سورة المؤمنون | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 346 من المصحف
** إِنّ الّذِينَ هُم مّنْ خَشْيةِ رَبّهِمْ مّشْفِقُونَ * وَالّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالّذِينَ هُم بِرَبّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ * وَالّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنّهُمْ إِلَىَ رَبّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَـَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ
يقول تعالى: {إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون} أي هم مع إحسانهم وإيمانهم وعملهم الصالح مشفقون من الله خائفون منه وجلون من مكره بهم, كما قال الحسن البصري: إن المؤمن جمع إحساناً وشفقة, وإن الكافر جمع إساءة وأمناً {والذين هم بآيات ربهم يؤمنون} أي يؤمنون بآياته الكونية والشرعية, كقوله تعالى إخباراً عن مريم عليها السلام: {وصدقت بكلمات ربها وكتبه} أي أيقنت أن ما كان, إنما هو عن قدر الله وقضائه, وما شرعه الله فهو إن كان أمراً فمما يحبه ويرضاه, وإن كان نهياً فهو مما يكرهه ويأباه, وإن كان خيراً فهو حق, كما قال الله: {والذين هم بربهم لا يشركون} أي لا يعبدون معه غيره, بل يوحدونه ويعلمون أنه لا إله إلا الله أحداً صمداً لم يتخذ صاحبة ولا ولداً, وأنه لا نظير له ولا كفء له.
وقوله: {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون} أي يعطون العطاء وهم خائفون وجلون أن لا يتقبل منهم لخوفهم أن يكونوا قد قصروا في القيام بشرط الإعطاء, وهذا من باب الإشفاق والاحتياط, كما قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن آدم, حدثنا مالك بن مغول, حدثنا عبد الرحمن بن سعيد بن وهب عن عائشة أنها قالت: يا رسول الله الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو يخاف الله عز وجل ؟ قال: «لا يا بنت الصديق, ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو يخاف الله عز وجل» وهكذا رواه الترمذي وابن أبي حاتم من حديث مالك بن مغول بنحوه, وقال «لا يا ابنة الصديق, ولكنهم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون وهم يخافون ألا يتقبل منهم {أولئك يسارعون في الخيرات} وقال الترمذي: وروي هذا الحديث من حديث عبد الرحمن بن سعيد عن أبي حازم, عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا, وهكذا قال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي والحسن البصري في تفسير هذه الاَية.
وقد قرأ آخرون هذه الاَية {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة} أي يفعلون ما يفعلون وهم خائفون, وروي هذا مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأها كذلك. قال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا صخر بن جويرية, حدثنا إسماعيل المكي, حدثنا أبو خلف مولى بني جمح أنه دخل مع عبيد بن عمير على عائشة رضي الله عنها, فقالت: مرحباً بأبي عاصم, ما يمنعك أن تزورنا أو تلم بنا ؟ فقال: أخشى أن أملك, فقالت: ما كنت لتفعل ؟ قال: جئت لأسألك عن آية من كتاب الله عز وجل: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها ؟ قال: أية آية ؟ قال: {والذين يؤتون ما آتو} {والذين يأتون ما أتو} فقالت: أيتهما أحب إليك ؟ فقلت: والذي نفسي بيده لإحداهما أحب إلي من الدنيا جميعاً, أو الدنيا وما فيها. قالت وما هي ؟ فقلت: {والذين يأتون ما أتو} فقالت: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك كان يقرؤها, وكذلك أنزلت, ولكن الهجاء حرف, فيه إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف, والمعنى على القراءة الأولى, وهي قراءة الجمهور السبعة وغيرهم أظهر, لأنه قال: {أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون} فجعلهم من السابقين, ولو كان المعنى على القراءة الأخرى لأوشك أن لا يكونوا من السابقين بل من المقتصدين أو المقصرين, والله أعلم.
