سورة الأنبياء | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 330 من المصحف
** وَالّتِيَ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَآ آيَةً لّلْعَالَمِينَ
هكذا يذكر تعالى قصة مريم وابنها عيسى عليهما السلام مقرونة بقصة زكريا وابنه يحيى عليهما السلام, فيذكر أولاً قصة زكريا ثم يتبعها بقصة مريم, لأن تلك مربوطة بهذه, فإنها إيجاد ولد من شيخ كبير قد طعن في السن, ومن امرأة عجوز عاقر لم تكن تلد في حال شبابها, ثم يذكر قصة مريم وهي أعجب فإنها إيجاد ولد من أنثى بلا ذكر, هكذا وقع في سورة آل عمران وفي سورة مريم, وههنا ذكر قصة زكريا ثم أتبعها بقصة مريم بقوله: {والتي أحصنت فرجه} يعني مريم عليها السلام, كما قال في سورة التحريم: {ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحن}.
وقوله {وجعلناها وابنها آية للعالمين} أي دلالة على أن الله على كل شيء قدير, وأنه يخلق ما يشاء, وإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون, وهذا كقوله: {ولنجعله آية للناس} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عمر بن علي, حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد عن شعيب يعني ابن بشر, عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: {للعالمين} قال: العالمين الجن والإنس.
** إِنّ هَـَذِهِ أُمّتُكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبّكُمْ فَاعْبُدُونِ * وَتَقَطّعُوَاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ * فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنّا لَهُ كَاتِبُونَ
قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: {إن هذه أمتكم أمة واحدة} يقول: دينكم دين واحد وقال الحسن البصري في هذه الاَية يبين لهم ما يتقون وما يأتون, ثم قال: {إن هذه أمتكم أمة واحدة} أي سنتكم سنة واحدة, فقوله إن هذه إن واسمها, وأمتكم خبر إن, أي هذه شريعتكم التي بينت لكم ووضحت لكم. وقوله أمة واحدة نصب على الحال, ولهذا قال: {وأنا ربكم فاعبدون} كما قال: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً ـ إلى قوله ـ وأنا ربكم فاتقون} وقال رسول اللهصلى الله عليه وسلم: «نحن معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد» يعني أن المقصود هو عبادة الله وحده لا شريك له بشرائع متنوعة لرسله, كما قال تعالى: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاج}.
وقوله: {وتقطعوا أمرهم بينهم} أي اختلفت الأمم على رسلها فمن بين مصدق لهم ومكذب, ولهذا قال: {كل إلينا راجعون} أي يوم القيامة, فيجازي كل بحسب عمله, إن خيراً فخير وإن شراً فشر, ولهذا قال: {فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن} أي قلبه مصدق وعمل صالحاً {فلا كفران لسعيه} كقوله: {إنا لا نضيع أجر من أحسن عمل} أي لا يكفر سعيه وهو عمله بل يشكر فلا يظلم مثقال ذرة, ولهذا قال: {وإنا له كاتبون} أي يكتب جميع عمله فلا يضيع عليه منه شيء.
** وَحَرَامٌ عَلَىَ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ * حَتّىَ إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مّن كُلّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الّذِينَ كَفَرُواْ يَوَيْلَنَا قَدْ كُنّا فِي غَفْلَةٍ مّنْ هَـَذَا بَلْ كُنّا ظَالِمِينَ
يقول تعالى: {وحرام على قرية} قال ابن عباس: وجب, يعني قد قدر أن أهل كل قرية أهلكوا أنهم لا يرجعون إلى الدنيا قبل يوم القيامة, هكذا صرح به ابن عباس وأبو جعفر الباقر وقتادة وغير واحد. وفي رواية عن ابن عباس: أنهم لا يرجعون أي لا يتوبون, والقول الأول أظهر, والله أعلم. وقوله: {حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج} قد قدمنا أنهم من سلالة آدم عليه السلام, بل هم من نسل نوح أيضاً من أولاد يافث, أي أبي الترك, والترك شرذمة منهم تركوا من وراء السد الذي بناه ذو القرنين, وقال: {هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقاً * وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض} الاَية, وقال في هذه الاَية الكريمة {حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون} أي يسرعون في المشي إلى الفساد, والحدب هو المرتفع من الأرض, قاله ابن عباس وعكرمة وأبو صالح والثوري وغيرهم, وهذه صفتهم في حال خروجهم كأن السامع مشاهد لذلك {ولا ينبئك مثل خبير} هذا إخبار عالم ما كان وما يكون, الذي يعلم غيب السموات والأرض لا إله إلا هو.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن مثنى, حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن عبيد الله بن يزيد قال: رأى ابن عباس صبياناً ينزو بعضهم على بعض يلعبون, فقال ابن عباس: هكذا يخرج يأجوج ومأجوج, وقد ورد ذكر خروجهم في أحاديث متعددة من السنة النبوية.
(فالحديث الأول) قال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب, حدثنا أبي عن ابن إسحاق عن عاصم بن عمرو بن قتادة, عن محمود بن لبيد, عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «تفتح يأجرج ومأجوج, فيخرجون على الناس, كما قال الله عز وجل: {وهم من كل حدب ينسلون} فيغشون الناس وينحاز المسلمون عنهم إلى مدائنهم وحصونهم, ويضمون إليهم مواشيهم, ويشربون مياه الأرض حتى إن بعضهم ليمر بالنهر فيشربون ما فيه حتى يتركوه يابساً, حتى أن من بعدهم ليمر بذلك النهر فيقول: قد كان ههنا ماء مرة, حتى إذا لم يبق من الناس أحد إلا أحد في حصن أو مدينة, قال قائلهم: هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم بقي أهل السماء, قال: ثم يهز أحدهم حربته, ثم يرمي بها إلى السماء فترجع إليه مخضبة دماً للبلاء والفتنة, فبينما هم على ذلك بعث الله عز وجل دوداً في أعناقهم كنغف الجراد الذي يخرج في أعناقه, فيصبحون موتى لا يسمع لهم حس, فيقول المسلمون: ألا رجل يشري لنا نفسه فينظر ما فعل هذا العدو ؟ قال: فيتجرد رجل منهم محتسباً نفسه قد أوطنها على أنه مقتول فينزل فيجدهم موتى بعضهم على بعض, فينادي: يا معشر المسلمين ألا أبشروا إن الله عز وجل قد كفاكم عدوكم, فيخرجون من مدائنهم وحصونهم, ويسرحون مواشيهم, فما يكون لهم رعي إلا لحومهم, فتشكر عنهم كأحسن ما شكرت عن شيء من النبات أصابته قط», ورواه ابن ماجه من حديث يونس بن بكير, عن ابن إسحاق به.
