تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 33 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 33

33 : تفسير الصفحة رقم 33 من القرآن الكريم

** سَلْ بَنِيَ إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مّنْ آيَةٍ بَيّنَةٍ وَمَن يُبَدّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ فَإِنّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * زُيّنَ لِلّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ اتّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
يقول تعالى مخبراً عن بني إسرائيل: كم شاهدوا مع موسى من آية بينة أي حجة قاطعة بصدقه فيما جاءهم به, كيده وعصاه وفلقه البحر وضرب الحجر, وما كان من تظليل الغمام عليهم في شدة الحر, ومن إنزال المن والسلوى, وغير ذلك من الاَيات الدالات على وجود الفاعل المختار, وصدق من جرت هذه الخوارق على يديه, ومع هذا أعرض كثير منهم عنها وبدلوا نعمة الله كفراً, أي استبدلوا بالإيمان بها الكفر بها والإعراض عنها {ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب} كما قال تعالى إخباراً عن كفار قريش {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار * جهنم يصلونها وبئس القرار} ثم أخبر تعالى عن تزيينه الحياة الدنيا للكافرين الذين رضوا بها, واطمأنوا إليها وجمعوا الأموال ومنعوها عن مصارفها التي أمروا بها, مما يرضي الله عنهم وسخروا من الذين آمنوا, الذين أعرضوا عنها, وأنفقوا ما حصل لهم منها في طاعة ربهم, وبذلوه ابتغاء وجه الله, فلهذا فازوا بالمقام الأسعد والحظ الأوفر يوم معادهم, فكانوا فوق أولئك في محشرهم ومنشرهم ومسيرهم ومأواهم, فاستقروا في الدرجات في أعلى عليين, وخلد أولئك في الدركات في أسفل سافلين, ولهذا قال تعالى: {والله يرزق من يشاء بغير حساب} أي يزرق من يشاء من خلقه ويعطيه عطاء كثيراً جزيلاً بلا حصر ولا تعداد في الدنيا والاَخرة, كما جاء في الحديث «ابن آدم أنفق أنفق عليك» وقال النبي صلى الله عليه وسلم «أنفق بلالاً ولا تخش من ذي العرش إقلالاً» وقال تعالى: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه} وفي الصحيح «أن ملكين ينزلان من السماء صبيحة كل يوم فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً, ويقول الاَخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً» وفي الصحيح «يقول ابن آدم: مالي مالي. وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت, وما لبست فابليت, وما تصدقت فأمضيت, وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس» وفي مسند الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «الدنيا دار من لا دار له, ومال من لا مال له, ولها يجمع من لا عقل له».

** كَانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النّبِيّينَ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاّ الّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ
قال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار, حدثنا أبو داود, أخبرنا همام عن قتادة عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: كان بين نوح وآدم عشرة قرون, كلهم على شريعة من الحق, فاختلفوا, فبعث الله النبين مبشرين ومنذرين, قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله {كان الناس أمة واحدة فاختلفو}. ورواه الحاكم في مستدركه من حديث بندار عن محمد بن بشار ثم قال: صحيح الإسناد, ولم يخرجاه, كذا روى أبو جعفر الرازي عن أبي العالية عن أبي بن كعب أنه كان يقرؤها {كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين} وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله {كان الناس أمة واحدة} قال: كانوا على الهدى جميعاً {فاختلفوا فبعث الله النبيين} فكان أول من بعث نوحاً. وهكذا قال مجاهد, كما قال ابن عباس أولاً. وقال العوفي عن ابن عباس {كان الناس أمة واحدة} يقول: كانوا كفاراً {فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين} والقول الأول عن ابن عباس أصح سنداً ومعنى, لأن الناس كانوا على ملة آدم حتى عبدوا الأصنام, فبعث الله إليهم نوحاً عليه السلام, فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض.
ولهذا قال تعالى: {وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعدما جاءتهم البينات بغياً بينهم} أي من بعد ما قامت الحجج عليهم, وما حملهم على ذلك إلا البغي من بعضهم على بعض {فهدى الله الذي آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} وقال عبد الرزاق: حدثنا معمر عن سليمان الأعمش, عن أبي صالح, عن أبي هريرة في قوله: {فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه} الاَية, قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «نحن الاَخرون الأولون يوم القيامة, نحن أول الناس دخولاً الجنة, بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم, فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه, فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له, فالناس لنا فيه تبع فغداً لليهود وبعد غد للنصارى» ثم رواه عبد الرزاق عن معمر, عن ابن طاوس, عن أبيه, عن أبي هريرة. وقال ابن وهب, عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, عن أبيه في قوله {فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه} فاختلفوا في يوم الجمعة, فاتخذ اليهود يوم السبت, والنصارى يوم الأحد, فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم ليوم الجمعة واختلفوا في القبلة فاستقبلت النصارى المشرق واليهود بيت المقدس فهدى الله أمة محمد للقبلة واختلفوا في الصلاة, فمنهم من يركع ولا يسجد, ومنهم من يسجد ولا يركع, ومنهم من يصلي وهو يتكلم, ومنهم من يصلي وهو يمشي, فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك, واختلفوا في الصيام, فمنهم من يصوم بعض النهار, ومنهم من يصوم عن بعض الطعام, فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك. واختلفوا في إبراهيم عليه السلام, فقالت اليهود: كان يهودياً, وقالت: النصارى كان نصرانياً, وجعله الله حنيفاً مسلماً, فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك. واختلفوا في عيسى عليه السلام, فكذبت به اليهود وقالوا لأمه بهتاناً عظيماً, وجعلته النصارى إلهاً وولداً, وجعله الله روحه وكلمته, فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم للحق من ذلك, وقال الربيع بن أنس في قوله {فهدى الله الذي آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه} أي عند الاختلاف أنهم كانوا على ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف, أقاموا على الإخلاص لله عز وجل وحده, وعبادته لا شريك له, وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة, فأقاموا على الأمر الأول الذي كان قبل الاختلاف واعتزلوا الاختلاف وكانوا شهداء على الناس يوم القيامة شهداء على قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم شعيب وآل فرعون, أن رسلهم قد بلغوهم, وأنهم قد كذبوا رسلهم, وفي قراءة أبي بن كعب: وليكونوا شهداء على الناس يوم القيامة, والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. وكان أبو العالية يقول في هذه الاَية: المخرج من الشبهات والضلالات والفتن.
وقوله {بإذنه} أي بعلمه بهم وبما هداهم له, قاله ابن جرير {والله يهدي من يشاء} أي من خلقه {إلى صراط مستقيم} أي وله الحكمة والحجة البالغة, وفي صحيح البخاري ومسلم عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, كان إذا قام من الليل يصلي يقول: «اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل, فاطر السموات والأرض, عالم الغيب والشهادة, أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون, اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك, إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» وفي الدعاء المأثور: «اللهم أرنا الحق حقاً, وارزقنا ابتاعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل, واجعلنا للمتقين إماماً».

** أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنّةَ وَلَمّا يَأْتِكُم مّثَلُ الّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مّسّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ وَالضّرّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتّىَ يَقُولَ الرّسُولُ وَالّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىَ نَصْرُ اللّهِ أَلآ إِنّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ
يقول تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة} قبل أن تبتلوا وتخبروا وتمتحنوا كما فعل بالذين من قبلكم من الأمم, ولهذا قال {ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء} وهي الأمراض والأسقام والاَلام والمصائب والنوائب. قال ابن مسعود وابن عباس وأبو العالية ومجاهد وسعيد بن جبير ومرة الهمداني والحسن وقتادة والضحاك والربيع والسدي ومقاتل بن حيان {البأساء} الفقر {والضراء} السقم {وزلزلو} خوفاً من الأعداء زلزالاً شديداً, وامتحنوا امتحاناً عظيماً, كما جاء في الحديث الصحيح عن خباب بن الأرت, قال: قلنا: يا رسول الله, ألا تستنصر لنا, ألا تدعو الله لنا ؟ فقال: «إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه فيخلص إلى قدميه لا يصرفه ذلك عن دينه, ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه, لا يصرفه ذلك عن دينه» ثم قال «والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت, لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه, ولكنكم قوم تستعجلون» وقال الله تعالى: {آلم. أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون, ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} وقد حصل من هذا جانب عظيم للصحابة رضي الله تعالى عنهم في يوم الأحزاب, كما قال الله تعالى: {إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً * وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرور} الاَيات. ولما سأل هرقل أبا سفيان هل قاتلتموه ؟ قال: نعم. قال فكيف كانت الحرب بينكم ؟ قال سجالاً, يدال علينا وندال عليه. قال: كذلك الرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة. وقوله {مثل الذين خلوا من قبلكم} أي سنتهم كما قال تعالى: {فأهلكنا أشد منهم بطشاً ومضى مثل الأولين} وقوله {وزلزلوا حتى يقول الرسل والذين آمنوا معه متى نصر الله} أي يستفتحون على أعدائهم ويدعون بقرب الفرج والمخرج عند ضيق الحال والشدة, قال الله تعالى: {ألا إن نصر الله قريب} كما قال {فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسر} وكما تكون الشدة ينزل من النصر مثلها, ولهذا قال {ألا إن نصر الله قريب} وفي حديث أبي رزين «عجب ربك من قنوط عباده وقرب غيثه, فينظر إليهم قنطين, فيظل يضحك يعلم أن فرجهم قريب» الحديث.

** يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ وَالْيَتَامَىَ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنِ السّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ
قال مقاتل بن حيان: هذه الاَية في نفقة التطوع. وقال السدي: نسختها الزكاة, وفيه نظر, ومعنى الاَية: يسألونك كيف ينفقون ؟ قاله ابن عباس ومجاهد فبين لهم تعالى ذلك, فقال {قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل} أي اصرفوها في هذه الوجوه. كما جاء الحديث «أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك أدناك» وتلا ميمون بن مهران هذه الاَية, ثم قال: هذه مواضع النفقة ما ذكر فيها طبلاً ولا مزماراً ولا تصاوير الخشب ولا كسوة الحيطان. ثم قال تعالى: {وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم} أي مهما صدر منكم من فعل معروف, فإن الله يعلمه وسيجزيكم على ذلك أوفر الجزاء, فإنه لا يظلم أحداً مثقال ذرة.

** كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لّكُمْ وَعَسَىَ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لّكُمْ وَعَسَىَ أَن تُحِبّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرّ لّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ
هذا إيجاب من الله تعالى للجهاد على المسلمين أن يكفوا شر الأعداء عن حوزة الإسلام, وقال الزهري: الجهاد واجب على كل أحد غزا أوقعد, فالقاعد عليه إذا استعين أن يعين, وإذا استغيث أن يغيث, وإذا استنفر ان ينفر, وإن لم يحتج إليه قعد. (قلت) ولهذا ثبت في الصحيح «من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو, مات ميتة جاهلية» وقال عليه السلام يوم الفتح: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية, وإذا استنفرتم فانفروا» وقوله {وهو كره لكم} أي شديد عليكم ومشقة وهو كذلك, فإنه إما أن يقتل أو يجرح مع مشقة السفر ومجالدة الأعداء. ثم قال تعالى: {وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم} أي لأن القتال يعقبه النصر والظفر على الأعداء والاستيلاء على بلادهم وأموالهم وذراريهم وأولادهم. {وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم} وهذا عام في الأمور كلها قد يحب المرء شيئاً وليس له فيه خيرة ولا مصلحة, ومن ذلك القعود عن القتال قد يعقبه استيلاء العدو على البلاد والحكم. ثم قال تعالى: {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} أي هو أعلم بعواقب الأمور منكم, وأخبر بما فيه صلاحكم في دنياكم وأخراكم, فاستجيبوا له وانقادوا لأمره, لعلكم ترشدون.