الطاهر من الذنوب وكذلك تقول العرب: غلام زاكٍ وزكيّ, وعال وعلـيّ.

الآية : 20 و 21
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { قَالَتْ أَنّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً * قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبّكَ هُوَ عَلَيّ هَيّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لّلْنّاسِ وَرَحْمَةً مّنّا وَكَانَ أَمْراً مّقْضِيّاً }.
يقول تعالـى ذكره: قالت مريـم لـجبريـل: أنّـي يَكُونُ لـي غُلامٌ من أيّ وجه يكون لـي غلام؟ أمن قِبَل زوج أتزوّج, فأرزقه منه, أم يبتدىء الله فـيّ خـلقه ابتداء ولَـمْ يَـمْسَسْنِـي بَشَرٌ من ولد آدم بنكاح حلال ولَـمْ أكُ إذ لـم يـمسسنـي منهم أحد علـى وجه الـحلال بَغِيّا بغيت ففعلت ذلك من الوجه الـحرام, فحملته من زنا, كما:
17779ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ ولَـمْ أكُ بَغِيّا يقول: زانـية.
قالَ كَذلكِ قالَ رَبّكِ هُوَ عَلـيّ هَيّنٌ يقول تعالـى ذكره: قال لها جبريـل: هكذا الأمر كما تصفـين, من أنك لـم يـمسسك بشر ولـم تكونـي بغيا, ولكن ربك قال: هو علـيّ هين: أي خَـلْق الغلام الذي قلت أن أهبه لك علـيّ هين لا يتعذّر علـيّ خـلقه وهبته لك من غير فحل يفتـحلك.
وَلِنَـجْعَلَهُ آيَةً للنّاسِ يقول: وكي نـجعل الغلام الذي نهبه لك علامة وحجة علـى خـلقـي أهبه لك. وَرَحْمَةً مِنّا يقول: ورحمة منا لك, ولـمن آمن به وصدّقه أخـلقه منك وكانَ أمْرا مَقْضِيّا يقول: وكان خـلقه منك أمرا قد قضاه الله, ومضى فـي حكمه وسابق علـمه أنه كائن منك. كما:
17780ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: ثنـي من لا أتهم, عن وهب بن منبه وكانَ أمْرا مَقْضِيّا أي إن الله قد عزم علـى ذلك, فلـيس منه بدّ.

الآية : 22 و 23
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:{ فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً * فَأَجَآءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىَ جِذْعِ النّخْلَةِ قَالَتْ يَلَيْتَنِي مِتّ قَبْلَ هَـَذَا وَكُنتُ نَسْياً مّنسِيّاً }.
وفـي هذا الكلام متروك تُرِك ذكره استغناء بدلالة ما ذكر منه عنه فَنَفَخْنا فِـيهِ مِنْ رُوحِنا بغلام فحَمَلَتْهُ فـانْتَبَذَتْ بِهِ مَكانا قَصيّا وبذلك جاء تأويـل أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
17781ـ حدثنـي مـحمد بن سهل, قال: حدثنا إسماعيـل بن عبد الكريـم, قال: ثنـي عبد الصمد بن معقِل ابن أخي وهب بن منبه, قال: سمعت وهبـا قال: لـما أرسل الله جبريـل إلـى مريـم تـمثّل لها بشرا سويا فقالت له: إنّـي أعُوذُ بـالرّحْمَنِ مِنْكَ إنْ كُنْتَ تَقِـيّا ثم نفخ فـي جيب درعها حتـى وصلت النفخة إلـى الرحم فـاشتـملت.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عمن لا يتهم, عن وهب بن منبه الـيـمانـي, قال: لـما قال ذلك, يعنـي لـما قال جبريـل قالَ كذلكِ قالَ رَبّكَ هُوَ عَلـيّ هَيّنٌ... الاَية استسلـمت لأمر الله, فنفخ فـي جيبها ثم انصرف عنها.
17782ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قال: طرحَتْ علـيها جلبـابها لـما قال جبريـل ذلك لها, فأخذ جبريـل بكميها, فنفخ فـي جيب درعها, وكان مشقوقا من قُدامها, فدخـلت النفخة صدرها, فحملت, فأتتها أختها امرأة زكريا لـيـلة تزورها فلـما فتـحت لها البـاب التزمتها, فقالت امرأة زكريا: يا مريـم أشعرت أنـي حبلـى, قالت مريـم: أشعرت أيضا أنـي حُبلـى, قالت امرأة زكريا: إنـي وجدت ما فـي بطنـي يسجد لـما فـي بطنك, فذلك قوله مُصَدّقا بكَلِـمَةٍ مِنَ اللّهِ.
17783ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج: يقولون: إنه إنـما نفخ فـي جيب درعها وكمها.
وقوله: فـانْتَبَذَتْ بِهِ مَكانا قَصِيّا يقول: فـاعتزلت بـالذي حملته, وهو عيسى, وتنـحّت به عن الناس مكانا قَصِيا يقول: مكانا نائيا قاصيا عن الناس, يقال: هو بـمكان قاص, وقصيّ بـمعنى واحد, كما قال الراجز:
لَتَقْعُدِنّ مَقْعَدَ القَصِيّمِنّـي ذي القاذُورَةِ الـمَقْلِـيّ
يقال منه: قصا الـمكان يقصو قصوا: إذا تبـاعد, وأقصيت الشيء: إذا أبعدته وأخّرته.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
17784ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: فـانْتَبَذَتْ بِهِ مَكانا قَصِيّا قال: مكانا نائيا.
17785ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: مَكانا قَصِيّا قال: قاصيا.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, مثله.
17786ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قال: لـما بلغ أن تضع مريـم, خرجت إلـى جانب الـمـحراب الشرقـي منه فأتت أقصاه.
وقوله: فأجاءَها الـمَخاضُ إلـى جِذْعِ النّـخْـلَةِ يقول تعالـى ذكره: فجاء بها الـمخاض إلـى جذع النـخـلة, ثم قـيـل: لـما أسقطت البـاء منه أجاءها, كما يقال: أتـيتك بزيد, فإذا حذفت البـاء قـيـل آتـيتك زيدا, كما قال جلّ ثناؤه: آتُونِـي زُبُرَ الـحَدِيدِ والـمعنى: ائتونـي بزُبَر الـحديد, ولكن الألف مُدّت لـما حذفت البـاء, وكما قالوا: خرجت به وأخرجته, وذهبت به وأذهبته, وإنـما هو أفعل من الـمـجيء, كما يقال: جاء هو, وأجأته أنا: أي جئت به, ومثل من أمثال العرب: «شرّ ما أجاءنـي إلـى مُخّة عرقوب», وأشاء ويقال: شرّ ما يُجِيئك ويُشِيئك إلـى ذلك ومنه قول زهير:
وَجارٍ سارَ مُعْتَـمِدا إلَـيْكُمْأجاءَتْهُ الـمَـحافَةُ وَالرّجاءُ
يعنـي: جاء به, وأجاءه إلـينا وأشاءك: من لغة تـميـم, وأجاءك من لغة أهل العالـية, وإنـما تأوّل من تأوّل ذلك بـمعنى: ألـجأها, لأن الـمخاض لـما جاءها إلـى جذع النـخـلة, كان قد ألـجأها إلـيه. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
17787ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: فأجاءَها الـمَخاضُ قال: الـمخاض ألـجأها.
17788ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, قال: ألـجأها الـمخاض. قال ابن جريج: وقال ابن عبـاس: ألـجأها الـمخاض إلـى جذع النـخـلة.
17789ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ فأجاءَها الـمَخاضُ إلـى جِذْعِ النّـخْـلَةِ يقول: ألـجأها الـمخاض إلـى جذع النـخـلة.
17790ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: فأجاءَها الـمَخاضُ إلـى جِذْعِ النّـخْـلَةِ قال: اضطرّها إلـى جذع النـخـلة.