(الحديث الثاني) قال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا الوليد بن مسلم أبو العباس الدمشقي, حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر, حدثني يحيى بن جابر الطائي قاضي حمص, حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير الحضرمي عن أبيه, أنه سمع النواس بن سمعان الكلابي قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة, فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النخل, فقال: «غير الدجال أخوفني عليكم. فإن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم, وإن يخرج ولست فيكم فكل امرىء حجيج نفسه, والله خليفتي على كل مسلم, وإنه شاب جعد قطط عينه طافية, وإنه يخرج خلة بين الشام والعراق فعاث يميناً وشمالاً يا عباد الله اثبتوا ـ قلنا: يا رسول الله ما لبثه في الأرض ؟ ـ قال: أربعون يوماً, يوم كسنة, ويوم كشهر, يوم كجمعة, وسائر أيامه كأيامكم» قلنا: يا رسول الله فذاك اليوم الذي هو كسنة, أيكفينا فيه صلاة يوم وليلة ؟ قال: «لااقدروا له قدره» قلنا: يا رسول الله فما إسراعه في الأرض ؟ قال كالغيث اشتد به الريح, قال: فيمر بالحي فيدعوهم فيستجيبون له, فيأمر السماء فتمطر, والأرض فتنبت, وتروح عليهم سارحتهم وهي أطول ما كانت ذرى, أمده خواصر, وأسبغه ضروعاً, ويمر بالحي فيدعوهم فيردون عليه قوله, فتتبعه أموالهم فيصبحون ممحلين ليس لهم من أموالهم شيء, ويمر بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل ـ قال ـ ويأمر برجل فيقتل, فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض, ثم يدعوه فيقبل إليه, فبينما هم على ذلك إذ بعث الله عز وجل المسيح عيسى ابن مريم, فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعاً يديه على أجنحة ملكين, فيتبعه فيدركه فيقتله عند باب لد الشرقي ـ قال ـ فبينما هم كذلك إذ أوحى الله عز وجل إلى عيسى ابن مريم عليه السلام أني قد أخرجت عباداً من عبادي لا يدان لك بقتالهم, فحوّز عبادي إلىالطور, فيبعث الله عز وجل يأجوج ومأجوج, كما قال تعالى: {وهم من كل حدب ينسلون} فيرغب عيسى وأصحابه إلى الله عز وجل, فيرسل عليهم نغفاً في رقابهم فيصبحون موتى كموت نفس واحدة, فيهبط عيسى وأصحابه فلا يجدون في الأرض بيتاً إلا قد ملأه زهمهم ونتنهم, فيرغب عيسى وأصحابه إلى الله عز وجل, فيرسل الله عليهم طيراً كأعناق البخت, فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله», قال ابن جابر: فحدثني عطاء بن يزيد السكسكي عن كعب أو غيره قال: فتطرحهم بالمهبل, قال ابن جابر: فقلت يا أبا يزيد, وأين المهبل ؟ قال: مطلع الشمس. قال: «ويرسل الله مطراً لا يكن منه بيت مدر ولا وبر أربعين يوماً, فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلقة, ويقال للأرض: أنبتي ثمرك ودري بركتك, قال: فيومئذ يأكل النفر من الرمانة فيستظلون بقحفها, ويبارك في الرسل حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس, واللقحة من البقر تكفي الفخذ, والشاة من الغنم تكفي أهل البيت, قال: فبينما هم على ذلك إذ بعث الله عز وجل ريحاً طيبة, فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مسلم ـ أو قال: كل مؤمن ـ ويبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحمر وعليهم تقوم الساعة», انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري, ورواه مع بقية أهل السنن من طرق عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر به. وقال الترمذي: حسن صحيح.
(الحديث الثالث) قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن بشر, حدثنا محمد بن عمرو عن ابن حرملة, عن خالته قالت: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عاصب أصبعه من لدغة عقرب, فقال: «إنكم تقولون لا عدو لكم, وإنكم لا تزالون تقاتلون عدواً حتى يأتي يأجوج ومأجوج: عراض الوجوه, صغار العيون, صهب الشعاف, من كل حدب ينسلون كأن وجوههم المجان المطرقة», وكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث محمد بن عمرو عن خالد بن عبد الله بن حرملة المدلجي, عن خالة له, عن النبي صلى الله عليه وسلم, فذكره مثله سواء.
(الحديث الرابع) قد تقدم في آخر تفسير سورة الأعراف من رواية الإمام أحمد عن هشيم, عن العوام, عن جبلة بن سحيم, عن موثد بن عمارة, عن ابن مسعود رضي الله عنه, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام ـ قال فتذاكروا أمر الساعة فردوا أمرهم إلى إبراهيم, فقال: لا علم لي بها, فردوا أمرهم إلى موسى, فقال: لا علم لي بها, فردوا أمرهم إلى عيسى فقال: أما وجبتها فلا يعلم بها أحد إلا الله, وفيما عهد إلي ربي أن الدجال خارج ومعي قضيبان, فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص, قال: فيهلكه الله إذا رآني حتى إن الحجر والشجر يقول: يا مسلم إن تحتي كافراً, فتعال فاقتله, قال: فيهلكهم الله ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم ـ قال ـ فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج, وهم من كل حدب ينسلون, فيطئون بلادهم, ولا يأتون على شيء إلا أهلكوه, ولا يمرون على ماء إلا شربوه ـ قال ـ ثم يرجع الناس إليّ يشكونهم فأدعو الله عليهم فيهلكهم ويميتهم حتى تجوى الأرض من نتن ريحهم, وينزل الله المطر فيجترف أجسادهم حتى يقذفهم في البحر, ففيما عهد إلي ربي أن ذلك إذا كان كذلك أن الساعة كالحامل المتم لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولدها ليلاً أو نهاراً».
