تفسير الطبري تفسير الصفحة 329 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 329
330
328
 الآية : 82
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَمِنَ الشّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنّا لَهُمْ حَافِظِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: وسخرنا أيضا لسلـيـمان من الشياطين من يغوصون له فـي البحر, ويعملون عملاً دون ذلك من البنـيان والتـماثـيـل والـمـحاريب. وكُنّا لَهُمْ حافِظِينَ يقول: وكنا لأعمالهم ولأعدادهم حافظين, لا يئودنا حفظ ذلك كله.
الآية : 83 و 84
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَأَيّوبَ إِذْ نَادَىَ رَبّهُ أَنّي مَسّنِيَ الضّرّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مّعَهُمْ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىَ لِلْعَابِدِينَ }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: واذكر أيوب يا مـحمد, إذ نادى ربه وقد مسه الضرّ والبلاء. رَبّ إنّـي مَسّنِـيَ الضّرّ وأنْتَ أرْحَمُ الرّاحِمِين فَـاسْتَـجَبْنا لَهُ يقول تعالـى ذكره: فـاستـجبنا لأيوب دعاءه إذ نادانا, فكشفنا ما كان به من ضرّ وبلاء وجهد. وكان الضرّ الذي أصابه والبلاء الذي نزل به, امتـحانا من الله له واختبـارا. وكان سبب ذلك كما:
18678ـ حدثنـي مـحمد بن سهل بن عسكر البخاريّ, قال: حدثنا إسماعيـل بن عبد الكريـم بن هشام, قال: ثنـي عبد الصمد بن معقل, قال: سمعت وهب بن منبه يقول: كان بدء أمر أيوب الصديق صلوات الله علـيه, أنه كان صابرا نعم العبد. قال وهب: إن لـجبريـل بـين يدي الله مقاما لـيس لأحد من الـملائكة فـي القُربة من الله والفضيـلة عنده, وإن جبريـل هو الذي يتلقـى الكلام, فإذا ذكر الله عبدا بخير تلقاه جبرائيـل منه ثم تلقاه ميكائيـل, وحَوْله الـملائكة الـمقرّبون حافـين من حول العرش. وشاع ذلك فـي الـملائكة الـمقرّبـين, صارت الصلاة علـى ذلك العبد من أهل السموات, فإذا صلت علـيه ملائكة السموات, هبطت علـيه بـالصلاة إلـى ملائكة الأرض. وكان إبلـيس لا يُحْجَب بشيء من السموات, وكان يقـف فـيهنّ حيث شاء ما أرادوا, ومن هنالك وصل إلـى آدم حين أخرجه من الـجنة. فلـم يزل علـى ذلك يصعد فـي السموات, حتـى رفع الله عيسى ابن مريـم, فحُجِب من أربع, وكان يصعد فـي ثلاث. فلـما بعث الله مـحمدا صلى الله عليه وسلم, حُجِب من الثلاث البـاقـية, فهو مـحجوب هو وجميع جنوده من جميع السموات إلـى يوم القـيامة إلاّ مَنِ اسْتَرَقَ السّمْعَ فأتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ, ولذلك أنكرت الـجنّ ما كانت تعرف حين قالت: وَأنّا لَـمَسْنا السّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَسا شَدِيدا... إلـى قوله: شِهابـا رَصَدا. قال وهب: فلـم يَرُعْ إبلـيس إلا تـجاوبُ ملائكتها بـالصلاة علـى أيوب, وذلك حين ذكره الله وأثنى علـيه. فلـما سمع إبلـيس صلاة الـملائكة, أدركه البغي والـحسد, وصعد سريعا حتـى وقـف من الله مكانا كان يقـفه, فقال: يا إلهي, نظرت فـي أمر عبدك أيوب, فوجدته عبدا أنعمت علـيه فشكرك, وعافَـيْتَهُ فحمدك, ثم لـم تـجرّبه بشدة ولـم تـجرّبه ببلاء, وأنا لك زعيـم لئن ضربته بـالبلاء لـيكفرنّ بك ولـينسينك ولـيعبدنّ غيرك قال الله تبـارك وتعالـى له: انطلق, فقد سلّطتك علـى ماله, فإنه الأمر الذي تزعم أنه من أجله يشكرنـي, لـيس لك سلطان علـى جسده ولا علـى عقله فـانقضّ عدوّ الله, حتـى وقع علـى الأرض, ثم جمع عفـاريت الشياطين وعظماءهم, وكان لأيوب البَثَنِـية من الشام كلها, بـما فـيها من شرقها وغربها, وكان له بها ألف شاة برعاتها, وخمس مئة فدان يتبعها خمس مئة عبد, لكل عبد امرأة وولد ومال, وحمل آلة كل فدان أتانٌ, لكل أتان ولد من اثنـين وثلاثة وأربعة وخمسة وفوق ذلك. فلـما جمع إبلـيس الشياطين, قال لهم: ماذا عندكم من القوّة والـمعرفة؟ فإنـي قد سُلطت علـى مال أيوب, فهي الـمصيبة الفـادحة, والفتنة التـي لا يصبر علـيها الرجال. قال عفريت من الشياطين: أعطيتُ من القوّة ما إذا شئت تـحوّلت إعصارا من نار فأحرقت كل شيء آتـي علـيه. فقال له إبلـيس: فأت الإبل ورُعاتَها. فـانطلق يؤمّ الإبل, وذلك حين وضعت رؤسها وثبتت فـي مراعيها, فلـم تشعر الناس حتـى ثار من تـحت الأرض إعصار من نار تنفخ منها أرواح السّموم, لا يدنو منها أحد إلا احترق, فلـم يزل يُحْرقها ورعاتَها حتـى أتـى علـى آخرها فلـما فرغ منها تـمثل إبلـيس علـى قَعُود منها براعيها, ثم انطلق يؤم أيوب, حتـى وجده قائما يصلـي, فقال: يا أيوب قال: لبـيك قال: هل تدري ما الذي صنع ربك الذي اخترت وعبدت ووحدت بإبلك ورعاتها؟ قال أيوب: إنها ماله أعارنـيه, وهو أولـى به إذا شاء نزعه, وقديـما ما وطّنْت نفسي ومالـي علـى الفناء. قال إبلـيس: وإن ربك أرسل علـيها نارا من السماء فـاحترقت ورعاتَها, حتـى أتـى علـى آخر شيء منها ومن رعاتها, فتركت الناس مبهوتـين, وهم وقوف علـيها يتعجبون, منهم من يقول: ما كان أيوب يعبد شيئا وما كان إلا فـي غرور ومنهم من يقول: لو كان إله أيوب يقدر علـى أن يـمنع من ذلك شيئا لـمنه ولـيه, ومنهم من يقول: بل هو فَعَل الذي فعل لـيشمت به عدوّه ولـيفجع به صديقه. قال أيوب: الـحمد لله حين أعطانـي وحين نزع منـي, عُرْيانا خرجت من بطن أمي, وعريانا أعود فـي التراب, وعريانا أحشر إلـى الله, لـيس ينبغي لك أن تفرح حين أعارَك الله وتـجزع حين قبض عاريّته, الله أولـى بك وبـما أعطاك, ولو علـم الله فـيك أيها العبد خيرا لنقل روحك مع ملك الأرواح, فآجرنـي فـيك وصرت شهيدا, ولكنه علـم منك شرّا فأخرك من أجله فعرّاك الله من الـمصيبة وخـلصك من من البلاء كما يخـلص الزّوان من القمـح الـخلاص.
ثم رجع إبلـيس إلـى أصحابه خاسئا ذلـيلاً, فقال لهم: ماذا عندكم من القوّة, فإنـي لـم أَكُلِـم قلبه؟ قال عفريت من عظمائهم: عندي من القوّة ما إذا شئت صِحت صوتا لا يسمعه ذو روح إلا خرجت مهجة نفسه. قال له إبلـيس: فأت الغنـم ورعاتَها فـانطلق يؤمّ الغنـم ورعاتها, حتـى إذا وَسَطها صاح صوتا جَثَمَتْ أمواتا من عند آخرها ورعاءَها. ثم خرج إبلـيس متـمثلاً بقَهْرمان الرّعاء, حتـى إذا جاء أيوب وجده وهو قائم يصلـي, فقال له القول الأوّل, وردّ علـيه أيوب الردّ الأوّل. ثم إن إبلـيس رجع إلـى أصحابه, فقال لهم: ماذا عندكم من القوّة, فإنـي لـم أَكْلِـم قلب أيوب؟ فقال عفريت من عظمائهم: عندي من القوّة إذا شئت تـحوّلت ريحا عاصفـا تنسف كل شيء تأتـي علـيه حتـى لا أبقـي شيئا. قال له إبلـيس: فأت الفدادين والـحرث فـانطلق يؤمهم, وذلك حين قَرّبوا الفَدَادين وأنشئوا فـي الـحرث, والأتن وأولادها رُتوع, فلـم يشعروا حتـى هبت ريح عاصف تنسف كل شيء من ذلك حتـى كأنه لـم يكن. ثم خرج إبلـيس متـمثلاً بقهْرمان الـحَرْث, حتـى جاء أيوب وهو قائم يصلـي, فقال له مثل قوله الأوّل, وردّ علـيه أيوب مثل ردّه الأوّل.
فلـما رأى إبلـيس أنه قد أفنى ماله ولـم ينـجح منه, صعد سريعا, حتـى وقـف من الله الـموقـف الذي كان يقـفه فقال: يا إلهي, إن أيوب يرى أنك ما متعته بنفسه وولده, فأنت معطيه الـمال, فهل أنت مسلطي علـى ولده؟ فإنها الفتنة الـمضلّة, والـمصيبة التـي لا تقوم لها قلوب الرجال, ولا يقوى علـيها صبرهم. فقال الله تعالـى له: انطلق, فقد سلّطتك علـى ولده, ولا سلطان لك علـى قلبه ولا جسده ولا علـى عقله فـانقضّ عدوّ الله جوادا, حتـى جاء بنـي أيوب وهم فـي قصرهم, فلـم يزل يزلزل بهم حتـى تداعى من قواعده, ثم جعل يناطح الـجُدُر بعضها ببعض, ويرميهم بـالـخشب والـجندل, حتـى إذا مَثّل بهم كل مُثْلة, رفع بهم القصر, حتـى إذا أقّلة بهم فصاروا فـيه منكّسين, انطلق إلـى أيوب متـمثلاً بـالـمعلّـم الذي كان يعلـمهم الـحكمة, وهو جريج, مشدوخ الوجه يسيـل دمه ودماغه متغير لا يكاد يعرف من شدّة التغير والـمُثْلة التـي جاء متـمثلاً فـيها. فلـما نظر إلـيه أيوب هاله وحزن ودمعت عيناه, وقال له: يا أيوب, لو رأيت كيف أفلتّ من حيث أفلت والذي رمانا به من فوقنا ومن تـحتنا, ولو رأيت بنـيك كيف عُذّبوا وكيف مُثّل بهم وكيف قُلِبوا فكانوا منكّسين علـى رؤوسهم تسيـل دماؤهم ودماغهم من أنوفهم وأجوافهم وتقطر من أشفـارهم, ولو رأيت كيف شُقّتْ بطونهم فتناثرت أمعاؤهم, ولو رأيت كيف قُذِفوا بـالـخشب والـجندل يشدخ دماغهم, وكيف دقّ الـخشب عظامهم وخرق جلودهم وقطع عصبهم, ولو رأيت العصب عُريانا, ولو رأيت العظام متهشمة فـي الأجواف, ولو رأيت الوجوه مشدوخة, ولو رأيت الـجدُرُ تَناطَحُ علـيهم, ولو رأيت ما رأيت, قطع قلبك فلـم يزل يقول هذا ونـحوه, ولـم يزل يرقّقه حتـى رقّ أيوب فبكي, وقبض قبضة من تراب فوضعها علـى رأسه, فـاغتنـم إبلـيس (الفُرصة منه) عند ذلك, فصعد سريعا بـالذي كان من جزع أيوب مسرورا به. ثم لـم يـلبث أيوب أن فـاء وأبصر, فـاستغفر, وصَعَد قرناؤه من الـملائكة بتوبة منه, فبدروا إبلـيس إلـى الله, فوجدوه قد علـم بـالذي رُفع إلـيه من توبة أيوب, فوقـف إبلـيس خازيا ذلـيلاً, فقال: يا إلهي, إنـما هوّن علـى أيوب خَطَر الـمال والولد أنه يرى أنك ما متعته بنفسه فأنت تعيد له الـمال والولد, فهل أنت مسلّطي علـى جسده؟ فأنا لك زعيـم لئن ابتلـيته فـي جسده لـينسينك, ولـيكفرنّ بك, ولـيَجْحَدنّكّ نعمتك قال الله: انطلق فقد سلطتك علـى جسده, ولكن لـيس لك سلطان علـى لسانه ولا علـى قلبه ولا علـى عقله.
فـانقضّ عدوّ الله جوادا, فوجد أيوب ساجدا, فعجّل قبل أن يرفع رأسه, فأتاه من قِبَل الأرض فـي موضع وجهه, فنفخ فـي منـخره نفخة اشتعل منها جسده, فترهّل, ونبتت (به) ثآلـيـل مثل ألـيات الغنـم, ووقعت فـيه حِكّة لا يـملكها, فحكّ بأظفـاره حتـى سقطت كلها, ثم حكّ بـالعظام, وحكّ بـالـحجارة الـخشنة وبقطع الـمُسوح الـخشنة, فلـم يزل يحكّه حتـى نَفِد لـحمه وتقطع. ولـما نَغِل جلد أيوب وتغير وانتن, أخرحه أهل القرية, فجعلوه علـى تلّ وجعلوا له عريشا. ورفضه خـلق الله غيرَ امرأته, فكانت تـختلف إلـيه بـما يُصلـحه ويـلزمه. وكان ثلاثة من أصحابه اتبعوه علـى دينه فلـما رأوا ما ابتلاه الله به رفضوه من غير أن يتركوا دينه واتهموه, يُقال لأحدهم بلدد, وألـيفز, وصافر. قال: فـانطلق إلـيه الثلاثة وهو فـي بلائه, فبكّتوه فلـما سمع منهم أقبل علـى ربه, فقال أيوب صلى الله عليه وسلم: ربّ لأيّ شيء خـلقتنـي؟ لو كنتَ إذْ كرهتنـي فـي الـخير تركتنـي فلـم تـخـلقنـي يا لـيتنـي كنت حَيْضة ألقتنـي أمي ويا لـيتنـي مِتّ فـي بطنها فلـم أعرف شيئا ولـم تعرفنـي ما الذنب الذي أذنبت لـم يذنبه أحد غيري؟ وما العمل الذي عملت فصرفت وجهك الكريـم عنـي؟ لو كنت أمتنـي فألـحقتنـي بآبـائي فـالـموت كان أجمل بـي, فأسوة لـي بـالسلاطين الذي صُفّت من دونهم الـجيوش, يضربون عنهم بـالسيوف, بخلاً بهم عن الـموت وحرصا علـى بقائهم, أصبحوا فـي القبور جاثمين, حتـى ظنوا أنهم سيخـلّدون. وأُسوة لـي بـالـملوك الذين كنزوا الكنوز, وطَمروا الـمطامير, وجمعوا الـجموع, وظنوا أنهم سيخـلدون. وأُسوة لـي بـالـجبـارين الذين بنوا الـمدائن والـحصون, وعاشوا فـيها الـمئين من السنـين, ثم أصبحت خرابـا, مأوى للوحوش ومثنى للشياطين.
