تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 329 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 329

329 : تفسير الصفحة رقم 329 من القرآن الكريم

** وَأَيّوبَ إِذْ نَادَىَ رَبّهُ أَنّي مَسّنِيَ الضّرّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مّعَهُمْ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىَ لِلْعَابِدِينَ
يذكر تعالى عن أيوب عليه السلام, ما كان أصابه من البلاء في ماله وولده وجسده, وذلك أنه كان له من الدواب والأنعام والحرث شيء كثير وأولاد ومنازل مرضية, فابتلى في ذلك كله وذهب عن آخره, ثم ابتلي في جسده, يقال: بالجذام في سائر بدنه, ولم يبق منه سليم سوى قلبه ولسانه, يذكر بهما الله عز وجل, حتى عافه الجليس, وافرد في ناحية من البلد, ولم يبق أحد من الناس يحنو عليه سوى زوجته كانت تقوم بأمره, ويقال: إنها احتاجت, فصارت تخدم الناس من أجله, وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أشد الناس بلاء الأنبياء, ثم الصالحون, ثم الأمثل فالأمثل» وفي الحديث الاَخر «يبتلى الرجل على قدر دينه, فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه» وقد كان نبي الله أيوب عليه السلام غاية في الصبر. وبه يضرب المثل في ذلك. وقال يزيد بن ميسرة: لما ابتلى الله أيوب عليه السلام بذهاب الأهل والمال والولد, ولم يبق شيء له أحسن الذكر, ثم قال: أحمدك رب الأرباب, الذي أحسنت إليّ, أعطيتني المال والولد فلم يبق من قلبي شعبة إلا قد دخله ذلك, فأخذت ذلك كله مني, وفرغت قلبي, فليس يحول بيني وبينك شيء, ولو يعلم عدوي إبليس بالذي صنعت حسدني. قال: فلقي إبليس من ذلك منكراً. قال: وقال أيوب عليه السلام: يا رب إنك أعطيتني المال والولد, فلم يقم على بابي أحد يشكوني لظلم ظلمته, وأنت تعلم ذلك, وأنه كان يوطأ لي الفراش فأتركها, وأقول لنفسي يا نفس إنك لم تخلقي لوطء الفراش ما تركت ذلك إلا ابتغاء وجهك. رواه ابن أبي حاتم.
وقد روي عن وهب بن منبه في خبره قصة طويلة, ساقها ابن جرير وابن أبي حاتم بالسند عنه, وذكرها غير واحد من متأخري المفسرين, وفيها غرابة تركناها لحال الطول, وقد روي أنه مكث في البلاء مدة طويلة ثم اختلفوا في السبب المهيج له على هذا الدعاء, فقال الحسن وقتادة: ابتلي أيوب عليه السلام سبع سنين وأشهراً, ملقى على كناسة بني إسرائيل, تختلف الدواب في جسده, ففرج الله عنه وأعظم له الأجر وأحسن عليه الثناء. وقال وهب بن منبه: مكث في البلاء ثلاث سنين, لا يزيد ولا ينقص وقال السدي: تساقط لحم أيوب حتى لم يبق إلا العصب والعظام, فكانت امرأته تقوم عليه وتأتيه بالرماد يكون فيه, فقالت له امرأته لما طال وجعه: يا أيوب لو دعوت ربك يفرج عنك, فقال: قد عشت سبعين سنة صحيحاً, فهو قليل لله أن أصبر له سبعين سنة, فجزعت من ذلك, فخرجت فكانت تعمل للناس بالأجر وتأتيه بما تصيب فتطعمه, وإن إبليس انطلق إلى رجلين من أهل فلسطين, كانا صديقين له وأخوين, فأتاهما فقال: أخوكما أيوب أصابه من البلاء كذا وكذا, فأتياه وزوراه, واحملا معكما من خمر أرضكما, فإنه إن شرب منه برىء, فأتياه فلما نظرا إليه بكيا, فقال: من أنتما ؟)