ورواه ابن ماجه عن محمد بن بشار, عن يزيد بن هارون, عن العوام بن حوشب به نحوه, وزاد: قال العوام: ووجد تصديق ذلك في كتاب الله عز وجل {حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون} ورواه ابن جرير ههنا من حديث جبلة به. والأحاديث في هذا كثيرة جداً والاَثار عن السلف كذلك. وقد ورى ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث معمر عن غير واحد, عن حميد بن هلال, عن أبي الصيف قال: قال كعب: إذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج, حفروا حتى يسمع الذين يلونهم قرع فؤوسهم, فإذا كان الليل ألقى الله على لسان رجل منهم يقول نجيء غداً فنخرج فيعيده الله كما كان, فيجيئون من الغد فيجدونه قد أعاده الله كما كان, فيحفرونه حتى يسمع الذين يلونهم قرع فؤوسهم, فإذا كان الليل ألقى الله على لسان رجل منهم يقول: نجيء غداً فنخرج إن شاء الله, فيجيئون من الغد فيجدونه كما تركوه, فيحفرون حتى يخرجوا, فتمر الزمرة الأولى بالبحيرة فيشربون ماءها, ثم تمر الزمرة الثانية فيلحسون طينها, ثم تمر الزمرة الثالة فيقولون: قد كان ههنا مرة ماء, فيفر الناس منهم فلا يقوم لهم شيء, ثم يرمون بسهامهم إلى السماء فترجع إليهم مخضبة بالدماء, فيقولون: غلبنا أهل الأرض وأهل السماء, فيدعو عليهم عيسى ابن مريم عليه السلام, فيقول: اللهم لا طاقة ولا يد لنا بهم, فاكفناهم بما شئت, فيسلط الله عليهم دوداً يقال له النغف, فيفرس رقابهم, ويبعث الله عليهم طيراً تأخذهم بمناقيرها فتلقيهم في البحر, ويبعث الله عيناً يقال لها الحياة يطهر الله الأرض وينبتها, حتى إن الرمانة ليشبع منها السكن, وقيل: وما السكن يا كعب ؟ قال: أهل البيت, قال: فبينما الناس كذلك إذ أتاهم الصريخ أن ذا السويقتين يريده, قال فيبعث عيسى ابن مريم طليعة سبعمائة أو بين السبعمائة والثمانمائة حتى إذا كانوا ببعض الطريق, بعث الله ريحاً يمانية طيبة فيقبض فيها روح كل مؤمن, ثم يبقى عجاج الناس, فيتسافدون كما تتسافد البهائم, فمثل الساعة كمثل رجل يطيف حول فرسه متى تضع, قال كعب: فمن قال بعد قولي هذا شيئاً أو بعد علمي هذا شيئاً فهو المتكلف, وهذا من أحسن سياقات كعب الأحبار لما شهد له من صحيح الأخبار.
وقد ثبت في الحديث أن عيسى ابن مريم يحج البيت العتيق, وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود, حدثنا عمران عن قتادة عن عبد الله بن أبي عتبة عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليحجن هذا البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج» انفرد بإخراجه البخاري وقوله: {واقترب الوعد الحق} يعني يوم القيامة إذا حصلت هذه الأهوال والزلازل والبلابل, أزفت الساعة واقتربت فإذا كانت ووقعت, قال الكافرون: هذا يوم عسر, ولهذا قال تعالى: {فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفرو} أي من شدة ما يشاهدونه من الأمور العظام {يا ويلن} أي يقولون يا ويلنا {قد كنا في غفلة من هذ} أي في الدنيا {بل كنا ظالمين} يعترفون بظلمهم لأنفسهم حيث لا ينفعهم ذلك.
** إِنّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَـَؤُلآءِ آلِهَةً مّا وَرَدُوهَا وَكُلّ فِيهَا خَالِدُونَ * لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ * إِنّ الّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنّا الْحُسْنَىَ أُوْلَـَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ وَتَتَلَقّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ هَـَذَا يَوْمُكُمُ الّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ
يقول تعالى مخاطباً لأهل مكة من مشركي قريش ومن دان بدينهم من عبدة الأصنام والأوثان: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} قال ابن عباس: أي وقودها يعني كقوله: {وقودها الناس والحجارة} وقال ابن عباس أيضاً: حصب جهنم يعني شجر جهنم, وفي رواية قال: {حصب جهنم} يعني حطب جهنم بالزنجية. وقال مجاهد وعكرمة وقتادة: حطبها, وهي كذلك في قراءة علي وعائشة رضي الله عنهما, وقال الضحاك: حصب جهنم أي ما يرمى به فيها, وكذا قال غيره, والجميع قريب. وقوله: {أنتم لها واردون} أي داخلون {لو كان هؤلاء آلهة ما وروده} يعني لو كانت هذه الأصنام والأنداد التي اتخذتموها من دون الله آلهة صحيحة لما وردوا النار وما دخلوها {وكل فيها خالدون} أي العابدون ومعبوداتهم كلهم فيها خالدون {لهم فيها زفير} كما قال تعالى: {لهم فيها زفير وشهيق} والزفير خروج أنفاسهم, والشهيق ولوج أنفاسهم {وهم فيها لا يسمعون}.
قال ابن أبي حاتم, حدثنا أبي, حدثنا علي بن محمد الطنافسي, حدثنا ابن فضيل, حدثنا عبد الرحمن يعني المسعودي عن أبيه قال: قال ابن مسعود: إذا بقي من يخلد في النار جعلوا في توابيت من نار فيها مسامير من نار, فلا يرى أحد منهم أنه يعذب في النار غيره, ثم تلا عبد الله {لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون} ورواه ابن جرير من حديث حجاج بن محمد عن المسعودي عن يونس بن خبّاب عن ابن مسعود, فذكره.
وقوله: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} قال عكرمة: الرحمة. وقال غيره السعادة {أولئك عنها مبعدون} لما ذكر تعالى أهل النار وعذابهم بسبب شركهم بالله, عطف بذكر السعداء من المؤمنين بالله ورسله, وهم الذين سبقت لهم من الله السعادة وأسلفوا الأعمال الصالحة في الدنيا, كما قال تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} وقال: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} فكما أحسنوا العمل في الدنيا أحسن الله مآبهم وثوابهم, ونجاهم من العذاب وحصل لهم جزيل الثواب, فقال: {أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسه} أي حريقها في الأجساد.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا محمد بن عمار, حدثنا عفان, حدثنا حماد بن سلمة عن أبيه عن الحريري عن أبي عثمان {لا يسمعون حسيسه} قال: حيات على الصراط تلسعهم, فإذا لسعتهم قال حس حس. وقوله: {وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون} فسلمهم من المحذور والمرهوب, وحصل لهم المطلوب والمحبوب. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أحمد بن أبي سريج, حدثنا محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني عن ليث بن أبي سليم عن ابن عم النعمان بن بشير عن النعمان بن بشير قال: وسمر مع علي ذات ليلة, فقرأ {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون} قال: أنا منهم وعمر منهم وعثمان منهم والزبير منهم وطلحة منهم وعبد الرحمن منهم, أو قال: سعد منهم, قال: أقيمت الصلاة, فقام وأظنه يجر ثوبه وهو يقول: {لا يسمعون حسيسه}.