قال ألـيفز التـيـمانـي: قد أعيانا أمرك يا أيوب, إن كلّـمناك فما نرجو للـحديث منك موضعا, وإن نسكت عنك مع الذي نرى فـيك من البلاء, فذلك علـينا. قد كنا نرى من أعمالك أعمالاً كنا نرجو لك علـيها من الثواب غير ما رأينا, فإنـما يحصد امرؤ ما زرع ويُجْزَى بـما عمل. أشهد علـى الله الذي لا يُقْدر قدر عظمته ولا يُحْصَى عدد نعمه, الذي ينزل الـماء من السماء فـيحيـي به الـميت ويرفع به الـخافض ويقوّي به الضعيف, الذي تضلّ حكمة الـحكماء عند حكمته وعلـم العلـماء عند علـمه حتـى تراهم من العيّ فـي ظلـمة يـموجون, أن من رجا معونة الله هو القويّ, وإن من توكل علـيه هو الـمكفـيّ, هو الذي يكسر ويجبر ويجرح ويداوي
قال أيوب: لذلك سكتّ فعَضِضْت علـى لسانـي ووضعت لسوء الـخدمة رأسي لأنـي علـمت أن عقوبته غيرت نور وجهي, وأن قوّته نزعت قوّة جسدي, فأنا عبده, ما قضي علـيّ أصابنـي, ولا قوّة لـي إلا ما حمل علـيّ لو كانت عظامي من حديد وجسدي من نُـحاس وقلبـي من حجارة, لـم أطق هذا الأمر, ولكن هو ابتلانـي وهو يحمله عنـي أتـيتـمونـي غِضابـا, رهبتـم قبل أن تسترهبوا, وبكيتـم من قبل أن تُضربوا, كيف بـي لو قلت لكم: تصدّقوا عنـي بأموالكم لعلّ الله أن يخـلصنـي, أو قرّبوا عنـي قربـانا لعلّ الله أن يتقبله منـي ويرضى عنـي؟ إذا استـيقظت تـمنّـيت النوم رجاء أن أستريح, فإذا نـمت كادت تـجود نفسي. تقطّعت أصابعي, فإن لأرفع اللقمة من الطعام بـيديّ جميعا فما تبلغان فمي إلا علـى الـجهد منـي, تساقطت لَهَواتـي ونـخر رأسي, فما بـين أذنـيّ من سداد, حتـى إن إحداهما لُترى من الأخرى, وإن دماغي لـيسيـل من فمي. تساقط شعري عنـي, فكأنـما حُرّق بـالنار وجهي, وحدقتاي هما متدلـيتان علـى خدي, ورمّ لسانـي حتـى ملأ فمي, فما أُدخـل فـيه طعاما إلا غصنـي, وورمت شفتاي حتـى غطّت العلـيا أنفـي والسفلـى ذقنـي. تقطّعت أمعائي فـي بطنـي, فإنـي لأدخـل الطعام فـيخرج كما دخـل, ما أحسه ولا ينفعنـي. ذهبت قوّة رجلـيّ, فكأنهما قِرْبتا ماء مُلئتا, لا أطيق حملهما. أحمل لـحافـي بـيديّ, وأسنانـي فما أطيق حمله حتـى يحمله معي غيري. ذهب الـمال فصرت أسأل بكفـي, فـيطعمنـي من كنت أعوله اللقمةَ الواحدة, فـيـمّنها علـيّ ويعيّرنـي. هلك بَنـيّ وبناتـي, ولو بقـي منهم أحد أعاننـي علـى بلائي ونفعنـي. ولـيس العذاب بعذاب الدنـيا, إنه يزول عن أهلها, ويـموتون عنه, ولكن طوبَى لـمن كانت له راحة فـي الدار التـي لا يـموت أهلها, ولا يتـحوّلون عن منازلهم, السعيد من سعد هنالك والشقـيّ من شقـي فـيها
قال بِلدد: كيف يقوم لسانك بهذا القول وكيف تفصِح به؟ أتقول إن العدْل يجور, أم تقول إن القويّ يضعف؟ ابْكِ علـى خطيئتك, وتضرّع إلـى ربك عسى أن يرحمك ويتـجاوز عن ذنبك, وعسى إن كنت بريئا أن يجعل هذا لك ذخرا فـي آخرتك وإن كان قلبك قد قسا فإن قولنا لن ينفعك, ولن يأخذ فـيك هيهات أن تنبت الاَجام فـي الـمفـاوز, وهيهات أن ينبت البَرْديّ فـي الفلاة من توكل علـى الضعيف كيف يرجو أن يـمنعه, ومن جحد الـحقّ كيف يرجو أن يوفّـىَ حقه؟
قال أيوب: إنـي لأعلـم أن هذا هو الـحقّ, لن يَفْلُـج العبد علـى ربه ولا يطيق أن يخاصمه, فأيّ كلام لـي معه وإن كان إلـيّ القوّة؟ هو الذي سَمَك السماء فأقامها وَحْده, وهو الذي يكشطها إذا شاء فتنطوي له, وهو الذي سطح الأرض فدحاها وحده, ونصب فـيها الـجبـال الراسيات, ثم هو الذي يزلزلها من أصولها حتـى تعود أسافلها أعالـيها وإن كان فـيّ الكلام, فأيّ كلام لـي معه؟ من خـلق العرش العظيـم بكلـمة واحدة, فحشاه السموات والأرض وما فـيهما من الـخـلق, فوسعه وهو فـي سعة واسعة, وهو الذي كلّـم البحار ففهمت قوله وأمرها فلـم تعْد أمره, وهو الذي يفقه الـحِيتان والطير وكل دابّة, وهو الذي يكلـم الـموتـى فـيحيـيهم قوله, ويكلـم الـحجارة فتفهم قوله ويأمرها فتطيعه.
قال ألـيفز: عظيـم ما تقول يا أيوب, إن الـجلود لتقشعرّ من ذكر ما تقول, إن ما أصابك ما أصابك بغير ذنب أذنبته, مثل هذه الـحدّة وهذا القول أنزلك هذه الـمنزلة عظُمت خطيئتك, وكثر طلابك, وغَصَبْت أهل الأموال علـى أموالهم, فلبست وهم عراة, وأكلتَ وهم جياع, وحبست عن الضعيف بـابك, وعن الـجائع طعامك, وعن الـمـحتاج معروفك, وأسررت ذلك وأخفـيته فـي بـيتك, وأظهرت أعمالاً كنا نراك تعملها, فظننت أن الله لا يَجزيك إلا علـى ما ظهر منك, وظنت أن الله لا يطلع علـى ما غيبت فـي بـيتك, وكيف لا يطّلع علـى ذلك وهو يعلـم ما غيّبت الأرضون وما تـحت الظلـمات والهواء؟
قال أيوب صلى الله عليه وسلم: إن تكلـمتُ لـم ينفعنـي الكلام, وإن سكتّ لـم تعذرونـي قد وقع علـيّ كَيْدي, وأسخطت ربـي بخطيئتـي, وأشمتّ أعدائي, وأمكنتهم من عنقـي, وجعلتنـي للبلاء غَرَضا, وجعلتنـي للفتنة نُصْبـا لـم تنفسنـي مع ذلك, ولكن أتبعنـي ببلاء علـى إثر بلاء. ألـم أكن للغريب دارا, وللـمسكين قرارا, وللـيتـيـم ولـيّا, وللأرملة قَـيّـما؟ ما رأيت غريبـا إلا كنت له دارا مكان داره وقرارا مكان قراره, ولا رأيت مسكينا إلا كنت له مالاً مكان ماله وأهلاً مكان أهله, وما رأيت يتـيـما إلا كنت له أبـا مكان أبـيه, وما رأيت أَيّـما إلا كنت لها قـيّـما ترضَى قـيامه. وأنا عبد ذلـيـل, إن أحسنت لـم يكن لـي كلام بإحسان, لأن الـمنّ لربـي ولـيس لـي, وإن أسأت فبـيده عقوبتنـي وقد وقع علـيّ بلاء لو سلّطته علـى جبل ضعف عن حمله, فكيف يحمله ضعفـي؟
قال ألـيفز: أتـحاجّ الله يا أيوب فـي أمره, أم تريد أن تناصفه وأنت خاطىء, أو تبرئها وأنت غير بريء؟ خـلق السموات والأرض بـالـحقّ, وأحصى ما فـيهما من الـخـلق, فكيف لا يعلـم ما أسررت, وكيف لا يعلـم ما عملت فـيجزيَك به؟ وضع الله ملائكة صفوفـا حول عرشه وعلـى أرجاء سمواته, ثم احتـجب بـالنور, فأبصارهم عنه كلـيـلة, وقوّتهم عنه ضعيفة, وعزيزهم عنه ذلـيـل, وأنت تزعم أن لو خاصمك وأدلـي إلـى الـحكم معك, وهل تراه فتناصفه؟ أم هل تسمعه فتـحاوره؟ قد عرفنا فـيك قضاءه, إنه من أراد أن يرتفع وضعه, ومن اتّضع له رفعه.
قال أيوب صلى الله عليه وسلم: إن أهلكنـي فمن ذا الذي يعرض له فـي عبده ويسأله عن أمره؟ لا يردّ غضبه شيء إلا رحمته, ولا ينفع عبده إلا التضرّع له قال: ربّ أقبل علـيّ برحمتك, وأعلـمنـي ما ذنبـي الذي أذنبت أو لأيّ شيء صرفت وجهك الكريـم عنـي, وجعلتنـي لك مثل العدوّ وقد كنت تكرمنـي؟ لـيس يغيب عنك شيء تُـحصى قَطْر الأمطار وورق الأشجار وذرّ التراب, أصبح جلدي كالثوب العفن, بأيه أمسكت سقط فـي يدي, فهب لـي قُربـانا من عندك, وفرجا من بلائي, بـالقدرة التـي تبعث موتـى العبـاد وتنشر بها ميت البلاد, ولا تهلكنـي بغير أن تعلـمنـي ما ذنبـي, ولا تُفسد عمل يديك وإن كنت غنـيّا غنـي لـيس ينبغي فـي حكمك ظلـم, ولا فـي نقمتك عَجَل, وإنـما يحتاج إلـى الظلـم الضعيف, وإنـما يعجل من يخاف الفوت ولا تذكرنـي خطئي وذنوبـي, اذكر كيف خـلقتنـي من طين فجعلتنـي مضغة, ثم خـلقت الـمضغة عظاما, وكسوت العظام لـحما وجلدا, وجعلت العصب والعروق لذلك قَواما وشدّة, وربّـيتنـي صغيرا, ورزقتنـي كبـيرا, ثم حفظت عهدك وفعلت أمرك فإن أخطأت فبـين لـي ولا تهلكنـي غمّا, وأعلـمنـي ذنبـي فإن لـم أرضك فأنا أهل أن تعذّبنـي, وإن كنت من بـين خـلقك تـحصي علـيّ عملـي, وأستغفرك فلا تغفر لـي. إن أحسنت لـم أرفع رأسي, وإن أسأت لـم تبلعنـي ريقـي ولـم تُقِلنـي عثرتـي, وقد ترى ضعفـي تـحتك وتضرّعي لك, فلـم خـلقتنـي؟ أو لـم أخرجتنـي من بطن أمي؟ لو كنت كمن لـم يكن لكان خيرا لـي, فلـيست الدنـيا عندي بخطر لغضبك, ولـيس جسدي يقوم بعذابك, فـارحمنـي وأذقنـي طعم العافـية من قبل أن أصير إلـى ضيق القبر وظلـمة الأرض وغمّ الـموت
قال صافر: قد تكلـمت يا أيوب وما يطيق أحد أن يحبس فمك تزعم أنك بريء, فهل ينفعك إن كنت بريئا وعلـيك من يحصي عملك؟ وتزعم أنك تعلـم أن الله يغفر لك ذنوبك, هل تعلـم سَمْك السماء كم بعده؟ أم هل تعلـم عمق الهواء كم بعده؟ أم هل تعلـم أيّ الأرض أعرضُها؟ أم عندك لها من مقدار تقدرها به؟ أم هل تعلـم أيّ البحر أعمقه؟ أم هل تعلـم بأيّ شيء تـحبسه؟ فإن كنت تعلـم هذا العلـم وإن كنت لا تعلـمه, فإن الله خـلقه وهو يحصيه, لو تركت كثرة الـحديث وطلبت إلـى ربك رجوتَ أن يرحمك, فبذلك تستـخرج رحمته, وإن كنت تقـيـم علـى خطيئتك وترفع إلـى الله يديك عند الـحاجة وأنت مُصِرّ علـى ذنبك إصرار الـماء الـجاري فـي صَبَب لا يستطاع إحبـاسه, فعند طلب الـحاجات إلـى الرحمن تسودّ وجوه الأشرار وتظلـم عيونهم, وعند ذلك يُسرّ بنـجاح حوائجهم الذين تركوا الشهوات تزينا بذلك عند ربهم, وتقدّموا فـي التضرّع, لـيستـحقوا بذلك الرحمة حين يحتاجون إلـيها, وهم الذين كابدوا اللـيـل واعتزلوا الفرش وانتظروا الأسحار.