واختلفوا فـي أيّ الـمكان الذي انتبذتْ مريـم بعيسى لوضعه, وأجاءها إلـيه الـمخاض, فقال بعضهم: كان ذلك فـي أدنى أرض مصر, وآخر أرض الشأم, وذلك أنها هربت من قومها لـما حملت, فتوجهت نـحو مصر هاربة منهم. ذكر من قال ذلك:
17791ـ حدثنا مـحمد بن سهل, قال: حدثنا إسماعيـل بن عبد الكريـم, قال: ثنـي عبد الصمد بن معقِل, أنه سمع وهب بن منبه يقول: لـما اشتـملت مريـم علـى الـحمل, كان معها قَرابة لها, يقال له يوسف النـجّار, وكانا منطلقـين إلـى الـمسجد الذي عند جبل صِهْيَون, وكان ذلك الـمسجد يؤمئذ من أعظم مساجدهم, فكانت مريـم ويوسف يخدمان فـي ذلك الـمسجد, فـي ذلك الزمان, وكان لـخدمته فضل عظيـم, فرغبـا فـي ذلك, فكانا يـلـيان معالـجته بأنفسهما, تـحبـيره وكناسته وطهوره, وكلّ عمل يعمل فـيه, وكان لا يعمل من أهل زمانهما أحد أشدّ اجتهادا وعبـادة منهما, فكان أوّل من أنكر حَمْل مريـم صاحُبها يوسف فلـما رأى الذي بها استفظعه, وعظُم علـيه, وفُظِع به, فلـم يدر علـى ماذا يضع أمرها, فإذا أراد يوسف أن يتهمها, ذكر صلاحها وبراءتها, وأنها لـم تغب عنه ساعة قطّ وإذا أراد أن يبرئها, رأى الذي ظهر علـيها فلـما اشتدّ علـيه ذلك كلّـمها, فكان أوّل كلامه إياها أن قال لها: إنه قد حدث فـي نفسي من أمرك أمر قد خشيته, وقد حَرَصت علـى أن أميته وأكتـمه فـي نفسي, فغلبنـي ذلك, فرأيت الكلام فـيه أشفـى لصدري, قالت: فقل قولاً جميلاً, قال: ما كنت لأقول لك إلا ذلك, فحدثـينـي, هل ينبت زرع بغير بذر؟ قالت: نعم, قال: فهل تنبت شجرة من غير غيث يصيبها؟ قالت: نعم, قال: فهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت: نعم, ألـم تعلـم أن الله تبـارك وتعالـى أنبت الزرع يوم خـلقه من غير بذر, والبذر يومئذ إنـما صار من الزرع الذي أنبته الله من غير بذر أو لـم تعلـم أن الله بقدرته أنبت الشجر بغير غيث, وأنه جعل بتلك القدرة الغيث حياة للشجر بعد ما خـلق كلّ واحد منهما وحده, أم تقول: لن يقدر الله علـى أن ينبت الشجر حتـى استعان علـيه بـالـماء, ولولا ذلك لـم يقدر علـى إنبـاته؟ قال يوسف لها: لا أقول هذا, ولكنـي أعلـم أن الله تبـارك وتعالـى بقدرته علـى ما يشاء يقول لذلك كن فـيكون, قالت مريـم: أو لـم تعلـم أن الله تبـارك وتعالـى خـلق آدم وامرأته من غير أنثى ولا ذكر؟ قال: بلـى, فلـما قالت له ذلك, وقع فـي نفسه أن الذي بها شيء من الله تبـارك وتعالـى, وأنه لا يسعه أن يسألها عنه, وذلك لـما رأى من كتـمانها لذلك.
ثم تولـى يوسف خدمة الـمسجد, وكفـاها كلّ عمل كانت تعمل فـيه, وذلك لـما رأى من رقة جسمها, واصفرار لونها, وكلف وجهها, ونتوّ بطنها, وضعف قوّتها, ودأب نظرها, ولـم تكن مريـم قبل ذلك كذلك فلـما دنا نفـاسها أوحى الله إلـيها أن اخرجي من أرض قومك, فإنهم إن ظفروا بك عيروك, وقتلوا ولدك, فأفضت ذلك إلـى أختها, وأختها حينئذ حُبلـى, وقد بشرت بـيحيى, فلـما التقـيا وجدت أمّ يحيى ما فـي بطنها خرّ لوجهه ساجدا معترفـا لعيسى, فـاحتـملها يوسف إلـى أرض مصر علـى حمار له لـيس بـينها حين ركبت وبـين الإكاف شيء, فـانطلق يوسف بها حتـى إذا كان متاخما لأرض مصر فـي منقطع بلاد قومها, أدرك مريـم النفـاس, ألـجأها إلـى آريّ حمار, يعنـي مذود الـحمار, وأصل نـخـلة, وذلك فـي زمان أحسبه بردا أو حرّا «الشكّ من أبـي جعفر», فـاشتدّ علـى مريـم الـمخاض فلـما وجدت منه شدّة التـجأت إلـى النـخـلة فـاحتضنتها واحتوشتها الـملائكة, قاموا صفوفـا مـحدقـين بها.
وقد رُوي عن وهب بن منبه قول آخر غير هذا, وذلك ما:
17792ـ حدثنا به ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عمن لايتهم, عن وهب بن منبه, قال: لـما حضر ولادُها, يعنـي مريـم, ووجدت ما تـجد الـمرأة من الطلق, خرجت من الـمدينة مغربة من إيـلـياء, حتـى تدركها الولادة إلـى قرية من إيـلـياء علـى ستة أميال يقال لها بـيت لـحم, فأجاءها الـمخاض إلـى أصل نـخـلة إلـيها مذود بقرة تـحتها ربـيع من الـماء, فوضعته عندها.
وقال آخرون: بل خرجت لـما حضر وضعها ما فـي بطنها إلـى جانب الـمـحراب الشرقـي منه, فأتت أقصاه فألـجأها الـمخاض إلـى جِذع النـخـلة, وذلك قول السدي, وقد ذكرت الرواية به قبل.
17793ـ حدثنـي زكريا بن يحيى بن أبـي زائدة, قال: حدثنا حجاج, قال: قال ابن جريج: أخبرنـي الـمغيرة بن عثمان, قال: سمعت ابن عبـاس يقول: ما هي إلا أن حملت فوضعت.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: وأخبرنـي الـمغيرة بن عثمان بن عبد الله أنه سمع ابن عبـاس يقول: لـيس إلا أن حملتْ فولدتْ.
وقوله: يا لَـيْتَنِـي مِتّ قَبْلَ هَذَا ذكر أنها قالت ذلك فـي حال الطلق استـحياء من الناس, كما:
17794ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قال: قالت وهي تطلق من الـحبل استـحياء من الناس: يا لَـيْتَنِـي مِتّ قَبْلَ هَذَا وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا.
تقول: يا لـيتنـي متّ قبل هذا الكرب الذي أنا فـيه, والـحزن بولادتـي الـمولود من غير بَعْل, وكنت نِسيا منسيا: شيئا نُسي فُترك طلبه كخرق الـحيض التـي إذا ألقـيت وطرحت لـم تطلب ولـم تذكر, وكذلك كل شيء نسي وترك ولـم يطلب فهو نسيّ. ونسي بفتـح النون وكسرها لغتان معروفتان من لغات العرب بـمعنى واحد, مثل الوَتر والوِتر, والـجَسر والـجِسر, وبأيتهما قرأ القاريء فمصيب عندنا وبـالكسر قرأت عامة قرّاء الـحجاز والـمدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة وبـالفتـح قرأه أهل الكوفة ومنه قول الشاعر:
كأنّ لَهَا فِـي الأرْضِ نِسْيا تَقُصّهُإذَا ما غَدَتْ وَإنْ تُـحَدّثْكَ تَبْلَتِ
ويعنـي بقوله: تقصه: تطلبه, لأنها كانت نسيته حتـى ضاع, ثم ذكرته فطلبته, ويعنـي بقوله: تبلت: تـحسن وتصدّق, ولو وجه النسي إلـى الـمصدر من النسيان كان صوابـا, وذلك أن العرب فـيـما ذكر عنها تقول: نسيته نسيانا ونسيا, كما قال بعضهم من طاعة الربّ وعصي الشيطان, يعنـي وعصيان, وكما تقول أتـيته إتـيانا وأتـيا, كما قال الشاعر:
أَتُـي الفَوَاحِشِ فِـيهِمُ مَعْرُوفَةٌويَرَوْنَ فِعْلَ الـمَكْرُماتِ حَرَامَا
وقوله مَنْسِيّا مفعول من نسيت الشيء كأنها قالت: لـيتنـي كنت الشيء الذي ألقـي, فترك ونسي.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
17795ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: أخبرنـي عطاء الـخراسانـي عن ابن عبـاس, قوله: يا لَـيْتَنِـي مِتّ قَبْلَ هَذَا وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا لـم أخـلق, ولـم أك شيئا.