وقال شعبة عن أبي بشر عن يوسف المكي عن محمد بن حاطب قال: سمعت علياً يقول في قوله: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} قال: عثمان وأصحابه, ورواه ابن أبي حاتم أيضاً, ورواه ابن جرير من حديث يوسف بن سعد, وليس بابن ماهك عن محمد بن حاطب عن علي فذكره ولفظه عثمان منهم, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون} فأولئك أولياء الله يمرون على الصراط مراً هو أسرع من البرق, ويبقى الكفار فيها جثياً, فهذا مطابق لما ذكرناه, وقال آخرون: بل نزلت استثناء من المعبودين, وخرج منهم عزير والمسيح, كما قال حجاج بن محمد الأعور عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء عن ابن عباس {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون} ثم استثنى فقال: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} فيقال: هم الملائكة وعيسى, ونحو ذلك مما يعبد من دون الله عز وجل, وكذا قال عكرمة والحسن وابن جريج. وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } قال نزلت في عيسى ابن مريم وعزير عليهما السلام, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا الحسين بن عيسى بن ميسرة, حدثنا أبو زهير, حدثنا سعد بن طريف عن الأصبغ عن علي في قوله: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} قال: كل شيء يعبد من دون الله في النار إلا الشمس والقمر وعيسى بن مريم إسناده ضعيف. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد {أولئك عنها مبعدون} قال: عيسى وعزير والملائكة. وقال الضحاك: عيسى ومريم والملائكة والشمس والقمر, وكذا روي عن سعيد بن جبير وأبي صالح وغير واحد, وقد روى ابن أبي حاتم في ذلك حديثاً غريباً جداً, فقال: حدثنا الفضل بن يعقوب الرخاني, حدثنا سعيد بن مسلمة بن عبد الملك, حدثنا الليث بن أبي سليم عن مغيث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {إن الذين سبقت لهم مناالحسنى أولئك عنها مبعدون} قال: عيسى وعزير والملائكة, وذكر بعضهم قصة ابن الزبعري ومناظرة المشركين قال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن علي بن سهل, حدثنا محمد بن حسن الأنماطي, حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرعرة, حدثنا يزيد بن أبي حكيم, حدثنا الحكم يعني ابن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال: جاء عبد الله بن الزبعري إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تزعم أن الله أنزل عليك هذه الاَية {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون} فقال ابن الزبعري: قد عبدت الشمس والقمر والملائكة وعزير وعيسى ابن مريم كل هؤلاء في النار مع آلهتنا ؟ فنزلت {ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصّدون وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون} ثم نزلت {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون} رواه الحافظ أبو عبد الله في كتابه الأحاديث المختارة, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا قبيصة بن عقبة, حدثنا سفيان يعني الثوري عن الأعمش عن أصحابه عن ابن عباس قال: لما نزلت: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون} قال المشركون: فالملائكة وعزير وعيسى يعبدون من دون الله فنزلت {لو كان هؤلاء آلهة ما وردوه} الاَلهة التي يعبدون {وكل فيها خالدون} وروي عن أبي كدينة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مثل ذلك وقال: فنزلت {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون} وقال محمد بن إسحاق بن يسار رحمه الله في كتاب السيرة: وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني يوماً مع الوليد بن المغيرة في المسجد, فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم, وفي المسجد غير واحد من رجال قريش, فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض له النضر بن الحارث فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه, وتلا عليه وعليهم {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ـ إلى قوله ـ هم فيها لا يسمعون} ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل عبد الله بن الزبعري السهمي حتى جلس معهم, فقال الوليد بن المغيرة لعبد الله بن الزبعري: والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفاً ولا قعد, وقد زعم محمد أناوما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم, فقال عبد الله بن الزبعري: أما والله لو وجدته لخصمته, فسلوا محمداً كل ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده, فنحن نعبد الملائكة, واليهود تعبد عزيراً, والنصارى تعبد المسيح عيسى ابن مريم, فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول عبد الله بن الزبعري ورأوا أنه قد احتج وخاصم, فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده, إنهم إنما يعبدون الشيطان ومن أمرهم بعبادته» وأنزل الله {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون} أي عيسى وعزير ومن عبدوا من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله, فاتخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أرباباً من دون الله, ونزل فيما يذكرون أنهم يعبدون الملائكة وأنهم بنات الله {وقالوا اتخذ الرحمن ولداً سبحانه بل عباد مكرمون ـ إلى قوله ـ ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين} ونزل فيما ذكر من أمر عيسى وأنه يعبد من دون الله, وعجب الوليد ومن حضره من حجته وخصومته {ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون * وقالو أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون * إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل * ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون * وإنه لعلم للساعة فلا تمترنّ به} أي ما وضعت على يديه من الاَيات من إحياء الموتى وابراء الأسقام, فكفى به دليلاً على علم الساعة, يقول: {فلا تمترنّ بها واتبعون هذا صراط مستقيم} وهذا الذي قاله ابن الزبعري خطأ كبير, لأن الاَية إنما نزلت خطاباً لأهل مكة في عبادتهم الأصنام التي هي جماد لاتعقل, ليكون ذلك تقريعاً وتوبيخاً لعابديها, ولهذا قال: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} فكيف يورد على هذا المسيح وعزير ونحوهما ممن له عمل صالح ولم يرض بعبادة من عبده, وعول ابن جرير في تفسيره في الجواب على أن {م} لما لا يعقل عند العرب, وقد أسلم عبد الله بن الزبعري بعد ذلك, وكان من الشعرءا المشهورين, وقد كان يهاجي المسلمين أولاً ثم قال معتذراً:
يا رسول المليك إن لسانيراتق ما فتقت إذ أنا بور
إذ أجاري الشيطان في سنن الغيومن مال ميله مثبور
وقوله: {لا يحزنهم الفزع الأكبر} قيل: المراد بذلك الموت, رواه عبد الرزاق عن يحيى بن ربيعة عن عطاء وقيل: المراد بالفزع الأكبر النفخة في الصور, قاله العوفي عن ابن عباس وأبو سنان سعيد بن سنان الشيباني, واختاره ابن جرير في تفسيره, وقيل: حين يؤمر بالعبد إلى النار, قاله الحسن البصري, وقيل: حين تطبق النار على أهلها, قاله سعيد بن جبير وابن جريج, وقيل: حين يذبح الموت بين الجنة والنار, قاله أبو بكر الهذلي فيما رواه ابن أبي حاتم عنه, وقوله {وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون} يعني تقول لهم الملائكة تبشرهم يوم معادهم إذا خرجوا من قبورهم {هذا يومكم الذي كنتم توعدون} أي فأملوا ما يسركم.
تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 330
330 : تفسير الصفحة رقم 330 من القرآن الكريم** وَالّتِيَ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَآ آيَةً لّلْعَالَمِينَ
هكذا يذكر تعالى قصة مريم وابنها عيسى عليهما السلام مقرونة بقصة زكريا وابنه يحيى عليهما السلام, فيذكر أولاً قصة زكريا ثم يتبعها بقصة مريم, لأن تلك مربوطة بهذه, فإنها إيجاد ولد من شيخ كبير قد طعن في السن, ومن امرأة عجوز عاقر لم تكن تلد في حال شبابها, ثم يذكر قصة مريم وهي أعجب فإنها إيجاد ولد من أنثى بلا ذكر, هكذا وقع في سورة آل عمران وفي سورة مريم, وههنا ذكر قصة زكريا ثم أتبعها بقصة مريم بقوله: {والتي أحصنت فرجه} يعني مريم عليها السلام, كما قال في سورة التحريم: {ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحن}.
وقوله {وجعلناها وابنها آية للعالمين} أي دلالة على أن الله على كل شيء قدير, وأنه يخلق ما يشاء, وإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون, وهذا كقوله: {ولنجعله آية للناس} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عمر بن علي, حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد عن شعيب يعني ابن بشر, عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: {للعالمين} قال: العالمين الجن والإنس.
** إِنّ هَـَذِهِ أُمّتُكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبّكُمْ فَاعْبُدُونِ * وَتَقَطّعُوَاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ * فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنّا لَهُ كَاتِبُونَ
قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: {إن هذه أمتكم أمة واحدة} يقول: دينكم دين واحد وقال الحسن البصري في هذه الاَية يبين لهم ما يتقون وما يأتون, ثم قال: {إن هذه أمتكم أمة واحدة} أي سنتكم سنة واحدة, فقوله إن هذه إن واسمها, وأمتكم خبر إن, أي هذه شريعتكم التي بينت لكم ووضحت لكم. وقوله أمة واحدة نصب على الحال, ولهذا قال: {وأنا ربكم فاعبدون} كما قال: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً ـ إلى قوله ـ وأنا ربكم فاتقون} وقال رسول اللهصلى الله عليه وسلم: «نحن معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد» يعني أن المقصود هو عبادة الله وحده لا شريك له بشرائع متنوعة لرسله, كما قال تعالى: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاج}.
وقوله: {وتقطعوا أمرهم بينهم} أي اختلفت الأمم على رسلها فمن بين مصدق لهم ومكذب, ولهذا قال: {كل إلينا راجعون} أي يوم القيامة, فيجازي كل بحسب عمله, إن خيراً فخير وإن شراً فشر, ولهذا قال: {فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن} أي قلبه مصدق وعمل صالحاً {فلا كفران لسعيه} كقوله: {إنا لا نضيع أجر من أحسن عمل} أي لا يكفر سعيه وهو عمله بل يشكر فلا يظلم مثقال ذرة, ولهذا قال: {وإنا له كاتبون} أي يكتب جميع عمله فلا يضيع عليه منه شيء.
** وَحَرَامٌ عَلَىَ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ * حَتّىَ إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مّن كُلّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الّذِينَ كَفَرُواْ يَوَيْلَنَا قَدْ كُنّا فِي غَفْلَةٍ مّنْ هَـَذَا بَلْ كُنّا ظَالِمِينَ
يقول تعالى: {وحرام على قرية} قال ابن عباس: وجب, يعني قد قدر أن أهل كل قرية أهلكوا أنهم لا يرجعون إلى الدنيا قبل يوم القيامة, هكذا صرح به ابن عباس وأبو جعفر الباقر وقتادة وغير واحد. وفي رواية عن ابن عباس: أنهم لا يرجعون أي لا يتوبون, والقول الأول أظهر, والله أعلم. وقوله: {حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج} قد قدمنا أنهم من سلالة آدم عليه السلام, بل هم من نسل نوح أيضاً من أولاد يافث, أي أبي الترك, والترك شرذمة منهم تركوا من وراء السد الذي بناه ذو القرنين, وقال: {هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقاً * وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض} الاَية, وقال في هذه الاَية الكريمة {حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون} أي يسرعون في المشي إلى الفساد, والحدب هو المرتفع من الأرض, قاله ابن عباس وعكرمة وأبو صالح والثوري وغيرهم, وهذه صفتهم في حال خروجهم كأن السامع مشاهد لذلك {ولا ينبئك مثل خبير} هذا إخبار عالم ما كان وما يكون, الذي يعلم غيب السموات والأرض لا إله إلا هو.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن مثنى, حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن عبيد الله بن يزيد قال: رأى ابن عباس صبياناً ينزو بعضهم على بعض يلعبون, فقال ابن عباس: هكذا يخرج يأجوج ومأجوج, وقد ورد ذكر خروجهم في أحاديث متعددة من السنة النبوية.
(فالحديث الأول) قال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب, حدثنا أبي عن ابن إسحاق عن عاصم بن عمرو بن قتادة, عن محمود بن لبيد, عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «تفتح يأجرج ومأجوج, فيخرجون على الناس, كما قال الله عز وجل: {وهم من كل حدب ينسلون} فيغشون الناس وينحاز المسلمون عنهم إلى مدائنهم وحصونهم, ويضمون إليهم مواشيهم, ويشربون مياه الأرض حتى إن بعضهم ليمر بالنهر فيشربون ما فيه حتى يتركوه يابساً, حتى أن من بعدهم ليمر بذلك النهر فيقول: قد كان ههنا ماء مرة, حتى إذا لم يبق من الناس أحد إلا أحد في حصن أو مدينة, قال قائلهم: هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم بقي أهل السماء, قال: ثم يهز أحدهم حربته, ثم يرمي بها إلى السماء فترجع إليه مخضبة دماً للبلاء والفتنة, فبينما هم على ذلك بعث الله عز وجل دوداً في أعناقهم كنغف الجراد الذي يخرج في أعناقه, فيصبحون موتى لا يسمع لهم حس, فيقول المسلمون: ألا رجل يشري لنا نفسه فينظر ما فعل هذا العدو ؟ قال: فيتجرد رجل منهم محتسباً نفسه قد أوطنها على أنه مقتول فينزل فيجدهم موتى بعضهم على بعض, فينادي: يا معشر المسلمين ألا أبشروا إن الله عز وجل قد كفاكم عدوكم, فيخرجون من مدائنهم وحصونهم, ويسرحون مواشيهم, فما يكون لهم رعي إلا لحومهم, فتشكر عنهم كأحسن ما شكرت عن شيء من النبات أصابته قط», ورواه ابن ماجه من حديث يونس بن بكير, عن ابن إسحاق به.