قال أيوب: أنتـم قوم قد أعجبتكم أنفسكم, وقد كنت فـيـما خلا والرجال يُوَقّروننـي, وأنا معروف حقـي, مُنْتَصِفٌ من خصمي, قاهر لـمن هو الـيوم يقهرنـي, يسألنـي عن علـم غيب الله لا أعلـمه, ويسألنـي, فلعمري ما نصح الأخ لأخيه حين نزل به البلاء كذلك, ولكنه يبكي معه. وإن كنت جادّا فإن عقلـي يقصر عن الذي تسألنـي عنه, فسل طير السماء هل تـخبرك؟ وسل وحوش الأرض هل تَرْجِع إلـيك؟ وسل سبـاع البرية هل تـجيبك؟ وسل حيتان البحر هل تصف لك كل ما عددت؟ تعلـم أنّ صنع هذا بحكمته وهيأه بلطفه. أما يعلـم ابن آدم من الكلام ما سمع بأذنـيه وما طعم بفـيه وما شمّ بأنفه؟ وأن العلـم الذي سألت عنه لا يعلـمه إلا الله الذي خـلقه, له الـحكمة والـجبروت وله العظمة واللطف وله الـجلال والقدرة؟ إن أفسد فمن ذا الذي يصلـح؟ وإن أعجم فمن ذا الذي يُفْصِح؟ إن نظر إلـى البحار يبست من خوفه, وإن أذن لها ابتلعت الأرض, فإنـما يحملها بقدرته هو الذي تبهت الـملوك عند ملكه, وتطيش العلـماء عند علـمه, وتعيا الـحكماء عند حكمته, ويخسأ الـمبطلون عند سلطانه. هو الذي يذكر الـمنسيّ, وينسى الـمذكور, ويجري الظلـمات والنور. هذا علـمي, وخـلقه أعظم من أن يحصيه عقلـي, وعظمته أعظم من أن يقدرها مثلـي.
قال بِلدد: إن الـمنافق يُجْزَى بـما أسرّ من نفـاقه, وتضلّ عنه العلانـية التـي خادع بها, وتوكل علـى الـجزاء بها الذي عملها, ويهلك ذكره من الدنـيا ويظلـم نوره فـي الاَخرة, ويوحش سبـيـله, وتوقعه فـي الأحبولة سريرته, وينقطع اسمه من الأرض, فلا ذكر فـيها ولا عمران, لا يرثه ولد مصلـحون من بعده, ولا يبقـى له أصل يعرف به, ويبهت من يراه, وتقـف الأشعار عند ذكره
قال أيوب: إن أكن غويّا فعلـيّ غواي, وإن أكن بريّا فأيّ منعة عندي؟ إن صرخت فمن ذا الذي يُصْرخنـي؟ وإن سكت فمن ذا الذي يَعْذِرنـي؟ ذهب رجائي, وانقضت أحلامي, وتنكرت لـي معارفـي دعوت غلامي فلـم يجبنـي, وتضرّعت لأمتـي فلـم ترحمنـي, وقع علـيّ البلاء فرفضونـي, أنتـم كنتـم أشدّ علـيّ من مصيبتـي. انظروا وابْهَتوا من العجائب التـي فـي جسدي أما سمعتـم بـما أصابنـي وما شغلكم عنـي ما رأيتـم بـي؟ لو كان عبد يخاصم ربه, رجوت أن أتغلب عند الـحكم, ولكن لـي ربّـا جبـارا تعالـى فوق سمواته, وألقانـي ها هنا, وهُنْت علـيه, لا هو عذرنـي بعذري, ولا هو أدنانـي فأخاصم عن نفسي. يسمعنـي ولا أسمعه ويرانـي ولا أراه, وهو مـحيط بـي, ولو تـجلـى لـي لذابت كلـيتاي, وصَعِق روحي, ولو نفسنـي فأتكلـم بـملء فمي ونزع الهيبة منـي, علـمت بأيّ ذنب عذّبنـي
نودي فقـيـل: يا أيوب قال: لبـيك قال: أنا هذا قد دنوت منك, فقم فأشدد إزارك, وقم مقام جبـار, فإنه لا ينبغي لـي أن يخاصمنـي إلا جبـار مثلـي, ولا ينبغي أن يخاصمنـي إلا من يجعل الزمام فـي فم الأسد, والسّخال فـي فم العنقاء, واللـحم فـي فم التّنـين, ويكيـل مكيالاً من النور, ويزن مثقالاً من الريح, ويصُر صُرّة من الشمس, ويردّ أمس لغد لقد منّتك نفسك أمرا ما يبلغ بـمثل قوّتك, ولو كنت إذ منّتك نفسك ذلك ودعتك إلـيه, تذكرت أيّ مرام رامت بك أردت أن تـخاصمنـي بغيك, أم أردت أن تـحاجّنـي بخطئك, أم أردت أن تكاثرنـي بضعفك؟ أين كنت منـي يوم خـلقت الأرض فوضعتها علـى أساسها؟ هل علـمت بأيّ مقدار قَدَرْتها؟ أم كنت معي تـمرّ بأطرافها؟ أم تعلـم ما بُعْد زواياها؟ أم علـى أيّ شيء وضعت أكنافها؟ أبطاعتك حمل الـماء الأرض, أم بحكمتك كانت الأرض للـماء غطاء؟ أين كنت منـي يوم رفعت السماء سقـفـا فـي الهواء لا بعلائق ثبتت من فوقها, ولا يحملها دعائم من تـحتها؟ هل يبلغ من حكمتك أن تـجري نورها, أو تسير نـجومها, ألأ يختلف بأمرك لـيـلها ونهارها؟ أين كنت منـي يوم سجرت البحار وأنبعت الأنهار؟ أقدرتك حبست أمواج البحار علـى حدودها, أم قدرتك فتـحت الأرحام حين بلغت مدتها؟ أين أنت منـي يوم صببت الـماء علـى التراب, ونصبت شوامخ الـجبـال؟ هل لك من ذراع تطيق حملها؟ أم هل تدري كم من مثقال فـيها؟ أم أين الـماء الذي أنزل من السماء؟ هل تدري أمّ تلده أو أب يولده؟ أحكمتك أحصت القطر وقسمت الأرزاق, أم قدرتك تثـير السحاب وتغشيه الـماء؟ هل تدري ما أصوات الرعود؟ أم من أيّ شيء لهب البروق؟ هل رأيت عمق البحور؟ أم هل تدري ما بُعد الهواء؟ أم هل خزنت أرواح الأموات؟ أم هل تدري أين خزانة الثلـج, أو أين خزائن البر, أم أين جبـال البرد؟ أم هل تدري أين خزانة اللـيـل بـالنهار, وأين خزانة النهار بـاللـيـل, وأين طريق النور, وبأيّ لغة تتكلـم الأشجار, وأين خزانة الريح, وكيف تـحبسه الأغلاق, ومن جعل العقول فـي أجواف الرجال, ومن شقّ الأسماع والأبصار, ومن ذلّت الـملائكة لـملكه وقهر الـجبـارين بجبروته وقسم أرزاق الدوابّ بحكمته؟ ومن قسم للأسد أرزاقها وعرّف الطير معايشها وعطفها علـى أفراخها؟ من أعتق الوحش من الـخدمة, وجعل مساكنها البرية لا تستأنس بـالأصوات ولا تهاب الـمسلطين؟ أمن حكمتك تفرّعت أفراخ الطير وأولاد الدّوابّ لأمهاتها؟ أم من حكمتك عطفت أمهاتها علـيها, حتـى أخرجت لها الطعام من بطونها, وآثرتها بـالعيش علـى نفوسها؟ أم من حكمتك يبصر العُقاب, فأصبح فـي أماكن القتلـى؟ أين أنت منـي يوم خـلقت بهموت, مكانه فـي منقطع التراب, والوتـينان يحملان الـجبـال والقرى والعمران, آذانهما كأنها شجر الصنوبر الطوال, رؤسهما كأنها آكام الـجبـال, وعروق أفخاذهما كأنها أوتاد الـحديد, وكأن جلودهما فِلَق الصخور, وعظامهما كأنها عَمَد النـحاس, هما رأسا خـلقـي الذين خـلقت للقتال, أأنت ملأن جلودهما لـحما؟ أم أنت ملأت رؤسهما دماغا؟ أم هل لك فـي خـلقهما من شرك؟ أم لك بـالقوّة التـي عملتهما يدان؟ أو هل يبلغ من قوّتك أن تـخطم علـى أنوفهما, أو تضع يدك علـى رؤسهما, أو تقعد لهما علـى طريق فتـحبسهما, أو تصدّهما عن قوّتهما؟ أين أنت يوم خـلقت التّنـين ورزقه فـي البحر ومسكنه فـي السحاب؟ عيناه تَوَقّدان نارا, ومنـخراه يثوران دخانا, أذناه مثل قوس السحاب, يثور منهما لهب كأن إعصار العجاج, جوفه يحترق ونَفَسه يـلتهب, وزبده كأمثال الصخور, وكأن صريف أسنانه صوت الصواعق, وكأن نظر عينـيه لهب البرق, أسراره لا تدخـله الهموم, تـمرّ به الـجيوش وهو متكىء, لا يفزعه شيء لـيس فـيه مفصل (زُبَر) الـحديد عنده مثل التبن, والنـحاس عنده مثل الـخيوط, لا يفزع من النّشّابٍ, ولا يحسّ وقع الصخور علـى جسده, ويضحك من النـيازك, ويسير فـي الهواء كأنه عصفور, ويهلك كلّ شيء يـمرّ به ملك الوحوش, وإياه آثرت بـالقوّة علـى خـلقـي هل أنت آخذه بأحبولتك فرابطه بلسانه أو واضع اللـجام فـي شدقه؟ أتظنه يوفـي بعهدك أو يسبح من خوفك؟ هل تـحصي عمره أم هل تدري أجله أو تفوّت رزقه؟ أم هل تدري ماذا خرّب من الأرض, أم ماذا يخرّب فـيـما بقـي من عمره؟ أتطيق غضبه حين يغضب أم تأمره فـيطيعك؟ تبـارك الله وتعالـى
قال أيوب صلى الله عليه وسلم: قَصُرْت عن هذا الأمر الذي تعرض لـي لـيت الأرض انشقت بـي فذهبت فـي بلائي ولـم أتكلـم بشيء يسخط ربـي اجتـمع علـيّ البلاء إلهي جعلتنـي لك مثل العدوّ وقد كنت تكرمنـي وتعرف نصحي, وقد علـمت أن الذي ذكرت صنع يديك وتدبـير حكمتك, وأعظم من هذا ما شئت عملت لا يعجزك شيء ولا يخفـي علـيك خافـية ولا تغيب عنك غائبة, مَنْ هذا الذي يظنّ أن يُسِرّ عنك سرّا, وأنت تعلـم ما يخطر علـى القلوب؟ وقد علـمت منك فـي بلائي هذا ما لـم أكن أعلـم, وخفت حين بلوت أمرك أكثر مـما كنت أخاف. إنـما كنت أسمع بسطوتك سمعا, فأمّا الاَن فهو بصر العين. إنـما تكلـمت حين تكلـمت لتعذرنـي وسكتّ حين سكتّ لترحمنـي, كلـمة زلت فلن أعود. قد وضعت يديّ علـى فمي, وعضِضت علـى لسانـي, وألصقت بـالتراب خدّي, ودست وجهي لصغاري, وسكتّ كما أسكتتنـي خطيئتـي, فـاغفر لـي ما قلت فلن أعود لشيء تكرهه منـي
قال الله تبـارك وتعالـى: يا أيوب نفذ فـيك علـمي, وبحلـمي صرفت عنك غضبـي, إذ خطئت فقد غفرت لك, ورددت علـيك أهلك ومالك ومثلهم معهم, فـاغتسل بهذا الـماء, فإن فـيه شفـاءك, وقرّب عن صحابتك قُربـانا, واستغفر لهم, فإنهم قد عصونـي فـيك
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق, عمن لا يتهم, عن وهب بن منبه الـيـمانـيّ, وغيره من أهل الكتب الأول: أنه كان من حديث أيوب أنه كان رجلاً من الروم, وكان الله قد اصطفـاه ونبأه, وابتلاه فـي الغنى بكثرة الولد والـمال, وبسط علـيه من الدنـيا فوسّع علـيه فـي الرزق. وكانت له البَثَنـية من أرض الشأم, أعلاها وأسفلها وسهلها وجبلها. وكان له فـيها من أصناف الـمال كله, من الإبل والبقر والغنـم والـخيـل والـحمير ما لا يكون للرجل أفضل منه فـي العِدّة والكثرة. وكان الله قد أعطاه أهلاً وولدا من رجال ونساء. وكان برّا تقـيّا رحيـما بـالـمساكين, يطعم الـمساكين ويحمل الأرامل ويكفُل الأيتام ويكرم الضيف ويبلّغ ابن السبـيـل. وكان شاكرا لأنعم الله علـيه مؤديّا لـحقّ الله فـي الغنى قد امتنع من عدوّ الله إبلـيس أن يصيب منه ما أصاب من أهل الغنى من العزّة والغفلة والسهو والتشاغل عن أمر الله بـما هو فـيه من الدنـيا. وكان معه ثلاثة قد آمنوا به وصدّقوه وعرفوا فضل ما أعطاه الله علـى من سواه, منهم رجل من أهل الـيـمن يقال له: ألـيفز, ورجلان من أهل بلاده يقال لأحدهما: صوفر, وللاَخر: بلدد, وكانوا من بلاده كهولاً. وكان لإبلـيس عدوّ الله منزل من السماء السابعة يقع به كلّ سنة موقعا يسأل فـيه فصعد إلـى السماء فـي ذلك الـيوم الذي كان يصعد فـيه, فقال الله له أو قـيـل له عن الله: هل قدرت من أيوب عبدي علـى شيء؟ قال: أي ربّ وكيف أقدر منه علـى شيء؟ أو إنـما ابتلـيتَه بـالرخاء والنعمة والسعة والعافـية, وأعطيته الأهل والـمال والولد والغنى والعافـية فـي جسده وأهله وماله, فما له لا يشكرك ويعبدك ويطيعك وقد صنعت ذلك به؟ لو ابتلـيته بنزع ما أعطيته لـحال عما كان علـيه من شكرك ولترك عبـادتك, ولـخرج من طاعتك إلـى غيرها أو كما قال عدوّ الله. فقال: قد سلطتك علـى أهله وماله وكان الله هو أعلـم به, ولـم يسلطه علـيه إلا رحمة لـيعظم له الثواب بـالذي يصيبه من البلاء, ولـيجعله عبرة للصابرين وذكرى للعابدين فـي كل بلاء نزل بهم, لـيتأسّوا به, ولـيرجوا من عاقبة الصبر فـي عَرَض الدنـيا ثواب الاَخرة وما صنع الله بأيوب. فـانـحطّ عدوّ الله سريعا, فجمع عفـاريت الـجنّ ومَرَدة الشياطين من جنوده, فقال: إنـي قد سُلّطت علـى أهل أيوب وماله, فماذا علـيكم؟ فقال قائل منهم: أكون إعصارا فـيه نار, فلا أمرّ بشيء من ماله إلا أهلكته قال: أنت وذاك. فخرج حتـى أتـى إبله, فأحرقها ورعاتَها جميعا. ثم جاء عدوّ الله إلـى أيوب فـي صورة قـيّـمه علـيها وهو فـي مصلّـى فقال: يا أيوب أقبلت نار حتـى غشيت إبلك فأحرقتها ومن فـيها غيري, فجئتك أخبرك بذلك. فعرفه أيوب, فقال: الـحمد لله الذي هو أعطاها وهو أخذها الذي أخرجك منها كما يخرج الزّوان من الـحبّ النقـيّ. ثم انصرف عنه, فجعل يصيب ماله مالاً مالاً حتـى مرّ علـى آخره, كلـما انتهى إلـيه هلاك مال من ماله حمد الله وأحسن علـيه الثناء ورضي بـالقضاء, ووطّن نفسه بـالصبر علـى البلاء. حتـى إذا لـم يبق له مال أتـى أهله وولده, وهم فـي قصر لهم معهم حَظْيانهم وخدّامهم, فتـمثّل ريحا عاصفـا, فـاحتـمل القصر من نواحيه فألقاه علـى أهله وولده, فشدخهم تـحته. ثم أتاه فـي صورة قَهْرمانه علـيهم, قد شدخ وجهه, فقال: يا أيوب قد أتت ريح عاصف, فـاحتـملت القصر من نواحيه ثم ألقته علـى أهلك وولدك فشدختهم غيري, فجئتك أخبرك ذلك. فلـم يجزع علـى شيء أصابه جزعه علـى أهله وولده, وأخذ ترابـا فوضعه علـى رأسه, ثم قال: لـيت أمي لـم تلدنـي ولـم أك شيئا وسرّ بها عدوّ الله منه فأصعد إلـى السماء جَذِلاً. وراجع أيوب التوبة مـما قال, فحمد الله, فسبقت توبته عدوّ الله إلـى الله فلـما جاء وذكر ما صنع, قـيـل له قد سبقتك توبته إلـى الله ومراجعته. قال: أي ربّ فسلطنـي علـى جسده قال: قد سلّطتك علـى جسده إلا علـى لسانه وقلبه ونفسه وسمعه وبصره. فأقبل إلـيه عدوّ الله وهو ساجد, فنفخ فـي جسده نفخة أشعل ما بـين قرنه إلـى قدمه كحريق النار, ثم خرج فـي جسده ثآلـيـل كألـيات الغنـم, فحكّ بأظفـاره حتـى ذهبت, ثم بـالفَخّار والـحجارة حتـى تساقط لـحمه, فلـم يبق منه إلا العروق والعصب والعظام عيناه تـجولان فـي رأسه للنظر وقبله للعقل, ولـم يخـلص إلـى شيء من حشو البطن, لأنه لا بقاء للنفس إلا بها, فهو يأكل ويشرب علـى التواء من حشوته, فمكث كذلك ما شاء الله أن يـمكث فحدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة عن ابن إسحاق, عن ابن دينار, عن الـحسن أنه كان يقول: مكث أيوب فـي ذلك البلاء سبع سنـين وستة أشهر ملقـى علـى رماد مكنسة فـي جانب القرية قال وهب بن منبه: ولـم يبق من أهله إلا امرأة واحدة تقوم علـيه وتكسب له, ولا يقدر عدوّ الله منه علـى قلـيـل ولا كثـير مـما يريد. فلـما طال البلاء علـيه وعلـيها وسئمها الناس, وكانت تكسب علـيه ما تطعمه وتسقـيه قال وهب بن منبه: فحُدثت أنها التـمست له يوما من الأيام تطعمه, فما وجدت شيئا حتـى جزّت قَرْنا من رأسها فبـاعته برغيف, فأتته به فعشته إياه, فلبث فـي ذلك البلاء تلك السنـين, حتـى إن كان الـمارّ لـيـمرّ فـيقول: لو كان لهذا عند الله خير لأراحه مـما هو فـيه حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: فحدثنـي مـحمد بن إسحاق, قال: وكان وهب بن منبه يقول: لبث فـي ذلك البلاء ثلاث سنـين لـم يزد يوما واحدا فلـما غلبه أيوب فلـم يستطع منه شيئا, اعترض لامرأته فـي هيئة لـيست كهيئة بنـي آدم فـي العظم والـجسم والطول علـى مركب لـيس من مراكب الناس, له عظم وبهاء وجمال لـيس لها, فقال لها: أنت صاحبة أيوب هذا الرجل الـمبتلـي؟ قالت نعم. قال: هل تعرفـيننـي؟ قالت لا. قال: فأنا إله الأرض وأنا الذي صنعت بصاحبك ما صنعت, وذلك أنه عبد إله السماء وتركنـي فأغضبنـي, ولو سجد لـي سجدة واحدة رددت علـيه وعلـيك كلّ ما كان لكما من مال وولد, فإنه عندي ثم أراها إياهم فـيـما ترى ببطن الوادي الذي لقـيها فـيه. قال: وقد سمعت أنه إنـما قال: لو أن صاحبك أكل طعاما ولـم يسمّ علـيه لعوفـي مـما به من البلاء, والله أعلـم. وأراد عدوّ الله أن يأتـيه من قِبَلها. فرجعت إلـى أيوب, فأخبرته بـما قال لها وما أراها قال: أو قد أتاك عدوّ الله لـيفتنك عن دينك؟ ثم أقسم إن الله عافـاه لـيضربها مئة ضربة فلـما طال علـيه البلاء, جاءه أولئك النفر الذين كانوا معه قد آمنوا به وصدّقوه, معهم فتـى حديث السنّ قد كان آمن به وصدّقه, فجلسوا إلـى أيوب ونظروا إلـى ما به من البلاء, فأعظموا ذلك وفَظِعوا به, وبلغ من أيوب صلوات الله علـيه مـجهوده, وذلك حين أراد الله أن يفرّج عنه ما به فلـما رأى أيوب ما أعظموا مـما أصابه, قال: أي ربّ لأيّ شيء خـلقتنـي ولو كنت إذ قضيت علـيّ البلاء تركتنـي فلـم تـخـلقنـي؟ لـيتنـي كنت دما ألقتنـي أمي. ثم ذكر نـحو حديث ابن عسكر, عن إسماعيـل بن عبد الكريـم, إلـى: وكابدوا اللـيـل, واعتزلوا الفراش, وانتظروا الأسحار ثم زاد فـيه: أولئك الاَمنون الذي لا يخافون, ولا يهتـمون ولا يحزنون, فأين عاقبة أمرك يا أيوب من عواقبهم؟
قال فتـى حضرهم وسمع قولهم ولـم يفطنوا له ولـم يأبهوا لـمـجلسه, وإنـما قـيّضه الله لهم لـما كان من جورهم فـي الـمنطق وشططهم, فأراد الله أن يصغر به إلـيهم أنفسهم وأن يسفّه بصغره لهم أحلامهم فلـما تكلـم تـمادى فـي الكلام, فلـم يزدد إلا حكما. وكان القوم من شأنهم الاستـماع والـخشوع إذا وُعظوا أو ذُكّروا فقال: إنكم تكلـمتـم قبلـي أيها الكهول, وكنتـم أحقّ بـالكلام وأولـى به منـي لـحقّ أسنانكم, ولأنكم جرّبتـم قبلـي ورأيتـم وعلـمتـم ما لـم أعلـم وعرفتـم ما لـم أعرف, ومع ذلك قد تركتـم من القول أحسن من الذي قلتـم ومن الرأي أصوب من الذي رأيتـم ومن الأمر أجمل من الذي أتـيتـم ومن الـموعظة أحكم من الذي وصفتـم, وقد كان لأيوب علـيكم من الـحقّ والذّمام أفضلُ من الذي وصفتـم, هل تدرون أيها الكهول حقّ من انتقصتـم وحرمة من انتهكتـم ومن الرجل الذي عبتـم واتهمتـم؟ ولـم تعلـموا أيها الكهول أن أيوب نبـيّ الله وخيرته وصفوته من أهل الأرض يومكم هذا, اختاره الله لوحيه واصطفـاه لنفسه وأتـمنه علـى نبوّته, ثم لـم تعلـموا ولـم يطلعكم الله علـى أنه سخط شيئا من أمره مذ آتاه ما آتاه إلـى يومكم هذا ولا علـى أنه نزع منه شيئا من الكرامة التـي أكرمه بها مذ آتاه ما آتاه إلـى يومكم هذا, ولا أن أيوب غَيّر الـحقّ فـي طول ما صحبتـموه إلـى يومكم هذا فإن كان البلاء هو الذي أزرى به عندكم ووضعه فـي أنفسكم, فقد علـمتـم أن الله يبتلـي النبـيـين والصدّيقـين والشهداء والصالـحين ثم لـيس بلاؤه لأولئك بدلـيـل سخطه علـيهم ولا لهوانه لهم, ولكنها كرامة وخِيْرة لهم ولو كان أيوب لـيس من الله بهذه الـمنزلة ولا فـي النبوّة ولا فـي الأثرة ولا فـي الفضيـلة ولا فـي الكرامة, إلا أنه أخ أحببتـموه علـى وجه الصحابة, لكان لا يجمل بـالـحكيـم أن يعذُل أخاه عند البلاء ولا يعيّره بـالـمصيبة بـما لا يعلـم وهو مكروب حزين, ولكن يرحمه ويبكي معه ويستغفر له ويحزن لـحزنه ويدلّه علـى مراشد أمره ولـيس بحكيـم ولا رشيد من جهل هذا, فـاللّهَ اللّهَ أيها الكهول فـي أنفسكم
قال: ثم أقبل علـى أيوب صلى الله عليه وسلم فقال, وقد كان فـي عظمة الله وجلاله وذكر الـموت: ما يقطع لسانك, ويكسر قلبك, وينسيك حججك؟ ألـم تعلـم يا أيوب أن لله عبـادا أسكتتهم خشيته من غير عيّ ولا بَكَم وإنهم لهم الفصحاء النطقاء النبلاء الألبـاء العالـمون بـالله وبآياته؟ ولكنهم إذا ذكروا عظمة الله انقطعت أسلنتهم واقشعرّت جلودهم وانكسرت قلوبهم وطاشت عقولهم إعظاما لله وإعزازا وإجلالاً, فإذا استفـاقوا من ذلك استَبَقوا إلـى الله بـالأعمال الزاكية, يَعُدّون أنفسهم مع الظالـمين والـخاطئين, وإنهم لأنزاه برآء, ومع الـمقصّرين والـمفرّطين, وإنهم لأكياس أقوياء, ولكنهم لا يستكثرون لله الكثـير, ولا يرضون لله بـالقلـيـل, ولا يُدِلّون علـيه بـالأعمال فهم مروّعون مفزعون مغتـمون خاشعون وجلون مستكينون معترفون متـى ما رأيتهم يا أيوب.
قال أيوب: إن الله يزرع الـحكمة بـالرحمة فـي قلب الصغير والكبـير, فمتـى نبتت فـي القلب يظهرها الله علـى اللسان, ولـيست تكون الـحكمة من قبل السنّ ولا الشبـيبة ولا طول التـجربة, وإذا جعل الله العبد حكيـما فـي الصيام لـم يسقط منزله عند الـحكماء وهم يرون علـيه من الله نور الكرامة, ولكنكم قد أعجبتكم أنفسكم وظننتـم أنكم عوفـيتـم بـاحسانكم, فهنالك بغيتـم وتعزّزتـم, ولو نظرتـم فـيـما بـينكم وبـين ربكم ثم صدقتـم أنفسكم لوجدتـم لكم عيوبـا سترها الله بـالعافـية التـي ألبسكم ولكنـي قد أصبحت الـيوم ولـيس لـي رأي ولا كلام معكم, قد كنت فـيـما خلا مسموعا كلامي معروفـا حقـي منتصِفـا من خصمي قاهرا لـمن هو الـيوم يقهرنـي مهيبـا مكانـي والرجال مع ذلك ينصتون لـي ويوقرونـي, فأصبحت الـيوم قد انقطع رجائي ورفع حذري وملّنـي أهلـي وعقنـي أرحامي وتنكرت لـي معارفـي ورغب عنـي صديقـي وقطعنـي أصحابـي وكفرنـي أهل بـيتـي وجُحِدَتْ حقوقـي ونُسِيت صنائعي, أصرخ فلا يُصْرِخوننـي وأعتذر فلا يعذروننـي, وإن قضاءه هو الذي أذلنـي وأقمأنـي وأخسأنـي, وإن سُلطانه هو الذي أسقمنـي وأنـحل جسمي. ولو أن ربـي نزع الهيبة التـي فـي صدري وأطلق لسانـي حتـى أتكلـم بـملء فمي, ثم كان ينبغي للعبد يحاجّ عن نفسه, لرجوت أن يعافـينـي عند ذلك مـما بـي ولكنه ألقانـي وتعالـى عنـي, فهو يرانـي ولا أراه, ويسمعنـي ولا أسمعه لا نظر إلـيّ فرحمنـي, ولا دنا منـي ولا أدنانـي فأدلـي بعذري وأتكلـم ببراءتـي وأخاصم عن نفسي
لـما قال ذلك أيوب وأصحابه عنده, أظله غمام حتـى ظنّ أصحابه أنه عذاب, ثم نودي منه, ثم قـيـل له: يا أيوب, إن الله يقول: ها أنا ذا قد دنوت منك, ولـم أزل منك قريبـا, فقم فأدل بعذرك الذي زعمت, وتكلـم ببراءتك وخاصم عن نفسك, واشدد إزارك ثم ذكر نـحو حديث ابن عسكر, عن إسماعيـل, إلـى آخره, وزاد فـيه: ورحمتـي سبقت غضبـي, فـاركُض برجلك هذا مغتسل بـارد وشراب فـيه شفـاؤك, وقد وهبت لك أهلك ومثلهم معهم ومالك ومثله معه وزعموا: ومثله معه لتكون لـمن خـلفك آية, ولتكون عبرة لأهل البلاء وعزاء للصابرين فركض برجله, فـانفجرت له عين, فدخـل فـيها فـاغتسل, فأذهب الله عنه كلّ ما كان به من البلاء. ثم خرج فجلس, وأقبلت امرأته تلتـمسه فـي مضجعه, فلـم تـجده, فقامت كالوالهة متلدّدة, ثم قالت: يا عبد الله, هل لك علـم بـالرجل الـمبتلـي الذي كان ههنا؟ قال: لا ثم تبسّم, فعرفته بـمضحكه, فـاعتنقته.
