تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 342 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 342

342 : تفسير الصفحة رقم 342 من القرآن الكريم

سورة المؤمنون
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ
** قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالّذِينَ هُمْ عَنِ اللّغْوِ مّعْرِضُونَ * وَالّذِينَ هُمْ لِلزّكَـاةِ فَاعِلُونَ * وَالّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاّ عَلَىَ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَىَ وَرَآءَ ذَلِكَ فَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالّذِينَ هُمْ عَلَىَ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَـَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, أخبرني يونس بن سليم قال: أملى علي يونس بن يزيد الأيلي عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري ؟ قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل, فلبثنا ساعة فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال «اللهم زدنا ولا تنقصنا, وأكرمنا ولا تهنا, وأعطنا ولا تحرمنا, وآثرنا ولا تؤثر علينا, وارض عنا وأرضنا ـ ثم قال ـ لقد أنزل علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة» ثم قرأ: {قد أفلح المؤمنون} حتى ختم العشر, ورواه الترمذي في تفسيره, والنسائي في الصلاة من حديث عبد الرزاق به, وقال الترمذي: منكر لا نعرف أحداً رواه غير يونس بن سليم, ويونس لا نعرفه.
وقال النسائي في تفسيره: أنبأنا قتيبة بن سعيد, حدثنا جعفر عن أبي عمران عن يزيد بن بابنوس قال: قلنا لعائشة أم المؤمنين: كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت: كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن, فقرأت {قد أفلح المؤمنون ـ حتى انتهت إلى ـ والذين هم على صلواتهم يحافظون} قالت: هكذا كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد روي عن كعب الأحبار ومجاهد وأبي العالية وغيرهم: لما خلق الله جنة عدن وغرسها بيده نظر إليها وقال لها: تكلمي, فقالت: {قد أفلح المؤمنون} قال كعب الأحبار: لما أعد لهم من الكرامة فيها. وقال أبو العالية: فأنزل الله ذلك في كتابه.
وقد روي ذلك عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً, فقال أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن المثنى, حدثنا المغيرة بن سلمة, حدثنا وهيب عن الجريري عن أبي نضرة, عن أبي سعيد قال: خلق الله الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة, وغرسها وقال لها: تكلمي, فقالت: {قد أفلح المؤمنون} فدخلتها الملائكة, فقالت: طوبى لك منزل الملوك, ثم قال: وحدثنا بشر بن آدم, وحدثنا يونس بن عبيد الله العمري, حدثنا عدي بن الفضل, حدثنا الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خلق الله الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة, وملاطها المسك ـ قال البزار: ورأيت في موضع آخر في هذا الحديث ـ حائط الجنة لبنة ذهب ولبنة فضة, وملاطها المسك. فقال لها: تكلمي, فقالت: {قد أفلح المؤمنون} فقالت الملائكة: طوبى لك منزل الملوك» ثم قال البزار: لا نعلم أحداً رفعه إلا عدي بن الفضل وليس هو بالحافظ. وهو شيخ متقدم الموت.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن علي, حدثنا هشام بن خالد, حدثنا بقية عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما خلق الله جنة عدن خلق فيها ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر, ثم قال لها: تكلمي, فقالت {قد أفلح المؤمنون}» بقية عن الحجازيين ضعيف. وقال الطبراني: حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة, حدثنا منجاب بن الحارث, حدثنا حماد بن عيسى العبسي, عن إسماعيل السدي عن أبي صالح عن ابن عباس يرفعه «لما خلق الله جنة عدن بيده, ودلى فيها ثمارها, وشق فيها أنهارها, ثم نظر إليها فقال: {قد أفلح المؤمنون} قال: وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل».
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا محمد بن المثنى البزار, حدثنا محمد بن زياد الكلبي, حدثنا يعيش بن حسين عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خلق الله جنة عدن بيده: لبنة من درة بيضاء ولبنة من يا قوتة حمراء ولبنة من زبرجدة خضراء, ملاطها المسك, وحصباؤها اللؤلؤ, وحشيشها الزعفران, ثم قال لها انطقي, قالت: {قد أفلح المؤمنون} فقال الله: وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل» ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}.