** وَلاَ نُكَلّفُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ * بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مّنْ هَـَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مّن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ * حَتّىَ إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأرُونَ * لاَ تَجْأرُواْ الْيَوْمَ إِنّكُمْ مّنّا لاَ تُنصَرُونَ * قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَىَ عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَىَ أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ
يقول تعالى مخبراً عن عدله في شرعه على عباده في الدنيا أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها, أي إلا ما تطيق حمله والقيام به, وأنه يوم القيامة يحاسبهم بأعمالهم التي كتبها عليهم في كتاب مسطور لا يضيع منه شيء, ولهذا قال: {ولدينا كتاب ينطق بالحق} يعني كتاب الأعمال, {وهم لا يظلمون} أي لا يبخسون من الخير شيئاً, وأما السيئات فيعفو ويصفح عن كثير منها لعباده المؤمنين, ثم قال منكراً على الكفار والمشركين من قريش: {بل قلوبهم في غمرة} أي في غفلة وضلالة {من هذ}, أي القرآن الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون} قال الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس {ولهم أعمال} أي سيئة من دون ذلك يعني الشرك {هم لها عاملون} قال: لا بد أن يعملوها, كذا روي عن مجاهد والحسن وغير واحد. وقال آخرون {ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون} أي قد كتبت عليهم أعمال سيئة لا بد أن يعملوها قبل موتهم لا محالة, لتحق عليهم كلمة العذاب, وروي نحو هذا عن مقاتل بن حيان والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم, وهو ظاهر قوي حسن, وقد قدمنا في حديث ابن مسعود: «فو الذي لا إله غيره إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع, فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها».
وقوله: {حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون} يعني حتى إذا جاء مترفيهم وهم المنعمون في الدنيا عذاب الله وبأسه ونقمته بهم {إذا هم يجأرون} أي يصرخون ويستغيثون كما قال تعالى: {وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلاً إن لدينا أنكالاً وجحيم} الاَية, وقال تعالى: {وكم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص}. وقوله {لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون} أي لا يجيركم أحد مما حل بكم سواء جأرتم أو سكتم لا محيد ولا مناص ولا وزر لزم الأمر ووجب العذاب, ثم ذكر أكبر ذنوبهم فقال: {قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون} أي إذا دعيتم أبيتم وإن طلبتم امتنعتم {ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير}.
وقوله: {مستكبرين به سامراً تهجرون} في تفسيره قولان. (أحدهما) أن مستكبرين حال منهم حين نكوصهم عن الحق وإبائهم إياه استكباراً عليه, واحتقاراً له ولأهله, فعلى هذا الضمير في به فيه ثلاثة أقوال (أحدها) أنه الحرم أي مكة, ذموا لأنهم كانوا يسمرون فيه بالهجر من الكلام. (والثاني) أنه ضمير للقرآن كانوا يسمرون ويذكرون القرآن بالهجر من الكلام: إنه سحر, إنه شعر, إنه كهانة, إلى غير ذلك من الأقوال الباطلة. (والثالث) أنه محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يذكرونه في سمرهم بالأقوال الفاسدة, ويضربون له الأمثال الباطلة, من أنه شاعر أو كاهن أو ساحر أو كذاب أو مجنون, فكل ذلك باطل, بل هو عبد الله ورسوله الذي أظهره الله عليهم وأخرجهم من الحرم صاغرين أذلاء. وقيل المراد بقوله: {مستكبرين به} أي بالبيت يفتخرون به ويعتقدون أنهم أولياؤه وليسوا به, كما قال النسائي من التفسير في سننه: أخبرنا أحمد بن سليمان, أخبرنا عبد الله عن إسرائيل عن عبد الأعلى أنه سمع سعيد بن جبير يحدث عن ابن عباس أنه قال: إنما كره السمر حين نزلت هذه الاَية {مستكبرين به سامراً تهجرون} فقال: مستكبرين بالبيت, يقولون: نحن أهله سامراً قال: كانوا يتكبرون ويسمرون فيه ولا يعمرونه ويهجرونه, وقد أطنب ابن أبي حاتم ههنا بما هذا حاصله.
