تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 306 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 306

306- تفسير الصفحة رقم306 من المصحف
الآية: 12 {يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبي}
قوله تعالى: "يا يحيى خذ الكتاب بقوة" في الكلام حذف؛ المعنى فولد له ولد وقال الله تعالى للمولود: "يا يحيى خذ الكتاب بقوة" وهذا اختصار يدل الكلام عليه و"الكتاب" التوراة بلا خلاف. "بقوة" أي بجد واجتهاد؛ قاله مجاهد. وقيل العلم به، والحفظ له والعمل به، وهو الالتزام لأوامره، والكف عن نواهيه؛ قاله زيد بن أسلم؛ وقد تقدم في "البقرة". "وآتيناه الحكم صبيا" قيل: الأحكام والمعرفة بها. وروى معمر أن الصبيان قالوا ليحيى: اذهب بنا نلعب؛ فقال: ما للعب خلقت. فأنزل الله تعالى "وآتيناه الحكم صبيا" وقال قتادة: كان ابن سنتين أو ثلاث سنين. وقال مقاتل: كان ابن ثلاث سنين. و"صبيا" نصب على الحال. وقال ابن عباس: من قرأ القرآن قبل أن يحتلم فهو ممن أوتي الحكم صبيا. وروي في تفسير هذه الآية من طريق عبدالله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا ما كان من يحيى بن زكريا). وقال قتادة: إن يحيى عليه السلام لم يعص الله قط بصغيرة ولا كبيرة ولاهم بامرأة. وقال مجاهد: وكان طعام يحيى عليه السلام العشب، كان للدمع في خديه مجار ثابتة. وقد مضى الكلام في معنى قوله: "وسديدا وحصورا" [آل عمران: 39] في "آل عمران"
الآية: 13 {وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقي}
قوله تعالى: "وحنانا من لدنا" "حنانا" عطف على "الحكم". وروي عن ابن عباس أنه قال: والله ما أدري ما "الحنان". وقال جمهور المفسرين: الحنان الشفقة والرحمة والمحبة؛ وهو فعل من أفعال النفس. النحاس: وفي معنى الحنان عن ابن عباس قولان: أحدهما: قال: تعطف الله عز وجل عليه بالرحمة والقول الآخر ما أعطيه من رحمة الناس حتى يخلصهم من الكفر والشرك. وأصله من حنين الناقة على ولدها. ويقال: حنانك وحنانيك؛ قيل: هما لغتان بمعنى واحد. وقيل: حنانيك تثنية الحنان. وقال أبو عبيدة: والعرب تقول: حنانك يا رب وحنانيك يا رب بمعنى واحد؛ تريد رحمتك. وقال امرؤ القيس:
ويمنحها بنو شمجى بن جرم معيزهم حنانك ذا الحنان
وقال طرفة:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا حنانيك بعض الشر أهون من بعض
وقال الزمخشري: "حنانا" رحمة لأبويه وغيرهما وتعطفا وشفقة؛ وأنشد سيبويه:
فقالت حنان ما أتى بك ههنا أذو نسب أم أنت بالحي عارف
قال بن الأعرابي: الحنان من صفة الله تعالى مشددا الرحيم والحنان مخفف: العطف والرحمة. والحنان: الرزق والبكرة. ابن عطية: والحنان في كلام العرب أيضا ما عظم من الأمور في ذات الله تعالى؛ ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل في حديث بلال: والله لئن قتلتم هذا العبد لأتخذن قبره حنانا؛ وذكر هذا الخبر الهروي؛ فقال: وفي حديث بلال ومر عليه ورقة بن نوفل وهو يعذب فقال الله لئن قتلتموه لأتخذنه حنانا؛ أي لأتمسحن به. وقال الأزهري: معناه لأتعطفن عليه ولأترحمن عليه لأنه من أهل الجنة.
