تفسير الطبري تفسير الصفحة 33 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 33
034
032
 الآية : 211
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{سَلْ بَنِيَ إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مّنْ آيَةٍ بَيّنَةٍ وَمَن يُبَدّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ فَإِنّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }
يعنـي بذلك جل ثناؤه: سل يا مـحمد بنـي إسرائيـل الذين لا ينتظرون بـالإنابة إلـى طاعتـي, والتوبة إلـي بـالإقرار بنبوّتك وتصديقك فـيـما جئتهم به من عندي, إلا أن آتـيهم فـي ظلل من الغمام وملائكتـي, فأفصل القضاء بـينك وبـين من آمن بك وصدّقك بـما أنزلتُ إلـيك من كتبـي, وفرضت علـيك وعلـيهم من شرائع دينـي وبـينهم كم جئتهم به من قبلك من آية وعلامة, علـى ما فرضت علـيهم من فرائضي, فأمرتهم به من طاعتـي, وتابعت علـيهم من حججي علـى أيدي أنبـيائي ورسلـي من قبلك مريدة لهم علـى صدقهم بـينة أنها من عندي, واضحة أنها من أدلتـي علـى صدق نُذري ورسلـي فـيـما افترضت علـيهم من تصديقهم وتصديقك, فكفروا حججي, وكذبوا رسلـي, وغيروا نعمي قبلهم, وبدّلوا عهدي ووصيتـي إلـيهم.
وأما الآية فقد بـينت تأويـلها فـيـما مضى من كتابنا بـما فـيه الكفـاية وهي ههنا. ما:
3465ـ حدثنا مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله عز وجل: سَلْ بَنِـي إسْرائِيـلَ كَمْ آتَـيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَـيّنَةٍ ما ذكر الله فـي القرآن وما لـم يذكر, وهم الـيهود.
3466ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع قوله: سَلْ بَنِـي إسْرَائِيـلَ كَمْ آتَـيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَـيّنَةٍ يقول: آتاهم الله آيات بـينات: عصا موسى ويده, وأقطعهم البحر, وأغرق عدوّهم وهم ينظرون, وظلّلَ علـيهم الغمام, وأنزل علـيهم الـمنّ والسلوى. وذلك من آيات الله التـي آتاها بنـي إسرائيـل فـي آيات كثـيرة غيرها, خالفوا معها أمر الله, فقتلوا أنبـياء الله ورسله, وبدلوا عهده ووصيته إلـيهم, قال الله: وَمَنْ يُبَدّلْ نعْمَةَ الله مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فإنّ اللّهَ شَدِيدُ العِقاب.
وإنـما أنبأ الله نبـيه بهذه الاَيات, فأمره بـالصبر علـى من كذبه, واستكبر علـى ربه, وأخبره أن ذلك فعل من قبله من أسلاف الأمـم قبلهم بأنبـيائهم, مع مظاهرته علـيهم الـحجج, وأن من هو بـين أظهرهم من الـيهود إنـما هم من بقايا من جرت عادتهم مـمن قص علـيه قصصهم من بنـي إسرائيـل.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَمَنْ يُبَدّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِنْ بعَدِ ما جاءَتْهُ فَإنّ اللّهَ شَديدُ العِقابِ.
يعنـي بـالنعم جل ثناؤه الإسلام وما فرض من شرائع دينه. ويعنـي بقوله: وَمَنْ يُبَدّلْ نَعْمَةَ اللّهِ ومن يغير ما عاهد الله فـي نعمته التـي هي الإسلام من العمل والدخول فـيه فـيكفر به, فإنه معاقبه بـما أوعد علـى الكفر به من العقوبة, والله شديد عقابه, ألـيـم عذابه.
فتأويـل الآية إذا: يا أيها الذين آمنوا بـالتوراة فصدّقوا بها, ادخـلوا فـي الإسلام جميعا, ودعوا الكفر, وما دعاكم إلـيه الشيطان من ضلالته, وقد جاءتكم البـينات من عندي بـمـحمد, وما أظهرت علـى يديه لكم من الـحجج والعبر, فلا تبدلوا عهدي إلـيكم فـيه وفـيـما جاءكم به من عندي فـي كتابكم بأنه نبـيـي ورسولـي, فإنه من يبدّل ذلك منكم فـيغيره فإنـي له معاقب بـالألـيـم من العقوبة.
وبـمثل الذي قلنا فـي قوله: وَمَنْ يُبَدّلْ نَعْمَةَ الله مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ قال جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
3467ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: وَمَنْ يُبَدّلْ نَعْمَةَ الله مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ قال: يكفر بها.
3468ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, مثله.
3469ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: وَمَنْ يُبَدّلْ نِعْمَةَ اللّهِ قال: يقول: من يبدلها كفرا.
3470ـ حدثت عن عمار, عن ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: وَمَنْ يُبَدّلْ نَعْمَةَ اللّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ يقول: ومن يكفر نعمته من بعد ما جاءته.