وقوله تعالى: {قد أفلح المؤمنون} أي قد فازوا وسعدوا وحصلوا على الفلاح, وهم المؤمنون المتصفون بهذه الأوصاف {الذين هم في صلاتهم خاشعون} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {خاشعون} خائفون ساكنون, وكذا روي عن مجاهد والحسن وقتادة والزهري. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الخشوع خشوع القلب, وكذا قال إبراهيم النخعي. وقال الحسن البصري: كان خشوعهم في قلوبهم, فغضوا بذلك أبصارهم وخفضوا الجناح, وقال محمد بن سيرين: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أبصارهم, إلى السماء في الصلاة, فلما نزلت هذه الاَية: {قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون} خفضوا أبصارهم إلى موضع سجودهم. قال محمد بن سيرين: وكانوا يقولون: لا يجاوز بصره مصلاه, فإن كان قد اعتاد النظر فليغمض, رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. ثم روى ابن جرير عنه وعن عطاء بن أبي رباح أيضاً مرسلاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك حتى نزلت هذه الاَية, والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فرغ قلبه لما واشتغل بها عما عداها وآثرها على غيرها, وحينئذ تكون راحة له وقرة عين, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنسائي عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «حبب إليّ الطيب والنساء, وجعلت قرة عيني في الصلاة».
وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع, حدثنا مسعر عن عمرو بن مرة عن سالم بن أبي الجعد عن رجل من أسلم أن رسول اللهصلى الله عليه وسلم قال: يا بلال «أرحنا بالصلاة» وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, حدثنا إسرائيل عن عثمان بن المغيرة عن سالم بن أبي الجعد أن محمد بن الحنفية قال: دخلت مع أبي على صهر لنا من الأنصار, فحضرت الصلاة, فقال: يا جارية ائتني بوضوء لعلي أصلي فأستريح, فرآنا أنكرنا عليه ذلك, فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قم يا بلال فأرحنا بالصلاة».
وقوله: {والذين هم عن اللغو معرضون} أي عن الباطل, وهو يشمل الشرك كما قاله بعضهم, والمعاصي كما قاله آخرون, وما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال, كما قال تعالى: {وإذا مروا باللغو مروا كرام} قال قتادة: أتاهم والله من أمر الله ما وقفهم عن ذلك. وقوله: {والذين هم للزكاة فاعلون} الأكثرون على أن المراد بالزكاة ههنا زكاة الأموال, مع أن هذه الاَية مكية, وإنما فرضت الزكاة بالمدينة في سنة اثنتين من الهجرة, والظاهر أن التي فرضت بالمدينة إنما هي ذات النصب والمقادير الخاصة, وإلا فالظاهر أن أصل الزكاة كان واجباً بمكة, كما قال تعالى في سورة الأنعام وهي مكية: {وآتوا حقه يوم حصاده} وقد يحتمل أن يكون المراد بالزكاة ههنا زكاة النفس من الشرك والدنس, كقوله: {قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساه} وكقوله {وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة} على أحد القولين في تفسيرهما, وقد يحتمل أن يكون كلا الأمرين مراداً وهو زكاة النفوس وزكاة الأموال, فإنه من جملة زكاة النفوس, والمؤمن الكامل هو الذي يفعل هذا وهذا, والله أعلم.
وقوله {والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} أي والذين قد حفظوا فروجهم من الحرام فلا يقعون فيما نهاهم الله عنه من زنا ولواط, لا يقربون سوى أزواجهم التي أحلها الله لهم أو ما ملكت أيمانهم من السراري ومن تعاطى ما أحله الله له فلا لوم عليه ولا حرج, ولهذا قال: {فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك} أي غير الأزواج والإماء {فأولئك هم العادون} أي المعتدون. وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار, حدثنا عبد الأعلى, حدثنا سعيد عن قتادة أن امرأة اتخذت مملوكها وقالت: تأولت آية من كتاب الله {أو ما ملكت أيمانهم} فأتى بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه, وقال له ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: تأولت آية من كتاب الله عز وجل على غير وجهها, قال: فضرب العبد وجز رأسه, وقال: أنت بعده حرام على كل مسلم, هذا أثر غريب منقطع, ذكره ابن جرير في تفسير أول سورة المائدة وهو ههنا أليق, وإنما حرمها على الرجال معاملة لها بنقيض قصدها, والله أعلم.