قلت: فالحنان العطف، وكذا قال مجاهد. و"حنانا" أي تعطفا منا عليه أو منه على الخلق؛ قال الحطيئة:
تحنن علي هداك المليك فإن لكل مقام مقالا
عكرمة: محبة. وحنة الرجل امرأته لتوادهما؛ قال الشاعر:
فقالت حنان ما أتى بك ههنا أذو نسب أم أنت بالحي عارف
قوله تعالى: "وزكاة" "الزكاة" التطهير والبركة والتنمية في وجوه الخير والبر؛ أي جعلناه مباركا للناس يهديهم. وقيل: المعنى زكيناه بحسن الثناء عليه كما تزكي الشهود إنسانا. وقيل: "زكاة" صدقة به على أبويه؛ قاله ابن قتيبة. "وكان تقيا" أي مطيعا لله تعالى، ولهذا لم يعمل خطيئة ولم يلم بها.
الآية: 14 {وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصي}
قوله تعالى: "وبرا بوالديه" البر بمعنى البار وهو الكثير البر. "جبارا" متكبرا. وهذا وصف ليحيى عليه السلام بلين الجانب وخفض الجناح.
الآية: 15 {وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حي}
قوله تعالى: "وسلام عليه يوم ولد" قال الطبري وغيره: معناه أمان. ابن عطية: والأظهر عندي أنها التحية المتعارفة فهي أشرف وأنبه من الأمان؛ لأن الأمان متحصل له بنفي العصيان عنه وهي أقل درجاته، وإنما الشرف في أن سلم الله عليه، وحياه في المواطن التي الإنسان فيها في غاية الضعف والحاجة وقلة الحيلة والفقر إلى الله تعالى عظيم الحول.
قلت: وهذا قول حسن، وقد ذكرناه معناه عن سفيان بن عيينة في سورة "سبحان" [الإسراء: 1] عند قتل يحي. وذكر الطبري عن الحسن أن عيسى ويحيي التقيا - وهما ابنا الخالة - فقال يحيى لعيسى: ادع الله لي فأنت خير مني؛ فقال له عيسى: بل أنت ادع الله لي فأنت خير مني؛ سلم الله عليك وأنا سلمت على نفسي؛ فانتزع بعض العلماء من هذه الآية في التسليم فضل عيسى؛ بأن قال: إدلاله التسليم على نفسه ومكانته من الله تعالى التي اقتضت ذلك حين قرر وحكى في محكم التنزيل أعظم في المنزلة من أن يسلم عليه. قال ابن عطية: ولكل وجه.
الآية: 16 {واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقي}
قوله تعالى: "واذكر في الكتاب مريم" القصة إلى آخرها هذا ابتداء قصة ليست من الأولى. والخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم؛ أي عرفهم قصتها ليعرفوا كمال قدرتنا. "إذ انتبذت" أي تنحت وتباعدت. والنبذ الطرح والرمي؛ قال الله تعالى: "فنبذوه وراء ظهورهم". [آل عمران: 187]. "من أهلها" أي ممن كان معها. و"إذ" بدل من "مريم" بدل اشتمال؛ لأن الأحيان مشتملة على ما فيها. والانتباذ الاعتزال والانفراد. واختلف الناس لم انتبذت؛ فقال السدي: انتبذت لتطهر من حيض أو نفاس. وقال غيره: لتعبد الله؛ وهذا حسن. وذلك أن مريم عليها السلام كانت وقفا على سدانة المعبد وخدمته والعبادة فيه، من الناس لذلك، ودخلت المسجد إلى جانب المحراب في شرقيه لتخلو للعبادة، فدخل عيها جبريل عليه السلام. فقوله: "مكانا شرقيا" أي مكانا من جانب الشرق. والشرق بسكون الراء المكان الذي تشرق فيه الشمس. والشرق بفتح الراء الشمس. وإنما خص المكان بالشرق لأنهم كانوا يعظمون جهة المشرق ومن حيث تطلع الأنوار، وكانت الجهات الشرقية من كل شيء أفضل من سواها؛ حكاه الطبري. وحكى عن ابن عباس أنه قال: إني لأعلم الناس لم اتخذ النصارى المشرق قبلة لقول الله عز وجل: "إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا" فاتخذوا ميلاد عيسى عليه السلام قبلة؛ وقالوا: لو كان شيء من الأرض خيرا من المشرق لوضعت مريم عيسى عليه السلام فيه. واختلف الناس في نبوة مريم؛ فقيل: كانت نبية بهذا الإرسال والمحاورة للملك. وقيل: لم تكن نبية وإنما كلمها مثال بشر، ورؤيتها للملك كما رئي جبريل في صفة دحية حين سؤاله عن الإيمان والإسلام. والأول أظهر. وقد مضى الكلام في هذا المعنى مستوفى في "آل عمران" والحمد لله.