17796ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا يقول: نِسيا: نُسي ذكري, ومنسيا: تقول: نسي أثري, فلا يُرى لـي أثر ولا عين.
17797ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا: أي شيئا لا يعرف ولا يذكر.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, قوله وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا قال: لا أعرف ولا يدري من أنا.
17798ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن أبـي جعفر, عن الربـيع بن أنس نَسْيا مَنْسِيّا قال: هو السقط.
17799ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: يا لَـيْتَنِـي مِتّ قَبْلَ هَذَا وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا لـم أكن فـي الأرض شيئا قط.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلاّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً * وَهُزّىَ إِلَيْكِ بِجِذْعِ النّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً }.
اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الـحجاز والعراق فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها بـمعنى: فناداها جبرائيـل من بـين يديها علـى اختلاف منهم فـي تأويـله فمن متأوّل منهم إذا قرأه مِنْ تـحْتِها كذلك ومن متأوّل منهم أنه عيسى, وأنه ناداها من تـحتها بعد ما ولدته. وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل الكوفة والبصرة: «فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها» بفتـح التاءين من تـحت, بـمعنى: فناداها الذي تـحتها, علـى أن الذي تـحتها عيسى, وأنه الذي نادى أمه. ذكر من قال: الذي ناداها من تـحتها الـمَلَك:
17800ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا عبد الـمؤمن, قال: سمعت ابن عبـاس قرأ: فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها يعنـي: جبرائيـل.
17801ـ حدثنـي أحمد بن عبد الله أحمد بن يونس, قال: أخبرنا عبَثر, قال: حدثنا حصين, عن عمرو بن ميـمون الأَوْديّ, قال: الذي ناداها الـملك.
17802ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفـيان, عن الأعمش, عن إبراهيـم, عن علقمة, أنه قرأ: فخاطبها من تـحتها.
حدثنا أبو هشام الرفـاعي, قال: حدثنا يحيى, قال: حدثنا سفـيان, عن الأعمش, عن إبراهيـم, عن علقمة. أنه قرأ: فخاطبها من تـحتها.
حدثنا الرفـاعي, قال: حدثنا وكيع, عن أبـيه, عن الأعمش, عن إبراهيـم, عن علقمة أنه قرأها كذلك.
17803ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو عامر, قال: حدثنا سفـيان, عن جويبر, عن الضحاك فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها قال: جبرائيـل.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو عاصم, عن سفـيان, عن جويبر, عن الضحاك, مثله.
17804ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها: أي من تـحت النـخـلة.
17805ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ فَنادَاها جبرائيـل مِنْ تَـحْتِها أنْ لا تَـحْزَنِـي.
17806ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, فـي قوله فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها قال: الـمَلَك.
حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها يعنـي: جبرائيـل كان أسفل منها.
حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها قال: ناداها جبرائيـل ولـم يتكلـم عيسى حتـى أتت قومها.
ذكر من قال: ناداها عيسى صلى الله عليه وسلم:
17807ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا سفـيان, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها قال: عيسى بن مريـم.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو عامر, قال: حدثنا سفـيان, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى. وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, مثله.
17808ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, عن الـحسن فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها ابنها.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, قال: قال الـحسن: هو ابنها.
17809ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عمن لا يتهم, عن وهب بن منبه فَنادَاها عيسى مِنْ تَـحْتِها أنْ لا تَـحْزَنِـي.
17810ـ حدثنـي أبو حميد أحمد بن الـمغيرة الـحمصي, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا مـحمد بن مهاجر, عن ثابت بن عجلان, عن سعيد بن جبـير, قوله فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها قال عيسى: أما تسمع الله يقول: فأشارَتْ إلَـيْهِ.
17811ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها قال: عيسى ناداها: أنْ لا تَـحْزَنِـي قَدْ جَعل رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا.
17812ـ حُدثت عن عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع بن أنس, عن أبـي العالـية الرياحيّ, عن أبـيّ بن كعب قال: الذي خاطبها هو الذي حملته فـي جوفها ودخـل من فـيها.
قال أبو جعفر: وأولـى القولـين فـي ذلك عندنا قول من قال: الذي ناداها ابنها عيسى, وذلك أنه من كناية ذكره أقرب منه من ذكر جبرائيـل, فردّه علـى الذي هو أقرب إلـيه أولـى من ردّه علـى الذي هو أبعد منه, ألا ترى فـي سياق قوله فحَمَلَتْهُ فـانْتَبَذَتْ بِهِ مَكانا قَصِيّا يعنـي به: فحملت عيسى فـانتبذت به, ثم قـيـل: فناداها نسقا علـى ذلك من ذكر عيسى والـخبر عنه. ولعلة أخرى, وهي قوله: فأشارَتْ إلَـيْهِ ولـم تشر إلـيه إن شاء الله إلا وقد علـمت أنه ناطق فـي حاله تلك, وللذي كانت قد عرفت ووثقت به منه بـمخاطبته إياها بقوله لها: أنْ لا تَـحْزَنِـي قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا وما أخبر الله عنه أنه قال لها أشيري للقوم إلـيه, ولو كان ذلك قولاً من جبرائيـل, لكان خـلـيقا أن يكون فـي ظاهر الـخبر, مبـينا أن عيسى سينطق, ويحتـجّ عنها للقوم, وأمر منه لها بأن تشير إلـيه للقوم إذا سألوها عن حالها وحاله.
فإذا كان ذلك هو الصواب من التأويـل الذي بـيّنا, فبـين أن كلتا القراءتـين, أعنـي مِنْ تَـحْتِها بـالكسر, و«مَنْ تَـحْتَها» بـالفتـح صواب. وذلك أنه إذا قرىء بـالكسر كان فـي قوله فَنادَاها ذكر من عيسى: وإذا قرىء مِنْ تَـحْتِها بـالفتـح كان الفعل لـمن وهو عيسى. فتأويـل الكلام إذن: فناداها الـمولد من تـحتها أن لا تـحزنـي يا أمه قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا كما:
17813ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها أنْ لا تَـحْزَنِـي قالت: وكيف لا أحزن وأنت معي, لا ذات زوج فأقول ومن زوج, ولا مـملوكة فأقول من سيدي, أيّ شيء عذري عند الناس يا لَـيْتَنِـي مِتّ قَبْلَ هَذَا وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا فقال لها عيسى: أنا أكفـيك الكلام.
واختلف أهل التأويـل فـي الـمعنـيّ بـالسريّ فـي هذا الـموضع, فقال بعضهم: عنـي به: النهر الصغير. ذكر من قال ذلك:
17814ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا سفـيان, عن أبـي إسحاق, عن البراء بن عازب قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا قال: الـجدول.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن أبـي إسحاق, قال: سمعت البراء يقول فـي هذه الاَية قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا قال: الـجدول.
17815ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا وهو نهر عيسى.
حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا قال: السريّ: النهر الذي كان تـحت مريـم حين ولدته كان يجري يسمى سَريا.
17816ـ حدثنـي أبو حصين, قال: حدثنا عبثر, قال: حدثنا حصين, عن عمرو بن ميـمون الأَوْدِيّ, قال فـي هذه الاَية: قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا قال: السريّ: نهر يُشرب منه.
حدثنا يعقوب وأبو كريب, قالا: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا حصين, عن عمرو بن ميـمون, فـي قوله: قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا قال: هو الـجدول.
17817ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد سَرِيّا قال: نهر بـالسريانـية.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, مثله, قال ابن جريج: نهر إلـى جنبها.
17818ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا أبو داود, قال: حدثنا شعبة, عن قتادة, عن الـحسن, فـي قوله قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا قال: كان سريا فقال حميد بن عبد الرحمن: إن السريّ: الـجدول, فقال: غلبتنا علـيك الأمراء.
17819ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو بكر بن عياش, عن أبـي حصين, عن سعيد بن جبـير قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا قال: هو الـجدول, النهر الصغير, وهو بـالنبطية: السريّ.
حدثنـي أبو حميد الـحمصي, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا مـحمد بن مهاجر, عن ثابت بن عجلان قال: سألت سعيد بن جبـير, عن السريّ, قال: نهر.