(الحديث الثاني) قال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا الوليد بن مسلم أبو العباس الدمشقي, حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر, حدثني يحيى بن جابر الطائي قاضي حمص, حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير الحضرمي عن أبيه, أنه سمع النواس بن سمعان الكلابي قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة, فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النخل, فقال: «غير الدجال أخوفني عليكم. فإن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم, وإن يخرج ولست فيكم فكل امرىء حجيج نفسه, والله خليفتي على كل مسلم, وإنه شاب جعد قطط عينه طافية, وإنه يخرج خلة بين الشام والعراق فعاث يميناً وشمالاً يا عباد الله اثبتوا ـ قلنا: يا رسول الله ما لبثه في الأرض ؟ ـ قال: أربعون يوماً, يوم كسنة, ويوم كشهر, يوم كجمعة, وسائر أيامه كأيامكم» قلنا: يا رسول الله فذاك اليوم الذي هو كسنة, أيكفينا فيه صلاة يوم وليلة ؟ قال: «لااقدروا له قدره» قلنا: يا رسول الله فما إسراعه في الأرض ؟ قال كالغيث اشتد به الريح, قال: فيمر بالحي فيدعوهم فيستجيبون له, فيأمر السماء فتمطر, والأرض فتنبت, وتروح عليهم سارحتهم وهي أطول ما كانت ذرى, أمده خواصر, وأسبغه ضروعاً, ويمر بالحي فيدعوهم فيردون عليه قوله, فتتبعه أموالهم فيصبحون ممحلين ليس لهم من أموالهم شيء, ويمر بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل ـ قال ـ ويأمر برجل فيقتل, فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض, ثم يدعوه فيقبل إليه, فبينما هم على ذلك إذ بعث الله عز وجل المسيح عيسى ابن مريم, فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعاً يديه على أجنحة ملكين, فيتبعه فيدركه فيقتله عند باب لد الشرقي ـ قال ـ فبينما هم كذلك إذ أوحى الله عز وجل إلى عيسى ابن مريم عليه السلام أني قد أخرجت عباداً من عبادي لا يدان لك بقتالهم, فحوّز عبادي إلىالطور, فيبعث الله عز وجل يأجوج ومأجوج, كما قال تعالى: {وهم من كل حدب ينسلون} فيرغب عيسى وأصحابه إلى الله عز وجل, فيرسل عليهم نغفاً في رقابهم فيصبحون موتى كموت نفس واحدة, فيهبط عيسى وأصحابه فلا يجدون في الأرض بيتاً إلا قد ملأه زهمهم ونتنهم, فيرغب عيسى وأصحابه إلى الله عز وجل, فيرسل الله عليهم طيراً كأعناق البخت, فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله», قال ابن جابر: فحدثني عطاء بن يزيد السكسكي عن كعب أو غيره قال: فتطرحهم بالمهبل, قال ابن جابر: فقلت يا أبا يزيد, وأين المهبل ؟ قال: مطلع الشمس. قال: «ويرسل الله مطراً لا يكن منه بيت مدر ولا وبر أربعين يوماً, فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلقة, ويقال للأرض: أنبتي ثمرك ودري بركتك, قال: فيومئذ يأكل النفر من الرمانة فيستظلون بقحفها, ويبارك في الرسل حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس, واللقحة من البقر تكفي الفخذ, والشاة من الغنم تكفي أهل البيت, قال: فبينما هم على ذلك إذ بعث الله عز وجل ريحاً طيبة, فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مسلم ـ أو قال: كل مؤمن ـ ويبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحمر وعليهم تقوم الساعة», انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري, ورواه مع بقية أهل السنن من طرق عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر به. وقال الترمذي: حسن صحيح.
(الحديث الثالث) قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن بشر, حدثنا محمد بن عمرو عن ابن حرملة, عن خالته قالت: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عاصب أصبعه من لدغة عقرب, فقال: «إنكم تقولون لا عدو لكم, وإنكم لا تزالون تقاتلون عدواً حتى يأتي يأجوج ومأجوج: عراض الوجوه, صغار العيون, صهب الشعاف, من كل حدب ينسلون كأن وجوههم المجان المطرقة», وكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث محمد بن عمرو عن خالد بن عبد الله بن حرملة المدلجي, عن خالة له, عن النبي صلى الله عليه وسلم, فذكره مثله سواء.
(الحديث الرابع) قد تقدم في آخر تفسير سورة الأعراف من رواية الإمام أحمد عن هشيم, عن العوام, عن جبلة بن سحيم, عن موثد بن عمارة, عن ابن مسعود رضي الله عنه, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام ـ قال فتذاكروا أمر الساعة فردوا أمرهم إلى إبراهيم, فقال: لا علم لي بها, فردوا أمرهم إلى موسى, فقال: لا علم لي بها, فردوا أمرهم إلى عيسى فقال: أما وجبتها فلا يعلم بها أحد إلا الله, وفيما عهد إلي ربي أن الدجال خارج ومعي قضيبان, فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص, قال: فيهلكه الله إذا رآني حتى إن الحجر والشجر يقول: يا مسلم إن تحتي كافراً, فتعال فاقتله, قال: فيهلكهم الله ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم ـ قال ـ فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج, وهم من كل حدب ينسلون, فيطئون بلادهم, ولا يأتون على شيء إلا أهلكوه, ولا يمرون على ماء إلا شربوه ـ قال ـ ثم يرجع الناس إليّ يشكونهم فأدعو الله عليهم فيهلكهم ويميتهم حتى تجوى الأرض من نتن ريحهم, وينزل الله المطر فيجترف أجسادهم حتى يقذفهم في البحر, ففيما عهد إلي ربي أن ذلك إذا كان كذلك أن الساعة كالحامل المتم لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولدها ليلاً أو نهاراً».