الآيات: 17 - 21 {فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا، قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا، قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا، قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا، قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضي}
قوله تعالى: "فأرسلنا إليها روحنا" قيل: هو روح عيسى عليه السلام؛ لأن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد، فركب الروح في جسد عيسى عليه السلام الذي خلقه في بطنها. وقيل: هو جبريل وأضيف الروح إلى الله تعالى تخصيصا وكرامة. والظاهر أنه جبريل عليه السلام؛ لقوله: "فتمثل لها" أي تمثل الملك لها. "بشرا" تفسير أو حال. "سويا" أي مستوي الخلقة؛ لأنها لم تكن لتطيق أو تنظر جبريل في صورته. ولما رأت رجلا حسن الصورة في صورة البشر قد خرق عليها الحجاب ظنت أنه يريدها بسوء. فـ "قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا" أي ممن يتقي الله. البكالي: فنكص جبريل عليه السلام فزعا من ذكر الرحمن تبارك وتعالى. الثعلبي كان رجلا صالحا فتعوذت به تعجبا. وقيل: تقي فعيل بمعنى مفعول أي كنت ممن يتقى منه. في البخاري قال أبو وائل: علمت مريم أن التقي ذو نهية حين قالت: "إن كنت تقيا". وقيل: تقي اسم فاجر معروف في ذلك الوقت قاله وهب بن منبه؛ حكاه مكي وغيره ابن عطية وهو ضعيف ذاهب مع التخرص. فقال لها جبريل عليه السلام: "إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا" جعل الهبة من قبله لما كان الإعلام بها من قبله. وقرأ ورش عن نافع "ليهب لك" على معنى أرسلني الله ليهب لك. وقيل: معنى "لأهب" بالهمز محمول على المعنى؛ أي قال: أرسلته لأهب لك. ويحتمل "ليهب" بلا همز أن يكون بمعنى المهموز ثم خففت الهمزة. فلما سمعت مريم ذلك من قوله استفهمت عن طريقه فـ "قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر" أي بنكاح. "ولم أكن بغيا" أي زانية. وذكرت هذا تأكيدا؛ لأن قولها لم يمسسني بشر يشمل الحلال والحرام. وقيل: ما استبعدت من قدرة الله تعالى شيئا ولكن أرادت كيف يكون هذا الولد؟ من قبل الزوج في المستقبل أم يخلقه الله ابتداء؟ وروي أن جبريل عليه السلام حين قال لها هذه المقالة نفخ في جيب درعها وكمها؛ قال ابن جريج. ابن عباس: أخذ جبريل عليه السلام ردن قميصها بإصبعه فنفخ فيه فحملت من ساعتها بعيسى. قال الطبري: وزعمت النصارى أن مريم حملت بعيسى ولها ثلاث عشرة سنة، وأن عيسى عاش إلى أن رفع اثنتين وثلاثين سنة وأياما، وأن مريم بقيت بعد رفعه ست سنين، فكان جميع عمرها نيفا وخمسين سنة. وقوله: "ولنجعله" متعلق بمحذوف؛ أي ونخلقه لنجعله: "آية" دلالة على قدرتنا عجيبة "ورحمة منا" لمن أمن به. "وكان أمرا مقضيا" مقدرا في اللوح مسطورا.