17820ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا هشيـم, عن مغيرة, عن إبراهيـم, قال: النهر الصغير.
حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا مغيرة, عن إبراهيـم, أنه قال: هو النهر الصغير: يعنـي الـجدول, يعنـي قوله قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا.
17821ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن سلـمة بن نبـيط, عن الضحاك, قال: جدول صغير بـالسريانـية.
حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله تَـحْتَكِ سَرِيّا: الـجدول الصغير من الأنهار.
17822ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا والسريّ: هو الـجدول, تسميه أهل الـحجاز.
17823ـ حدثنا الـحسن, قال: حدثنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, فـي قوله سَرِيّا قال: هو جدول.
17824ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عمن لا يتهم وعن وهب بن منبه قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا يعنـي ربـيع الـماء.
17825ـ حدثنا موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا والسريّ: هو النهر.
وقال آخرون: عنى به عيسى. ذكر من قال ذلك:
17826ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, عن الـحسن قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا والسريّ: عيسى نفسه.
17827ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا يعنـي نفسه, قال: وأيّ شيء أسرى منه, قال: والذين يقولون: السريّ: هو النهر لـيس كذلك النهر, لو كان النهر لكان إنـما يكون إلـى جنبها, ولا يكون النهر تـحتها.
قال أبو جعفر: وأولـى القولـين فـي ذلك عندي بـالصواب قـيـل من قال: عنى به الـجدول, وذلك أنه أعلـمها ما قد أعطاها الله من الـماء الذي جعله عندها, وقال لها وَهُزّي إلَـيْكِ بِجِذْعِ النّـخْـلَةِ تُساقِطْ عَلَـيْكِ رُطَبـا جَنِـيّا فَكُلِـي من هذا الرطب وَاشْرَبِـي من هذا الـماء وَقَرّي عَيْنا بولدك, والسريّ معروف من كلام العرب أنه النهر الصغير ومنه قول لبـيد:
فَتَوَسّطا عُرْضَ السّرِيّ وَصَدّعامَسْجُورَةً مُتَـجاوِرا قُلاّمُها
ويُروى: مثلـما مسجورة, ويُروى أيضا: فغارا.
وقوله: وَهُزّي إلَـيْكِ بِجِذْعِ النّـخْـلَةِ ذكر أن الـجذع كان جذعا يابسا, وأمرها أن تهزّه, وذلك فـي أيام الشتاء, وهزّها إياه كان تـحريكه, كما:
17828ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَهُزّي إلَـيْكِ بِجِذْعِ النّـخْـلَةِ قال: حركيها. ذكر من قال ذلك:
17829ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس وَهُزّي إلَـيْكِ بِجِذْعِ النّـخْـلَةِ قال: كان جذعا يابسا, فقال لها: هزّيه تُساقِطْ عَلَـيْكِ رُطَبـا جَنِـيّا.
17830ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا عبد الـمؤمن, قال: سمعت أبـا نهيك يقول: كانت نـخـلة يابسة.
17831ـ حدثنـي مـحمد بن سهل بن عسكر, قال: حدثنا إسماعيـل بن عبد الكريـم, قال: ثنـي عبد الصمد بن معقل قال: سمعت وهب بن منبه يقول فـي قوله: وَهُزّي إلَـيْكِ بِجِذْعِ النّـخْـلَةِ فكان الرطب يتساقط علـيها وذلك فـي الشتاء.
17832ـ حدثنا موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ وَهُزّي إلَـيْكِ بِجِذْعِ النّـخْـلَةِ: وكان جذعا منها مقطوعا فهزّته, فإذا هو نـخـلة, وأُجري لها فـي الـمـحراب نهر, فتساقطت النـخـلة رطبـا جنـيا فَقال لها: كُلِـي وَاشْرَبِـي وَقَرّي عَيْنا.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وهزّي إلـيك بـالنـخـلة. ذكر من قال ذلك:
17833ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, قال: قال مـجاهد وَهُزّي إلَـيْكِ بِجِذْعِ النّـخْـلَةِ قال: النـخـلة.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفـيان, عن عيسى بن ميـمون, عن مـجاهد, فـي قوله وَهُزّي إلَـيْكِ بِجِذْعِ النّـخْـلَةِ قال: العجوة.
17834ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا حصين, عن عمرو بن ميـمون, أنه تلا هذه الاَية: وَهُزّي إلَـيْكِ بِجِذْعِ النّـخْـلَةِ تُساقِطْ عَلَـيْكِ رُطَبـا جَنِـيّا قال: فقال عمرو: ما من شيء خير للنفساء من التـمر والرطب.
وأدخـلت البـاء فـي قوله: وَهُزّي إلَـيْكِ بِجِذْعِ النّـخْـلَةِ كما يقال: زوجتك فلانة, وزوّجتك بفلانة وكما قال تَنْبُتُ بِـالدّهْنِ بـمعنى: تنبت الدهن. وإنـما تفعل العرب بذلك, لأن الأفعال تكنى عنها بـالبـاء, فـيقال إذا كنـيت عن ضربت عمرا: فعلت به, وكذلك كلّ فعل, فلذلك تدخـل البـاء فـي الأفعال وتـخرِج, فـيكون دخولها وخروجها بـمعنى, فمعنى الكلام: وهزّي إلـيك جذع النـخـلة وقد كان لو أن الـمفسرين كانوا فسروه كذلك: وهزّي إلـيك رطبـا بجذع النـخـلة, بـمعنى: علـى جذع النـخـلة, وجها صحيحا, ولكن لست أحفظ عن أحد أنه فسره كذلك. ومن الشاهد علـى دخول البـاء فـي موضع دخولها وخروجها منه سواء قول الشاعر:
بِوَادٍ يَـمانٍ يُنْبِتُ السّدْرَ صَدْرُهُوأسْفَلُهُ بـالـمَرْخِ والشّبَهانِ
واختلف القرّاء فـي قراءة قوله: تُسَاقِطْ فقرأ ذلك عامّة قرّاء الـمدينة والبصرة والكوفة: «تَسّاقَطُ» بـالتاء من تساقط وتشديد السين, بـمعنى: تتساقط علـيك النـخـلة رطبـا جنـيا, ثم تُدغم إحدى التاءين فـي الأخرى فتشدد, وكأن الذين قرأوا ذلك كذلك وجهوا معنى الكلام إلـي: وهزّي إلـيك بجذع النـخـلة تساقط النـخـلة علـيك رطبـا. وقرأ ذلك بعض قرّاء الكوفة: «تَساقَطُ» بـالتاء وتـخفـيف السين, ووجه معنى الكلام, إلـى مثل ما وجه إلـيه مشدّدوها, غير أنهم خالفوهم فـي القراءة. ورُوي عن البراء بن عازب أنه قرأ ذلك: «يُساقِط» بـالـياء.
17835ـ حدثنـي بذلك أحمد بن يوسف, قال: حدثنا القاسم, قال: حدثنا يزيد, عن جرير بن حازم, عن أبـي إسحاق قال: سمعت البراء بن عازب يقرؤه كذلك, وكأنه وجه معنى الكلام إلـي: وهزّي إلـيك بجذع النـخـلة يتساقط الـجذع علـيك رطبـا جنـيا.
ورُوي عن أبـي نهيك أنه كان يقرؤه: «تُسْقِطُ» بضمّ التاء وإساقط الألف.
17836ـ حدثنا بذلك ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا عبد الـمؤمن, قال: سمعت أبـا نَهِيك يقرؤه كذلك, وكأنه وجه معنى الكلام إلـي: تسقط النـخـلة علـيك رطبـا جنـيا.
قال أبو جعفر: والصواب من القول فـي ذلك عندي أن يقال: إن هذه القراءات الثلاث, أعنـي تَسّاقَطُ بـالتاء وتشديد السين, وبـالتاء وتـخفـيف السين, وبـالـياء وتشديد السين, قراءات متقاربـات الـمعانـي, قد قرأ بكل واحدة منهنّ قرّاء أهل معرفة بـالقرآن, فبأيّ ذلك قرأ القارىء فمصيب الصواب فـيه, وذلك أن الـجذع إذا تساقط رطبـا, وهو ثابت غير مقطوع, فقد تساقطت النـخـلة رطبـا, وإذا تساقطت النـخـلة رطبـا, فقد تساقطت النـخـلة بأجمعها, جذعها وغير جذعها, وذلك أن النـخـلة ما دامت قائمة علـى أصلها, فإنـما هي جذع وجريد وسعف, فإذا قطعت صارت جذعا, فـالـجذع الذي أمرت مريـم بهزّه لـم يذكر أحد نعلـمه أنه كان جذعا مقطوعا غير السديّ, وقد زعم أنه عاد بهزّها إياه نـخـلة, فقد صار معناه ومعنى من قال: كان الـمتساقط علـيها رطبـا نـخـلة واحدا, فتبـين بذلك صحة ما قلنا.