الآية : 212
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {زُيّنَ لِلّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ اتّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }
يعنـي جل ثناؤه بذلك: زين للذين كفروا حب الـحياة الدنـيا العاجلة اللذات, فهم يبتغون فـيها الـمكاثرة والـمفـاخرة, ويطلبون فـيها الرياسات والـمبـاهاة, ويستكبرون عن اتبـاعك يا مـحمد, والإقرار بـما جئت به من عندي تعظما منهم علـى من صدقك واتبعك, ويسخرون بـمن تبعك من أهل الإيـمان, والتصديق بك, فـي تركهم الـمكاثرة, والـمفـاخرة بـالدنـيا وزينتها من الرياش والأموال, بطلب الرياسات وإقبـالهم علـى طلبهم ما عندي برفض الدنـيا وترك زينتها, والذين عملوا لـي وأقبلوا علـى طاعتـي ورفضوا لذات الدنـيا وشهواتها, اتبـاعا لك, وطلبـا لـما عندي, واتقاء منهم بأداء فرائضي, وتـجنب معاصيّ فوق الذين كفروا يوم القـيامة بإدخال الـمتقـين الـجنة, وإدخال الذين كفروا النار.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك من التأويـل قال جماعة منهم. ذكر من قال ذلك:
3471ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج قوله: زُيّنَ للّذِينَ كَفَرُوا الـحياةُ الدّنْـيا قال: الكفـار يبتغون الدنـيا ويطلبونها, ويسخرون من الذين آمنوا فـي طلبهم الاَخرة. قال ابن جريج: لا أحسبه إلا عن عكرمة, قال: قالوا: لو كان مـحمد نبـيا كما يقول, لاتبعه أشرافنا وساداتنا, والله ما اتبعه إلا أهل الـحاجة مثل ابن مسعود.
3472ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: وَالّذِينَ اتّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القِـيامَةِ قال: فوقهم فـي الـجنة.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَاللّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ.
ويعنـي بذلك: والله يعطي الذين اتقوا يوم القـيامة من نعمه وكراماته وجزيـل عطاياه, بغير مـحاسبة منه لهم علـى منّ به علـيهم من كرامته.
فإن قال لنا قائل: وما فـي قوله: يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابِ من الـمدح؟ قـيـل: الـمعنى الذي فـيه من الـمدح الـخبر عن أنه غير خائف نفـاد خزائنه, فـيحتاج إلـى حساب ما يخرج منها, إذ كان الـحساب من الـمعطي إنـما يكون لـيعلـم قدر العطاء الذي يخرج من ملكه إلـى غيره لئلا يتـجاوز فـي عطاياه إلـى ما يجحف به, فربنا تبـارك وتعالـى غير خائف نفـاد خزائنه, ولا انتقاص شيء من ملكه بعطائه ما يعطي عبـاده, فـيحتاج إلـى حساب ما يعطي, وإحصاء ما يُبِقـي فذلك الـمعنى الذي فـي قوله: وَاللّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ.
الآية : 213
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{كَانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النّبِيّينَ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاّ الّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ }
اختلف أهل التأويـل فـي معنى الأمة فـي هذا الـموضع, وفـي الناس الذين وصفهم الله بأنهم كانوا أمة واحدة فقال بعضهم: هم الذين كانوا بـين آدم ونوح, وهم عشرة قرون, كلهم كانوا علـى شريعة من الـحق, فـاختلفوا بعد ذلك. ذكر من قال ذلك:
3473ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا أبو داود, قال: حدثنا همام بن منبه, عن عكرمة, عن ابن عبـاس, قال: كان بـين نوح وآدم عشرة قرون, كلهم علـى شريعة من الـحق, فـاختلفوا, فبعث الله النبـيـين مبشرين ومنذرين. قال: وكذلك هي فـي قراءة عبد الله «كانَ النّاسُ أمةً واحدةً فـاختْلفُوا».
3474ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: كانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً قال: كانوا علـى الهدى جميعا, فـاختلفوا فَبَعَثَ اللّهُ النّبِـيّـينَ مُبَشّرِينَ وَمُنْذِرينَ فكان أولَ نبـيّ بعث نوح.
فتأويـل الأمة علـى هذا القول الذي ذكرناه عن ابن عبـاس الدين, كما قال النابغة الذبـيانـي:
حَلَفْتُ فَلَـمْ أتْركْ لِنَفْسِكَ رِيبَةًوَهَلْ يَأثَمَنْ ذُو أُمّةٍ وَهُوَ طائِعُ
يعنـي ذا الدين. فكان تأويـل الآية علـى معنى قول هؤلاء: كان الناس أمة مـجتـمعة علـى ملة واحدة ودين واحد, فـاختلفوا, فبعث الله النبـيـين مبشرين ومنذرين.
وأصل الأمة الـجماعة, تـجتـمع علـى دين واحد, ثم يكتفـى بـالـخبر عن الأمة من الـخبر عن الدين لدلالتها علـيه كما قال جل ثناؤه: وَلَوْ شاءَ الله لَـجَعَلَكُمْ أمّةً وَاحِدَةً يراد به أهل دين واحد وملة واحدة. فوجه ابن عبـاس فـي تأويـله قوله: كانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً إلـى أن الناس كانوا أهل دين واحد حتـى اختلفوا.
وقال آخرون: بل تأويـل ذلك كان آدم علـى الـحق إماما لذرّيته, فبعث الله النبـيـين فـي ولده ووجهوا معنى الأمة إلـى الطاعة لله والدعاء إلـى توحيده واتبـاع أمره من قول الله عزّ وجل: إنّ إبْرَاهيـمَ كانَ أُمّةً قانِتا لِلّهِ حَنِـيفـا يعنـي بقوله أُمّةً إماما فـي الـخير يقتدى به, ويتبع علـيه. ذكر من قال ذلك:
3475ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: كانَ النّاسُ أُمْةً وَاحِدَةً قال: آدم.
3476ـ حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفـيان, عن ابن جريج, عن مـجاهد, مثله.