الآيتان: 22 - 23 {فحملته فانتبذت به مكانا قصيا، فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسي}
قوله تعالى: "فانتبذت به مكانا قصيا" أي تنحت بالحمل إلى مكان بعيد؛ قال ابن عباس: إلى أقصى الوادي، وهو وادي بيت لحم بينه وبين إيلياء أربعة أميال؛ وإنما بعدت فرارا من تعيير قومها إياها بالولادة من غير زوج. قال ابن عباس: ما هو إلا أن حملت فوضعت في الحال وهذا هو الظاهر؛ لأن الله تعالى ذكر الانتباذ الحمل. وقيل: غير ذلك على ما يأتي:
قوله تعالى: "فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة" "أجاءها" اضطرها؛ وهو تعدية جاء بالهمز. يقال: جاء به وأجاءه إلى موضع كذا، كما يقال: ذهب به وأذهبه. وقرأ شبيل ورويت عن عاصم "فاجأها" من المفاجأة. وفي مصحف أبي "فلما أجاءها المخاض". وقال زهير:
وجار سار معتمدا إلينا أجاءته المخافة والرجاء
وقرأ الجمهور "المخاض" بفتح الميم. ابن كثير فيما روي عنه بكسرها وهو الطلق وشدة الولادة وأوجاعها. مخضت المرأة تمخض مخاضا ومخاضا. وناقة ماخض أي دنا ولادها. "إلى جذع النخلة" كأنها طلبت شيئا تستند إليه وتتعلق به، كما تتعلق الحامل لشدة وجع الطلق. والجذع ساق النخلة اليابسة في الصحراء الذي لا سعف عليه ولا غصن؛ ولهذا لم يقل إلى النخلة. "قالت يا ليتني مت قبل هذا" تمنت مريم عليها السلام الموت من جهة الدين لوجهين: أحدهما: أنها خافت أن يظن بها الشر في دينها وتعير فيفتنها ذلك. الثاني: لئلا يقع قوم بسببها في البهتان والنسبة إلى الزنى وذلك مهلك. وعلى هذا الحد يكون تمني الموت جائزا، وقد مضى هذا المعنى مبينا في سورة "يوسف" عليه السلام والحمد لله.
قلت: وقد سمعت أن مريم عليها السلام سمعت نداء من يقول: اخرج يا من يعبد من دون الله فحزنت لذلك، و"قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا" النسي في كلام العرب الشيء الحقير الذي شأنه أن ينسى ولا يتألم لفقده كالوتد والحبل للمسافر ونحوه. وحكي عن العرب أنهم إذا أرادوا الرحيل عن منزل قالوا: احفظوا أنساءكم؛ الأنساء جمع نسي وهو الشيء الحقير يغفل فينسى. ومنه قول الكميت رضي الله تعالى عنه:
أتجعلنا جسرا لكلب قضاعة ولست بنسي في مَعَد ولا دخل
وقال الفراء: النسي ما تلقيه المرأة من خرق اعتلالها؛ فقول مريم: "نسيا منسيا" أي حيضة ملقاة. وقرئ "نسيا" بفتح النون وهما لغتان مثل الحجر والحجر والوتر والوتر. وقرأ محمد بن كعب القرظي بالهمز "نسئا" بكسر النون. وقرأ نوف البكالي "نسئا" بفتح النون من نسأ الله تعالى في أجله أي أخره. وحكاها أبو الفتح والداني عن محمد بن كعب. وقرأ بكر بن حبيب "نسا" بتشديد السين وفتح النون دون همز. وقد حكى الطبري في قصصها أنها لما حملت بعيسى عليه السلام حملت أيضا أختها بيحيى، فجاءتها أختها زائرة فقالت: يا مريم أشعرت أنت أني حملت؟ فقالت لها: وإني أجد ما في بطني يسجد لما في بطنك؛ فذلك أنه روي أنها أحست بجنينها يحر برأسه إلى ناحية بطن مريم؛ قال السدي فذلك قوله: "مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين" [آل عمران: 39] وذكر أيضا من قصصها أنها خرجت فارة رجل من بني إسرائيل يقال له يوسف النجار، كان يخدم معها في المسجد وطول في ذلك. قال الكلبي: قيل ليوسف - وكانت سميت له أنها حملت من الزنى - فالآن يقتلها الملك، فهرب بها، فهم في الطريق بقتلها، فأتاه جبريل عليه السلام وقال له: إنه من روح القدس؛ قال ابن عطية: وهذا كله ضعيف. وهذه القصة تقتضي أنها حملت، واستمرت حاملا على عرف النساء، وتظاهرت الروايات بأنها ولدته لثمانية أشهر قال عكرمة؛ ولذلك قيل: لا يعيش ابن ثمانية أشهر لخاصة عيسى. وقيل: ولدته لتسعة. وقيل: لستة. وما ذكرناه عن ابن عباس أصح وأظهر. والله أعلم.