18679ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن مـحمد بن إسحاق, عن بعض أهل العلـم, عن وهب بن منبه, قال: فحدثت عبد الله بن عبـاس حديثه واعتناقها إياه, فقال عبد الله: فوالذي نفس عبد الله بـيده ما فـارقته من عناقه حتـى مرّ بها كلّ مال لهما وولد.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: وقد سمعت بعض من يذكر الـحديث عنه أنه دعاها حين سألت عنه, فقال لها: وهل تعرفـينه إذا رأيته؟ قالت: نعم, ومالـي لا أعرفه؟ فتبسّم, ثم قال: ها أنا هو, وقد فرّج الله عنـي ما كنت فـيه. فعند ذلك اعتنقته. قال وهب: فأوحى الله فـي قسمه لـيضربها فـي الذي كلـمته, أن وخُذْ بِـيَدِكَ ضِغْثا فـاضْرِبْ بِهِ وَلا تَـحْنَثْ أي قد برّت يـمينك. يقول الله تعالـى: إنّا وَجَدْناه صَابِرا نِعْمَ العَبْدُ إنّهُ أوّابٌ يقول الله: وَوَهْبْنا لَهُ أهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنّا وَذِكْرَى لأولـي الألْبـابِ.
18680ـ حدثنا يحيى بن طلـحة الـيربوعي, قال: حدثنا فضيـل بن عياض, عن هشام, عن الـحسن, قال: لقد مكث أيوب مطروحا علـى كناسة سبع سنـين وأشهرا ما يسأل الله أن يكشف ما به. قال: وما علـى وجه الأرض خـلق أكرم علـى الله من أيوب. فـيزعمون أن بعض الناس قال: لو كان لربّ هذا فـيه حاجة ما صنع به هذا فعند ذلك دعا.
18681ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا ابن علـية, عن يونس, عن الـحسن, قال: بقـي أيوب علـى كناسة لبنـي إسرائيـل سبع سنـين وأشهرا تـختلف علـيه الدوابّ.
18682ـ حدثنـي مـحمد بن إسحاق, قال: حدثنا يحيى بن معين, قال: حدثنا ابن عيـينة, عن عمرو, عن وهب بن منبه, قال: لـم يكن بأيوب أكلة, إنـما كان يخرج به مثل ثدي النساء ثم ينقـفه.
18683ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا مخـلد بن حسين, عن هشام, عن الـحسن, وحجاج عن مبـارك, عن الـحسن: زاد أحدهما علـى الاَخر قال: إن أيوب آتاه الله مالاً وأوسع علـيه, وله من النساء والبقر والغنـم ولإبل. وإن عدوّ الله إبلـيس قـيـل له: هل تقدر أن تفتن أيوب؟ قال: ربّ إن أيوب أصبح فـي دنـيا من مال وولد, ولا يستطيع أن لا يشكرك, ولكن سلطنـي علـى ماله وولده فسترى كيف يطيعنـي ويعصيك قال: فسلطه علـى ماله وولده. قال: فكان يأتـي بـالـماشية من ماله من الغنـم فـيحرقها بـالنـيران, ثم يأتـي أيوب وهو يصلـي متشبها براعي الغنـم, فـيقول: يا أيوب تصلـي لربك ما ترك الله لك من ماشيتك شيئا من الغنـم إلا أحرقها بـالنـيران, وكنت ناحية فجئت لأخبرك. قال: فـيقول أيوب: اللهمّ أنت أعطيت وأنت أخذت, مهما تبقـي نفسي أحمدك علـى حُسن بلائك فلا يقدر منه علـى شيء مـما يريد ثم يأتـي ماشيته من البقر فـيحرقها بـالنـيران, ثم يأتـي أيوب فـيقول له ذلك, ويردّ علـيه أيوب مثل ذلك. قال: وكذلك فعل بـالإبل حتـى ما ترك له من ماشية حتـى هدم البـيت علـى ولده, فقال: يا أيوب أرسل الله علـى ولدك من هدم علـيهم البـيوت حتـى هلكوا فـيقول أيوب مثل ذلك. قال: ربّ هذا حين أحسنت إلـيّ الإحسان كله, قد كنت قبل الـيوم يشغلنـي حبّ الـمال بـالنهار ويشغلنـي حبّ الولد بـاللـيـل شفقة علـيهم, فـالاَن أفرغ سمعي وبصري ولـيـلـي ونهاري بـالذكر والـحمد والتقديس والتهلـيـل فـينصرف عدوّ الله من عنده لـم يصب منه شيئا مـما يريد.
قال: ثم إن الله تبـارك وتعالـى قال: كيف رأيت أيوب؟ قال إبلـيس: أيوب قد علـم أنك ستردّ علـيه ماله وولده ولكن سلطنـي علـى جسده, فإن أصابه الضرّ فـيه أطاعنـي وعصاك قال: فسلط علـى جسده, فأتاه فنفخ فـيه نفخة قَرِح من لدن قرنه إلـى قدمه. قال: فأصابه البلاء بعد البلاء, حتـى حمل فوضع علـى مزبلة كُناسة لبنـي إسرائيـل. فلـم يبق له مال ولا ولد ولا صديق ولا أحد يقربه غير زوجته, صبرت معه بصدق, وكانت تأتـيه بطعام, وتـحمد الله معه إذا حمد, وأيوب علـى ذلك لا يفتر من ذكر الله, والتـحميد والثناء علـى الله والصبر علـى ما ابتلاه الله. قال الـحسن: فصرخ إبلـيس عدوّ الله صرخة جمع فـيها جنوده من أقطار الأرض جزعا من صبر أيوب فـاجتـمعوا إلـيه وقالوا له: جمعتنا, ما خبرك؟ ما أعياك؟ قال: أعيانـي هذا العبد الذي سألت ربـي أن يسلطنـي علـى ماله وولده فلـم أدع له مالاً ولا ولدا, فلـم يزدد بذلك إلا صبرا وثناء علـى الله وتـحميدا له, ثم سُلّطت علـى جسده فتركته قُرْحة ملقاة علـى كُناسة بنـي إسرائيـل, لا يقربه إلا امرأته, فقد افتضحت بربـي, فـاستعنت بكم, فأعينونـي علـيه قال: فقالوا له: أين مكرك؟ أين علـمك الذي أهلكت به من مضى؟ قال: بطل ذلك كله فـي أيوب, فأشيروا علـيّ قالوا: نشير علـيك, أرأيت آدم حين أخرجته من الـجنة, من أين أتـيته؟ قال: من قبَل امرأته, قالوا: فشأنك بأيوب مِن قبَل امرأته, فإنه لا يستطيع أن يعصيها ولـيس أحد يقربه غيرها. قال: أصبتـم. فـانطلق حتـى أتـى امرأته وهي تَصَدّق, فتـمثل لها فـي صورة رجل, فقال: أين بعلك يا أمة الله؟ قالت: هو ذاك يحكّ قروحه ويتردّد الدوابّ فـي جسده. فلـما سمعها طمع أن تكون كلـمة جزع, فوقع فـي صدرها فوسوس إلـيها فذكّرها ما كانت فـيه من النّعم والـمال والدوابّ, وذكّرها جمال أيوب وشبـابه, وما هو فـيه من الضرّ, وأن ذلك لا ينقطع عنهم أبدا. قال الـحسن: فصرخت فلـما صرخت علـم أن قد صرخت وجزعت, أتاها بسَخْـلة, فقال: لـيذبح هذا إلـيّ أيوب ويبرأ, قال: فجاءت تصرخ يا أيوب, يا أيوب, حتـى متـى يعذّبك ربك, ألا يرحمك؟ أين الـماشية؟ أين الـمال؟ أين الولد؟ أين الصديق؟ أين لونك الـحسن؟ قد تغير, وصار مثل الرماد؟ أين جسمك الـحسن الذي قد بلـي وتردد فـيه الدوابّ؟ اذبح هذه السّخْـلة واسترح قال أيوب: أتّاكِ عدوّ الله فنفخ فـيك فوجد فـيك رفقا وأجبته, ويـلك أرأيت ما تبكين علـيه مـما تذكرين مـما كنا فـيه من الـمال والولد والصحة والشبـاب؟ من أعطانـيه؟ قالت: الله. قال: فكم متّعنا به؟ قالت: ثمانـين سنة. قال: فمذكم ابتلانا الله بهذا البلاء الذي ابتلانا به؟ قالت: منذ سبع سنـين وأشهر. قال: ويـلك والله ما عدلت ولا أنصفت ربك ألا صبرت حتـى نكون فـي هذا البلاء الذي ابتلانا ربنا به ثمانـين سنة كما كنا فـي الرخاء ثمانـين سنة؟ والله لئن شفـانـي الله لأَجلدنّك مئة جلدة هيه أمرتـينـي أن أذبح لغير الله, طعامك وشرابك الذي تأتـينـي به علـيّ حرام وأن أذوق ما تأتـينـي به بعد, إذ قلت لـي هذا فـاغرُبـي عنـي فلا أراك فطردها, فذهبت, فقال الشيطان: هذا قد وطّن نفسه ثمانـين سنة علـى هذا البلاء الذي هو فـيه فبـاء بـالغلبة ورفضه. ونظر أيوب إلـى امرأته وقد طردها, ولـيس عنده طعام ولا شراب ولا صديق قال الـحسن: ومرّ به رجلان وهو علـى تلك الـحال, ولا والله ما علـى ظهر الأرض يومئذٍ أكرم علـى الله من أيوب, فقال أحد الرجلـين لصاحبه: لو كان لله فـي هذا حاجة, ما بلغ به هذا فلـم يسمع أيوب شيئا كان أشدّ علـيه من هذه الكلـمة.
18684ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن جرير بن حازم, عن عبد الله بن عبـيد بن عمير, قال: كان لأيوب أخوان, فأتـياه, فقاما من بعيد لا يقدران أن يدنوا منه من ريحه, فقال أحدهما لصاحبه: لو كان الله علـم فـي أيوب خيرا ما ابتلاه بـما أرى, قال: فما جزع أيوب من شيء أصابه جزعه من كلـمة الرجل. فقال أيوب: اللهمّ إن كنت تعلـم أنـي لـم أبت لـيـلة شبعان قطّ وأنا أعلـم مكان جائع فصدّقْنـي فصُدّق وهما يسمعان. ثم قال: اللهمّ إن كنت تعلـم أنـي لـم أتـخذ قميصين قطّ وأنا أعلـم مكان عار فصدّقنـي فصُدّق وهما يسمعان. قال: ثم خرّ ساجدا.
18685ـ فحدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: فحدثنـي مخـلد بن الـحسين, عن هشام, عن الـحسن, قال: فقال: رَب إنّـي مَسّنِـيَ الضّرّ ثم ردّ ذلك إلـى ربه فقال: وأنْتَ أرْحَمُ الرّاحِمِينَ.
18686ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن جرير, عن عبد الله بن عبـيد بن عمير, قال: فقـيـل له: ارفع رأسكْ فقد استـجيب لك.
18687ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن مبـارك, عن الـحسن ومخـلد, عن هشام, عن الـحسن, دخـل حديث أحدهما فـي الاَخر, قالا: فقـيـل له: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بـارِدٌ وَشَرَابٌ فركض برجله فنبعت عين, فـاغتسل منها, فلـم يبق علـيه من دائه شيء ظاهر إلا سقط, فأذهب الله كل ألـم وكل سقم, وعاد إلـيه شبـابه وجماله أحسن ما كان وأفضل ما كان. ثم ضرب برجله, فنبعت عين أخرى فشرب منها, فلـم يبق فـي جوفه داء إلا خرج, فقام صحيحا, وكُسِي حُلة. قال: فجعل يتلفت ولا يرى شيئا مـما كان له من أهل ومال إلا وقد أضعفه الله له, حتـى والله ذُكر لنا أن الـماء الذي اغتسل به تطاير علـى صدره جرادا من ذهب. قال: فجعل يضمه بـيده, فأوحى الله إلـيه: يا أيوب ألـم أغنك؟ قال: بلـى, ولكنها بركتك, فمن يشبع منها؟ قال: فخرج حتـى جلس علـى مكان مشرف. ثم إن امرأته قالت: أرأيت إن كان طردنـي إلـى من أَكِلُه؟ أدعه يـموت جوعا أو يضيع فتأكله السبـاع؟ لأرجعنّ إلـيه فرجعت, فلا كُناسة ترى, ولا من تلك الـحال التـي كانت, وإذا الأمور قد تغيرت, فجعلت تطوف حيت كانت الكناسة وتبكي, وذلك بعين أيوب قال: وهابت صاحب الـحُلة أن تأتـيه فتسأل عنه, فأرسل إلـيها أيوب فدعاها, فقال: ما تريدين يا أمة الله؟ فبكت وقالت: أردت ذلك الـمبتَلـي الذي كان منبوذا علـى الكُناسة, لا أدري أضاع أم ما فعل. قال لها أيوب: ما كان منك؟ فبكت وقالت: بعلـي, فهل رأيته وهي تبكي إنه قد كان ها هنا؟ قال: وهل تعرفـينه إذا رأيتـيه؟ قالت: وهل يخفـي علـى أحد رآه؟ ثم جعلت تنظر إلـيه وهي تهابه, ثم قالت: أما إنه كان أشبه خـلق الله بك إذ كان صحيحا. قال: فإنـي أنا أيوب الذي أمرتـينـي أن أذبح للشيطان, وإنـي أطعت الله وعصيت الشيطان, فدعوت الله فردّ علـى ما ترين. قال الـحسن: ثم إن الله رحمها بصبرها معه علـى البلاء أن أمره تـخفـيفـا عنها أن يأخذ جماعة من الشجر فـيضربها ضربة واحدة تـخفـيفـا عنها بصبرها معه.
18688ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: وأيّوبَ إذْ نادَى رَبّهُ أنّـي مَسّنِـيَ الضّرّ... إلـى آخر الاَيتـين, فإنه لـما مسه الشيطان بنُصُب وعذاب, أنساه الله الدعاء أن يدعوه فـيكشف ما به من ضرّ, غير أنه كان يذكر الله كثـيرا, ولا يزيده البلاء فـي الله إلا رغبة وحسن إيـمان. فلـما انتهى الأجل وقضى الله أنه كاشف ما به من ضرّ أذن له فـي الدعاء ويسّره له, وكان قبل ذلك يقول تبـارك وتعالـى: لا ينبغي لعبدي أيوب أن يدعونـي ثم لا أستـجيب له فلـما دعا استـجاب له, وأبدله بكل شيء ذَهَبَ له ضعفـين, ردّ إلـيه أهله ومثلهم معهم, وأثنى علـيه فقال: إنّا وَجَدْناه صابِرا نِعْمَ العَبْدُ إنّهُ أوّابُ.