3477ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد قوله: كانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً قال: آدم, قال: كان بـين آدم ونوح عشرة أنبـياء, فبعث الله النبـيـين مبشرين ومنذرين. قال مـجاهد: آدم أمة وحده, وكأنّ من قال هذا القول استـجاز بتسمية الواحد بـاسم الـجماعة لاجتـماع أخلاق الـخير الذي يكون فـي الـجماعة الـمفرقة فـيـمن سماه بـالأمة, كما يقال: فلان أمة وحده, يقول مقام الأمة. وقد يجوز أن يكون سماه بذلك لأنه سبب لاجتـماع الأسبـاب من الناس علـى ما دعاهم إلـيه من أخلاق الـخير, فلـما كان آدم صلى الله عليه وسلم سببـا لاجتـماع من اجتـمع علـى دينه من ولده إلـى حال اختلافهم سماه بذلك أمة.
وقال آخرون: معنى ذلك كان الناس أمة واحدة علـى دين واحد يوم استـخرج ذرية آدم من صلبه, فعرضهم علـى آدم. ذكر من قال ذلك:
3478ـ حدثت عن عمار, عن ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع قوله: كانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً. وعن أبـيه, عن الربـيع, عن أبـي العالـية, عن أبـيّ بن كعب, قال: كانوا أمة واحدة حيث عرضوا علـى آدم ففطرهم يومئذٍ علـى الإسلام, وأقرّوا له بـالعبودية, وكانوا أمة واحدة مسلـمين كلهم. ثم اختلفوا من بعد آدم, فكان أبـيّ يقرأ: «كانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً فـاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ اللّهُ النَبِـيـيّنَ مُبَشّرِينَ وَمُنْذِرِينَ» إلـى «فِـيـما اخْتَلَفُوا فِـيهِ» وإن الله إنـما بعث الرسل وأنزل الكتب عند الاختلاف.
3479ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: كانَ النّاسُ أُمّةً وَاحدَةً قال: حين أخرجهم من ظهر آدم لـم يكونوا أمة واحدة قط غير ذلك الـيوم, فبعث الله النبـيـين. قال: هذا حين تفرّقت الأمـم.
وتأويـل الآية علـى هذا القول نظير تأويـل قول من قال بقول ابن عبـاس: إن الناس كانوا علـى دين واحد فـيـما بـين آدم ونوح. وقد بـينا معناه هنالك إلا أن الوقت الذي كان فـيه الناس أمة واحدة مخالف الوقت الذي وقته ابن عبـاس.
وقال آخرون بخلاف ذلك كله فـي ذلك, وقالوا: إنـما معنى قوله: كانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً علـى دين واحد, فبعث الله النبـيـين. ذكر من قال ذلك:
3480ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس قوله: كانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً يقول: كان دينا واحدا, فبعث الله النبـيـين مبشرين ومنذرين.
وأولـى التأويلات فـي هذه الآية بـالصواب أن يقال: إن الله عز وجل أخبر عبـاده أن الناس كانوا أمة واحدة علـى دين واحد وملة واحدة. كما:
3481ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: كانَ النّاسُ أُمةً وَاحِدَةً يقول: دينا واحدا علـى دين آدم, فـاختلفوا, فبعث الله النبـيـين مبشرين ومنذرين.
وكان الدين الذي كانوا علـيه دين الـحق. كما قال أبـيّ بن كعب وكما:
3482ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي, قال: هي فـي قراءة ابن مسعود: «اختلفوا عنه» عن الإسلام.
فـاختلفوا فـي دينهم, فبعث الله عند اختلافهم فـي دينهم النبـيـين مبشرين ومنذرين, وأنزل معهم الكتاب لـيحكم بـين الناس فـيـما اختلفوا فـيه رحمة منه جل ذكره بخـلقه واعتذارا منه إلـيهم.
وقد يجوز أن يكون ذلك الوقت الذي كانوا فـيه أمة واحدة من عهد آدم إلـى عهد نوح علـيهما السلام, كما روى عكرمة, عن ابن عبـاس, وكما قاله قتادة. وجائز أن يكون كان ذلك حين عرض علـى آدم خـلقه. وجائز أن يكون كان ذلك فـي وقت غير ذلك. ولا دلالة من كتاب الله ولا خبر يثبت به الـحجة علـى أيّ هذه الأوقات كان ذلك, فغير جائز أن نقول فـيه إلا ما قال الله عز وجل من أن الناس كانوا أمة واحدة, فبعث الله فـيهم لـما اختلفوا الأنبـياء والرسل. ولا يضرّنا الـجهل بوقت ذلك, كما لا ينفعنا العلـم به إذا لـم يكن العلـم به لله طاعة, غير أنه أيّ ذلك كان, فإن دلـيـل القرآن واضح علـى أن الذين أخبر الله عنهم أنهم كانوا أمة واحدة, إنـما كانوا أمة واحدة علـى الإيـمان ودين الـحقّ دون الكفر بـالله والشرك به. وذلك أن الله جل وعز قال فـي السورة التـي يذكر فـيها يونس: وَما كانَ النّاسُ إلاّ أُمّةً وَاحِدَةً فـاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِـمَةٌ سَبَقتْ مِنْ رَبّكَ لَقُضِيَ بَـيْنَهُمْ فِـيـما فِـيهِ يَخْتَلِفُونَ فتوعد جل ذكره علـى الاختلاف لا علـى الاجتـماع, ولا علـى كونهم أمة واحدة, ولو كان اجتـماعهم قبل الاختلاف كان علـى الكفر ثم كان الاختلاف بعد ذلك, لـم يكن إلا بـانتقال بعضهم إلـى الإيـمان, ولو كان ذلك كذلك لكان الوعد أولـى بحكمته جل ثناؤه فـي ذلك الـحال من الوعيد لأنها حال إنابة بعضهم إلـى طاعته, ومـحال أن يتوعد فـي حال التوبة والإنابة, ويترك ذلك فـي حال اجتـماع الـجميع علـى الكفر والشرك.