الآية: 24 {فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سري}
قوله تعالى: "فناداها من تحتها" قرئ بفتح الميم وكسرها. قال ابن عباس: المراد بـ "من" جبريل، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها؛ وقال علقمة والضحاك وقتادة؛ ففي هذا لها آية وأمارة أن هذا من الأمور الخارقة للعادة التي لله فيها مراد عظيم. وقوله: "ألا تحزني" تفسير النداء، "وأن" مفسرة بمعنى أي، المعنى: فلا تحزني بولادتك. "قد جعل ربك تحتك سريا" يعني عيسى. والسري من الرجال العظيم الخصال السيد. قال الحسن: كان والله سريا من الرجال. ويقال: سري فلان على فلان أي تكرم. وفلان سري من قوم سراه. وقال الجمهور: أشار لها إلى الجدول الذي كان قريب جذع النخلة. قال ابن عباس: كان ذلك نهرا قد انقطع ماؤه فأجراه الله تعالى لمريم. والنهر يسمى سريا لأن الماء يسري فيه؛ قال الشاعر:
سلم ترى الدالي منه أزورا إذا يعب في السري هرهرا
وقال لبيد:
فتوسطا عرض السري وصدعا مسجورة متجاورا قلامها
وقيل: ناداها عيسى، وكان ذلك معجزة وآية وتسكينا لقلبها؛ والأول أظهر. وقرأ ابن عباس (فناداها ملك من تحتها) قالوا: وكان جبريل عليه السلام في بقعة من الأرض أخفض من البقعة التي كانت هي عليها.
الآيتان: 25 - 26 {وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا، فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسي}
قوله تعالى: "وهزي" أمرها بهز الجذع اليابس لترى آية أخرى في إحياء موات الجذع. والباء في قوله: "بجذع" زائدة مؤكدة كما يقال: خذ بالزمام، وأعط بيدك قال الله تعالى: "فليمدد بسبب إلى السماء" أي فليمدد سببا. وقيل: المعنى وهزي إليك رطبا على جذع النخلة. "وتساقط" أي تتساقط فأدغم التاء في السين. وقرأ حمزة "تساقط" مخففا فحذف التي أدغمها غيره. وقرأ عاصم في رواية حفص "تساقط" بضم التاء مخففا وكسر القاف. وقرئ "تتساقط" بإظهار التاءين و"يساقط" بالياء وإدغام التاء "وتسقط" و"يسقط" و"تسقط" و"يسقط" بالتاء للنخلة وبالياء للجذع؛ فهذه تسع قراءات ذكرها الزمخشري رحمة الله تعالى عليه. "رطبا" نصب بالهز؛ أي إذا هزت الجذع هززت بهزه "رطبا جنيا" وعلى الجملة فـ "رطبا" يختلف نصبه بحسب معاني القراءات؛ فمرة يستند الفعل إلى الجذع، ومرة إلى الهز، ومرة إلى النخلة. "وجنيا" معناه قد طابت وصلحت للاجتناء، وهي من جنيت الثمرة. ويروى عن ابن مسعود - ولا يصح - أنه قرأ "تساقط عليك رطبا جنيا برنيا". وقال مجاهد: "رطبا جنيا" قال: كانت عجوة. وقال عباس بن الفضل: سألت أبا عمرو بن العلاء عن قوله: "رطبا جنيا" فقال: لم يذو. قال وتفسيره: لم يجف ولم ييبس ولم يبعد عن يدي مجتنيه؛ وهذا هو الصحيح. قال الفراء: الجني والمجني واحد يذهب إلى أنهما بمنزلة القتيل والمقتول والجريح والمجروح. وقال غير الفراء: الجني المقطوع من نخلة واحدة، والمأخوذ من مكان نشأته؛ وأنشدوا:
وطيب ثمار في رياض أريضة وأغصان أشجار جناها على قرب
يريد بالجنى ما يجنى منها أي يقطع ويؤخذ. قال ابن عباس: كان جذعا نخرا فلما هزت نظرت إلى أعلى الجذع فإذا السعف قد طلع، ثم نظرت إلى الطلع قد خرج من بين السعف، ثم أخضر فصار بلحا ثم احمر فصار زهوا، ثم رطبا؛ كل ذلك في طرفة عين، فجعل الرطب يقع بين يديها لا ينشدخ منه شيء.