واختلف أهل التأويـل فـي الأهل الذي ذكر الله فـي قوله: وآتَـيْناهُ أهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ أهم أهله الذين أوتـيهم فـي الدنـيا, أم ذلك وعد وعده الله أيوب أن يفعل به فـي الاَخرة؟ فقال بعضهم: إنـما آتـى الله أيوب فـي الدنـيا مثل أهله الـين هلكوا, فإنهم لـم يُرَدّوا علـيه فـي الدنـيا, وإنـما وعد الله أيوب أن يؤتـيه إياهم فـي الاَخرة.
18689ـ حدثنـي أبو السائب سلـم بن جنادة, قال: حدثنا ابن إدريس, عن لـيث, قال: أرسل مـجاهد رجلاً يقال له قاسم إلـى عكرمة يسأله عن قول الله لأيوب: وآتَـيْنَاهُ أهْلَهُ ومِثْلَهُمْ مَعَهُمْ فقال: قـيـل له: إن أهلك لك فـي الاَخرة, فإن شئت عجلناهم لك فـي الدنـيا, وإن شئت كانوا لك فـي الاَخرة وآتـيناك مثلهم فـي الدنـيا. فقال: يكونون لـي فـي الاَخرة, وأُوتَـى مثلهم فـي الدنـيا. قال: فرجع إلـى مـجاهد فقال: أصاب.
وقال آخرون: بل ردّهم إلـيه بأعيانهم وأعطاه مثلهم معهم. ذكر من قال ذلك:
18690ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام بن سلـم, عن أبـي سنان, عن ثابت, عن الضحاك, عن ابن مسعود: وآتَـيْنَاهُ أهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ قال: أهله بأعيانهم.
18691ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: لـما دعا أيوب استـجاب الله له, وأبدله بكل شيء ذهب له ضعفـين ردّ إلـيه أهله ومثلهم معهم.
18692ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد: وَوَهَبْنا لَهُ أهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ قال: أحياهم بأعيانهم, وردّ إلـيه مثلهم.
18693ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن لـيث, عن مـجاهد, فـي قوله: وآتَـيْنَاهُ أهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ قال: قـيـل له: إن شئت أحيـيناهم لك, وإن شئت كانوا لك فـي الاَخرة وتعطي مثلهم فـي الدنـيا. فـاختار أن يكونوا فـي الاَخرة ومثلهم فـي الدنـيا.
18694ـ حدثنا بِشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة: وآتَـيْناهُ أهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ قال الـحسن وقَتادة: أحيا الله أهله بأعيانهم, وزاده إلـيهم مثلهم.
وقال آخرون: بل آتاه الـمثل من نسل ماله الذي ردّه علـيه وأهله, فأما الأهل والـمال فإنه ردّهما علـيه. ذكر من قال ذلك:
18695ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن رجل, عن الـحسن: وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ قال: من نسلهم.
وقوله: رَحْمَةً نصبت بـمعنى: فعلنا بهم ذلك رحمة منا له. وقوله: وَذِكْرَى للْعابِدِينَ يقول: وتذكره للعابدين ربهم فعلنا ذلك به لـيعتبروا به ويعلـموا أن الله قد يبتلـي أولـياءه ومن أحبّ من عبـاده فـي الدنـيا بضروب من البلاء فـي نفسه وأهله وماله, من غير هوان به علـيه, ولكن اختبـارا منه له لـيبلغ بصبره علـيه واحتسابه إياه وحسن يقـينه منزلته التـي أعدها له تبـارك وتعالـى من الكرامة عنده. وقد:
18696ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن أبـي معشر, عن مـحمد بن كعب القرظي, فـي قوله: رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرَى للعابِدِينَ وقوله: (رَحْمَة مِنّا وذِكْرَى لأُولـي الأَلْبَـابِ) قال: أيـما مؤمن أصابه بلاء فذكر ما أصاب أيوب فلـيقل: قد أصاب من هو خير منا نبـيّا من الأنبـياء.

الآية : 85 و 86
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلّ مّنَ الصّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنّهُمْ مّنَ الصّالِحِينَ }.
يعنـي تعالـى ذكره بإسماعيـل بن إبراهيـم صادق الوعد, وبإدريس: أخنوخ, وبذي الكفل: رجلاً تكفل من بعض الناس, إما من نبـيّ وإما من ملك من صالـحي الـملوك بعمل من الأعمال, فقام به من بعده, فأثنـي الله علـيه حسن وفـائه بـما تكفل به وجعله من الـمعدودين فـي عبـاده, مع من حمد صبره علـى طاعة الله. وبـالذي قلنا فـي أمره جاءت الأخبـار عن سلف العلـماء. ذكر الرواية بذلك عنهم:
18697ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا مؤمل, قال: حدثنا سفـيان, عن الأعمش, عن الـمنهال بن عمرو, عن عبد الله بن الـحارث: أن نبـيّا من الأنبـياء, قال: من تكفل لـي أن يصوم النهار ويقوم اللـيـل ولا يغضب؟ فقام شاب فقال: أنا. فقال: اجلس: ثم عاد فقال: من تكفل لـي أن يقوم اللـيـل ويصوم النهار ولا يغضب؟ فقام ذلك الشاب فقال: أنا. فقال: اجلس ثم عاد فقال: من تكفل لـي أن يقوم اللـيـل ويصوم النهار ولا يغضب؟ فقام ذلك الشاب فقال: أنا فقال: تقوم اللـيـل وتصوم النهار ولا تغضب. فمات ذلك النبـيّ, فجلس ذلك الشاب مكانه يقضي بـين الناس, فكان لا يغضب. فجاءه الشيطان فـي صورة إنسان لـيُغضبه وهو صائم يريد أن يَقِـيـل, فضرب البـاب ضربـا شديدا, فقال: من هذا؟ فقال: رجل له حاجة. فأرسل معه رجلاً, فقال: لا أرضى بهذا الرجل. فأرسل معه آخر, فقال: لا أرضى بهذا. فخرج إلـيه فأخذ بـيده فـانطلق معه, حتـى إذا كان فـي السوق خلاّه وذهب, فسُمّي ذا الكفل.
18698ـ حدثنا ابن الـمثنـي, قال: حدثنا عفـان بن مسلـم, قال: حدثنا وهيب, قال: حدثنا داود, عن مـجاهد, قال: لـما كبر الـيسع قال: لو أنـي استـخـلفت علـى الناس رجلاً يعمل علـيهم فـي حياتـي حتـى أنظر كيف يعمل. قال: فجمع الناس, فقال: من يَتَقَبّلْ لـي بثلاث أستـخـلفه: يصوم النهار, ويقوم اللـيـل, ولا يغضب؟ قال: فقام رجل تزدريه العين, فقال: أنا. فقال: أنت تصوم النهار وتقوم اللـيـل ولا تغضب؟ قال: نعم. قال: فردّهم ذلك الـيوم, وقال مثلها الـيوم الاَخر, فسكت الناس وقام ذلك الرجل, فقال: أنا. فـاسْتَـخْـلَفَه. قال: فجعل إبلـيس يقول للشياطين: علـيكم بفلان فأعياهم, فقال: دعونـي وإياه فأتاه فـي صورة شيخ كبـير فقـير, فأتاه حين أخذ مضجعه للقائلة, وكان لا ينام اللـيـل والنهار إلا تلك النومة, فدقّ البـاب, فقال: من هذا؟ قال: شيخ كبـير مظلوم. قال: فقام ففتـح البـاب, فجعل يقصّ علـيه, فقال: إن بـينـي وبـين قومي خصومة, وإنهم ظلـمونـي وفعلوا بـي وفعلوا. فجعل يطوّل علـيه, حتـى حضر الرّواح وذهبت القائلة, وقال: إذا رحت فأتنى آخذ لك بحقك فـانطلق وراح, فكان فـي مـجلسه, فجعل ينظر هل يرى الشيخ, فلـم يره, فجعل يبتغيه. فلـما كان الغد جعل يقضي بـين الناس وينتظره فلا يراه. فلـما رجع إلـى القائلة, فأخذ مضجعه, أتاه فدقّ البـاب, فقال: من هذا؟ قال: الشيخ الكبـير الـمظلوم. ففتـح له, فقال: ألـم أقل لك إذا قعدت فأْتنـي؟ فقال: إنهم أخبث قوم, إذا عرفوا أنك قاعد قالوا نـحن نعطيك حقك, وإذا قمت جحدونـي. قال: فـانطلِقْ فإذا رحت فأتنـي قال: ففـاتته القائلة, فراح فجعل ينظر فلا يراه, فشقّ علـيه النعاس, فقال لبعض أهله: لا تدعُنّ أحدا يقرب هذا البـاب حتـى أنام, فإنـي قد شقّ علـيّ النوم فلـما كان تلك الساعة جاء, فقال له الرجل وراءَك, فقال: إنـي قد أتـيته أمس فذكرت له أمري, قال: والله لقد أمرنا أن لا ندع أحدا يقربه. فلـما أعياه نظر فرأى كوّة فـي البـيت, فتسوّر منها, فإذا هو فـي البـيت, وإذا هو يدقّ البـاب, قال: واستـيقظ الرجل فقال: يا فلان, ألـم آمرك؟ قال: أما من قِبلـى والله فلـم تُؤْتَ, فـانظر من أين أُتِـيتَ قال: فقام إلـى البـاب, فإذا هو مغلق كما أغلقه, وإذا هو معه فـي البـيت, فعرفه فقال: أعدوّ الله؟ قال: نعم أعيـيتنـي فـي كل شيء, ففعلت ما ترى لأغضبك. فسماه ذا الكفل, لأنه تكفل بأمر فوفـى به.
18699ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, فـي قوله: وَذَا الكِفْلِ قال رجل صالـح غير نبـيّ, تكفل لنبـيّ قومه أن يكفـيه أمر قومه ويقـيـمه لهم ويقضي بـينهم بـالعدل, ففعل ذلك, فسُمّي ذا الكِفل.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد بنـحوه, إلا أنه قال: ويقضي بـينهم بـالـحقّ.
18700ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن أبـي معشر, عن مـحمد بن قـيس قال: كان فـي بنـي إسرائيـل مِلك صالـح, فكبر, فجمع قومه فقال: أيكم يكفل لـي بـمُلكي هذا علـى أن يصوم النهار ويقوم اللـيـل ويحكم بـين بنـي إسرائيـل بـما أنزل الله ولا يغضب؟ قال: فلـم يقم أحد إلا فتـى شاب, فـازدراه لـحداثة سنه, فقال: أيكم يكفل لـي بـملكي هذا علـى أن يصوم النهار ويقوم اللـيـل ولا يغضب ويحكم بـين بنـي إسرائيـل بـما أنزل الله؟ فلـم يقم إلا ذلك الفتـى قال: فـازدراه. فلـما كانت الثالثة قال مثل ذلك, فلـم يقم إلا ذلك الفتـى, فقال: تعال فخـلـى بـينه وبـين ملكه. فقالـم الفتـى لـيـلة فلـما أصبح جعل يحكم بـين بنـي إسرائيـل فلـما انتصف النهار دخـل لـيقـيـل, فأتاه الشيطان فـي صورة رجل من بنـي آدم, فجذب ثوبه, فقال: أتنام والـخصوم ببـابك؟ قال: إذا كان العشية فأتنـي قال فـانتظره بـالعشيّ فلـم يأته فلـما انتصف النهار دخـل لـيَقِـيـل, جذب ثوبه وقال: أتنام والـخصوم علـى بـابك؟ قال: قلت لك: ائتنـي العشيّ فلـم تأتنـي, ائتنـي, بـالعشيّ فلـما كان بـالعشيّ انتظره فلـم يأت فلـما دخـل لـيقـيـل جذب ثوبه, فقال: أتنام والـخصوم ببـابك؟ قال: أخبرنـي من أنت, لو كنت من الإنس سمعت ما قلت قال: هو الشيطان, جئت لأفتنك فعصمك الله منـي. فقضي بـين بنـي إسرائيـل بـما أنزل الله زمانا طويلاً, وهو ذو الكفل, سُمي ذا الكفل لأنه تكفل بـالـملك.
18701ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة, عن أبـي موسى الأشعريّ, قال وهو يخطب الناس: إن ذا الكفل لـم يكن نبـيّا ولكن كان عبدا صالـحا, تكفل بعمل رجل صالـح عند موته, كان يصلـي لله كل يوم مئة صلاة, فأحسن الله علـيه الثناء فـي كفـالته إياه.
18702ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا الـحكم, قال: حدثنا عمرو, قال: أمّا ذو الكفل فإنه كان علـى بنـي إسرائيـل مَلِك فلـما حضره الـموت, قال: من يكفل لـي أن يكفـينـي بنـي إسرائيـل ولا يغضب ويصلـي كل يوم مئة صلاة؟ فقال ذو الكفل: أنا. فجعل ذو الكفل يقضي بـين الناس, فإذا فرغ صلـى مئة صلاة. فكاده الشيطان, فأمهله حتـى إذا قضي بـين الناس وفرغ من صلاته وأخذ مضجعه فنام, أتـى الشيطان بـابه فجعل يدقه, فخرج إلـيه, فقال: ظُلـمت وصُنع بـي فأعطاه خاتـمه وقال: اذهب فأتنـي بصاحبك وانتظره, فأبطأ علـيه الاَخر, حتـى إذا عرف أنه قد نام وأخذ مضجعه, أتـى البـاب أيضا كي يغضبه, فجعل يدقه, وخدش وجه نفسه فسالت الدماء, فخرج إلـيه فقال: ما لك؟ فقال: لـم يتبعنـي, وضُربت وفُعل فأخذه ذو الكفل, وأنكر أمره, فقال: أخبرنـي من أنت؟ وأخذه أخذا شديدا, قال: فأخبره من هو.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, فـي قوله: وَذَا الكِفْل قال: قال أبو موسى الأشعريّ: لـم يكن ذو الكفل نبـيّا, ولكنه كَفَل بصلاة رجل كان يصلـي كل يوم مئة صلاة, فوفـى, فكفل بصلاته, فلذلك سُمي ذا الكفل.
ونُصِبَ «إسماعيـل» و «إدريس» و «ذا الكفل», عطفـا علـى «أيوب», ثم استؤنف بقوله: كُلّ فقال: كُلّ مِنَ الصّابِرِينَ ومعنى الكلام: كلهم من أهل الصبر فـيـما نابهم فـي الله.
وقوله: وأدْخَـلْناهُمْ فِـي رَحْمَتِنا إنّهُمْ مِنَ الصّالِـحِينَ يقول تعالـى ذكره: وأدخـلنا إسماعيـل وإدريس وذا الكفل والهاء والـميـم عائدتان علـيهم فِـي رَحْمَتِنا إنّهُمْ مِنَ الصّالِـحِين يقول: إنهم مـمن صلـح, فأطاع الله وعمل بـما أمره.