فقالا: نحن فلان وفلان, فرحب بهما وقال: مرحباً بمن لا يجفوني عند البلاء, فقالا: يا أيوب لعلك كنت تسر شيئاً وتظهر غيره, فلذلك ابتلاك الله ؟ فرفع رأسه إلى السماء فقال: هو يعلم, ما أسررت شيئاً أظهرت غيره, ولكن ربي ابتلاني لينظر أصبر أم أجزع. فقالا له: يا أيوب اشرب من خمرنا, فإنك إن شربت منه برأت. قال: فغضب, وقال: جاءكما الخبيث فأمركما بهذا ؟ كلامكما وطعامكما وشرابكما علي حرام, فقاما من عنده, وخرجت امرأته تعمل للناس, فخبزت لأهل بيت لهم صبي, فجعلت لهم قرصاً, وكان ابنهم نائماً, فكرهوا أن يوقظوه فوهبوه لها, فأتت به إلى أيوب فأنكره وقال: ما كنت تأتيني بهذا, فما بالك اليوم ؟ فأخبرته الخبر, قال: فلعل الصبي قد استيقظ فطلب القرص فلم يجده فهو يبكي على أهله, فانطلقي به إليه, فأقبلت حتى بلغت درجة القوم, فنطحتها شاة لهم, فقالت: تعس أيوب الخطاء, فلما صعدت وجدت الصبي قد استيقظ وهو يطلب القرص ويبكي على أهله لا يقبل منهم شيئاً غيره, فقالت: رحمه الله, يعني أيوب, فدفعت إليه القرص ورجعت, ثم إن إبليس أتاها في صورة طبيب, فقال لها: إن زوجك قد طال سقمه, فإن أرادأن يبرأ فليأخذ ذبابا فليذبحه باسم صنم بني فلان, فإنه يبرأ ويتوب بعد ذلك, فقالت ذلك لأيوب, فقال: قد أتاك الخبيث, لله عليّ إن برأت أن أجلدك مائة جلدة, فخرجت تسعى عليه, فحظر عنها الرزق, فجعلت لا تأتي أهل بيت فيريدونها, فلما اشتد عليها ذلك وخافت على أيوب الجوع حلقت من شعرها قرناً فباعته من صبية من بنات الأشراف, فأعطوها طعاماً طيباً كثيراً, فأتت به إلى أيوب, فلما رآه أنكره وقال: من أين لك هذا ؟ قالت: عملت لأناس فأطعموني, فأكل منه, فلما كان الغد خرجت فطلبت أن تعمل فلم تجد, فحلقت أيضاً قرنا فباعته من تلك الجارية, فأعطوها أيضاً من ذلك الطعام, فأتت به أيوب فقال: والله لا أطعمه حتى أعلم من أين هو, فوضعت خمارها, فلما رأى رأسها محلوقاً جزع جزعاً شديداً, فعند ذلك دعا الله عز وجل, فقال: {نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين}.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا موسى بن إسماعيل, حدثنا حماد, حدثنا أبو عمران الجوني عن نوف البكالي أن الشيطان الذي عرج في أيوب كان يقال له مبسوط, قال: وكانت امرأة أيوب تقول: ادع الله فيشفيك, فجعل لا يدعو حتى مر به نفر من بني إسرائيل, فقال بعضهم لبعض: ما أصابه ما أصابه إلا بذنب عظيم أصابه, فعند ذلك قال: {نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين}. وحدثنا أبي, حدثنا أبو سلمة, حدثنا جرير بن حازم عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: كان لأيوب عليه السلام أخوان, فجاءا يوماً فلم يستطيعا أن يدنوا منه من ريحه, فقاما من بعيد, فقال أحدهما للاَخر: لو كان الله علم من أيوب خيراً ما ابتلاه بهذا, فجزع أيوب من قولهما جزعاً لم يجزع من شيء قط, فقال: اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة قط شبعان وأنا أعلم مكان جائع, فصدقني, فصدق من السماء وهما يسمعان, ثم قال: اللهم إن كنت تعلم أني لم يكن لي قميصان قط, وأنا أعلم مكان عار, فصدقني, فصدق من السماء وهما يسمعان, ثم قال: اللهم بعزتك, ثم خر ساجداً, فقال: اللهم بعزتك لا أرفع رأسي أبداً حتى تكشف عني, فما رفع رأسه حتى كشف عنه.
وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر مرفوعاً بنحو هذا, فقال: أخبرنا يونس بن عبد الأعلى, أخبرنا ابن وهب, أخبرني نافع بن يزيد عن عقيل عن الزهري عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن نبي الله أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة, فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا من أخص إخوانه له, كانا يغدوان إليه ويروحان, فقال أحدهما لصاحبه: تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحد من العالمين, فقال له صاحبه: وما ذاك ؟ قال: منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف ما به, فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر له, فقال أيوب عليه السلام: ما أدري ما تقول, غير أن الله عز وجل يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله, فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكرا الله إلا في حق, قال: وكان يخرج في حاجته فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ, فلما كان ذات يوم أبطأت عليه, فأوحى الله إلى أيوب في مكانه أن «اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب» رفع هذا الحديث غريب جداً. وروى ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا موسى بن إسماعيل, حدثنا حماد, أخبرنا علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال: وألبسه الله حلة من الجنة, فتنحى أيوب فجلس في ناحية, وجاءت امرأته فلم تعرفه, فقالت: يا عبد الله أين ذهب هذا المبتلى الذي كان ههنا لعل الكلاب ذهبت به أو الذئاب, فجعلت تكلمه ساعة. فقال: ويحك أنا أيوب. قالت: أتسخر مني يا عبد الله ؟ فقال: ويحك أنا أيوب قد رد الله علي جسدي, وبه قال ابن عبّاس, ورد عليه ماله وولده عياناً ومثلهم معهم. وقال وهب بن منبه: أوحى الله إلى أيوب قد رددت عليك أهلك ومالك, ومثلهم معهم. فاغتسل بهذا الماء فإن فيه شفاءك وقرب عن صحابتك قرباناً, واستغفر لهم فإنهم قد عصوني فيك. رواه ابن أبي حاتم.
وقال أيضاً: حدثنا أبو زرعة, حدثنا عمرو بن مرزوق, حدثنا همام عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لما عافى الله أيوب أمطر عليه جراداً من ذهب, فجعل يأخذ منه بيده ويجعله في ثوبه, قال: فقيل له: يا أيوب أما تشبع ؟ قال: يا رب ومن يشبع من رحمتك» أصله في الصحيحين وسيأتي في موضع آخر.
وقوله: {وآتيناه أهله ومثلهم معهم} قد تقدم عن ابن عباس أنه قال: ردوا عليه بأعيانهم, وكذا رواه العوفي عن ابن عباس أيضاً, وروي مثله عن ابن مسعود ومجاهد, وبه قال الحسن وقتادة, وقد زعم بعضهم أن اسم زوجته رحمة, فإن كان أخذ ذلك من سياق الاَية فقد أبعد النجعة, وإن كان أخذه من نقل أهل الكتاب وصح ذلك عنهم, فهو مما لا يصدق ولا يكذب, وقد سماها ابن عساكر في تاريخه رحمه الله تعالى: قال: ويقال اسمها ليا بنت مِنَشّا بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم, قال: ويقال ليا بنت يعقوب عليه السلام زوجة أيوب كانت معه بأرض الثنية, وقال مجاهد: قيل له: يا أيوب إن أهلك لك في الجنة, فإن شئت أتيناك بهم, وإن شئت تركناهم لك في الجنة وعوضناك مثلهم ؟ قال: لا بل اتركهم لي في الجنة, فتركوا له في الجنة وعوض مثلهم في الدنيا. وقال حماد بن زيد عن أبي عمران الجوني عن نوف البكالي قال: أوتى أجرهم في الاَخرة وأعطي مثلهم في الدنيا. قال: فحدثت به مطرفاً, فقال: ما عرفت وجهها قبل اليوم, وكذا روي عن قتادة والسدي وغير واحد من السلف, والله أعلم. قوله: {رحمة من عندن} أي فعلنا به ذلك رحمة من الله به {وذكرى للعابدين} أي وجعلناه في ذلك قدوة لئلا يظن أهل البلاء أنما فعلنا بهم ذلك لهوانهم علينا, وليتأسوا به في الصبر على مقدورات الله وابتلائه لعباده بما يشاء, وله الحكمة البالغة في ذلك.

** وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلّ مّنَ الصّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنّهُمْ مّنَ الصّالِحِينَ
وأما إسماعيل فالمراد به ابن إبراهيم الخليل عليهما السلام, وقد تقدم ذكره في سورة مريم, وكذا إدريس عليه السلام, وأما ذو الكفل, فالظاهر من السياق أنه ما قرن مع الأنبياء إلا وهو نبي. وقال آخرون: إنما كان رجلاً صالحاً, وكان ملكاً عادلاً, وحكماً مقسطاً, وتوقف ابن جرير في ذلك, فالله أعلم. قال ابن جريج عن مجاهد في قوله: {وذا الكفل} قال: رجل صالح غير نبي, تكفل لنبي قومه أن يكفيه أمر قومه ويقيمهم له ويقضي بينهم بالعدل, ففعل ذلك, فسمي ذا الكفل, وكذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد أيضاً.
وروى ابن جرير: حدثنا محمد بن المثنى, حدثنا عفان, حدثنا وهيب, حدثنا داود عن مجاهد قال: لما كبر اليسع قال: لو أني استخلفت رجلاً على الناس يعمل عليهم في حياتي حتى أنظر كيف يفعل, فجمع الناس فقال: من يتقبل مني بثلاث أستخلفه: يصوم النهار, ويقوم الليل, ولا يغضب ؟ قال: فقام رجل تزدريه الأعين فقال: أنا, فقال: أنت تصوم النهار وتقوم الليل ولا تغضب ؟ قال: نعم, قال: فرده ذلك اليوم وقال مثلها في اليوم الاَخر, فسكت الناس, وقام ذلك الرجل فقال: أنا, فاستخلفه. قال: فجعل إبليس يقول للشياطين: عليكم بفلان فأعياهم ذلك, فقال: دعوني وإياه, فأتاه في صورة شيخ كبير فقير, فأتاه حين أخذ مضجعه للقائلة ـ وكان لا ينام الليل والنهار إلا تلك النومة, فدق الباب, فقال: من هذا ؟ قال: شيخ كبير مظلوم, قال: فقام ففتح الباب, فجعل يقص عليه, فقال: إن بيني وبين قومي خصومة, وإنهم ظلموني, وفعلوا بي وفعلوا بي, وجعل يطول عليه حتى حضر الرواح وذهبت القائلة, فقال: إذا رحت فأتني آخذ لك بحقك, فانطلق وراح, فكان في مجلسه, فجعل ينظر هل يرى الشيخ فلم يره, فقام يتبعه, فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس وينتظره فلا يراه, فلما رجع إلى القائلة فأخذ مضجعه, أتاه فدق الباب فقال: من هذا ؟ قال: الشيخ الكبير المظلوم, ففتح له فقال: ألم أقل لك إذا قعدت فأتني, قال: إنهم أخبث قوم إذا عرفوا أنك قاعد قالوا: نحن نعطيك حقك, وإذا قمت جحدوني, قال: فانطلق, فإذا رحت فأتني, قال: ففاتته القائلة, فراح فجعل ينتظره ولا يراه, وشق عليه النعاس, فقال لبعض أهله: لا تدع أحداً يقرب هذا الباب حتى أنام, فإني قد شق عليّ النوم, فلما كان تلك الساعة جاء فقال له الرجل: وراءك, وراءك, قال: إني قد أتيته أمس وذكرت له أمري, فقال: لا والله لقد أمرنا أن لا ندع أحداً يقربه, فلما أعياه نظر فرأى كوة في البيت فتسور منها, فإذا هو في البيت, وإذا هو يدق الباب من داخل, قال: واستيقظ الرجل, فقال: يا فلان ألم آمرك ؟ قال: أما من قبلي والله فلم تؤت فانظر من أين أتيت, قال: فقام إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه. وإذا الرجل معه في البيت فعرفه, فقال: أعدوَ الله ؟ قال: نعم, أعييتني في كل شيء ففعلت ما ترى لأغضبك, فسماه الله ذا الكفل لأنه تكفل بأمر فوفى به. وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث زهير بن إسحاق عن داود عن مجاهد بمثله.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أحمد بن يونس, حدثنا أبو بكر بن عياش عن الأعمش عن مسلم قال: قال ابن عباس: كان قاض في بني إسرائيل فحضره الموت فقال: من يقوم مقامي على أن لا يغضب ؟ قال: فقال رجل: أنا, فسمي ذا الكفل, قال: فكان ليله جميعاً يصلي, ثم يصبح صائماً فيقضي بين الناس, قال: وله ساعة يقيلها, قال: فكان كذلك, فأتاه الشيطان عند نومته, فقال له أصحابه: ما لك ؟ قال: إنسان مسكين له على رجل حق, وقد غلبني عليه, قالوا: كما أنت حتى يستيقظ, قال: وهو فوق نائم, قال: فجعل يصيح عمداً حتى يوقظه, قال: فسمع, فقال: مالك ؟ قال إنسان مسكين له على رجل حق, قال: فاذهب فقل له يعطيك, قال: قد أبى, قال: اذهب أنت إليه, قال: فذهب ثم جاء من الغد فقال: مالك ؟ قال: ذهبت إليه فلم يرفع بكلامك رأساً. قال: اذهب إليه فقل له يعطيك حقك, فذهب ثم جاء من الغد حين قال, قال: فقال له أصحابه: اخرج فعل الله بك تجيء كل يوم حين ينام لا تدعه ينام, قال: فجعل يصيح من أجل أني إنسان مسكين لو كنت غنياً, قال: فسمع أيضاً فقال: مالك ؟ قال: ذهبت إليه فضربني, قال: امش حتى أجيء معك, قال: فهو ممسك بيده فلما رآه ذهب معه نثر يده منه ففر. وهكذا روي عن عبد الله بن الحارث ومحمد بن قيس وابي حجيرة الأكبر وغيرهم من السلف نحو هذه القصة, والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو الجماهر, أخبرنا سعيد بن بشير, حدثنا قتادة عن كنانة بن الأخنس قال: سمعت الأشعري وهو يقول على هذا المنبر: ما كان ذو الكفل بنبي ولكن كان ـ يعني في بني إسرائيل ـ رجل صالح يصلي كل يوم مائة صلاة, فتكفل له ذو الكفل من بعده, فكان يصلي كل يوم مائة صلاة, فسمي ذا الكفل, وقد رواه ابن جرير من حديث عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: قال أبو موسى الأشعري فذكره منقطعاً, والله أعلم.
وقد روى الإمام أحمد حديثاً غريباً فقال: حدثنا أسباط بن محمد, حدثنا الأعمش عن عبد الله بن عبد الله عن سعد مولى طلحة عن ابن عمر قال: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين حتى عدّ سبع مرات, ولكن قد سمعته أكثر من ذلك قال: «كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله, فأتته امرأة فأعطاها ستين ديناراً على أن يطأها, فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته أرعدت وبكت, فقال: ما يبكيك أكرهتك ؟ قالت: لا ولكن هذا عمل لم أعمله قط, وإنما حملني عليه الحاجة, قال: فتفعلين هذا ولم تفعليه قط ؟ ثم نزل فقال: اذهبي بالدنانير لك, ثم قال: والله لا يعصي الله الكفل أبداً, فمات من ليلته, فأصبح مكتوباً على بابه: غفر الله للكفل» هكذا وقع في هذه الرواية الكفل من غير إضافة, والله أعلم, وهذا الحديث لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة, وإسناده غريب, وعلى كل تقدير فلفظ الحديث إن كل الكفل, ولم يقل ذو الكفل فلعله رجل آخر والله أعلم.