** أَفَلَمْ يَدّبّرُواْ الْقَوْلَ أَمْ جَآءَهُمْ مّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ الأوّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ * أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنّةٌ بَلْ جَآءَهُمْ بِالْحَقّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقّ كَارِهُونَ * وَلَوِ اتّبَعَ الْحَقّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السّمَاوَاتُ وَالأرْضُ وَمَن فِيهِنّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مّعْرِضُونَ * أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ * وَإِنّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ * وَإِنّ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ عَنِ الصّرَاطِ لَنَاكِبُونَ * وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مّن ضُرّ لّلَجّواْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
يقول تعالى منكراً على المشركين في عدم تفهمهم للقرآن العظيم وتدبرهم له وإعراضهم عنه مع أنهم قد خصوا بهذا الكتاب الذي لم ينزل الله على رسول أكمل منه ولا أشرف لا سيما آباؤهم الذين ماتوا في الجاهلية حيث لم يبلغهم كتاب ولا أتاهم نذير, فكان اللائق بهؤلاء أن يقابلوا النعمة التي أسداها الله عليهم بقبولها والقيام بشكرها وتفهمها والعمل بمقتضاها آناء الليل وأطراف النهار كما فعله النجباء منهم ممن أسلم واتبع الرسول صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم. وقال قتادة {أفلم يدبروا القول} إذ والله يجدون في القرآن زاجراً عن معصية الله لو تدبره القوم وعقلوه ولكنهم أخذوا بما تشابه منه فهلكوا عند ذلك. ثم قال منكراً على الكافرين من قريش: {أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون} أي أفهم لا يعرفون محمداً وصدقه وأمانته وصيانته التي نشأ بها فيهم أي أفيقدرون على إنكار ذلك والمباهتة فيه, ولهذا قال جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه للنجاشي ملك الحبشة: أيها الملك إن الله بعث فينا رسولاً نعرف نسبه وصدقه وأمانته, وهكذا قال المغيرة بن شعبة لنائب كسرى حين بارزهم وكذلك قال أبو سفيان صخر بن حرب لملك الروم هرقل حين سأله وأصحابه عن صفات النبي صلى الله عليه وسلم ونسبه وصدقه وأمانته, وكانوا بعد كفاراً لم يسلموا, ومع هذا لم يمكنهم إلا الصدق فاعترفوا بذلك. وقوله: {أم يقولون به جنة} يحكي قول المشركين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تقول القرآن أي افتراه من عنده أو أن به جنوناً لا يدري ما يقول, وأخبر عنهم أن قلوبهم لا تؤمن به وهم يعلمون بطلان ما يقولونه في القرآن فإنه قد أتاهم من كلام الله ما لا يطاق ولا يدافع وقد تحداهم وجميع أهل الأرض أن يأتوا بمثله إن استطاعوا ولا يستطيعون أبد الاَبدين ولهذا قال: {بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون} يحتمل أن تكون هذه جملة حالية أي في حالة كراهة أكثرهم للحق ويحتمل أن تكون خبرية مستأنفة والله أعلم.
وقال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لقي رجلاً فقال له «أسلم» فقال الرجل: إنك لتدعوني إلى أمر أنا له كاره, فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «وإن كنت كارها». وذكر لنا أنه لقي رجلاً فقال له «أسلم» فتصعده ذلك, وكبر عليه, فقال له نبي الله صلى الله عليه وسلم «أرأيت لو كنت في طريق وعر وعث, فلقيت رجلاً تعرف وجهه وتعرف نسبه, فدعاك إلى طريق واسع سهل, أكنت تتبعه ؟» قال: نعم. قال «فو الذي نفس محمد بيده إنك لفي أوعر من ذلك الطريق لو قد كنت عليه, وإني لأدعوك لأسهل من ذلك لو دعيت إليه» وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لقي رجلاً فقال له «أسلم» فتصعده ذلك, فقال له نبي الله صلى الله عليه وسلم: «أرأيت لو كان فتيان أحدهما إذا حدثك صدقك, وإذا ائتمنته أدى إليك, أهو أحب إليك أم فتاك الذي إذا حدثك كذبك وإذا ائتمنته خانك ؟» قال: بل فتاي الذي إذا حدثني صدقني وإذا ائتمنته أدى إلي, فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم «كذاكم أنتم عند ربكم».
وقوله: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن} قال مجاهد وأبو صالح والسدي: الحق هو الله عز وجل, والمراد لو أجابهم الله إلى ما في أنفسهم من الهوى, وشرع الأمور على وفق ذلك لفسدت السموات والأرض ومن فيهن أي لفساد أهوائهم واختلافها, كما أخبر عنهم في قولهم: {لولا نُزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} ثم قال: {أهم يقسمون رحمة ربك} وقال تعالى: {قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق} الاَية. وقال تعالى: {أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقير} ففي هذا كله تبين عجز العباد واختلاف آرائهم وأهوائهم, وأنه تعالى هو الكامل في جميع صفاته وأقواله وأفعاله وشرعه وقدره وتدبيره لخلقه, تعالى وتقدس, فلا إله غيره ولا رب سواه, ولهذا قال: {بل أتيناهم بذكرهم} أي القرآن {فهم عن ذكرهم معرضون}.