الآية : 87
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَذَا النّونِ إِذ ذّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنّ أَن لّن نّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىَ فِي الظّلُمَاتِ أَن لاّ إِلَـَهَ إِلاّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّي كُنتُ مِنَ الظّالِمِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: واذكر يا مـحمد ذا النون, يعنـي صاحب النون. والنون: الـحوت. وإنـما عَنَى بذي النون: يونس بن متـى, وقد ذكرنا قصته فـي سورة يونس بـما أغنـي عن ذكره فـي هذا الـموضع, وقوله: إذْ ذَهَبَ مُغاضِبـا يقول: حين ذهب مغاضبـا.
واختلف أهل التأويـل فـي معنى ذهابه مغاضبـا, وعمن كان ذهابه, وعلـى من كان غضبه, فقال بعضهم: كان ذهابه عن قومه وإياهم غاضب. ذكر من قال ذلك:
18703ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: وَذَا النّونِ إذْ ذَهَبَ مُغاضِبـا يقول: غضب علـى قومه.
18704ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: حدثنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: إذْ ذَهَبَ مُغاضِبـا أما غضبه فكان علـى قومه.
وقال آخرون: ذهب عن قومه مغاضبـا لربه, إذ كشف عنهم العذاب بعدما وعدهموه. ذكر من قال ذلك: وذكر سبب مغاضبته ربه فـي قولهم:
18705ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن يزيد بن زياد, عن عبد الله بن أبـي سلـمة, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, قال: بعثه الله يعنـي يونس إلـى أهل قريته, فردّوا علـيه ما جاءهم به وامتنعوا منه. فلـما فعلوا ذلك أوحى الله إلـيه: إنـي مرسل علـيهم العذاب فـي يوم كذا وكذا, فـاخرج من بـين أظهرهم فأعلـم قومه الذي وعده الله من عذابه إياهم, فقالوا: ارمقوه, فإن خرج من بـين أظهركم فهو والله كائن ما وعدكم. فلـما كانت اللـيـلة التـي وعدوا بـالعذاب فـي صبحها أدلـج ورآه القوم, فخرجوا من القرية إلـى براز من أرضهم, وفرّقوا بـين كل دابة وولدها, ثم عجوا إلـى الله, فـاستقالوه, فأقالهم, وتنظّر يونس الـخبر عن القرية وأهلها, حتـى مرّ به مارّ, فقال: ما فعل أهل القرية؟ فقال: فعلوا أن نبـيهم خرج من بـين أظهرهم, عرفوا أنه صدقهم ما وعدهم من العذاب, فخرجوا من قريتهم إلـى براز من الأرض, ثم فرقوا بـين كل ذات ولد وولدها. وعجّوا إلـى الله وتابوا إلـيه. فقبل منهم, وأخّر عنهم العذاب. قال: فقال يونس عند ذلك وغضب: والله لا أرجع إلـيهم كذّابـا أبدا, وعدتهم العذاب فـي يوم ثم رُدّ عنهم ومضى علـى وجهه مغاضبـا.
18706ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا عوف, عن سعيد بن أبـي الـحسن, قال: بلغنـي أن يونس لـما أصاب الذنب, انطلق مغاضبـا لربه, واستزلّه الشيطان.
18707ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا يحيى بن زكريا بن أبـي زائدة, عن مـجالد بن سعيد, عن الشعبـيّ, فـي قوله: إذْ ذَهَبَ مُغاضِبـا قال: مغاضبـا لربه.
18708ـ حدثنا الـحارث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا سفـيان, عن إسماعيـل بن عبد الـملك, عن سعيد بن جبـير فذكر نـحو حديث ابن حميد, عن سلـمة, وزاد فـيه: قال: فخرج يونس ينظر العذاب, فلـم ير شيئا, قال: جرّبوا علـيّ كذبـا فذهب مغاضبـا لربه حتـى أتـى البحر.
18709ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: حدثنا مـحمد بن إسحاق, عن ربـيعة بن أبـي عبد الرحمن, عن وهب بن منبه الـيـمانـي, قال: سمعته يقول: إن يونس بن متـى كان عبدا صالـحا, وكان فـي خـلقه ضيق. فلـما حملت علـيه أثقال النبوّة, ولها أثقال لا يحملها إلا قلـيـل, تفسخ تـحتها تفسخ الربع تـحت الـحمل, فقذفها بـين يديه, وخرج هاربـا منها. يقول الله لنبـيه صلى الله عليه وسلم: فـاصْبرْ كمَا صَبَرَ أُولُو العَزْم مِنَ الرسُلِ وَاصْبِرْ لِـحُكْمِ رَبّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الـحُوتِ: أي لا تُلْقِ أمري كما ألقاه.
وهذا القول, أعنـي قول من قال: ذهب عن قومه مغاضبـا لربه, أشبه بتأويـل الاَية, وذلك لدلالة قوله: فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَـيْهِ علـى ذلك. علـى أن الذين وجهوا تأويـل ذلك إلـى أنه ذهب مغاضبـا لقومه, إنـما زعموا أنهم فعلوا ذلك استنكارا منهم أن يغاضب نبـيّ من الأنبـياء ربه واستعظاما له. وهم بقـيـلهم أنه ذهب مغاضبـا لقومه قد دخـلوا فـي أمر أعظم مـما أنكروا, وذلك أن الذين قالوا: ذهب مغاضبـا لربه اختلفوا فـي سبب ذهابه كذلك, فقال بعضهم: إنـما فعل ما فعل من ذلك كراهة أن يكون بـين قوم قد جربوا علـيه الـخـلف فـيـما وعدهم, واسْتَـحْيَا منهم, ولـم يعلـم السبب الذي دفع به عنهم البلاء. وقال بعض من قال هذا القول: كان من أخلاق قومه الذي فـارقهم قتل من جرّبوا علـيه الكذب, عسى أن يقتلوه من أجل أنه وعدهم العذاب, فلـم ينزل بهم ما وعدهم من ذلك. وقد ذكرنا الرواية بذلك فـي سورة يونس, فكرهنا إعادته فـي هذا الـموضع.
وقال آخرون: بل إنـما غاضب ربه من أجل أنه أمر بـالـمصير إلـى قوم لـينذرهم بأسه ويدعوهم إلـيه, فسأل ربه أن يُنْظره لـيتأهب للشخوص إلـيهم, فقـيـل له: الأمر أسرع من ذلك ولـم يُنْظر حتـى شاء أن ينظر إلـى أن يأخذ نعلاً لـيـلبسها, فقـيـل له نـحو القول الأوّل. وكان رجلاً فـي خـلقه ضيق, فقال: أعجلنـي ربـي أن آخذ نعلاً فذهب مغاضبـا.
ومـمن ذُكر هذا القول عنه: الـحسن البصريّ.
18710ـ حدثنـي بذلك الـحارث, قال: حدثنا الـحسن بن موسى, عن أبـي هلال, عن شهر بن حوشب, عنه.
قال أبو جعفر: ولـيس فـي واحد من هذين القولـين من وصف نبـيّ الله يونس صلوات الله علـيه شيء إلا وهو دون ما وصفه بـما وصفه الذين قالوا: ذهب مغاضبـا لقومه لأن ذهابه عن قومه مغاضبـا لهم, وقد أمره الله تعالـى بـالـمُقام بـين أظهرهم, لـيبلغهم رسالته ويحذّرهم بأسه وعقوبته علـى تركهم الإيـمان به والعمل بطاعته لا شك أن فـيه ما فـيه. ولولا أنه قد كان صلى الله عليه وسلم أتـى ما قاله الذين وصفوه بإتـيان الـخطيئة, لـم يكن الله تعالـى ذكره لـيعاقبه العقوبة التـي ذكرها فـي كتابه ويصفه بـالصفة التـي وصفه بها, فـيقول لنبـيه صلى الله عليه وسلم: وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الـحُوتِ إذْ نادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ويقول: فـالْتَقَمَهُ الـحُوتُ وَهُوَ مُلِـيـمٌ فَلَوْلا أنهُ كانَ مِنَ الـمُسَبّحِينَ لَلَبِثَ فِـي بَطْنِهِ إلـى يَوْمِ يُبْعَثُونَ.
وقوله: فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَـيْهِ اختلف أهل التأويـل فـي تأويـله, فقال بعضهم: معناه: فظنّ أن لن نعاقبه بـالتضيـيق علـيه. من قولهم قدرت علـى فلان: إذا ضيقت علـيه, كما قال الله جلّ ثناؤه: وَمَنْ قُدِرَ عَلَـيْهِ رِزْقُهُ فَلْـيُنْفِقْ مِـمّا آتاهُ اللّهُ. ذكر من قال ذلك:
18711ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَـيْهِ يقول: ظنّ أن لن يأخذه العذاب الذي أصابه.
18712ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَـيْهِ يقول: ظنّ أن لن نقضيَ علـيه عقوبة ولا بلاء فـيـما صنع بقومه فـي غضبه إذ غضب علـيهم وفراره. وعقوبته أخذ النون إياه.
18713ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, عن شعبة, عن الـحكم, عن مـجاهد, أنه قال فـي هذه الاَية: فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَـيْهِ قال: فظنّ أن لن نعاقبه بذنبه.
حدثنـي موسى بن عبد الرحمن الـمسروقـي, قال: حدثنا زيد بن حبـاب, قال: ثنـي شعبة, عن مـجاهد, ولـم يذكر فـيه الـحكم.
18714ـ حدثنا بِشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة, قوله: فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَـيْهِ قال: يقول: ظنّ أن لن نعاقبه.
حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة والكلبـيّ: فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَـيْهِ قالا: ظنّ أن لن نقضيَ علـيه العقوبة.
18715ـ حُدثت عن الـحسين. قال: سمعت أبـا معاذ يقول: حدثنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ يقول: ظنّ أن الله لن يقضي علـيه عقوبة ولا بلاء فـي غضبه الذي غضب علـى قومه وفراقه إيّاهم.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن ابن عبـاس, فـي قوله: فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَـيْهِ قال: البلاء الذي أصابه.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فظنّ أنه يُعجز ربه فلا يقدر علـيه. ذكر من قال ذلك:
18716ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا عوف, عن سعيد بن أبـي الـحسن, قال: بلغنـي أن يونس لـما أصاب الذنب, انطلق مغاضبـا لربه, واستزلّه الشيطان, حتـى ظن أن لن نقدر علـيه. قال: وكان له سلف وعبـادة وتسبـيح. فأبى الله أن يدعه للشيطان, فأخذه فقذفه فـي بطن الـحوت, فمكث فـي بطن الـحوت أربعين من بـين لـيـلة ويوم, فأمسك الله نفسه, فلـم يقتله هناك. فتاب إلـى ربه فـي بطن الـحوت, وراجع نفسه. قال: فقال: سُبْحانَكَ إنّـي كُنْتُ مِنَ الظّالِـمِينَ قال: فـاستـخرجه الله من بطن الـحوت برحمته بـما كان سلف من العبـادة والتسبـيح, فجعله من الصالـحين. قال عوف: وبلغنـي أنه قال فـي دعائه: وبنـيت لك مسجدا فـي مكان لـم يبنه أحد قبلـي.
18717ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا هوذة, قال: حدثنا عوف, عن الـحسن: فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَـيْهِ وكان له سلف من عبـادة وتسبـيح, فتداركه الله بها فلـم يَدَعْه للشيطان.
18718ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن عبد الرحمن بن الـحارث, عن إياس بن معاوية الـمدنـي, أنه كان إذا ذكر عنده يونس, وقوله: فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَـيْهِ يقول إياس: فلِـم فرّ؟
وقال آخرون: بل ذلك بـمعنى الاستفهام, وإنـما تأويـله: أفظنّ أن لن نقدر علـيه؟ ذكر من قال ذلك:
18719ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَـيْهِ قال: هذا استفهام. وفـي قوله: فَمَا تُغْنِـي النّذُر قال: استفهام أيضا.
قال أبو جعفر: وأولـى هذه الأقوال فـي تأويـل ذلك عندي بـالصواب, قول من قال: عَنَى به: فظنّ يونس أن لن نـحبسه ونضيق علـيه, عقوبة له علـى مغاضبته ربه.
وإنـما قلنا ذلك أولـى بتأويـل الكلـمة, لأنه لا يجوز أن يُنْسب إلـى الكفر وقد اختاره لنبوّته, ووَصْفُه بأن ظنّ أن ربه يعجز عما أراد به ولا يقدر علـيه, وَصْفٌ له بأنه جهل قدرة الله, وذلك وصف له بـالكفر, وغير جائز لأحد وصفه بذلك. وأما ما قاله ابن زيد, فإنه قول لو كان فـي الكلام دلـيـل علـى أنه استفهام حسن, ولكنه لادلالة فـيه علـى أن ذلك كذلك. والعرب لا تـحذف من الكلام شيئا لهم إلـيه حاجة إلا وقد أبقت دلـيلاً علـى أنه مراد فـي الكلام, فإذا لـم يكن فـي قوله: فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدرَ عَلَـيْهِ دلالة علـى أن الـمراد به الاستفهام كما قال ابن زيد, كان معلوما أنه لـيس به وإذ فسد هذان الوجهان, صحّ الثالث وهو ما قلنا.
وقوله: فَنَادَى فـي الظّلُـماتِ اختلف أهل التأويـل فـي الـمعنـيّ بهذه الظلـمات, فقال بعضهم: عُنـي بها ظلـمة اللـيـل, وظلـمة البحر, وظلـمة بطن الـحوت. ذكر من قال ذلك:
18720ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن إسرائيـل, عن أبـي إسحاق, عن عمرو بن ميـمون: فَنادَى فـي الظّلُـمات قال: ظلـمة بطن الـحوت, وظلـمة البحر, وظلـمة اللـيـل. وكذلك قال أيضا ابن جُرَيْج.
18721ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن يزيد بن زياد, عن عبد الله بن أبـي سلـمة, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, قال: نادى فـي الظلـمات: ظلـمة اللـيـل, وظلـمة البحر, وظلـمة بطن الـحوت لا إله إلاّ أنْتَ سُبْحانَكَ إنّـي كُنْتُ مِنَ الظّالِـمينَ.
18722ـ حدثنـي مـحمد بن إبراهيـم السلـمي, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: أخبرنا مـحمد بن رفـاعة, قال: سمعت مـحمد ابن كعب يقول فـي هذه الاَية: فَنادَى فـي الظّلُـماتِ قال: ظلـمة اللـيـل, وظلـمة البحر, وظلـمة بطن الـحوت.