استدل بعض الناس من هذه الآية على أن الرزق وإن كان محتوما؛ فإن الله تعالى قد وكل ابن آدم إلى سعي ما فيه؛ لأنه أمر مريم بهز النخلة لترى آية، وكانت الآية تكون بألا تهز.
الأمر بتكليف الكسب الرزق سنة الله تعالى في عباده، وأن ذلك لا يقدح في التوكل، خلافا لما تقوله جهال المتزهدة؛ وقد تقدم هذا المعنى والخلاف فيه. وقد كانت قبل ذلك يأيتها، رزقها من غير تكسب كما قال: "كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا" الآية [آل عمران: 37]. فلما ولدت أمرت بهز الجذع. قال علماؤنا: لما كان قلبها فارغا فرغ الله جارحتها عن النصب، فلما ولدت عيسى وتعلق قلبها بحبه، واشتغل سرها بحديثه وأمره، وكلها إلى كسبها، وردها إلى العادة بالتعلق بالأسباب في عباده. وحكى الطبري عن ابن زيد أن عيسى عليه السلام قال لها: لا تحزني؛ فقالت له وكيف حزن وأنت معي؟ ! لا ذات زوج ولا مملوكة! أي شيء عذري عند الناس؟ ! ! "يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا" فقال لها عيسى: أنا أكفيك الكلام.
قال الربيع بن خيثم: ما للنفساء عندي خير من الرطب لهذه الآية، ولو علم الله شيئا هو أفضل من الرطب للنفساء لأطعمه مريم ولذلك قالوا: التمر عادة للنفساء من ذلك الوقت وكذلك التحنيك. وقيل: إذا عسر ولادها لم يكن لها خير من الرطب ولا للمريض خير من العسل؛ ذكره الزمخشري. قال ابن وهب قال مالك قال الله تعالى: "رطبا جنيا" الجني من التمر ما طاب من غير نقش ولا إفساد. والنقش أن ينقش من أسفل البسرة حتى ترطب؛ فهذا مكروه؛ يعني مالك أن هذا تعجيل للشيء قبل وقته، فلا ينبغي لأحد أن يفعله، وإن فعله فاعل ما كان ذلك مجوزا لبيعه؛ ولا حكما بطيبه. وقد مضى هذا القول في الأنعام. والحمد لله. عن طلحة بن سليمان "جنيا" بكسر الجيم للإتباع؛ أي جعلنا لك في السري والرطب فائدتين: إحداهما الأكل والشرب، الثانية سلوة الصدر لكونهما معجزتين. وهو معنى قوله تعالى: "فكلي واشربي وقري عينا" أي فكلي من الجني، وأشربي من السري، وقري عينا برؤية الولد النبي. وقرئ بفتح القاف وهي قراءة الجمهور. وحكى الطبري قراءة "وقري" بكسر القاف وهي لغة نجد. يقال: قر عينا يقر ويقر بضم القاف وكسرها وأقر الله عينه فقرت. وهو مأخوذ من القر والقرة وهما البرد. ودمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة. وضعف فرقة هذا وقالت: الدمع كله حار، فمعنى أقر الله عينه أي سكن الله عينه بالنظر إلى من يحبه حتى تقر وتسكن؛ وفلان قرة عيني؛ أي نفسي تسكن بقربه. وقال الشيباني: "وقري عينا" معناه نامي حضها على الأكل والشرب والنوم. قال أبو عمرو: أقر الله عينه أي أنام عينه، وأذهب سهره. و"عينا" نصب على التمييز؛ كقولك: طب نفسا. والفعل في الحقيقة إنما هو للعين فنقل ذلك إلى ذي العين؛ وينصب الذي كان فاعلا في الحقيقة على التفسير. ومثله طبت نفسا، وتفقأت شحما، وتصببت عرقا، ومثله كثير.