** وَذَا النّونِ إِذ ذّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنّ أَن لّن نّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىَ فِي الظّلُمَاتِ أَن لاّ إِلَـَهَ إِلاّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّي كُنتُ مِنَ الظّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجّيْنَاهُ مِنَ الْغَمّ وَكَذَلِكَ نُنجِـي الْمُؤْمِنِينَ
هذه القصة مذكورة هنا وفي سورة الصافات وفي سورة {ن},و ذلك أن يونس بن متى عليه السلام, بعثه الله إلى أهل قرية نينوى, وهي قرية من أرض الموصل, فدعاهم إلى الله تعالى, فأبوا عليه وتمادوا على كفرهم, فخرج من بين أظهرهم مغاضباً لهم, ووعدهم بالعذاب بعد ثلاث, فلما تحققوا منه ذلك وعلموا أن النبي لا يكذب, خرجوا إلى الصحراء بأطفالهم وأنعامهم ومواشيهم, وفرقوا بين الأمهات وأولادها, ثم تضرعوا إلى الله عز وجل وجأروا إليه, ورغت الإبل وفصلانها, وخارت البقر وأولادها, وثغت الغنم وسخالها, فرفع الله عنهم العذاب, قال الله تعالى: {فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها, إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين}.
وأما يونس عليه السلام فإنه ذهب فركب مع قوم في سفينة فلججت بهم, وخافوا أن يغرقوا فاقترعوا على رجل يلقونه من بينهم يتخففون منه, فوقعت القرعة على يونس فأبوا أن يلقوه, ثم أعادوها فوقعت عليه أيضاً فأبوا, ثم أعادوها فوقعت عليه أيضاً, قال الله تعالى: {فساهم فكان من المدحضين} أي وقعت عليه القرعة فقام يونس عليه السلام وتجرد من ثيابه, ثم ألقى نفسه في البحر, وقد أرسل الله سبحانه من البحر الأخضر ـ فيما قاله ابن مسعود ـ حوتاً يشق البحار حتى جاء فالتقم يونس حين ألقى نفسه من السفينة, فأوحى الله إلى ذلك الحوت أن لا تأكل له لحماً ولا تهشم له عظماً, فإن يونس ليس لك رزقاً وإنما بطنك تكون له سجناً.
وقوله: {وذا النون} يعني الحوت صحت الإضافة إليه بهذه النسبة. وقوله: {إذ ذهب مغاضب} قال الضحاك لقومه: {فظن أن لن نقدر عليه} أي نضيق عليه في بطن الحوت, يروى نحو هذا عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وغيرهم, واختاره ابن جرير واستشهد عليه بقوله تعالى: {ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها * سيجعل الله بعد عسر يسر} وقال عطية العوفي: {فظن أن لن نقدر عليه}, أي نقضي عليه, كأنه جعل ذلك بمعنى التقدير, فإن العرب تقول: قدر وقدّر بمعنى واحد, وقال الشاعر:
فلا عائد ذاك الزمان الذي مضىتباركت ما تقدر يكن فلك الأمر
ومنه قوله تعالى: {فالتقى الماء على أمر قد قدر} أي قدر. {فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} قال ابن مسعود: ظلمة بطن الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل, وكذا روي عن ابن عباس وعمرو بن ميمون وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب والضحاك والحسن وقتادة. وقال سالم بن أبي الجعد: ظلمة حوت في بطن حوت آخر في ظلمة البحر, قال ابن مسعود وابن عباس وغيرهما: وذلك أنه ذهب به الحوت في البحار يشقها حتى انتهى به إلى قرار البحر, فسمع يونس تسبيح الحصى في قراره, فعند ذلك وهنالك قال: {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} وقال عوف الأعرابي: لما صار يونس في بطن الحوت ظن أنه قد مات, ثم حرك رجليه فلما تحركت سجد مكانه, ثم نادى يا رب اتخذت لك مسجداً في موضع لم يبلغه أحد من الناس. وقال سعيد بن أبي الحسن البصري: مكث في بطن الحوت أربعين يوماً. رواهما ابن جرير.