وقوله: {أم تسألهم خرج} قال الحسن: أجراً. وقال قتادة: جعلاً {فخراج ربك خير} أي أنت لا تسألهم أجرة ولا جعلاً ولا شيئاً على دعوتك إياهم إلى الهدى, بل أنت في ذلك تحتسب عند الله جزيل ثوابه, كما قال: {قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله} وقال: {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين} وقال: {قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى} وقال: {وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجر}.
وقوله: {وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم * وإن الذين لا يؤمنون بالاَخرة عن الصراط لناكبون} قال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى, حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه فيما يرى النائم ملكان, فقعد أحدهما عند رجليه, والاَخر عند رأسه, فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه: اضرب مثل هذا ومثل أمته, فقال: إن مثل هذا ومثل أمته كمثل قوم سفر انتهوا إلى رأس مفازة, فلم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة ولا ما يرجعون به, فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجل في حلة حبرة, فقال: أرأيتم إن أوردتكم رياضا معشبة وحياضاً رواء تتبعوني ؟ فقالوا: نعم, قال: فانطلق بهم وأوردهم ر ياضاً معشبة وحياضاً رواء, فأكلوا وشربوا وسمنوا, فقال لهم: ألم ألفكم على تلك الحال فجعلتم لي إن وردت بكم رياضاً معشبة وحياضاً رواء أن تتبعوني ؟ قالوا: بلى, قال: فإن بين أيديكم رياضاً أعشب من هذه وحياضاً هي أروى من هذه فاتبعوني, قال: فقالت طائفة: صدق والله لنتبعنه, وقالت طائفة: قد رضينا بهذا نقيم عليه.
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا زهير, حدثنا يونس بن محمد, حدثنا يعقوب بن عبد الله الأشعري, حدثنا حفص بن حميد عن عكرمة عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني ممسك بحجزكم هلم عن النار هلم عن النار, وتغلبونني تقاحمون فيها تقاحم الفراش والجنادب, فأوشك أن أرسل حجزكم وأنا فرطكم على الحوض, فتردون علي معاً وأشتاتاً أعرفكم بسيماكم وأسمائكم, كما يعرف الرجل الغريب من الإبل في إبله, فيذهب بكم ذات اليمين وذات الشمال, فأناشد فيكم رب العالمين أي رب قومي أي رب أمتي, فيقال: يا محمد إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك, إنهم كانوا يمشون بعدك القهقرى على أعقابهم, فلأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء ينادي: يا محمد يا محمد, فأقول لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغت, ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل بعيراً له رغاء ينادي: يا محمد يا محمد, فأقول: لا أملك لك شيئاً قد بلغت, ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل فرساً لها حمحمة فينادي: يا محمد يا محمد, فأقول: لا أملك لك شيئاً قد بلغت, ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل سقاء من أدم ينادي: يا محمد يا محمد, فأقول: لا أملك لك شيئاً قد بلغت» وقال علي بن المديني: هذا حديث حسن الإسناد إلا أن حفص بن حميد مجهول, لا أعلم روى عنه غير يعقوب بن عبد الله الأشعري القمي (قلت) بل قد روى عنه أيضاً أشعث بن إسحاق, وقال فيه يحيى بن معين: صالح, ووثقه النسائي وابن حبان.
وقوله: {وإن الذين لا يؤمنون بالاَخرة عن الصراط لناكبون} أي لعادلون جائرون منحرفون, تقول العرب: نكب فلان عن الطريق إذا زاغ عنها. وقوله: {ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون} يخبر تعالى عن غلظهم في كفرهم بأنه لو أزاح عنهم الضر وأفهمهم القرآن لما انقادوا له ولا ستمروا على كفرهم وعنادهم وطغيانهم, كما قال تعالى {ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} وقال: {ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا ياليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنون * بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ـ إلى قوله ـ بمبعوثين} فهذا من باب علمه تعالى بما لا يكون ولو كان كيف يكون, قال الضحاك عن ابن عباس: كل ما فيه {لو} فهو مما لا يكون أبداً.
تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 346
346 : تفسير الصفحة رقم 346 من القرآن الكريم** إِنّ الّذِينَ هُم مّنْ خَشْيةِ رَبّهِمْ مّشْفِقُونَ * وَالّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالّذِينَ هُم بِرَبّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ * وَالّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنّهُمْ إِلَىَ رَبّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَـَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ
يقول تعالى: {إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون} أي هم مع إحسانهم وإيمانهم وعملهم الصالح مشفقون من الله خائفون منه وجلون من مكره بهم, كما قال الحسن البصري: إن المؤمن جمع إحساناً وشفقة, وإن الكافر جمع إساءة وأمناً {والذين هم بآيات ربهم يؤمنون} أي يؤمنون بآياته الكونية والشرعية, كقوله تعالى إخباراً عن مريم عليها السلام: {وصدقت بكلمات ربها وكتبه} أي أيقنت أن ما كان, إنما هو عن قدر الله وقضائه, وما شرعه الله فهو إن كان أمراً فمما يحبه ويرضاه, وإن كان نهياً فهو مما يكرهه ويأباه, وإن كان خيراً فهو حق, كما قال الله: {والذين هم بربهم لا يشركون} أي لا يعبدون معه غيره, بل يوحدونه ويعلمون أنه لا إله إلا الله أحداً صمداً لم يتخذ صاحبة ولا ولداً, وأنه لا نظير له ولا كفء له.
وقوله: {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون} أي يعطون العطاء وهم خائفون وجلون أن لا يتقبل منهم لخوفهم أن يكونوا قد قصروا في القيام بشرط الإعطاء, وهذا من باب الإشفاق والاحتياط, كما قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن آدم, حدثنا مالك بن مغول, حدثنا عبد الرحمن بن سعيد بن وهب عن عائشة أنها قالت: يا رسول الله الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو يخاف الله عز وجل ؟ قال: «لا يا بنت الصديق, ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو يخاف الله عز وجل» وهكذا رواه الترمذي وابن أبي حاتم من حديث مالك بن مغول بنحوه, وقال «لا يا ابنة الصديق, ولكنهم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون وهم يخافون ألا يتقبل منهم {أولئك يسارعون في الخيرات} وقال الترمذي: وروي هذا الحديث من حديث عبد الرحمن بن سعيد عن أبي حازم, عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا, وهكذا قال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي والحسن البصري في تفسير هذه الاَية.
وقد قرأ آخرون هذه الاَية {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة} أي يفعلون ما يفعلون وهم خائفون, وروي هذا مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأها كذلك. قال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا صخر بن جويرية, حدثنا إسماعيل المكي, حدثنا أبو خلف مولى بني جمح أنه دخل مع عبيد بن عمير على عائشة رضي الله عنها, فقالت: مرحباً بأبي عاصم, ما يمنعك أن تزورنا أو تلم بنا ؟ فقال: أخشى أن أملك, فقالت: ما كنت لتفعل ؟ قال: جئت لأسألك عن آية من كتاب الله عز وجل: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها ؟ قال: أية آية ؟ قال: {والذين يؤتون ما آتو} {والذين يأتون ما أتو} فقالت: أيتهما أحب إليك ؟ فقلت: والذي نفسي بيده لإحداهما أحب إلي من الدنيا جميعاً, أو الدنيا وما فيها. قالت وما هي ؟ فقلت: {والذين يأتون ما أتو} فقالت: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك كان يقرؤها, وكذلك أنزلت, ولكن الهجاء حرف, فيه إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف, والمعنى على القراءة الأولى, وهي قراءة الجمهور السبعة وغيرهم أظهر, لأنه قال: {أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون} فجعلهم من السابقين, ولو كان المعنى على القراءة الأخرى لأوشك أن لا يكونوا من السابقين بل من المقتصدين أو المقصرين, والله أعلم.
** وَلاَ نُكَلّفُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ * بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مّنْ هَـَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مّن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ * حَتّىَ إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأرُونَ * لاَ تَجْأرُواْ الْيَوْمَ إِنّكُمْ مّنّا لاَ تُنصَرُونَ * قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَىَ عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَىَ أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ
يقول تعالى مخبراً عن عدله في شرعه على عباده في الدنيا أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها, أي إلا ما تطيق حمله والقيام به, وأنه يوم القيامة يحاسبهم بأعمالهم التي كتبها عليهم في كتاب مسطور لا يضيع منه شيء, ولهذا قال: {ولدينا كتاب ينطق بالحق} يعني كتاب الأعمال, {وهم لا يظلمون} أي لا يبخسون من الخير شيئاً, وأما السيئات فيعفو ويصفح عن كثير منها لعباده المؤمنين, ثم قال منكراً على الكفار والمشركين من قريش: {بل قلوبهم في غمرة} أي في غفلة وضلالة {من هذ}, أي القرآن الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون} قال الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس {ولهم أعمال} أي سيئة من دون ذلك يعني الشرك {هم لها عاملون} قال: لا بد أن يعملوها, كذا روي عن مجاهد والحسن وغير واحد. وقال آخرون {ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون} أي قد كتبت عليهم أعمال سيئة لا بد أن يعملوها قبل موتهم لا محالة, لتحق عليهم كلمة العذاب, وروي نحو هذا عن مقاتل بن حيان والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم, وهو ظاهر قوي حسن, وقد قدمنا في حديث ابن مسعود: «فو الذي لا إله غيره إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع, فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها».