وقوله: جَنِـيّا يعنـي مـجنـيا وإنـما كان أصله مفعولاً فصرف إلـى فعيـل والـمـجنـي: الـمأخوذ طريا, وكل ما أخذ من ثمرة, أو نقل من موضعه بطراوته فقد اجتنـي, ولذلك قـيـل: فلان يجتنـي الكمأة ومنه قول ابن أخت جذيـمة:
هَذَا جَنايَ وخِيارُهُ فِـيهْإذْ كُلّ جانٍ يَدُهُ إلـى فِـيهْ
الآية : 24 و 25
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:{ فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً * فَأَجَآءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىَ جِذْعِ النّخْلَةِ قَالَتْ يَلَيْتَنِي مِتّ قَبْلَ هَـَذَا وَكُنتُ نَسْياً مّنسِيّاً }.
وفـي هذا الكلام متروك تُرِك ذكره استغناء بدلالة ما ذكر منه عنه فَنَفَخْنا فِـيهِ مِنْ رُوحِنا بغلام فحَمَلَتْهُ فـانْتَبَذَتْ بِهِ مَكانا قَصيّا وبذلك جاء تأويـل أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
17781ـ حدثنـي مـحمد بن سهل, قال: حدثنا إسماعيـل بن عبد الكريـم, قال: ثنـي عبد الصمد بن معقِل ابن أخي وهب بن منبه, قال: سمعت وهبـا قال: لـما أرسل الله جبريـل إلـى مريـم تـمثّل لها بشرا سويا فقالت له: إنّـي أعُوذُ بـالرّحْمَنِ مِنْكَ إنْ كُنْتَ تَقِـيّا ثم نفخ فـي جيب درعها حتـى وصلت النفخة إلـى الرحم فـاشتـملت.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عمن لا يتهم, عن وهب بن منبه الـيـمانـي, قال: لـما قال ذلك, يعنـي لـما قال جبريـل قالَ كذلكِ قالَ رَبّكَ هُوَ عَلـيّ هَيّنٌ... الاَية استسلـمت لأمر الله, فنفخ فـي جيبها ثم انصرف عنها.
17782ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قال: طرحَتْ علـيها جلبـابها لـما قال جبريـل ذلك لها, فأخذ جبريـل بكميها, فنفخ فـي جيب درعها, وكان مشقوقا من قُدامها, فدخـلت النفخة صدرها, فحملت, فأتتها أختها امرأة زكريا لـيـلة تزورها فلـما فتـحت لها البـاب التزمتها, فقالت امرأة زكريا: يا مريـم أشعرت أنـي حبلـى, قالت مريـم: أشعرت أيضا أنـي حُبلـى, قالت امرأة زكريا: إنـي وجدت ما فـي بطنـي يسجد لـما فـي بطنك, فذلك قوله مُصَدّقا بكَلِـمَةٍ مِنَ اللّهِ.
17783ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج: يقولون: إنه إنـما نفخ فـي جيب درعها وكمها.
وقوله: فـانْتَبَذَتْ بِهِ مَكانا قَصِيّا يقول: فـاعتزلت بـالذي حملته, وهو عيسى, وتنـحّت به عن الناس مكانا قَصِيا يقول: مكانا نائيا قاصيا عن الناس, يقال: هو بـمكان قاص, وقصيّ بـمعنى واحد, كما قال الراجز:
لَتَقْعُدِنّ مَقْعَدَ القَصِيّمِنّـي ذي القاذُورَةِ الـمَقْلِـيّ
يقال منه: قصا الـمكان يقصو قصوا: إذا تبـاعد, وأقصيت الشيء: إذا أبعدته وأخّرته.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
17784ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: فـانْتَبَذَتْ بِهِ مَكانا قَصِيّا قال: مكانا نائيا.
17785ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: مَكانا قَصِيّا قال: قاصيا.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, مثله.
17786ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قال: لـما بلغ أن تضع مريـم, خرجت إلـى جانب الـمـحراب الشرقـي منه فأتت أقصاه.
وقوله: فأجاءَها الـمَخاضُ إلـى جِذْعِ النّـخْـلَةِ يقول تعالـى ذكره: فجاء بها الـمخاض إلـى جذع النـخـلة, ثم قـيـل: لـما أسقطت البـاء منه أجاءها, كما يقال: أتـيتك بزيد, فإذا حذفت البـاء قـيـل آتـيتك زيدا, كما قال جلّ ثناؤه: آتُونِـي زُبُرَ الـحَدِيدِ والـمعنى: ائتونـي بزُبَر الـحديد, ولكن الألف مُدّت لـما حذفت البـاء, وكما قالوا: خرجت به وأخرجته, وذهبت به وأذهبته, وإنـما هو أفعل من الـمـجيء, كما يقال: جاء هو, وأجأته أنا: أي جئت به, ومثل من أمثال العرب: «شرّ ما أجاءنـي إلـى مُخّة عرقوب», وأشاء ويقال: شرّ ما يُجِيئك ويُشِيئك إلـى ذلك ومنه قول زهير:
وَجارٍ سارَ مُعْتَـمِدا إلَـيْكُمْأجاءَتْهُ الـمَـحافَةُ وَالرّجاءُ
يعنـي: جاء به, وأجاءه إلـينا وأشاءك: من لغة تـميـم, وأجاءك من لغة أهل العالـية, وإنـما تأوّل من تأوّل ذلك بـمعنى: ألـجأها, لأن الـمخاض لـما جاءها إلـى جذع النـخـلة, كان قد ألـجأها إلـيه. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
17787ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: فأجاءَها الـمَخاضُ قال: الـمخاض ألـجأها.
17788ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, قال: ألـجأها الـمخاض. قال ابن جريج: وقال ابن عبـاس: ألـجأها الـمخاض إلـى جذع النـخـلة.
17789ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ فأجاءَها الـمَخاضُ إلـى جِذْعِ النّـخْـلَةِ يقول: ألـجأها الـمخاض إلـى جذع النـخـلة.
17790ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: فأجاءَها الـمَخاضُ إلـى جِذْعِ النّـخْـلَةِ قال: اضطرّها إلـى جذع النـخـلة.