ورواه ابن ماجه عن محمد بن بشار, عن يزيد بن هارون, عن العوام بن حوشب به نحوه, وزاد: قال العوام: ووجد تصديق ذلك في كتاب الله عز وجل {حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون} ورواه ابن جرير ههنا من حديث جبلة به. والأحاديث في هذا كثيرة جداً والاَثار عن السلف كذلك. وقد ورى ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث معمر عن غير واحد, عن حميد بن هلال, عن أبي الصيف قال: قال كعب: إذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج, حفروا حتى يسمع الذين يلونهم قرع فؤوسهم, فإذا كان الليل ألقى الله على لسان رجل منهم يقول نجيء غداً فنخرج فيعيده الله كما كان, فيجيئون من الغد فيجدونه قد أعاده الله كما كان, فيحفرونه حتى يسمع الذين يلونهم قرع فؤوسهم, فإذا كان الليل ألقى الله على لسان رجل منهم يقول: نجيء غداً فنخرج إن شاء الله, فيجيئون من الغد فيجدونه كما تركوه, فيحفرون حتى يخرجوا, فتمر الزمرة الأولى بالبحيرة فيشربون ماءها, ثم تمر الزمرة الثانية فيلحسون طينها, ثم تمر الزمرة الثالة فيقولون: قد كان ههنا مرة ماء, فيفر الناس منهم فلا يقوم لهم شيء, ثم يرمون بسهامهم إلى السماء فترجع إليهم مخضبة بالدماء, فيقولون: غلبنا أهل الأرض وأهل السماء, فيدعو عليهم عيسى ابن مريم عليه السلام, فيقول: اللهم لا طاقة ولا يد لنا بهم, فاكفناهم بما شئت, فيسلط الله عليهم دوداً يقال له النغف, فيفرس رقابهم, ويبعث الله عليهم طيراً تأخذهم بمناقيرها فتلقيهم في البحر, ويبعث الله عيناً يقال لها الحياة يطهر الله الأرض وينبتها, حتى إن الرمانة ليشبع منها السكن, وقيل: وما السكن يا كعب ؟ قال: أهل البيت, قال: فبينما الناس كذلك إذ أتاهم الصريخ أن ذا السويقتين يريده, قال فيبعث عيسى ابن مريم طليعة سبعمائة أو بين السبعمائة والثمانمائة حتى إذا كانوا ببعض الطريق, بعث الله ريحاً يمانية طيبة فيقبض فيها روح كل مؤمن, ثم يبقى عجاج الناس, فيتسافدون كما تتسافد البهائم, فمثل الساعة كمثل رجل يطيف حول فرسه متى تضع, قال كعب: فمن قال بعد قولي هذا شيئاً أو بعد علمي هذا شيئاً فهو المتكلف, وهذا من أحسن سياقات كعب الأحبار لما شهد له من صحيح الأخبار.
وقد ثبت في الحديث أن عيسى ابن مريم يحج البيت العتيق, وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود, حدثنا عمران عن قتادة عن عبد الله بن أبي عتبة عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليحجن هذا البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج» انفرد بإخراجه البخاري وقوله: {واقترب الوعد الحق} يعني يوم القيامة إذا حصلت هذه الأهوال والزلازل والبلابل, أزفت الساعة واقتربت فإذا كانت ووقعت, قال الكافرون: هذا يوم عسر, ولهذا قال تعالى: {فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفرو} أي من شدة ما يشاهدونه من الأمور العظام {يا ويلن} أي يقولون يا ويلنا {قد كنا في غفلة من هذ} أي في الدنيا {بل كنا ظالمين} يعترفون بظلمهم لأنفسهم حيث لا ينفعهم ذلك.
** إِنّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَـَؤُلآءِ آلِهَةً مّا وَرَدُوهَا وَكُلّ فِيهَا خَالِدُونَ * لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ * إِنّ الّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنّا الْحُسْنَىَ أُوْلَـَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ وَتَتَلَقّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ هَـَذَا يَوْمُكُمُ الّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ
يقول تعالى مخاطباً لأهل مكة من مشركي قريش ومن دان بدينهم من عبدة الأصنام والأوثان: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} قال ابن عباس: أي وقودها يعني كقوله: {وقودها الناس والحجارة} وقال ابن عباس أيضاً: حصب جهنم يعني شجر جهنم, وفي رواية قال: {حصب جهنم} يعني حطب جهنم بالزنجية. وقال مجاهد وعكرمة وقتادة: حطبها, وهي كذلك في قراءة علي وعائشة رضي الله عنهما, وقال الضحاك: حصب جهنم أي ما يرمى به فيها, وكذا قال غيره, والجميع قريب. وقوله: {أنتم لها واردون} أي داخلون {لو كان هؤلاء آلهة ما وروده} يعني لو كانت هذه الأصنام والأنداد التي اتخذتموها من دون الله آلهة صحيحة لما وردوا النار وما دخلوها {وكل فيها خالدون} أي العابدون ومعبوداتهم كلهم فيها خالدون {لهم فيها زفير} كما قال تعالى: {لهم فيها زفير وشهيق} والزفير خروج أنفاسهم, والشهيق ولوج أنفاسهم {وهم فيها لا يسمعون}.
قال ابن أبي حاتم, حدثنا أبي, حدثنا علي بن محمد الطنافسي, حدثنا ابن فضيل, حدثنا عبد الرحمن يعني المسعودي عن أبيه قال: قال ابن مسعود: إذا بقي من يخلد في النار جعلوا في توابيت من نار فيها مسامير من نار, فلا يرى أحد منهم أنه يعذب في النار غيره, ثم تلا عبد الله {لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون} ورواه ابن جرير من حديث حجاج بن محمد عن المسعودي عن يونس بن خبّاب عن ابن مسعود, فذكره.
وقوله: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} قال عكرمة: الرحمة. وقال غيره السعادة {أولئك عنها مبعدون} لما ذكر تعالى أهل النار وعذابهم بسبب شركهم بالله, عطف بذكر السعداء من المؤمنين بالله ورسله, وهم الذين سبقت لهم من الله السعادة وأسلفوا الأعمال الصالحة في الدنيا, كما قال تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} وقال: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} فكما أحسنوا العمل في الدنيا أحسن الله مآبهم وثوابهم, ونجاهم من العذاب وحصل لهم جزيل الثواب, فقال: {أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسه} أي حريقها في الأجساد.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا محمد بن عمار, حدثنا عفان, حدثنا حماد بن سلمة عن أبيه عن الحريري عن أبي عثمان {لا يسمعون حسيسه} قال: حيات على الصراط تلسعهم, فإذا لسعتهم قال حس حس. وقوله: {وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون} فسلمهم من المحذور والمرهوب, وحصل لهم المطلوب والمحبوب. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أحمد بن أبي سريج, حدثنا محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني عن ليث بن أبي سليم عن ابن عم النعمان بن بشير عن النعمان بن بشير قال: وسمر مع علي ذات ليلة, فقرأ {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون} قال: أنا منهم وعمر منهم وعثمان منهم والزبير منهم وطلحة منهم وعبد الرحمن منهم, أو قال: سعد منهم, قال: أقيمت الصلاة, فقام وأظنه يجر ثوبه وهو يقول: {لا يسمعون حسيسه}.