وقد استدل الإمام الشافعي رحمه الله ومن وافقه على تحريم الاستمناء باليد بهذه الاَية الكريمة {والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم} قال: فهذا الصنيع خارج عن هذين القسمين, وقد قال الله تعالى: {فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} وقد استأنسوا بحديث رواه الإمام الحسن بن عرفة في جزئه المشهور حيث قال: حدثني علي بن ثابت الجزري عن مسلمة بن جعفر عن حسان بن حميد, عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولا يجمعهم مع العالمين, ويدخلهم النار أول الداخلين إلا أن يتوبوا ومن تاب تاب الله عليه الناكح يده, والفاعل والمفعول به, ومدمن الخمر, والضارب والديه حتى يستغيثا, والمؤذي جيرانه حتى يلعنوه, والناكح حليلة جاره» هذا حديث غريب, وإسناده فيه من لا يعرف لجهالته, والله أعلم.
وقوله: {والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون} أي إذا اؤتمنوا لم يخونوا بل يؤدونها إلى أهلها, وإذا عاهدوا أو عاقدوا أوفوا بذلك لا كصفات المنافقين الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب, وإذا وعد أخلف, وإذا اؤتمن خان». وقوله: {والذين هم على صلواتهم يحافظون} أي يواظبون عليها في مواقيتها, كما قال ابن مسعود: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أي العمل أحب إلى الله ؟ قال)«الصلاة على وقتها». قلت: ثم أي ؟ قال «بر الوالدين». قلت: ثم أي ؟ قال: «الجهاد في سبيل الله». أخرجاه في الصحيحين. وفي مستدرك الحاكم قال: «الصلاة في أول وقتها».
وقال ابن مسعود ومسروق في قوله: {والذين هم على صلواتهم يحافظون} يعني في مواقيت الصلاة, وكذا قال أبو الضحى وعلقمة بن قيس وسعيد بن جبير وعكرمة. وقال قتادة: على مواقيتها وركوعها وسجودها, وقد افتتح الله ذكر هذه الصفات الحميدة بالصلاة واختتمها بالصلاة فدل على أفضليتها كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استقيموا ولن تحصوا, واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة, ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن» ولما وصفهم تعالى بالقيام بهذه الصفات الحميدة والأفعال الرشيدة قال: {أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون}. وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس, فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة, ومنه تفجر أنهار الجنة, وفوقه عرش الرحمن».
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان, حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحد إلا وله منزلان: منزل في الجنة, ومنزل في النار, فإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله, فذلك قوله: {أولئك هم الوارثون}» وقال ابن جريج عن ليث عن مجاهد {أولئك هم الوارثون} قال: ما من عبد إلا وله منزلان: منزل في الجنة ومنزل في النار, فأما المؤمن فيبني بيته الذي في الجنة ويهدم بيته الذي في النار, وأما الكافر فيهدم بيته الذي في الجنة ويبني بيته الذي في النار. وروي عن سعيد بن جبير نحو ذلك, فالمؤمنون يرثون منازل الكفار لأنهم خلقوا لعبادة الله تعالى وحده لا شريك له, فلما قام هؤلاء المؤمنون بما وجب عليهم من العبادة, وترك أولئك ما أمروا به مما خلقوا له, أحرز هؤلاء نصيب أولئك لو كانوا أطاعوا ربهم عز وجل بل أبلغ من هذا أيضاً, وهو ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي بردة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يجيء ناس يوم القيامة من المسلمين بذنوب أمثال الجبال, فيغفرها الله لهم ويضعها على اليهود والنصارى», وفي لفظ له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم القيامة دفع الله لكل مسلم يهودياً أو نصرانياً, فيقال: هذا فكاكك من النار» فاستحلف عمر بن عبد العزيز أبا بردة بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات, أن أباه حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك قال: فحلف له, قلت: وهذه الاَية كقوله تعالى: {تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقي} وكقوله: {وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون} وقد قال مجاهد وسعيد بن جبير, الجنة بالرومية هي الفردوس, وقال بعض السلف: لا يسمى البستان الفردوس إلا إذا كان فيه عنب, فا لله أعلم.

** وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مّن طِينٍ * ثُمّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مّكِينٍ * ثُمّ خَلَقْنَا النّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمّ إِنّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيّتُونَ * ثُمّ إِنّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ
يقول تعالى مخبراً عن ابتداء خلق الإنسان من سلالة من طين, وهو آدم عليه السلام خلقه الله من صلصال من حمإمسنون. وقال الأعمش عن المنهال بن عمرو عن أبي يحيى عن ابن عباس {من سلالة من طين} قال: من صفوة الماء. وقال مجاهد: من سلالة أي من مني آدم. وقال ابن جرير: إنما سمي آدم طيناً لأنه مخلوق منه وقال قتادة: استل آدم من الطين وهذا أظهر في المعنى وأقرب إلى السياق, فإن آدم عليه السلام خلق من طين لازب, وهو الصلصال من الحمإالمسنون, وذلك مخلوق من التراب كما قال تعالى: {ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون}.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد, حدثنا أسامة بن زهير عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض, فجاء بنو آدم على قدر الأرض, جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك, والخبيث والطيب وبين ذلك» وقد رواه أبو داود والترمذي من طرق عن عوف الأعرابي به نحوه. وقال الترمذي: حسن صحيح {ثم جعلناه نطفة} هذا الضمير عائد على جنس الإنسان كما قال في الاَية الأخرى: {وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين} أي ضعيف, كما قال: {ألم نخلقكم من ماء مهين فجعلناه في قرار مكين} يعني الرحم معد لذلك مهيأ له {إلى قدر معلوم فقدرنا فنعم القادرون} أي مدة معلومة وأجل معين حتى استحكم وتنقل من حال إلى حال وصفة إلى صفة, ولهذا قال ههنا: {ثم خلقنا النطقة علقة} أي ثم صيرنا النطفة, وهي الماء الدافق الذي يخرج من صلب الرجل وهو ظهره, وترائب المرأة وهي عظام صدرها ما بين الترقوة إلى السرة, فصارت علقة حمراء على شكل العلقة مستطيلة, قال عكرمة: وهي دم {فخلقنا العلقة مضغة} وهي قطعة كالبضعة من اللحم لا شكل فيها ولا تخطيط {فخلقنا المضغة عظام} يعني شكلناها ذات رأس ويدين ورجلين بعظامها وعصبها وعروقها.
وقرأ آخرون {فخلقنا المضغة عظم} قال ابن عباس: وهو عظم الصلب, وفي الصحيح من حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل جسد ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب منه خلق ومنه يركب» {فكسونا العظام لحم} أي وجعلنا على ذلك ما يستره ويشده ويقويه{ثم أنشأناه خلقاً آخر} أي ثم نفخنا فيه الروح فتحرك وصار خلقاً آخر ذا سمع وبصر وإدراك وحركة واضطراب {فتبارك الله أحسن الخالقين}. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا جعفر بن مسافر, حدثنا يحيى بن حسان, حدثنا النضر يعني ابن كثير مولى بني هاشم, حدثنا زيد بن علي عن أبيه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إذا نمت النطفة أربعة أشهر بعث الله إليها ملكاً فنفخ فيها الروح في ظلمات ثلاث, فذلك قوله: {ثم أنشأناه خلقاً آخر} يعني نفخنا فيه الروح, وروي عن أبي سعيد الخدري أنه نفخ الروح, قال ابن عباس {ثم أنشأناه خلقاً آخر} يعني فنفخنا فيه الروح, وكذا قال مجاهد وعكرمة والشعبي والحسن وأبو العالية والضحاك والربيع بن أنس والسدي وابن زيد, واختاره ابن جرير.
وقال العوفي عن ابن عباس {ثم أنشأناه خلقاً آخر} يعني ننقله من حال إلى حال إلى أن خرج طفلاً ثم نشأ صغيراً, ثم احتلم ثم صار شاباً, ثم كهلاً ثم شيخاً ثم هرماً. وعن قتادة والضحاك نحو ذلك, ولا منافاة فإنه من ابتداء نفخ الروح فيه شرع في هذه التنقلات والأحوال, والله أعلم. قال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الله ـ هو ابن مسعود رضي الله عنه ـ قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: «إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة, ثم يكون علقة مثل ذلك, ثم يكون مضغة مثل ذلك, ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: رزقه, وأجله, وعمله, وهل هو شقي أو سعيد, فو الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع, فيسبق عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل النار فيدخلها, وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع, فيسبق عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل الجنة فيدخلها» أخرجاه من حديث سليمان بن مهران الأعمش.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان, حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن خيثمة قال: قال عبد الله ـ يعني ابن مسعود ـ إن النطفة إذا وقعت في الرحم طارت في كل شعر وظفر, فتمكث أربعين يوماً, ثم تعود في الرحم فتكون علقة. وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا حسين بن الحسن, حدثنا أبو كدينة عن عطاء بن السائب عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله قال: مر يهودي برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث أصحابه, فقالت قريش: يا يهودي إن هذا يزعم أنه نبي, فقال: لأسألنه عن شيء لا يعلمه إلا نبي, قال: فجاءه حتى جلس, فقال: يا محمد مم يخلق الإنسان ؟ فقال «يا يهودي من كل يخلق من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة, فأما نطفة الرجل فنطفة غليظة منها العظم والعصب, وأما نطفة المرأة فنطفة رقيقة منها اللحم والدم» فقال: هكذا كان يقول من قبلك.
وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن عمرو عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين ليلة, فيقول: يا رب ماذا ؟ أشقي أم سعيد, أذكر أم أنثى ؟ فيقول الله, فيكتبان, ويكتب عمله وأثره ومصيبته ورزقه, ثم تطوى الصحيفة فلا يزاد على ما فيها ولا ينقص» وقد رواه مسلم في صحيحه من حديث سفيان بن عيينة عن عمرو هو ابن دينار به نحوه, ومن طريق أخرى عن أبي الطفيل عامر بن واثلة عن حذيفة بن أسيد أبي سريحة الغفاري بنحوه, والله أعلم.
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا أحمد بن عبدة, حدثنا حماد بن زيد, حدثنا عبيد الله بن أبي بكر عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله وكل بالرحم ملكاً, فيقول: أي رب نطفة, أي رب علقة, أي رب مضغة, فإذا أراد الله خلقها قال: أي رب, ذكر أو أنثى ؟ شقي أو سعيد ؟ فما الرزق والأجل ؟ قال: فذلك يكتب في بطن أمه» أخرجاه في الصحيحين من حديث حماد بن زيد به.
وقوله: {فتبارك الله أحسن الخالقين} يعني حين ذكر قدرته ولطفه في خلق هذه النطفة من حال إلى حال وشكل إلى شكل حتى تصورت إلى ما صارت إليه من الإنسان السوي الكامل الخلق, قال: {فتبارك الله أحسن الخالقين} قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن حبيب, حدثنا أبو داود, حدثنا حماد بن سلمة, حدثنا علي بن زيد عن أنس قال: قال عمر, يعني ابن الخطاب رضي الله عنه: وافقت ربي ووافقني في أربع: نزلت هذه الاَية {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} الاَية, قلت أنا فتبارك الله أحسن الخالقين, فنزلت {فتبارك الله أحسن الخالقين}. وقال أيضاً: حدثنا أبي حدثنا آدم بن أبي إياس, حدثنا شيبان عن جابر الجعفي عن عامر الشعبي, عن زيد بن ثابت الأنصاري قال: أملى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الاَية {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ـ إلى قوله ـ خلقاً آخر} فقال معاذ {فتبارك الله أحسن الخالقين} فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال له معاذ: مم تضحك يا رسول الله ؟ فقال: «بها ختمت فتبارك الله أحسن الخالقين» وفي إسناد جابر بن يزيد الجعفي ضعيف جداً, وفي خبره هذا نكارة شديدة, وذلك أن هذه السورة مكية, وزيد بن ثابت إنما كتب الوحي بالمدينة, وكذلك إسلام معاذ بن جبل إنما كان بالمدينة أيضاً, فالله أعلم. وقوله: {ثم إنكم بعد ذلك لميتون} يعني بعد هذه النشأة الأولى من العدم تصيرون إلى الموت {ثم إنكم يوم القيامة تبعثون} يعني النشأة الاَخرة {ثم الله ينشىء النشأة الاَخرة} يعني يوم المعاد. وقيام الأرواح إلى الأجساد, فيحاسب الخلائق, ويوفى كل عامل عمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر.

** وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ وَمَا كُنّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ
لما ذكر تعالى خلق الإنسان, عطف بذكر خلق السموات السبع, وكثيراً ما يذكر تعالى خلق السموات والأرض مع خلق الإنسان كما قال تعالى: {لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس} وهكذا في أول{ألم} السجدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها صبيحة يوم الجمعة في أولها خلق السموات والأرض, ثم بيان خلق الإنسان من سلالة من طين, وفيها أمر المعاد والجزاء وغير ذلك من المقاصد.
وقوله: {سبع طرائق} قال مجاهد: يعني السموات السبع, وهذه كقوله تعالى: {تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن} {ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباق} {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علم} وهكذا قال ههنا {ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين} أي ويعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها, وما ينزل من السماء وما يعرج فيها, وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير, وهو سبحانه لا يحجب عنه سماء سماء ولا أرض أرضاً, ولا جبل إلا يعلم ما في وعره, ولا بحر إلا يعلم ما في قعره, يعلم عدد ما في الجبال والتلال والرمال والبحار والقفار والأشجار {وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين}.