وقال محمد بن إسحاق بن يسار عمن حدثه عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما أراد الله حبس يونس في بطن الحوت, أوحى الله إلى الحوت أن خذه ولا تخدش له لحماً ولا تكسر له عظماً, فلما انتهى به إلى أسفل البحر سمع يونس حساً فقال في نفسه: ما هذا ؟ فأوحى الله إليه وهو في بطن الحوت إن هذا تسبيح دواب البحر, قال: وسبح وهو في بطن الحوت, فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا: يا ربنا إنا نسمع صوتاً ضعيفاً بأرض غريبة, قال: ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر, قالوا: العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح ؟ قال: نعم, قال: فشفعوا له عند ذلك, فأمر الحوت فقذفه في الساحل, كما قال الله تعالى: {وهو سقيم} رواه ابن جرير, ورواه البزار في مسنده من طريق محمد بن إسحاق عن عبد الله بن رافع عن أبي هريرة فذكره بنحوه, ثم قال: لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد.
وروى ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبيد الله أحمد بن عبد الرحمن بن أخي ابن وهب, حدثنا عمي, حدثني أبو صخر أن يزيد الرقاشي قال: سمعت أنس بن مالك, ولا أعلم إلا أن أنساً يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يونس النبي عليه السلام حين بدا له أن يدعو بهذه الكلمات وهو في بطن الحوت قال: اللهم لا إله إلا أنت, سبحانك إني كنت من الظالمين, فأقبلت هذه الدعوة تحت العرش, فقالت الملائكة: يا رب صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة, فقال: أما تعرفون ذاك ؟ قالوا: لا يا رب ومن هو ؟ قال: عبدي يونس, قالوا: عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبل ودعوة مجابة, قالوا: يا رب أولا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجيه من البلاء ؟ قال: بلى, فأمر الحوت فطرحه في العراء.
وقوله: {فاستجبنا له ونجيناه من الغم} أي أخرجناه من بطن الحوت وتلك الظلمات {وكذلك ننجي المؤمنين} أي إذا كانوا في الشدائد ودعونا منيبين إلينا ولا سيما إذا دعوا بهذا الدعاء في حال البلاء, فقد جاء الترغيب في الدعاء به عن سيد الأنبياء. قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن عمر, حدثنا يونس بن أبي إسحاق الهمداني, حدثنا إبراهيم بن محمد بن سعد, حدثني والدي محمد عن أبيه سعد هو ابن أبي وقاص رضي الله عنه قال: مررت بعثمان بن عفان رضي الله عنه في المسجد, فسلمت عليه, فملأ عينيه مني ثم لم يرد علي السلام, فأتيت عمر بن الخطاب فقلت: يا أمير المؤمنين هل حدث في الإسلام شيء, مرتين قال: لا وما ذاك ؟ قلت لا, إلا أني مررت بعثمان آنفاً في المسجد فسلمت عليه فملأ عينيه مني ثم لم يرد علي السلام, قال: فأرسل عمر إلى عثمان فدعاه, فقال: ما منعك أن لا تكون رددت على أخيك السلام ؟ قال: ما فعلت, قال سعد: قلت بلى حتى حلف وحلفت, قال: ثم إن عثمان ذكر فقال بلى وأستغفر الله وأتوب إليه, إنك مررت بي آنفاً وأنا أحدث نفسي بكلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم, لا والله ما ذكرتها قط إلا تغشى بصري وقلبي غشاوة, قال سعد: فأنا أنبئك بها, إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر لنا أول دعوة, ثم جاء أعرابي فشغله حتى قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعته, فلما أشفقت أن يسبقني إلى منزله ضربت بقدمي الأرض, فالتفت إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «من هذا, أبو إسحاق ؟» قال: قلت نعم يا رسول الله, قال: «فمه» قلت: لا والله إلا أنك ذكرت لنا أول دعوة, ثم جاء هذا الأعرابي فشغلك, قال: «نعم دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} فإنه لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له» ورواه الترمذي والنسائي في اليوم والليلة من حديث إبراهيم بن محمد بن سعد عن أبيه سعد به.