وأما قوله: فَبَعَثَ اللّهُ النَبِـيّـينَ مُبَشّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فإنه يعنـي أنه أرسل رسلاً يبشرون من أطاع الله بجزيـل الثواب, وكريـم الـمآب ويعنـي بقوله وَمُنْذِرِينَ ينذرون من عصى الله فكفر به, بشدة العقاب, وسوء الـحساب والـخـلود فـي النار وأنْزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بـالـحَقّ لِـيَحْكُمَ بَـيْنَ النّاسِ فِـيـما اخْتَلَفُوا فِـيهِ يعنـي بذلك لـيحكم الكتاب وهو التوراة بـين الناس فـيـما اختلف الـمختلفون فـيه فأضاف جل ثناؤه الـحكم إلـى الكتاب, وأنه الذي يحكم بـين الناس دون النبـيـين والـمرسلـين, إذ كان من حكم من النبـيـين والـمرسلـين بحكم, إنـما يحكم بـما دلهم علـيه الكتاب الذي أنزل الله عزّ وجل, فكان الكتاب بدلالته علـى ما دل وصفه علـى صحته من الـحكم حاكما بـين الناس, وإن كان الذي يفصل القضاء بـينهم غيره.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَما اخْتَلَفَ فِـيهِ إلاّ الّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَـيّناتُ بَغْيا بَـيْنَهُمْ.
يعنـي جل ثناؤه بقوله: وَما اخْتَلَفَ فِـيهِ وما اختلف فـي الكتاب الذي أنزله وهو التوراة, إلاّ الّذينَ أُوتُوهُ يعنـي بذلك الـيهود من بنـي إسرائيـل, وهم الذين أوتوا التوراة والعلـم بها. والهاء فـي قوله «أوتوه» عائدة علـى الكتاب الذي أنزله الله. مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَـيّناتُ يعنـي بذلك: من بعد ما جاءتهم حجج الله وأدلته أن الكتاب الذي اختلفوا فـيه وفـي أحكامه عند الله, وأنه الـحق الذي لا يسعهم الاختلاف فـيه, ولا العمل بخلاف ما فـيه. فأخبر عز ذكره عن الـيهود من بنـي إسرائيـل أنهم خالفوا الكتاب التوراة, واختلفوا فـيه علـى علـم منهم, ما يأتون متعمدين الـخلاف علـى الله فـيـما خالفوه فـيه من أمره وحكم كتابه.
ثم أخبر جل ذكره أن تعمدهم الـخطيئة التـي أنزلها, وركوبهم الـمعصية التـي ركبوها من خلافهم أمره, إنـما كان منهم بغيا بـينهم. والبغي مصدر من قول القائل: بغى فلان علـى فلان بغيا إذا طغى واعتدى علـيه فجاوز حدّه, ومن ذلك قـيـل للـجرح إذا أمدّ, وللبحر إذا كثر ماؤه ففـاض, وللسحاب إذا وقع بأرض فأخصبت: بغى كل ذلك بـمعنى واحد, وهي زيادته وتـجاوز حده. فمعنى قوله جل ثناؤه: وَما اخْتَلَفَ فِـيهِ إلاّ الّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَـيّناتُ بَغيْا بَـيْنَهُمْ من ذلك. يقول: لـم يكن اختلاف هؤلاء الـمختلفـين من الـيهود من بنـي إسرائيـل فـي كتابـي الذي أنزلته مع نبـي عن جهل منهم به, بل كان اختلافهم فـيه, وخلاف حكمه من بعد ما ثبتت حجته علـيهم بغيا بـينهم, طلب الرياسة من بعضهم علـى بعض, واستذلالاً من بعضم لبعض. كما:
3483ـ حدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, قال: ثم رجع إلـى بنـي إسرائيـل فـي قوله: وَما اخْتَلَفَ فِـيهِ إلاّ الّذِينَ أُوتُوهُ يقول: إلا الذين أوتوا الكتاب والعلـم مِنْ بَعدِ ما جاءَتُهُمُ البَـيّناتُ بَغيْا بَـيْنَهُمْ يقول: بغيا علـى الدنـيا وطلب ملكها وزخرفها وزينتها, أيهم يكون له الـملك والـمهابة فـي الناس. فبغى بعضهم علـى بعض, وضرب بعضهم رقاب بعض.
ثم اختلف أهل العربـية فـي «مِن» التـي فـي قوله: مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَـيّناتُ ما حكمها ومعناها؟ وما الـمعنى الـمنتسق فـي قوله وَما اخْتَلَفَ فِـيهِ إلاّ الّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جَاءَتْهُمُ البَـيّناتُ بَغيْا بَـيْنَهُمْ؟ فقال بعضهم: من ذلك للذين أوتوا الكتاب وما بعده صلة له. غير أنه زعم أن معنى الكلام: وما اختلف فـيه إلا الذين أوتوه بغيا بـينهم من بعد ما جاءتهم البـينات. وقد أنكر ذلك بعضهم فقال: لا معنى لـما قال هذا القائل, ولا لتقديـم البغي قبل «من», لأن «من» إذا كان الـجالب لها البغي, فخطأ أن تتقدمه لأن البغي مصدر, ولا تتقدم صلة الـمصدر علـيه. وزعم الـمنكر ذلك أن «الذين» مستثنى, وأن «من بعد ما جاءتهم البـينات» مستثنى بـاستثناء آخر. وأن تأويـل الكلام: وما اختلف فـيه إلا الذين أوتوه, ما اختلفوا فـيه إلا بغيا, ما اختلفوا إلا من بعد ما جاءتهم البـينات. فكأنه كرّر الكلام توكيدا. وهذا القول الثانـي أشبه بتأويـل الآية, لأن القوم لـم يختلفوا إلا من بعد قـيام الـحجة علـيهم ومـجيء البـينات من عند الله, وكذلك لـم يختلفوا إلا بغيا, فذلك أشبه بتأويـل الآية.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا لَـما اخْتَلَفُوا فِـيهِ مِنَ الـحَقّ بإذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إلـى صِرَاطٍ مُسْتَقِـيـم.
يعنـي جل ثناؤه بقوله: فَهَدَى اللّهُ فوفق الذي آمنوا وهم أهل الإيـمان بـالله وبرسوله مـحمد صلى الله عليه وسلم الـمصدّقـين به وبـما جاء به أنه من عند الله لـما اختلف الذين أوتوا الكتاب فـيه. وكان اختلافهم الذي خذلهم الله فـيه, وهدى له الذين آمنوا بـمـحمد صلى الله عليه وسلم فوفقتهم لإصابته: الـجمعة, ضلوا عنها وقد فرضت علـيهم كالذين فرض علـينا, فجعلوها السبت فقال صلى الله عليه وسلم: «نَـحْنُ الاَخِرُونَ السّابِقُونَ, بَـيْدَ أنّهُمْ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِنا وأُوتِـيناهُ مِنْ بَعْدِهِمْ, وَهَذَا الـيَوْمُ الّذِي اخْتَلَفُوا فِـيهِ, فَهَدَانا اللّهُ لَهُ, فَلِلْـيَهُودِ غَدا وللنّصَارَى بَعْدَ غَدٍ».
3484ـ حدثنا بذلك أحمد بن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن عياض بن دينار اللـيثـي, قال: سمعت أبـا هريرة يقول: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم. فذكر الـحديث.
3485ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن الأعمش, عن أبـي صالـح عن أبـي هريرة: فَهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا لِـمَا اخْتَلَفُوا فِـيهِ مِنَ الـحَقّ بإذْنِهِ قال: قال النبـيّ صلى الله عليه وسلم: «نَـحْنُ الاَخِرُونَ الأوّلُونَ يَوْمَ القِـيامَةِ, نَـحْنُ أوّلُ النّاسِ دُخُولاً الـجَنّة بَـيْدَ أنّهُمْ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِنا وأُوتِـيناهُ مِنْ بَعْدِهِمْ, فَهَدَانا اللّهُ لِـما اختَلَفُوا فِـيهِ مِنَ الـحَقّ بإذْنِهِ فَهذَا الْـيوْمُ الّذِي هَدانَا اللّهُ لهُ والنّاسُ لنَا فِـيهِ تَبَعٌ, غَدا لِلْـيهُودِ, وَبَعْدَ غَدٍ لِلنّصَارَى».
وكان مـما اختلفوا فـيه أيضا ما قال ابن زيد, وهو ما:
3486ـ حدثنـي به يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: فَهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا للإسلام, واختلفوا فـي الصلاة, فمنهم من يصلـى إلـى الـمشرق, ومنهم من يصلـي إلـى بـيت الـمقدس, فهدانا للقبلة واختلفوا فـي الصيام, فمنهم من يصوم بعض يوم, وبعضهم بعض لـيـلة, وهدانا الله له. واختلفوا فـي يوم الـجمعة, فأخذت الـيهود السبت وأخذت النصارى الأحد, فهدانا الله له. واختلفوا فـي إبراهيـم, فقالت الـيهود كان يهوديا, وقالت النصارى كان نصرانـيا, فبرأه الله من ذلك, وجعله حنـيفـا مسلـما, وما كان من الـمشركين للذين يدّعونه من أهل الشرك. واختلفوا فـي عيسى, فجعلته الـيهود لفرية, وجعلته النصارى ربـا, فهدانا الله للـحق فـيه فهذا الذي قال جل ثناؤه: فَهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا لِـمَا اخْتَلَفُوا فِـيهِ مِنَ الـحَقّ بإذْنهِ.
قال: فكانت هداية الله جل ثناؤه الذين آمنوا بـمـحمد, وبـما جاء به لـما اختلف هؤلاء الأحزاب من بنـي إسرائيـل الذين أوتوا الكتاب فـيه من الـحق بإذنه أن وفقهم لإصابة ما كان علـيه من الـحقّ من كان قبل الـمختلفـين الذين وصف الله صفتهم فـي هذه الآية إذ كانوا أمة واحدة, وذلك هو دين إبراهيـم الـحنـيف الـمسلـم خـلـيـل الرحمن, فصاروا بذلك أمة وسطا, كما وصفهم به ربهم لـيكونوا شهداء علـى الناس. كما:
3487ـ حدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: فَهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا لِـمَا اخْتَلَفُوا فِـيهِ فهداهم الله عند الاختلاف أنهم أقاموا علـى ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف, أقاموا علـى الإخلاص لله وحده وعبـادته لا شريك له, وإقام الصلاة, وإيتاء الزكاة, فأقاموا علـى الأمر الأول الذي كان قبل الاختلاف, واعتزلوا الاختلاف فكانوا شهداء علـى الناس يوم القـيامة كانوا شهداء علـى قوم نوح, وقوم هود, وقوم صالـح, وقوم شعيب, وآل فرعون, أن رسلهم قد بلغوهم, وأنهم كذبوا رسلهم. وهي فـي قراءة أبـيّ بن كعب: «لـيكونوا شهداء علـى الناس يوم القـيامة, والله يهدي من يشاء إلـى صراط مستقـيـم». فكان أبو العالـية يقول فـي هذه الآية الـمخرج من الشبهات والضلالات والفتن.
3488ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: فَهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا لِـمَا اخْتَلَفُوا فِـيهِ يقول: اختلف الكفـار فـيه, فهدى الله الذي آمنوا للـحق من ذلك وهي فـي قراءة ابن مسعود: فهدى الله الذين آمنوا لـما اختلفوا «عنه» عن الإسلام.
وأما قوله: بإذْنِهِ فإنه يعنـي جل ثناؤه بعلـمه بـما هداهم له, وقد بـينا معنى الإذن إذ كان بـمعنى العلـم فـي غير الـموضع بـما أغنى عن إعادته ههنا.
وأما قوله: وَاللّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إلـى صِرَاطٍ مُسْتَقِـيـم فإنه يعنـي به: والله يسدد من يشاء من خـلقه ويرشده إلـى الطريق القويـم علـى الـحق الذي لا اعوجاج فـيه, كما هدى الذين آمنوا بـمـحمد صلى الله عليه وسلم, لـما اختلف الذين أوتوا الكتاب فـيه بغيا بـينهم, فسدّدهم لإصابة الـحق والصواب فـيه.
وفـي هذه الآية البـيان الواضح علـى صحة ما قاله أهل الـحق من أن كل نعمة علـى العبـاد فـي دينهم أو دنـياهم, فمن الله عز وجل.
فإن قال لنا قائل: وما معنى قوله: فَهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا لِـمَا اخْتَلَفُوا فِـيه أهداهم للـحق أم هداهم للاختلاف؟ فإن كان هداهم للاختلاف فإنـما أضلهم, وإن كان هداهم للـحق فـيكف قـيـل: فَهَدَى اللّهَ الّذِين آمَنُوا لِـمَا اخْتَلَفُوا فِـيهِ؟ قـيـل: إن ذلك علـى غير الوجه الذي ذهبت إلـيه, وإنـما معنى ذلك: فهدى الله الذين آمنوا للـحق فـيـما اختلف فـيه من كتاب الله الذين أوتوه, فكفر بتبديـله بعضهم, وثبت علـى الـحقّ والصواب فـيه بعضهم, وهم أهل التوراة الذين بدّلوها, فهدى الله للـحق مـما بدلوا وحرّفوا الذين آمنوا من أمة مـحمد صلى الله عليه وسلم.
قال أبو جعفر: فإن أشكل ما قلنا علـى ذي غفلة, فقال: وكيف يجوز أن يكون ذلك كما قلت, و«مِنْ» إنـما هي فـي كتاب الله فـي «الـحق» واللام فـي قوله: لِـمَا اخْتَلَفُوا فِـيهِ وأنت تـحوّل اللام فـي «الـحقّ», و«من» فـي «الاختلاف» فـي التأويـل الذي تتأوله فتـجعله مقلوبـا؟ قـيـل: ذلك فـي كلام العرب موجود مستفـيض, والله تبـارك وتعالـى إنـما خاطبهم بـمنطقهم, فمن ذلك قول الشاعر:
كانَتْ فَريضَةَ ما تَقَولُ كمَاكانَ الزّنَاءُ فَريضَة الرّجْمِ
وإنـما الرجم فريضة الزنا. وكما قال الاَخر:
إنّ سِرَاجا لَكرِيـمٌ مَفْخَرُهْتَـحْلَـى بِهِ العَينُ إذَا ما تَـجْهَرُهْ
وإنـما سراج الذي يحلـى بـالعين, لا العين بسراج.
وقد قال بعضهم: إن معنى قوله فَهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا لِـمَا اخْتَلَفُوا فِـيهِ مِنَ الـحَقّ أن أهل الكتب الأول اختلفوا, فكفر بعضهم بكتاب بعض, وهي كلها من عند الله, فهدى الله أهل الإيـمان بـمـحمد للتصديق بجميعها, وذلك قول, غير أن الأول أصحّ القولـين, لأن الله إنـما أخبر بـاختلافهم فـي كتاب واحد.
الآية : 214
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنّةَ وَلَمّا يَأْتِكُم مّثَلُ الّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مّسّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ وَالضّرّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتّىَ يَقُولَ الرّسُولُ وَالّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىَ نَصْرُ اللّهِ أَلآ إِنّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ }
وأما قوله: أمْ حَسِبْتُـمْ كأنه استفهم ب«أم» فـي ابتداء لـم يتقدمه حرف استفهام لسبوق كلام هو به متصل, ولو لـم يكن قبله كلام يكون به متصلاً, وكان ابتداء لـم يكن إلا بحرف من حروف الاستفهام لأن قائلاً لو كان قال مبتدئا كلاما لاَخر: أم عندك أخوك؟ لكان قائلاً ما لا معنى له ولكن لو قال: أنت رجل مدلّ بقوتك أم عندك أخوك ينصرك؟ كان مصيبـا. وقد بـينا بعض هذا الـمعنى فـيـما مضى من كتابنا هذا بـما فـيه الكفـاية عن إعادته.
فمعنى الكلام: أم حسبتـم أنكم أيها الـمؤمنون بـالله ورسله تدخـلون الـجنة, ولـم يصبكم مثل ما أصاب من قبلكم من أتبـاع الأنبـياء والرسل من الشدائد والـمـحن والاختبـار, فتبتلوا بـما ابتلوا واختبروا به من البأساء وهو شدّة الـحاجة والفـاقة والضرّاء, وهي العلل والأوصاب ولـم تزلزلوا زلزالهم, يعنـي: ولـم يصبهم من أعدائهم من الـخوف والرعب شدة وجهد حتـى يستبطىء القوم نصر الله إياهم, فـيقولون: متـى الله ناصرنا. ثم أخبرهم الله أن نصره منهم قريب, وأنه معلـيهم علـى عدوّهم, ومظهرهم علـيه, فنـجز لهم ما وعدهم, وأعلـى كلـمتهم, وأطفأ نار حرب الذين كفروا.
وهذه الآية فـيـما يزعم أهل التأويـل نزلت يوم الـخندق, حين لقـي الـمؤمنون ما لقوا من شدة الـجهد, من خوف الأحزاب, وشدة أذى البرد, وضيق العيش الذي كانوا فـيه يومئذٍ, يقول الله جل وعز للـمؤمنـين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نَعْمَتَ اللّهِ عَلَـيْكُمْ إذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فأرْسَلْنا عَلَـيْهِمْ رِيحا وَجُنُودا لَـمْ تَرَوْها» إلـى قوله: وَإذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الـحَناجِرَ وَتظُنّونَ بـاللّهِ الظّنُونا هُنالِكَ ابْتُلِـيَ الـمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَلاً شَدِيدا. ذكر من قال نزلت هذه الآية يوم الأحزاب:
3489ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: أمْ حَسِبْتُـمْ أنْ تَدْخُـلُوا الـجَنةَ وَلـمّا يَأتِكُمْ مَثَلُ الّذِينَ خَـلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَستّهُمُ البَأساءُ وَالضّرّاءُ وَزُلْزِلُوا قال: نزل هذا يوم الأحزاب حين قال قائلهم: ما وَعَدَنا اللّهُ وَرَسُولُهُ إلاّ غُرُورا.
3490ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله وَلـمّا يأتِكُمْ مَثَلُ الّذِينَ خَـلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ, مَسّتْهُمُ البَأساءُ وَالضّرّاءُ وَزُلْزِلُوا قال: نزلت فـي يوم الأحزاب, أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بلاء وحصر, فكانوا كما قال الله جل وعز: وَبَلغَتِ القُلُوبُ الـحَناجِرَ.
وأما قوله: وَلـمّا يَأتِكُمْ فإن عامة أهل العربـية يتأوّلونه بـمعنى: ولـم يأتكم, ويزعمون أن ما صلة وحشو, وقد بـينت القول فـي «ما» التـي يسميها أهل العربـية صلة «ما», حكمها فـي غير هذا الـموضع بـما أغنى عن إعادته.
وأما معنى قوله: مَثَلُ الّذِين خَـلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ فإنه يعنـي: شبه الذين خـلوا فمضوا قبلكم. وقد دللت فـي غير هذا الـموضع علـى أن الـمثل الشبه. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
3491ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع قوله: أمْ حَسِبْتُـمْ أنْ تَدْخُـلُوا الـجَنّةَ وَلَـمّا يَأتِكُمْ مَثَلُ الّذِينَ خَـلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسّتهُمْ البْأسَاءُ وَالضّرّاءُ وَزُلْزِلُوا.
3492ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن عبد الـملك بن جريج, قال قوله: حتّـى يَقُولَ الرّسُولُ وَالّذِين آمَنُوا قال: هو خيرهم وأعلـمهم بـالله.
وفـي قوله: حتـى يَقُولَ الرّسُولُ وجهان من القراءة: الرفع, والنصب. ومن رفع فإنه يقول: لـما كان يحسن فـي موضعه «فعل» أبطل عمل «حتـى» فـيها, لأن «حتـى» غير عاملة فـي «فَعَلَ», وإنـما تعمل فـي «يفعل», وإذا تقدمها «فعل» وكان الذي بعدها «يفعل», وهو مـما قد فعل وفرغ منه, وكان ما قبلها من الفعل غير متطاول, فـالفصيح من كلام العرب حينئذٍ الرفع فـي «يفعل» وإبطال عمل «حتـى» عنه, وذلك نـحو قول القائل: قمت إلـى فلان حتـى أضربه, والرفع هو الكلام الصحيح فـي «أضربه», إذا أراد: قمت إلـيه حتـى ضربته, إذا كان الضرب قد كان وفُرغ منه, وكان القـيام غير متطاول الـمدة. فأما إذا كان ما قبل «حتـى» من الفعل علـى لفظ «فعل» متطاول الـمدة, وما بعدها من الفعل علـى لفظ غير منقض, فـالصحيح من الكلام نصب «يفعل» وإعمال «حتـى», وذلك نـحو قول القائل: ما زال فلان يطلبك حتـى يكلـمك, وجعل ينظر إلـيك حتـى يثبتك فـالصحيح من الكلام الذي لا يصحّ غير النصب ب«حتـى», كما قال الشاعر:
مَطَوْتُ بِهِمْ حتـى تَكِلّ مَطِيّهُمْوحتّـى الـجِيَادُ ما يُقَدْنَ بأرْسانِ
فنصب تكل والفعل الذي بعد حتـى ماض, لأن الذي قبلها من الـمطو متطاول, والصحيح من القراءة إذا كان ذلك كذلك: «وزلزلوا حتـى يقولَ الرسول», نصب يقول, إذ كانت الزلزلة فعلاً متطاولاً, مثل الـمطو بـالإبل. وإنـما الزلزلة فـي هذا الـموضع: الـخوف من العدوّ, لا زلزلة الأرض, فلذلك كانت متطاولة وكان النصب فـي «يقول» وإن كان بـمعنى «فعل» أفصح وأصحّ من الرفع فـيه.
الآية : 215
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ وَالْيَتَامَىَ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنِ السّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ }
يعنـي بذلك جل ثناؤه: يسألك أصحابك يا مـحمد, أيّ شيء ينفقون من أموالهم فـيتصدقون به, وعلـى من ينفقونه فـيـما ينفقونه ويتصدقون به؟ فقل لهم: ما أنفقتـم من أموالكم وتصدقتـم به فأنفقوه وتصدقوا به واجعلوه لاَبـائكم وأمهاتكم وأقربـيكم, وللـيتامى منكم والـمساكين وابن السبـيـل, فإنكم ما تأتوا من خير وتصنعوه إلـيهم فإن الله به علـيـم, وهو مـحصيه لكم حتـى يوفـيكم أجوركم علـيه يوم القـيامة, ويثـيبكم علـى ما أطعتـموه بإحسانكم علـيه. والـخير الذي قال جل ثناؤه فـي قوله: قُلْ ما أنْفَقْتُـمْ مِنْ خَيْرٍ هو الـمال الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه من النفقة منه, فأجابهم الله عنه بـما أجابهم به فـي هذه الآية.
وفـي قوله: ماذَا وجهان من الإعراب: أحدهما أن يكون «ماذا» بـمعنى أيّ شيء, فـيكون نصبـا بقوله: «ينفقون», فـيكون معنى الكلام حينئذً: يسألونك أيّ شيء ينفقون, ولا ينصب ب«يسألونك». والاَخر منهما الرفع. وللرفع فـي «ذلك» وجهان: أحدهما أن يكون «ذا» الذي مع «ما» بـمعنى «الذي», فـيرفع «ما» ب«ذا» و«ذا» ب«ما», و«ينفقون» من صلة «ذا», فإن العرب قد تصل «ذا», وهذا كما قال الشاعر:
عَدَسْ, ما لعَبّـادٍ علـيكِ إمارَةٌأمِنْتِ وَهَذَا تَـحْمِلِـينَ طَلِـيقُ
ف«تـحملـين» من صلة «هذا», فـيكون تأويـل الكلام حينئذٍ: يسألونك ما الذي ينفقون. والاَخر من وجهي الرفع أن تكون «ماذا» بـمعنى أيّ شيء, فـيرفع «ماذا», وإن كان قوله: يُنْفِقُونَ واقعا علـيه, إذ كان العامل فـيه وهو «ينفقون» لا يصلـح تقديـمه قبله, وذلك أن الاستفهام لا يجوز تقديـم الفعل فـيه قبل حرف الاستفهام, كما قال الشاعر:
ألا تَسألاَنِ الـمَرْءَ ماذَا يُحاوِلُأنَـحْبٌ فَـيُقْضَى أمْ ضَلالٌ وَبـاطِلُ
وكما قال الاَخر:
وَقالُوا تَعَرّفْها الـمَنازِلَ مِنْ مِنًىوَما كُلّ مَنْ يَغْشَى مِنًى أنا عارفُ
فرفع كلّ ولـم ينصبه بعارف. إذْ كان معنى قوله: «وما كان من يغشى منى أنا عارف» جحود معرفة من يغشى منى, فصار فـي معنى ما أحد. وهذه الآية (نزلت) فـيـما ذكر قبل أن يفرض الله زكاة الأموال. ذكر من قال ذلك:
3493ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أنْفَقْتُـمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِـينَ قال: يوم نزلت هذه الآية لـم تكن زكاة, وإنـما هي النفقة ينفقها الرجل علـى أهله والصدقة يتصدق بها فنسختها الزكاة.
3494ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج: سأل الـمؤمنون رسول الله صلى الله عليه وسلم أين يضعون أموالهم؟ فنزلت: يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أنْفَقْتُـمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِـينَ والـيتَامَى وَالـمَساكِينِ وَابْنِ السّبِـيـلِ فذلك النفقة فـي التطوّع والزكاة سوى ذلك كله. قال: وقال مـجاهد: سألوا فأفتاهم فـي ذلك ما أنفقتـم من خير فللوالدين والأقربـين وما ذكر معهما.
3495ـ حدثنا مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: ثنـي عيسى, قال: سمعت ابن أبـي نـجيح فـي قول الله: يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قال: سألوه فأفتاهم فـي ذلك: فللوالدين والأقربـين وما ذكر معهما.
3496ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: وسألته عن قوله: قُلْ ما أنْفَقْتُـم مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِـينَ قال: هذا من النوافل. قال: يقول: هم أحق بفضلك من غيرهم.
وهذا الذي قاله السدي من أنه لـم يكن يوم نزلت هذه الآية زكاة, وإنـما كانت نفقة ينفقها الرجل علـى أهله, وصدقة يتصدق بها, ثم نسختها الزكاة, قول مـمكن أن يكون, كما قال: ومـمكن غيره. ولا دلالة فـي الآية علـى صحة ما قال, لأنه مـمكن أن يكون قوله: قُلْ ما أنْفَقْتُـمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبـيِنَ الآية, حَثّا من الله جل ثناؤه علـى الإنفـاق علـى من كانت نفقته غير واجبة من الاَبـاء والأمهات والأقربـاء, ومن سمى معهم فـي هذه الآية, وتعريفـا من الله عبـاده مواضع الفضل التـي تصرف فـيها النفقات, كما قال فـي الآية الأخرى: وآتَـى الـمَالَ علـى حُبّهِ ذَوِي القُربى والـيَتَامى وَالـمَساكِينَ وَابْنِ السّبِـيـلِ وَالسّائِلِـينَ وَفِـي الرّقابِ وأقامَ الصّلاةَ وآتَـى الزّكاة وهذا القول الذي قلناه فـي قول ابن جريج الذي حكيناه. وقد بـينا معنى الـمسكنة, ومعنى ابن السبـيـل فـيـما مضى, فأغنى ذلك عن إعادته