واختلفوا فـي أيّ الـمكان الذي انتبذتْ مريـم بعيسى لوضعه, وأجاءها إلـيه الـمخاض, فقال بعضهم: كان ذلك فـي أدنى أرض مصر, وآخر أرض الشأم, وذلك أنها هربت من قومها لـما حملت, فتوجهت نـحو مصر هاربة منهم. ذكر من قال ذلك:
17791ـ حدثنا مـحمد بن سهل, قال: حدثنا إسماعيـل بن عبد الكريـم, قال: ثنـي عبد الصمد بن معقِل, أنه سمع وهب بن منبه يقول: لـما اشتـملت مريـم علـى الـحمل, كان معها قَرابة لها, يقال له يوسف النـجّار, وكانا منطلقـين إلـى الـمسجد الذي عند جبل صِهْيَون, وكان ذلك الـمسجد يؤمئذ من أعظم مساجدهم, فكانت مريـم ويوسف يخدمان فـي ذلك الـمسجد, فـي ذلك الزمان, وكان لـخدمته فضل عظيـم, فرغبـا فـي ذلك, فكانا يـلـيان معالـجته بأنفسهما, تـحبـيره وكناسته وطهوره, وكلّ عمل يعمل فـيه, وكان لا يعمل من أهل زمانهما أحد أشدّ اجتهادا وعبـادة منهما, فكان أوّل من أنكر حَمْل مريـم صاحُبها يوسف فلـما رأى الذي بها استفظعه, وعظُم علـيه, وفُظِع به, فلـم يدر علـى ماذا يضع أمرها, فإذا أراد يوسف أن يتهمها, ذكر صلاحها وبراءتها, وأنها لـم تغب عنه ساعة قطّ وإذا أراد أن يبرئها, رأى الذي ظهر علـيها فلـما اشتدّ علـيه ذلك كلّـمها, فكان أوّل كلامه إياها أن قال لها: إنه قد حدث فـي نفسي من أمرك أمر قد خشيته, وقد حَرَصت علـى أن أميته وأكتـمه فـي نفسي, فغلبنـي ذلك, فرأيت الكلام فـيه أشفـى لصدري, قالت: فقل قولاً جميلاً, قال: ما كنت لأقول لك إلا ذلك, فحدثـينـي, هل ينبت زرع بغير بذر؟ قالت: نعم, قال: فهل تنبت شجرة من غير غيث يصيبها؟ قالت: نعم, قال: فهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت: نعم, ألـم تعلـم أن الله تبـارك وتعالـى أنبت الزرع يوم خـلقه من غير بذر, والبذر يومئذ إنـما صار من الزرع الذي أنبته الله من غير بذر أو لـم تعلـم أن الله بقدرته أنبت الشجر بغير غيث, وأنه جعل بتلك القدرة الغيث حياة للشجر بعد ما خـلق كلّ واحد منهما وحده, أم تقول: لن يقدر الله علـى أن ينبت الشجر حتـى استعان علـيه بـالـماء, ولولا ذلك لـم يقدر علـى إنبـاته؟ قال يوسف لها: لا أقول هذا, ولكنـي أعلـم أن الله تبـارك وتعالـى بقدرته علـى ما يشاء يقول لذلك كن فـيكون, قالت مريـم: أو لـم تعلـم أن الله تبـارك وتعالـى خـلق آدم وامرأته من غير أنثى ولا ذكر؟ قال: بلـى, فلـما قالت له ذلك, وقع فـي نفسه أن الذي بها شيء من الله تبـارك وتعالـى, وأنه لا يسعه أن يسألها عنه, وذلك لـما رأى من كتـمانها لذلك.
ثم تولـى يوسف خدمة الـمسجد, وكفـاها كلّ عمل كانت تعمل فـيه, وذلك لـما رأى من رقة جسمها, واصفرار لونها, وكلف وجهها, ونتوّ بطنها, وضعف قوّتها, ودأب نظرها, ولـم تكن مريـم قبل ذلك كذلك فلـما دنا نفـاسها أوحى الله إلـيها أن اخرجي من أرض قومك, فإنهم إن ظفروا بك عيروك, وقتلوا ولدك, فأفضت ذلك إلـى أختها, وأختها حينئذ حُبلـى, وقد بشرت بـيحيى, فلـما التقـيا وجدت أمّ يحيى ما فـي بطنها خرّ لوجهه ساجدا معترفـا لعيسى, فـاحتـملها يوسف إلـى أرض مصر علـى حمار له لـيس بـينها حين ركبت وبـين الإكاف شيء, فـانطلق يوسف بها حتـى إذا كان متاخما لأرض مصر فـي منقطع بلاد قومها, أدرك مريـم النفـاس, ألـجأها إلـى آريّ حمار, يعنـي مذود الـحمار, وأصل نـخـلة, وذلك فـي زمان أحسبه بردا أو حرّا «الشكّ من أبـي جعفر», فـاشتدّ علـى مريـم الـمخاض فلـما وجدت منه شدّة التـجأت إلـى النـخـلة فـاحتضنتها واحتوشتها الـملائكة, قاموا صفوفـا مـحدقـين بها.
وقد رُوي عن وهب بن منبه قول آخر غير هذا, وذلك ما:
17792ـ حدثنا به ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عمن لايتهم, عن وهب بن منبه, قال: لـما حضر ولادُها, يعنـي مريـم, ووجدت ما تـجد الـمرأة من الطلق, خرجت من الـمدينة مغربة من إيـلـياء, حتـى تدركها الولادة إلـى قرية من إيـلـياء علـى ستة أميال يقال لها بـيت لـحم, فأجاءها الـمخاض إلـى أصل نـخـلة إلـيها مذود بقرة تـحتها ربـيع من الـماء, فوضعته عندها.
وقال آخرون: بل خرجت لـما حضر وضعها ما فـي بطنها إلـى جانب الـمـحراب الشرقـي منه, فأتت أقصاه فألـجأها الـمخاض إلـى جِذع النـخـلة, وذلك قول السدي, وقد ذكرت الرواية به قبل.
17793ـ حدثنـي زكريا بن يحيى بن أبـي زائدة, قال: حدثنا حجاج, قال: قال ابن جريج: أخبرنـي الـمغيرة بن عثمان, قال: سمعت ابن عبـاس يقول: ما هي إلا أن حملت فوضعت.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: وأخبرنـي الـمغيرة بن عثمان بن عبد الله أنه سمع ابن عبـاس يقول: لـيس إلا أن حملتْ فولدتْ.
وقوله: يا لَـيْتَنِـي مِتّ قَبْلَ هَذَا ذكر أنها قالت ذلك فـي حال الطلق استـحياء من الناس, كما:
17794ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قال: قالت وهي تطلق من الـحبل استـحياء من الناس: يا لَـيْتَنِـي مِتّ قَبْلَ هَذَا وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا.
تقول: يا لـيتنـي متّ قبل هذا الكرب الذي أنا فـيه, والـحزن بولادتـي الـمولود من غير بَعْل, وكنت نِسيا منسيا: شيئا نُسي فُترك طلبه كخرق الـحيض التـي إذا ألقـيت وطرحت لـم تطلب ولـم تذكر, وكذلك كل شيء نسي وترك ولـم يطلب فهو نسيّ. ونسي بفتـح النون وكسرها لغتان معروفتان من لغات العرب بـمعنى واحد, مثل الوَتر والوِتر, والـجَسر والـجِسر, وبأيتهما قرأ القاريء فمصيب عندنا وبـالكسر قرأت عامة قرّاء الـحجاز والـمدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة وبـالفتـح قرأه أهل الكوفة ومنه قول الشاعر:
كأنّ لَهَا فِـي الأرْضِ نِسْيا تَقُصّهُإذَا ما غَدَتْ وَإنْ تُـحَدّثْكَ تَبْلَتِ
ويعنـي بقوله: تقصه: تطلبه, لأنها كانت نسيته حتـى ضاع, ثم ذكرته فطلبته, ويعنـي بقوله: تبلت: تـحسن وتصدّق, ولو وجه النسي إلـى الـمصدر من النسيان كان صوابـا, وذلك أن العرب فـيـما ذكر عنها تقول: نسيته نسيانا ونسيا, كما قال بعضهم من طاعة الربّ وعصي الشيطان, يعنـي وعصيان, وكما تقول أتـيته إتـيانا وأتـيا, كما قال الشاعر:
أَتُـي الفَوَاحِشِ فِـيهِمُ مَعْرُوفَةٌويَرَوْنَ فِعْلَ الـمَكْرُماتِ حَرَامَا
وقوله مَنْسِيّا مفعول من نسيت الشيء كأنها قالت: لـيتنـي كنت الشيء الذي ألقـي, فترك ونسي.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
17795ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: أخبرنـي عطاء الـخراسانـي عن ابن عبـاس, قوله: يا لَـيْتَنِـي مِتّ قَبْلَ هَذَا وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا لـم أخـلق, ولـم أك شيئا.
17796ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا يقول: نِسيا: نُسي ذكري, ومنسيا: تقول: نسي أثري, فلا يُرى لـي أثر ولا عين.
17797ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا: أي شيئا لا يعرف ولا يذكر.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, قوله وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا قال: لا أعرف ولا يدري من أنا.
17798ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن أبـي جعفر, عن الربـيع بن أنس نَسْيا مَنْسِيّا قال: هو السقط.
17799ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: يا لَـيْتَنِـي مِتّ قَبْلَ هَذَا وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا لـم أكن فـي الأرض شيئا قط.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلاّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً * وَهُزّىَ إِلَيْكِ بِجِذْعِ النّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً }.
اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الـحجاز والعراق فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها بـمعنى: فناداها جبرائيـل من بـين يديها علـى اختلاف منهم فـي تأويـله فمن متأوّل منهم إذا قرأه مِنْ تـحْتِها كذلك ومن متأوّل منهم أنه عيسى, وأنه ناداها من تـحتها بعد ما ولدته. وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل الكوفة والبصرة: «فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها» بفتـح التاءين من تـحت, بـمعنى: فناداها الذي تـحتها, علـى أن الذي تـحتها عيسى, وأنه الذي نادى أمه. ذكر من قال: الذي ناداها من تـحتها الـمَلَك:
17800ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا عبد الـمؤمن, قال: سمعت ابن عبـاس قرأ: فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها يعنـي: جبرائيـل.
17801ـ حدثنـي أحمد بن عبد الله أحمد بن يونس, قال: أخبرنا عبَثر, قال: حدثنا حصين, عن عمرو بن ميـمون الأَوْديّ, قال: الذي ناداها الـملك.
17802ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفـيان, عن الأعمش, عن إبراهيـم, عن علقمة, أنه قرأ: فخاطبها من تـحتها.
حدثنا أبو هشام الرفـاعي, قال: حدثنا يحيى, قال: حدثنا سفـيان, عن الأعمش, عن إبراهيـم, عن علقمة. أنه قرأ: فخاطبها من تـحتها.
حدثنا الرفـاعي, قال: حدثنا وكيع, عن أبـيه, عن الأعمش, عن إبراهيـم, عن علقمة أنه قرأها كذلك.
17803ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو عامر, قال: حدثنا سفـيان, عن جويبر, عن الضحاك فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها قال: جبرائيـل.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو عاصم, عن سفـيان, عن جويبر, عن الضحاك, مثله.
17804ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها: أي من تـحت النـخـلة.
17805ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ فَنادَاها جبرائيـل مِنْ تَـحْتِها أنْ لا تَـحْزَنِـي.
17806ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, فـي قوله فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها قال: الـمَلَك.
حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها يعنـي: جبرائيـل كان أسفل منها.
حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها قال: ناداها جبرائيـل ولـم يتكلـم عيسى حتـى أتت قومها.
ذكر من قال: ناداها عيسى صلى الله عليه وسلم:
17807ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا سفـيان, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها قال: عيسى بن مريـم.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو عامر, قال: حدثنا سفـيان, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى. وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, مثله.
17808ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, عن الـحسن فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها ابنها.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, قال: قال الـحسن: هو ابنها.
17809ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عمن لا يتهم, عن وهب بن منبه فَنادَاها عيسى مِنْ تَـحْتِها أنْ لا تَـحْزَنِـي.
17810ـ حدثنـي أبو حميد أحمد بن الـمغيرة الـحمصي, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا مـحمد بن مهاجر, عن ثابت بن عجلان, عن سعيد بن جبـير, قوله فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها قال عيسى: أما تسمع الله يقول: فأشارَتْ إلَـيْهِ.
17811ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها قال: عيسى ناداها: أنْ لا تَـحْزَنِـي قَدْ جَعل رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا.
17812ـ حُدثت عن عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع بن أنس, عن أبـي العالـية الرياحيّ, عن أبـيّ بن كعب قال: الذي خاطبها هو الذي حملته فـي جوفها ودخـل من فـيها.
قال أبو جعفر: وأولـى القولـين فـي ذلك عندنا قول من قال: الذي ناداها ابنها عيسى, وذلك أنه من كناية ذكره أقرب منه من ذكر جبرائيـل, فردّه علـى الذي هو أقرب إلـيه أولـى من ردّه علـى الذي هو أبعد منه, ألا ترى فـي سياق قوله فحَمَلَتْهُ فـانْتَبَذَتْ بِهِ مَكانا قَصِيّا يعنـي به: فحملت عيسى فـانتبذت به, ثم قـيـل: فناداها نسقا علـى ذلك من ذكر عيسى والـخبر عنه. ولعلة أخرى, وهي قوله: فأشارَتْ إلَـيْهِ ولـم تشر إلـيه إن شاء الله إلا وقد علـمت أنه ناطق فـي حاله تلك, وللذي كانت قد عرفت ووثقت به منه بـمخاطبته إياها بقوله لها: أنْ لا تَـحْزَنِـي قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا وما أخبر الله عنه أنه قال لها أشيري للقوم إلـيه, ولو كان ذلك قولاً من جبرائيـل, لكان خـلـيقا أن يكون فـي ظاهر الـخبر, مبـينا أن عيسى سينطق, ويحتـجّ عنها للقوم, وأمر منه لها بأن تشير إلـيه للقوم إذا سألوها عن حالها وحاله.
فإذا كان ذلك هو الصواب من التأويـل الذي بـيّنا, فبـين أن كلتا القراءتـين, أعنـي مِنْ تَـحْتِها بـالكسر, و«مَنْ تَـحْتَها» بـالفتـح صواب. وذلك أنه إذا قرىء بـالكسر كان فـي قوله فَنادَاها ذكر من عيسى: وإذا قرىء مِنْ تَـحْتِها بـالفتـح كان الفعل لـمن وهو عيسى. فتأويـل الكلام إذن: فناداها الـمولد من تـحتها أن لا تـحزنـي يا أمه قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا كما:
17813ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها أنْ لا تَـحْزَنِـي قالت: وكيف لا أحزن وأنت معي, لا ذات زوج فأقول ومن زوج, ولا مـملوكة فأقول من سيدي, أيّ شيء عذري عند الناس يا لَـيْتَنِـي مِتّ قَبْلَ هَذَا وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا فقال لها عيسى: أنا أكفـيك الكلام.
واختلف أهل التأويـل فـي الـمعنـيّ بـالسريّ فـي هذا الـموضع, فقال بعضهم: عنـي به: النهر الصغير. ذكر من قال ذلك:
17814ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا سفـيان, عن أبـي إسحاق, عن البراء بن عازب قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا قال: الـجدول.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن أبـي إسحاق, قال: سمعت البراء يقول فـي هذه الاَية قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا قال: الـجدول.
17815ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا وهو نهر عيسى.
حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا قال: السريّ: النهر الذي كان تـحت مريـم حين ولدته كان يجري يسمى سَريا.
17816ـ حدثنـي أبو حصين, قال: حدثنا عبثر, قال: حدثنا حصين, عن عمرو بن ميـمون الأَوْدِيّ, قال فـي هذه الاَية: قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا قال: السريّ: نهر يُشرب منه.
حدثنا يعقوب وأبو كريب, قالا: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا حصين, عن عمرو بن ميـمون, فـي قوله: قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا قال: هو الـجدول.
17817ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد سَرِيّا قال: نهر بـالسريانـية.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, مثله, قال ابن جريج: نهر إلـى جنبها.
17818ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا أبو داود, قال: حدثنا شعبة, عن قتادة, عن الـحسن, فـي قوله قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا قال: كان سريا فقال حميد بن عبد الرحمن: إن السريّ: الـجدول, فقال: غلبتنا علـيك الأمراء.
17819ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو بكر بن عياش, عن أبـي حصين, عن سعيد بن جبـير قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا قال: هو الـجدول, النهر الصغير, وهو بـالنبطية: السريّ.
حدثنـي أبو حميد الـحمصي, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا مـحمد بن مهاجر, عن ثابت بن عجلان قال: سألت سعيد بن جبـير, عن السريّ, قال: نهر.
17820ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا هشيـم, عن مغيرة, عن إبراهيـم, قال: النهر الصغير.
حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا مغيرة, عن إبراهيـم, أنه قال: هو النهر الصغير: يعنـي الـجدول, يعنـي قوله قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا.
17821ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن سلـمة بن نبـيط, عن الضحاك, قال: جدول صغير بـالسريانـية.
حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ, قال: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله تَـحْتَكِ سَرِيّا: الـجدول الصغير من الأنهار.
17822ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا والسريّ: هو الـجدول, تسميه أهل الـحجاز.
17823ـ حدثنا الـحسن, قال: حدثنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, فـي قوله سَرِيّا قال: هو جدول.
17824ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عمن لا يتهم وعن وهب بن منبه قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا يعنـي ربـيع الـماء.
17825ـ حدثنا موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا والسريّ: هو النهر.
وقال آخرون: عنى به عيسى. ذكر من قال ذلك:
17826ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, عن الـحسن قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا والسريّ: عيسى نفسه.