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سيعد الأشج, حدثنا أبو خالد الأحمر عن كثير بن زيد عن المطلب بن حنطب, قال أبو خالد: أحسبه عن مصعب يعني ابن سعد عن سعد, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دعا بدعاء يونس استجيب له» قال أبو سعيد: يريد به {وكذلك ننجي المؤمنين}. وقال ابن جرير: حدثني عمران بن بكار الكلاعي, حدثنا يحيى بن صالح, حدثنا أبو يحيى بن عبد الرحمن, حدثني بشر بن منصور عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال: سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اسم الله الذي إذا دعي به أجاب, وإذا سئل به أعطى دعوة يونس بن متى» قال قلت يا رسول الله. هي ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين ؟ قال: «هي ليونس بن متى خاصة, ولجماعة المؤمنين عامة, إذا دعوا بها, ألم تسمع قول الله عز وجل {فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين} فهو شرط من الله لمن دعاه به».
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أحمد بن أبي سريج, حدثنا داود بن المحبر بن قحذم المقدسي عن كثير بن معبد قال: سألت الحسن فقلت: يا أبا سعيد اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى ؟ قال: ابن أخي أما تقرأ القرآن قول الله تعالى: {وذا النون إذ ذهب مغاضباً ـ إلى قوله ـ وكذلك ننجي المؤمنين} ابن أخي, هذا اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب, وإذا سئل به أعطى.

** وَزَكَرِيّآ إِذْ نَادَىَ رَبّهُ رَبّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىَ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ
يخبر تعالى عن عبده زكريا حين طلب أن يهبه الله ولداً يكون من بعده نبياً, وقد تقدمت القصة مبسوطة في أول سورة مريم وفي سورة آل عمران أيضاً, وههنا أخصر منها {إذ نادى ربه} أي خفية عن قومه {رب لا تذرني فرد} أي لا ولد لي ولا وارث يقوم بعدي في الناس {وأنت خير الوارثين} دعاء وثناء مناسب للمسألة, قال الله تعالى: {فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه} أي امرأته, قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير: كانت عاقراً لا تلد فولدت. وقال عبد الرحمن بن مهدي عن طلحة بن عمرو عن عطاء: كان في لسانها طول, فأصلحها الله وفي رواية: كان في خلقها شيء فأصلحها الله, وهكذا قال محمد بن كعب والسدي, والأظهر من السياق الأول.
وقوله: {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات} أي في عمل القربات وفعل الطاعات {ويدعوننا رغباً ورهب} قال الثوري: رغباً فيما عندنا ورهبا مما عندنا {وكانوا لنا خاشعين} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أي مصدقين بما أنزل الله, وقال مجاهد: مؤمنين حقاً. وقال أبو العالية: خائفين. وقال أبو سنان: الخشوع هو الخوف اللازم للقلب لا يفارقه أبداً. وعن مجاهد أيضاً: خاشعين أي متواضعين. وقال الحسن وقتادة والضحاك: خاشعين أي متذللين لله عز وجل, وكل هذه الأقوال متقاربة. وقال ابن أبي حاتم, حدثنا أبي, حدثنا علي بن محمد الطنافسي, حدثنا محمد بن فضيل, حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق عن عبد الله القرشي عن عبد الله بن حكيم قال: خطبنا أبو بكر رضي الله عنه. ثم قال: أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله, وتثنوا عليه بما هو له أهل, وتخلطوا الرغبة بالرهبة, وتجمعوا الإلحاف بالمسألة, فإن الله عز وجل أثنى على زكريا وأهل بيته فقال: {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين}.