وقال شعبة عن أبي بشر عن يوسف المكي عن محمد بن حاطب قال: سمعت علياً يقول في قوله: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} قال: عثمان وأصحابه, ورواه ابن أبي حاتم أيضاً, ورواه ابن جرير من حديث يوسف بن سعد, وليس بابن ماهك عن محمد بن حاطب عن علي فذكره ولفظه عثمان منهم, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون} فأولئك أولياء الله يمرون على الصراط مراً هو أسرع من البرق, ويبقى الكفار فيها جثياً, فهذا مطابق لما ذكرناه, وقال آخرون: بل نزلت استثناء من المعبودين, وخرج منهم عزير والمسيح, كما قال حجاج بن محمد الأعور عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء عن ابن عباس {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون} ثم استثنى فقال: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} فيقال: هم الملائكة وعيسى, ونحو ذلك مما يعبد من دون الله عز وجل, وكذا قال عكرمة والحسن وابن جريج. وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } قال نزلت في عيسى ابن مريم وعزير عليهما السلام, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا الحسين بن عيسى بن ميسرة, حدثنا أبو زهير, حدثنا سعد بن طريف عن الأصبغ عن علي في قوله: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} قال: كل شيء يعبد من دون الله في النار إلا الشمس والقمر وعيسى بن مريم إسناده ضعيف. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد {أولئك عنها مبعدون} قال: عيسى وعزير والملائكة. وقال الضحاك: عيسى ومريم والملائكة والشمس والقمر, وكذا روي عن سعيد بن جبير وأبي صالح وغير واحد, وقد روى ابن أبي حاتم في ذلك حديثاً غريباً جداً, فقال: حدثنا الفضل بن يعقوب الرخاني, حدثنا سعيد بن مسلمة بن عبد الملك, حدثنا الليث بن أبي سليم عن مغيث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {إن الذين سبقت لهم مناالحسنى أولئك عنها مبعدون} قال: عيسى وعزير والملائكة, وذكر بعضهم قصة ابن الزبعري ومناظرة المشركين قال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن علي بن سهل, حدثنا محمد بن حسن الأنماطي, حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرعرة, حدثنا يزيد بن أبي حكيم, حدثنا الحكم يعني ابن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال: جاء عبد الله بن الزبعري إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تزعم أن الله أنزل عليك هذه الاَية {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون} فقال ابن الزبعري: قد عبدت الشمس والقمر والملائكة وعزير وعيسى ابن مريم كل هؤلاء في النار مع آلهتنا ؟ فنزلت {ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصّدون وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون} ثم نزلت {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون} رواه الحافظ أبو عبد الله في كتابه الأحاديث المختارة, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا قبيصة بن عقبة, حدثنا سفيان يعني الثوري عن الأعمش عن أصحابه عن ابن عباس قال: لما نزلت: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون} قال المشركون: فالملائكة وعزير وعيسى يعبدون من دون الله فنزلت {لو كان هؤلاء آلهة ما وردوه} الاَلهة التي يعبدون {وكل فيها خالدون} وروي عن أبي كدينة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مثل ذلك وقال: فنزلت {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون} وقال محمد بن إسحاق بن يسار رحمه الله في كتاب السيرة: وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني يوماً مع الوليد بن المغيرة في المسجد, فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم, وفي المسجد غير واحد من رجال قريش, فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض له النضر بن الحارث فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه, وتلا عليه وعليهم {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ـ إلى قوله ـ هم فيها لا يسمعون} ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل عبد الله بن الزبعري السهمي حتى جلس معهم, فقال الوليد بن المغيرة لعبد الله بن الزبعري: والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفاً ولا قعد, وقد زعم محمد أناوما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم, فقال عبد الله بن الزبعري: أما والله لو وجدته لخصمته, فسلوا محمداً كل ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده, فنحن نعبد الملائكة, واليهود تعبد عزيراً, والنصارى تعبد المسيح عيسى ابن مريم, فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول عبد الله بن الزبعري ورأوا أنه قد احتج وخاصم, فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده, إنهم إنما يعبدون الشيطان ومن أمرهم بعبادته» وأنزل الله {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون} أي عيسى وعزير ومن عبدوا من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله, فاتخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أرباباً من دون الله, ونزل فيما يذكرون أنهم يعبدون الملائكة وأنهم بنات الله {وقالوا اتخذ الرحمن ولداً سبحانه بل عباد مكرمون ـ إلى قوله ـ ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين} ونزل فيما ذكر من أمر عيسى وأنه يعبد من دون الله, وعجب الوليد ومن حضره من حجته وخصومته {ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون * وقالو أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون * إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل * ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون * وإنه لعلم للساعة فلا تمترنّ به} أي ما وضعت على يديه من الاَيات من إحياء الموتى وابراء الأسقام, فكفى به دليلاً على علم الساعة, يقول: {فلا تمترنّ بها واتبعون هذا صراط مستقيم} وهذا الذي قاله ابن الزبعري خطأ كبير, لأن الاَية إنما نزلت خطاباً لأهل مكة في عبادتهم الأصنام التي هي جماد لاتعقل, ليكون ذلك تقريعاً وتوبيخاً لعابديها, ولهذا قال: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} فكيف يورد على هذا المسيح وعزير ونحوهما ممن له عمل صالح ولم يرض بعبادة من عبده, وعول ابن جرير في تفسيره في الجواب على أن {م} لما لا يعقل عند العرب, وقد أسلم عبد الله بن الزبعري بعد ذلك, وكان من الشعرءا المشهورين, وقد كان يهاجي المسلمين أولاً ثم قال معتذراً:
يا رسول المليك إن لسانيراتق ما فتقت إذ أنا بور
إذ أجاري الشيطان في سنن الغيومن مال ميله مثبور
وقوله: {لا يحزنهم الفزع الأكبر} قيل: المراد بذلك الموت, رواه عبد الرزاق عن يحيى بن ربيعة عن عطاء وقيل: المراد بالفزع الأكبر النفخة في الصور, قاله العوفي عن ابن عباس وأبو سنان سعيد بن سنان الشيباني, واختاره ابن جرير في تفسيره, وقيل: حين يؤمر بالعبد إلى النار, قاله الحسن البصري, وقيل: حين تطبق النار على أهلها, قاله سعيد بن جبير وابن جريج, وقيل: حين يذبح الموت بين الجنة والنار, قاله أبو بكر الهذلي فيما رواه ابن أبي حاتم عنه, وقوله {وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون} يعني تقول لهم الملائكة تبشرهم يوم معادهم إذا خرجوا من قبورهم {هذا يومكم الذي كنتم توعدون} أي فأملوا ما يسركم.
الصفحة رقم 330 من المصحف تحميل و استماع mp3