قوله تعالى: "فإما ترين" الأصل في ترين ترأيين فحذفت الهمزة كما حذفت من ترى ونقلت فتحتها إلى الراء فصار "تريين" ثم قلبت الياء الأولى ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فاجتمع ساكنان الألف المنقلبة عن الياء وياء التأنيث، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين، فصار ترين، ثم حذفت النون علامة للجزم لأن إن حرف شرط وما صلة فبقي تري، ثم دخله نون التوكيد وهي مثقلة، فكسر ياء التأنيث لالتقاء الساكنين؛ لأن النون المثقلة بمنزلة نونين الأولى ساكنة فصار ترين وعلى هذا النحو قول ابن دريد:
إما تري رأسي حاكى لونه
وقول الأفوه:
إما تري رأسي أزرى به
وإنما دخلت النون هنا بتوطئة "ما" كما يوطئ لدخولها أيضا لام القسم. وقرأ طلحة وأبو جعفر وشيبة "ترين" بسكون الياء وفتح النون خفيفة؛ قال أبو الفتح: وهى شاذة.
قوله تعالى: "فقولي إني نذرت" هذا جواب الشرط وفيه إضمار؛ أي فسألك عن ولدك "فقولي إني نذرت للرحمن صوما" أي صمتا؛ قاله ابن عباس وأنس بن مالك. وفي قراءة أبي بن كعب "إني نذرت للرحمن صوما صمتا" وروي عن أنس. وعنه أيضا "وصمتا" بواو، واختلاف اللفظين يدل على أن الحرف ذكر تفسيرا لا قرآنا؛ فإذا أتت معه واو فممكن أن يكون غير الصوم. والذي تتابعت به الأخبار عن أهل الحديث ورواة اللغة أن الصوم هو الصمت؛ لأن الصوم إمساك والصمت إمساك عن الكلام. وقيل: هو الصوم والمعروف، وكان يلزمهم الصمت يوم الصوم إلا بالإشارة. وعلى هذا تخرج قراءة أنس "وصمتا" بواو، وأن الصمت كان عندهم في الصوم ملتزما بالنذر، كما أن من نذر منا المشي إلى البيت اقتضى ذلك الإحرام بالحج أو العمرة. ومعنى هذه الآية أن الله تعالى أمرها على لسان جبريل عليه السلام - أو ابنها على الخلاف المتقدم - بأن تمسك عن مخاطبة البشر، وتحيل على ابنها في ذلك ليرتفع عنها خجلها، وتتبين الآية فيقوم عذرها. وظاهر الآية أنها أبيح لها أن تقول هذه الألفاظ التي في الآية، وهو قول الجمهور. وقالت فرقة: معنى "قولي" بالإشارة لا بالكلام. الزمخشري: وفيه أن السكوت عن السفيه واجب، ومن أذل الناس سفيه لم يجد مسافها.
من التزم بالنذر ألا يكلم أحدا من الآدميين فيحتمل أن يقال إنه قربة فيلزم بالنذر، ويحتمل أن يقال: ذلك لا يجوز في شرعنا لما فيه من التضييق وتعذيب النفس؛ كنذر القيام في الشمس ونحوه. وعلى هذا كان نذر الصمت في تلك الشريعة لا في شريعتنا؛ وقد تقدم. وقد أمر ابن مسعود من فعل ذلك بالنطق بالكلام. وهذا هو الصحيح لحديث أبي إسرائيل، خرجه البخاري عن ابن عباس. وقال ابن زيد والسدي: كانت سنة الصيام عندهم الإمساك عن الأكل والكلام.
قلت: ومن سنتنا نحن في الصيام الإمساك عن الكلام القبيح؛ قال عليه الصلاة والسلام: (إذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم). وقال عليه الصلاة والسلام: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه).