تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 341 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 341

341 : تفسير الصفحة رقم 341 من القرآن الكريم

** يَأَيّهَا النّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ إِنّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذّبَابُ شَيْئاً لاّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ إِنّ اللّهَ لَقَوِيّ عَزِيزٌ
يقول تعالى منبهاً على حقارة الأصنام وسخافة عقول عابديها {يا أيها الناس ضرب مثل} أي لما يعبده الجاهلون بالله المشركون به {فاستمعوا له} أي أنصتوا وتفهموا {إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له} أي لو اجتمع جميع ما تعبدون من الأصنام والأنداد على أن يقدروا على خلق ذباب واحد ما قدروا على ذلك. كما قال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر, حدثنا شريك عن عمارة بن القعقاع, عن أبي زرعة, عن أبي هريرة مرفوعاً قال: «ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي, فليخلقوا مثل خلقي ذرة أو ذبابة أو حبة». وأخرجه صاحبا الصحيح من طريق عمارة عن أبي زرعة عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله عز وجل ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي, قليخلقوا ذرة, فليخلقوا شعيرة», ثم قال تعالى أيضاً: {وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه} أي هم عاجزون عن خلق ذباب واحد, بل أبلغ من ذلك عاجزون عن مقاومته والإنتصار منه لو سلبها شيئاً من الذي عليها من الطيب, ثم أرادت أن تستنقذه منه لما قدرت على ذلك, هذا والذباب من أضعف مخلوقات الله وأحقرها, ولهذا قال: {ضعف الطالب والمطلوب} قال ابن عباس: الطالب الصنم, والمطلوب الذباب, واختاره ابن جرير, وهو ظاهر السياق. وقال السدي وغيره: الطالب العابد, والمطلوب الصنم, ثم قال: {ما قدروا الله حق قدره} أي ما عرفوا قدر الله وعظمته حين عبدوا معه غيره من هذه التي لا تقاوم الذباب لضعفها وعجزها {إن الله لقوي عزيز} أي هو القوي الذي بقدرته وقوته خلق كل شيء {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} {إن بطش ربك لشديد إنه هو يبدىء ويعيد} {إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين}. وقوله: {عزيز} أي قد عز كل شيء فقهره وغلبه, فلا يمانع ولا يغالب لعظمته وسلطانه, وهو الواحد القهار.

** اللّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النّاسِ إِنّ اللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الاُمُورُ
يخبر تعالى أنه يختار من الملائكة رسلاً فيما يشاء من شرعه وقدره ومن الناس لإبلاغ رسالته {إن الله سميع بصير} أي سميع لأقوال عباده, بصير بهم, عليم بمن يستحق ذلك منهم, كما قال: {الله أعلم حيث يجعل رسالته}, وقوله: {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور} أي يعلم ما يفعل رسله فيما أرسلهم به, فلا يخفى عليه شيء من أمورهم, كما قال: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً ـ إلى قوله ـ وأحصى كل شيء عدد} فهو سبحانه رقيب عليهم, شهيد على ما يقال لهم, حافظ لهم, ناصر لجنابهم {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} الاَية.

** يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ ارْكَعُواْ وَاسْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبّكُمْ وَافْعَلُواْ الْخَيْرَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللّهِ حَقّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ مّلّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَـَذَا لِيَكُونَ الرّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النّاسِ فَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ وَآتُواْ الزّكَـاةَ وَاعْتَصِمُواْ بِاللّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَىَ وَنِعْمَ النّصِيرُ
اختلف الأئمة رحمهم الله في هذه السجدة الثانية من سورة الحج: هل هي مشروع السجود فيها, أم لا ؟ على قولين, وقد قدمنا عند الأولى حديث عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم «فضلت سورة الحج بسجدتين, فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما». وقوله: {وجاهدوا في الله حق جهاده} أي بأموالكم وألسنتكم وأنفسكم, كما قال تعالى: {اتقوا الله حق تقاته}. وقوله: {هو اجتباكم} أي يا هذه الأمة الله اصطفاكم واختاركم على سائر الأمم, وفضلكم وشرفكم وخصكم بأكرم رسول وأكمل شرع {وما جعل عليكم في الدين من حرج} أي ما كلفكم ما لا تطيقون وما ألزمكم بشيء يشق عليكم إلا جعل الله لكم فرجاً ومخرجاً, فالصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام بعد الشهادتين تجب في الحضر أربعاً, وفي السفر تقصر إلى اثنتين, وفي الخوف يصليها بعض الأئمة ركعة, كما ورد به الحديث, وتصلى رجالاً وركباناً مستقبلي القبلة وغير مستقبليها, وكذا في النافلة في السفر إلى القبلة وغيرها, والقيام فيها يسقط لعذر المرض, فيصليها المريض جالساً, فإن لم يستطع فعلى جنبه, إلى غير ذلك من الرخص والتخفيفات في سائر الفرائض والواجبات, ولهذا قال عليه السلام: «بعثت بالحنيفية السمحة» وقال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما أميرين إلى اليمن «بشرا ولا تنفرا ويسرا ولا تعسرا», والأحاديث في هذا كثيرة, ولهذا قال ابن عباس في قوله: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} يعني من ضيق.
وقوله: {ملة أبيكم إبراهيم} قال ابن جرير: نصب على تقدير {ما جعل عليكم في الدين من حرج} أي من ضيق بل وسعه عليكم كملة أبيكم إبراهيم, قال: ويحتمل أنه منصوب على تقدير الزموا ملة أبيكم إبراهيم. {قلت} وهذا المعنى في هذه الاَية كقوله: {قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيف} الاَية, وقوله: {هو سماكم المسلمين من قبل} وفي هذا قال الإمام عبد الله بن المبارك عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس في قوله: {هو سماكم المسلمين من قبل} قال: الله عز وجل, وكذا قال مجاهد وعطاء والضحاك والسدي ومقاتل بن حيان وقتادة.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم {هو سماكم المسلمين من قبل} يعني إبراهيم, وذلك قوله: {ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك} قال ابن جرير: وهذا لا وجه له, لأنه من المعلوم أن إبراهيم لم يسم هذه الأمة في القرآن مسلمين, وقد قال الله تعالى: {هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذ} قال مجاهد: الله سماكم المسلمين من قبل في الكتب المتقدمة وفي الذكر, {وفي هذ} يعني القرآن, وكذا قال غيره. (قلت) وهذا هو الصواب, لأنه تعالى قال: {هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج} ثم حثهم وأغراهم على ما جاء به الرسول صلوات الله وسلامه عليه, بأنه ملة أبيهم إبراهيم الخليل, ثم ذكر منته تعالى على هذه الأمة بما نوه به من ذكرها والثناء عليها في سالف الدهر وقديم الزمان في كتب الأنبياء يتلى على الأحبار والرهبان, فقال: {هو سماكم المسلمين من قبل} أي من قبل هذا القرآن {وفي هذ} روى النسائي عند تفسير هذه الاَية: أنبأنا هشام بن عمار, حدثنا محمد بن شعيب, أنبأنا معاوية بن سلام أن أخاه زيد بن سلام أخبره عن أبي سلام أنه أخبره, قال: أخبرني الحارث الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال«من دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جثي جهنم» قال رجل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن صام وصلى ؟ قال «نعم وإن صام وصلى» فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله, وقد قدمنا هذا الحديث بطوله عند تفسير قوله {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون} من سورة البقرة, ولهذا قال {ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس} أي إنما جعلناكم هكذا أمة وسطاً عدولا خياراً مشهوداً بعدالتكم عند جميع الأمم, لتكونوا يوم القيامة {شهداء على الناس} لأن جيمع الأمم معترفة يومئذ بسيادتها وفضلها على كل أمة سواها, فلهذا تقبل شهادتهم عليهم يوم القيامة في أن الرسل بلغتهم رسالة ربهم, والرسول يشهد على هذه الأمة أنه بلغها ذلك, وقد تقدم الكلام على هذا عند قوله {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيد} وذكرنا حديث نوح وأمته بما أغنى عن إعادته.
وقوله {فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} أي قابلوا هذه النعمة العظيمة بالقيام بشكرها فأدوا حق الله عليكم في أداء ما افترض وطاعة ما أوجب وترك ما حرم, ومن أهم ذلك إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وهو الإحسان إلى خلق الله بما أوجب للفقير على الغني من إخراج جزء نزر من ماله في السنة للضعفاء والمحاويج, كما تقدم بيانه وتفصيله في آية الزكاة من سورة التوبة. وقوله {واعتصموا بالله} أي اعتضدوا بالله واستعينوا به وتوكلوا عليه وتأيدوا به {هو مولاكم} أي حافظكم وناصركم ومظفركم على أعدائكم {فنعم المولى ونعم النصير} يعني نعم الولي ونعم الناصر من الأعداء. قال وهيب بن الورد يقول الله تعالى: ابن آدم اذكرني إذا غضبت, أذكرك إذا غضبت فلا أمحقك فيمن أمحق, وإذا ظلمت فاصبر وارض بنصرتي, فإن نصرتي لك خير من نصرتك لنفسك. رواه ابن أبي حاتم, والله اعلم.
آخر تفسير سورة الحج ولله الحمد والمنة.