18723ـ حدثنا بِشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة, قوله: فَنادَى فـي الظّلُـماتِ قال: ظلـمة اللـيـل, وظلـمة البحر, وظلـمة بطن الـحوت.
حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قَتادة: فَنادَى فـي الظّلُـماتِ قال: ظلـمة بطن الـحوت, وظلـمة البحر, وظلـمة اللـيـل.
وقال آخرون: إنـما عَنَى بذلك أنه نادى فـي ظلـمة جوف حوت فـي جوف حوت آخر فـي البحر. قالوا: فذلك هو الظلـمات. ذكر من قال ذلك:
18724ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن منصور, عن سالـم بن أبـي الـجعد: فَنادَى فـي الظّلُـماتِ قال: أوحى الله إلـى الـحوت أن لا تضرّ له لـحما ولا عظما. ثم ابتلع الـحوت حوت آخر, قال: فَنادَى فـي الظّلُـماتِ قال: ظلـمة الـحوت, ثم حوت, ثم ظلـمة البحر.
قال أبو جعفر: والصواب من القول فـي ذلك أن يقال: إن الله أخبر عن يونس أنه ناداه فـي الظلـمات: إنْ لا إلهَ إلا أنْتَ سُبْحانَكَ إنّـي كُنْتُ مِنَ الظّالِـمِينَ وَلا شك أنه قد عنى بإحدى الظلـمات: بطن الـحوت, وبـالأخرى: ظلـمة البحر, وفـي الثالثة اختلاف, وجائز أن تكون تلك الثالثة ظلـمة اللـيـل, وجائز أن تكون كون الـحوت فـي جوف حوت آخر. ولا دلـيـل يدلّ علـى أيّ ذلك من أيّ, فلا قول فـي ذلك أولـى بـالـحق من التسلـيـم لظاهر التنزيـل.
وقوله: لا إلَهَ إلاّ أنْتَ سُبْحانَكَ يقول: نادى يونس بهذا القول معترفـا بذنبه تائبـا من خطيئته إنّـي كُنْتُ مِنَ الظّالِـمِينَ فـي معصيتـي إياك. كما:
18725ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن يزيد بن زياد, عن عبد الله بن أبـي سلـمة, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, قال: نادَى فـي الظّلُـماتِ أنْ لا إلَهَ إلاّ أنْتَ سُبْحانَكَ إنّـي كُنْتُ مِنَ الظّالِـمِينَ معترفـا بذنبه, تائبـا من خطيئته.
18726ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: أبو معشر: قال مـحمد بن قـيس: قوله: لا إلَهَ إلاّ أنْتَ سُبْحانَكَ ما صنعتُ من شيء فلـم أعبد غيرك, إنّـي كُنْتُ مِنَ الظّالِـمِينَ حين عصيتك.
18727ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا جعفر بن سلـيـمان, عن عوف الأعرابـي, قال: لـما صار يونس فـي بطن الـحوت ظن أنه قد مات. ثم حرّك رجله, فلـما تـحركت سجد مكانه, ثم نادى: يا ربّ اتـخذتُ لك مسجدا فـي موضع ما اتـخذه أحد
18728ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: ثنـي ابن إسحاق عمن حدثه, عن عبد الله بن رافع, مولـى أمّ سلـمة زوج النبـيّ صلى الله عليه وسلم, قال: سمعت أبـا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَـمّا أرَادَ اللّهُ حَبْسَ يُونُسَ فِـي بَطْنِ الـحُوتِ, أوْحَى اللّهُ إلـى الـحُوتِ: أنْ خُذْهُ وَلا تَـخْدِشْ لَهُ لَـحْما وَلا تَكْسِرْ عَظْما فأخَذَهُ, ثُمّ هَوَى بِهِ إلـى مَسْكَنِهِ مِنَ البَحْرِ فَلَـمّا انْتَهَى بِهِ إلـى أسْفَلِ البَحْرِ, سَمِعَ يُونُسُ حِسّا, فَقالَ فِـي نَفْسِهِ: ما هَذَا؟ قالَ: فَأَوْحَى اللّهُ إلَـيْهِ وَهُوَ فِـي بَطْنِ الـحُوتِ: إنّ هَذَا تَسْبِـيحُ دَوَابّ البَحْرِ, قالَ: فَسَبّحَ وَهُوَ فِـي بَطْنِ الـحُوتِ, فَسَمِعَتِ الـمَلائِكَةُ تَسْبِـيحَهُ, فَقالُوا: يا رَبّنا إنّا نَسْمَعُ صَوْتا ضَعِيفـا بأرْضٍ غَرِيبَة؟ قالَ: ذَاكَ عَبْدِي يُونُسُ, عَصَانِـي فَحَبَسْتُهُ فِـي بَطْنِ الـحُوتِ فِـي البَحْرِ. قالُوا: العَبْدُ الصّالِـحُ الّذِي كانَ يَصْعَدُ إلَـيْكَ مِنْهُ فِـي كُلّ يَوْمٍ وَلَـيْـلَةٍ عَمَلٌ صَالِـحٌ؟ قالَ: نَعَمْ. قالَ: فَشَفَعُوا لَهُ عِنْدَ ذلكَ, فَأمَرَ الـحُوتَ فَقَذَفَهُ فِـي السّاحِلِ كما قالَ اللّهُ تَبـارَكَ وَتَعالـى: وَهُوَ سَقِـيـمٌ».


الآية : 88
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجّيْنَاهُ مِنَ الْغَمّ وَكَذَلِكَ نُنجِـي الْمُؤْمِنِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: فـاسَتْـجَبْنَا لـيونس دعاءه إيانا, إذ دعانا فـي بطن الـحوت, ونـجيناه من الغمّ الذي كان فـيه بحبْسناه فـي بطن الـحوت وغمه بخطيئته وذنبه وكذَلكَ نُنْـجِي الـمُؤْمِنِـينَ يقول جلّ ثناؤه: وكما أنـجينا يونس من كرب الـحبس فـي بطن الـحوت فـي البحر إذ دعانا, كذلك ننـجي الـمؤمنـين من كربهم إذا استغاثوا بنا ودعونا.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك جاء الأثر. ذكر من قال ذلك:
18729ـ حدثنا عمران بن بكار الكُلاعيّ, قال: حدثنا يحيى بن عبد الرحمن, قال: حدثنا أبو يحيى بن عبد الرحمن, قال: ثنـي بشر بن منصور, عن علـيّ بن زيد, عن سعيد بن الـمسيب, قال: سمعت سعد بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اسْمُ اللّهِ الّذِي إذَا دُعِيَ بِهِ أجابَ وَإذَا سُئلَ بِهِ أعْطَى, دَعْوَةُ يُونُسَ بْنِ مَتّـى». قال: فقلت: يا رسول الله, هي لـيونس بن متـى خاصة أم لـجماعة الـمسلـمين؟ قالَ: «هيَ لِـيُونُسَ بْنِ مَتّـى خاصّةً, وللْـمُؤْمِنِـينَ عامّةً إذَا دَعَوْا بِها ألَـمْ تَسْمَعْ قَوْلَ اللّهِ تَبـارَكَ وَتَعالـى فَنادَى فِـي الظّلُـماتِ أنْ لا إلَهَ إلاّ أنْتَ سُبْحانَكَ إنّـي كُنْتُ مِنَ الظّالِـمِينَ فـاسْتَـجَبْنا لَهُ وَنّـجيّنْاهُ مِنَ الغَمّ وكَذلكَ نُنْـجِي الـمُؤْمنـينَ؟ فهو شرط الله لـمن دعاه بها».
واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: نُنْـجِي الـمُؤْمِنِـينَ فقرأت ذلك قرّاء الأمصار, سوى عاصم, بنونـين الثانـية منهما ساكنة, من أنـجيناه, فنـحن ننـجيه. وإنـما قرءوا ذلك كذلك وكتابته فـي الـمصاحف بنون واحدة, لأنه لو قرىء بنون واحدة وتشديد الـجيـم, بـمعنى ما لـم يسمّ فـاعله, كان «الـمؤمنون» رفعا, وهم فـي الـمصاحف منصوبون, ولو قرىء بنون واحدة وتـخفـيف الـجيـم, كان الفعل للـمؤمنـين وكانوا رفعا, ووجب مع ذلك أن يكون قوله «نـجى» مكتوبـا بـالألف, لأنه من ذوات الواو, وهو فـي الـمصاحف بـالـياء.
فإن قال قائل: فكيف كتب ذلك بنون واحد, وقد علـمت أن حكم ذلك إذا قرىء: نُنْـجِي أن يُكتب بنونـين؟ قـيـل: لأن النون الثانـية لـما سكنت وكان الساكن غير ظاهر علـى اللسان حذفت كما فعلو ذلك ب «إلاّ» لا, فحذفوا النون من «إنْ» لـخفـائها, إذ كانت مندغمة فـي اللام من «لا». وقرأ ذلك عاصم: «نُـجّي الـمُؤمِنِـينَ» بنون واحدة, وتثقـيـل الـجيـم, وتسكين الـياء. فإن يكن عاصم وجه قراءته ذلك إلـى قول العرب: ضرب الضرب زيدا, فكنى عن الـمصدر الذي هو النـجاء, وجعل الـخبر أعنـي خبر ما لـم يسمّ فـاعله الـمؤمنـين, كأنه أراد: وكذلك نُـجّي النّـجاءُ الـمؤمنـين, فكنى عن النـجاء فهو وجه, وإن كان غيره أصوب, وإلا فإن الذي قرأ من ذلك علـى ما قرأه لـحنّ, لأن الـمؤمنـين اسم علـى القراءة التـي قرأها ما لـم يسمّ فـاعله, والعرب ترفع ما كان من الأسماء كذلك. وإنـما حمل عاصما علـى هذه القراءة أنه وجد الـمصاحف بنون واحدة وكان فـي قراءته إياه علـى ما علـيه قراءة القرّاء إلـحاق نون أخرى لـيست فـي الـمصحف, فظنّ أن ذلك زيادة ما لـيس فـي الـمصحف, ولـم يعرف لـحذفها وجها يصرفه إلـيه.
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة التـي لا أستـجيز غيرها فـي ذلك عندنا ما علـيه قرّاء الأمصار, من قراءته بنونـين وتـخفـيف الـجيـم, لإجماع الـحجة من القرّاء علـيها وتـخطئتها خلافه.

الآية : 89 و 90
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَزَكَرِيّآ إِذْ نَادَىَ رَبّهُ رَبّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىَ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: واذكر يا مـحمد زكريا حين نادى ربه رَبّ لا تَذَرْنِـي وحيدا فَرْدا لا ولد لـي ولا عَقِب وأنْتَ خَيْرُ الوَارِثِـينَ يقول: فـارزقنـي وارثا من آل يعقوب يرثنـي. ثم ردّ الأمر إلـى الله فقال: وأنْتَ خَيْرُ الوَارِثِـينَ يقول الله جلّ ثناؤه: فـاستـجبنا لزكريا دعاءه, ووهبنا له يحيى ولدا ووارثا يرثه, وأصلـحنا له زوجه.
واختلف أهل التأويـل فـي معنى الصلاح الذي عناه الله جلّ ثناؤه بقوله: وأصْلَـحْنا لَهُ زَوْجَه فقال بعضهم: كانت عقـيـما فأصلـحها بأن جعلها وَلُودا. ذكر من قال ذلك:
18730ـ حدثنا مـحمد بن عبـيد الـمـحاربـيّ, قال: حدثنا حاتـم بن إسماعيـل, عن حميد بن صخر, عن عمار, عن سعيد, فـي قوله: وأصْلَـحْنا لَهُ زَوْجَهُ قال: كانت لا تلد.
18731ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عبـاس, فـي قوله: وأصْلَـحْنا لَهُ زَوْجَهُ قال: وهبنا له ولدها.
18732ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: وأصلْـحْنَا لَهُ زَوْجَهُ كانت عاقرا, فجعلها الله وَلودا, ووهب له منها يحيى.
وقال آخرون: كانت سيئة الـخُـلق, فأصلـحها الله له بأن رزقها حُسن الـخُـلُق.
قال أبو جعفر: والصواب من القول فـي ذلك أن يقال: إن الله أصلـح لزكريا زوجه, كما أخبر تعالـى ذكره بأن جعلها ولودا حسنة الـخُـلُق لأن كل ذلك من معانـي إصلاحه إياها. ولـم يخصُصِ الله جلّ ثناؤه بذلك بعضا دون بعض فـي كتابه ولا علـى لسان رسوله, ولا وضع علـى خصوص ذلك دلالة, فهو علـى العموم ما لـم يأت ما يجب التسلـيـم له بأن ذلك مراد به بعض دون بعض.
وقوله: إنّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِـي الـخَيْرَاتِ يقول الله: إن الذين سميناهم يعنـي زكريا وزوجه ويحيى كانوا يسارعون فـي الـخيرات فـي طاعتنا, والعمل بـما يقرّبهم إلـينا.) وقوله: وَيَدْعُونَنا رَغَبـا وَرَهَبـا يقول تعالـى ذكره: وكانوا يعبدوننا رغبـا ورهَبـا. وعَنَى بـالدعاء فـي هذا الـموضع: العبـادة, كما قال: وأعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ وأدْعُو رَبّـي عَسى أن لا أكُونَ بدُعاءِ رَبّـي شَقِـيّا ويعنـي بقوله: رَغَبـا أنهم كانوا يعبدونه رغبة منهم فـيـما يرجون منه من رحمته وفضله. وَرَهَبـايعنـي رهبة منهم من عذابه وعقابه, بتركهم عبـادته وركوبهم معصيته.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
18733ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج: إنّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِـي الـخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنا رَغَبـا وَرَهبَـا قال: رغبـا فـي رحمة الله, ورهبـا من عذاب الله.
18734ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَيَدْعُونَنا رَغَبـا وَرَهَبـا قال: خوفـا وطمعا. قال: ولـيس ينبغي لأحدهما أن يفـارق الاَخر.
واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الأمصار: رَغَبـا وَرَهبـا بفتـح الغين والهاء من الرغَب والرهَب. واختلف عن الأعمش فـي ذلك, فرُويت عنه الـموافقة فـي ذلك للقرّاء, ورُوي عنه أنه قرأها: «رُغْبـا» «ورُهْبـا» بضم الراء فـي الـحرفـين وتسكين الغين والهاء.
والصواب من القراءة فـي ذلك ما علـيه قرّاء الأمصار, وذلك الفتـح فـي الـحرفـين كلـيهما.
وقوله: وكانُوا لَنا خاشِعِينَ يقول: وكانوا لنا متواضعين متذللـين, ولا يستكبرون عن عبـادتنا ودعائنا