17827ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَـحْتَكِ سَرِيّا يعنـي نفسه, قال: وأيّ شيء أسرى منه, قال: والذين يقولون: السريّ: هو النهر لـيس كذلك النهر, لو كان النهر لكان إنـما يكون إلـى جنبها, ولا يكون النهر تـحتها.
قال أبو جعفر: وأولـى القولـين فـي ذلك عندي بـالصواب قـيـل من قال: عنى به الـجدول, وذلك أنه أعلـمها ما قد أعطاها الله من الـماء الذي جعله عندها, وقال لها وَهُزّي إلَـيْكِ بِجِذْعِ النّـخْـلَةِ تُساقِطْ عَلَـيْكِ رُطَبـا جَنِـيّا فَكُلِـي من هذا الرطب وَاشْرَبِـي من هذا الـماء وَقَرّي عَيْنا بولدك, والسريّ معروف من كلام العرب أنه النهر الصغير ومنه قول لبـيد:
فَتَوَسّطا عُرْضَ السّرِيّ وَصَدّعامَسْجُورَةً مُتَـجاوِرا قُلاّمُها
ويُروى: مثلـما مسجورة, ويُروى أيضا: فغارا.
وقوله: وَهُزّي إلَـيْكِ بِجِذْعِ النّـخْـلَةِ ذكر أن الـجذع كان جذعا يابسا, وأمرها أن تهزّه, وذلك فـي أيام الشتاء, وهزّها إياه كان تـحريكه, كما:
17828ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَهُزّي إلَـيْكِ بِجِذْعِ النّـخْـلَةِ قال: حركيها. ذكر من قال ذلك:
17829ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس وَهُزّي إلَـيْكِ بِجِذْعِ النّـخْـلَةِ قال: كان جذعا يابسا, فقال لها: هزّيه تُساقِطْ عَلَـيْكِ رُطَبـا جَنِـيّا.
17830ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا عبد الـمؤمن, قال: سمعت أبـا نهيك يقول: كانت نـخـلة يابسة.
17831ـ حدثنـي مـحمد بن سهل بن عسكر, قال: حدثنا إسماعيـل بن عبد الكريـم, قال: ثنـي عبد الصمد بن معقل قال: سمعت وهب بن منبه يقول فـي قوله: وَهُزّي إلَـيْكِ بِجِذْعِ النّـخْـلَةِ فكان الرطب يتساقط علـيها وذلك فـي الشتاء.
17832ـ حدثنا موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ وَهُزّي إلَـيْكِ بِجِذْعِ النّـخْـلَةِ: وكان جذعا منها مقطوعا فهزّته, فإذا هو نـخـلة, وأُجري لها فـي الـمـحراب نهر, فتساقطت النـخـلة رطبـا جنـيا فَقال لها: كُلِـي وَاشْرَبِـي وَقَرّي عَيْنا.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وهزّي إلـيك بـالنـخـلة. ذكر من قال ذلك:
17833ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, قال: قال مـجاهد وَهُزّي إلَـيْكِ بِجِذْعِ النّـخْـلَةِ قال: النـخـلة.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفـيان, عن عيسى بن ميـمون, عن مـجاهد, فـي قوله وَهُزّي إلَـيْكِ بِجِذْعِ النّـخْـلَةِ قال: العجوة.
17834ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا حصين, عن عمرو بن ميـمون, أنه تلا هذه الاَية: وَهُزّي إلَـيْكِ بِجِذْعِ النّـخْـلَةِ تُساقِطْ عَلَـيْكِ رُطَبـا جَنِـيّا قال: فقال عمرو: ما من شيء خير للنفساء من التـمر والرطب.
وأدخـلت البـاء فـي قوله: وَهُزّي إلَـيْكِ بِجِذْعِ النّـخْـلَةِ كما يقال: زوجتك فلانة, وزوّجتك بفلانة وكما قال تَنْبُتُ بِـالدّهْنِ بـمعنى: تنبت الدهن. وإنـما تفعل العرب بذلك, لأن الأفعال تكنى عنها بـالبـاء, فـيقال إذا كنـيت عن ضربت عمرا: فعلت به, وكذلك كلّ فعل, فلذلك تدخـل البـاء فـي الأفعال وتـخرِج, فـيكون دخولها وخروجها بـمعنى, فمعنى الكلام: وهزّي إلـيك جذع النـخـلة وقد كان لو أن الـمفسرين كانوا فسروه كذلك: وهزّي إلـيك رطبـا بجذع النـخـلة, بـمعنى: علـى جذع النـخـلة, وجها صحيحا, ولكن لست أحفظ عن أحد أنه فسره كذلك. ومن الشاهد علـى دخول البـاء فـي موضع دخولها وخروجها منه سواء قول الشاعر:
بِوَادٍ يَـمانٍ يُنْبِتُ السّدْرَ صَدْرُهُوأسْفَلُهُ بـالـمَرْخِ والشّبَهانِ
واختلف القرّاء فـي قراءة قوله: تُسَاقِطْ فقرأ ذلك عامّة قرّاء الـمدينة والبصرة والكوفة: «تَسّاقَطُ» بـالتاء من تساقط وتشديد السين, بـمعنى: تتساقط علـيك النـخـلة رطبـا جنـيا, ثم تُدغم إحدى التاءين فـي الأخرى فتشدد, وكأن الذين قرأوا ذلك كذلك وجهوا معنى الكلام إلـي: وهزّي إلـيك بجذع النـخـلة تساقط النـخـلة علـيك رطبـا. وقرأ ذلك بعض قرّاء الكوفة: «تَساقَطُ» بـالتاء وتـخفـيف السين, ووجه معنى الكلام, إلـى مثل ما وجه إلـيه مشدّدوها, غير أنهم خالفوهم فـي القراءة. ورُوي عن البراء بن عازب أنه قرأ ذلك: «يُساقِط» بـالـياء.
17835ـ حدثنـي بذلك أحمد بن يوسف, قال: حدثنا القاسم, قال: حدثنا يزيد, عن جرير بن حازم, عن أبـي إسحاق قال: سمعت البراء بن عازب يقرؤه كذلك, وكأنه وجه معنى الكلام إلـي: وهزّي إلـيك بجذع النـخـلة يتساقط الـجذع علـيك رطبـا جنـيا.
ورُوي عن أبـي نهيك أنه كان يقرؤه: «تُسْقِطُ» بضمّ التاء وإساقط الألف.
17836ـ حدثنا بذلك ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا عبد الـمؤمن, قال: سمعت أبـا نَهِيك يقرؤه كذلك, وكأنه وجه معنى الكلام إلـي: تسقط النـخـلة علـيك رطبـا جنـيا.
قال أبو جعفر: والصواب من القول فـي ذلك عندي أن يقال: إن هذه القراءات الثلاث, أعنـي تَسّاقَطُ بـالتاء وتشديد السين, وبـالتاء وتـخفـيف السين, وبـالـياء وتشديد السين, قراءات متقاربـات الـمعانـي, قد قرأ بكل واحدة منهنّ قرّاء أهل معرفة بـالقرآن, فبأيّ ذلك قرأ القارىء فمصيب الصواب فـيه, وذلك أن الـجذع إذا تساقط رطبـا, وهو ثابت غير مقطوع, فقد تساقطت النـخـلة رطبـا, وإذا تساقطت النـخـلة رطبـا, فقد تساقطت النـخـلة بأجمعها, جذعها وغير جذعها, وذلك أن النـخـلة ما دامت قائمة علـى أصلها, فإنـما هي جذع وجريد وسعف, فإذا قطعت صارت جذعا, فـالـجذع الذي أمرت مريـم بهزّه لـم يذكر أحد نعلـمه أنه كان جذعا مقطوعا غير السديّ, وقد زعم أنه عاد بهزّها إياه نـخـلة, فقد صار معناه ومعنى من قال: كان الـمتساقط علـيها رطبـا نـخـلة واحدا, فتبـين بذلك صحة ما قلنا.
وقوله: جَنِـيّا يعنـي مـجنـيا وإنـما كان أصله مفعولاً فصرف إلـى فعيـل والـمـجنـي: الـمأخوذ طريا, وكل ما أخذ من ثمرة, أو نقل من موضعه بطراوته فقد اجتنـي, ولذلك قـيـل: فلان يجتنـي الكمأة ومنه قول ابن أخت جذيـمة:
هَذَا جَنايَ وخِيارُهُ فِـيهْإذْ كُلّ جانٍ يَدُهُ إلـى فِـيهْ