وقوله: {حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون} يعني حتى إذا جاء مترفيهم وهم المنعمون في الدنيا عذاب الله وبأسه ونقمته بهم {إذا هم يجأرون} أي يصرخون ويستغيثون كما قال تعالى: {وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلاً إن لدينا أنكالاً وجحيم} الاَية, وقال تعالى: {وكم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص}. وقوله {لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون} أي لا يجيركم أحد مما حل بكم سواء جأرتم أو سكتم لا محيد ولا مناص ولا وزر لزم الأمر ووجب العذاب, ثم ذكر أكبر ذنوبهم فقال: {قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون} أي إذا دعيتم أبيتم وإن طلبتم امتنعتم {ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير}.
وقوله: {مستكبرين به سامراً تهجرون} في تفسيره قولان. (أحدهما) أن مستكبرين حال منهم حين نكوصهم عن الحق وإبائهم إياه استكباراً عليه, واحتقاراً له ولأهله, فعلى هذا الضمير في به فيه ثلاثة أقوال (أحدها) أنه الحرم أي مكة, ذموا لأنهم كانوا يسمرون فيه بالهجر من الكلام. (والثاني) أنه ضمير للقرآن كانوا يسمرون ويذكرون القرآن بالهجر من الكلام: إنه سحر, إنه شعر, إنه كهانة, إلى غير ذلك من الأقوال الباطلة. (والثالث) أنه محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يذكرونه في سمرهم بالأقوال الفاسدة, ويضربون له الأمثال الباطلة, من أنه شاعر أو كاهن أو ساحر أو كذاب أو مجنون, فكل ذلك باطل, بل هو عبد الله ورسوله الذي أظهره الله عليهم وأخرجهم من الحرم صاغرين أذلاء. وقيل المراد بقوله: {مستكبرين به} أي بالبيت يفتخرون به ويعتقدون أنهم أولياؤه وليسوا به, كما قال النسائي من التفسير في سننه: أخبرنا أحمد بن سليمان, أخبرنا عبد الله عن إسرائيل عن عبد الأعلى أنه سمع سعيد بن جبير يحدث عن ابن عباس أنه قال: إنما كره السمر حين نزلت هذه الاَية {مستكبرين به سامراً تهجرون} فقال: مستكبرين بالبيت, يقولون: نحن أهله سامراً قال: كانوا يتكبرون ويسمرون فيه ولا يعمرونه ويهجرونه, وقد أطنب ابن أبي حاتم ههنا بما هذا حاصله.
** أَفَلَمْ يَدّبّرُواْ الْقَوْلَ أَمْ جَآءَهُمْ مّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ الأوّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ * أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنّةٌ بَلْ جَآءَهُمْ بِالْحَقّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقّ كَارِهُونَ * وَلَوِ اتّبَعَ الْحَقّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السّمَاوَاتُ وَالأرْضُ وَمَن فِيهِنّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مّعْرِضُونَ * أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ * وَإِنّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ * وَإِنّ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ عَنِ الصّرَاطِ لَنَاكِبُونَ * وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مّن ضُرّ لّلَجّواْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
يقول تعالى منكراً على المشركين في عدم تفهمهم للقرآن العظيم وتدبرهم له وإعراضهم عنه مع أنهم قد خصوا بهذا الكتاب الذي لم ينزل الله على رسول أكمل منه ولا أشرف لا سيما آباؤهم الذين ماتوا في الجاهلية حيث لم يبلغهم كتاب ولا أتاهم نذير, فكان اللائق بهؤلاء أن يقابلوا النعمة التي أسداها الله عليهم بقبولها والقيام بشكرها وتفهمها والعمل بمقتضاها آناء الليل وأطراف النهار كما فعله النجباء منهم ممن أسلم واتبع الرسول صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم. وقال قتادة {أفلم يدبروا القول} إذ والله يجدون في القرآن زاجراً عن معصية الله لو تدبره القوم وعقلوه ولكنهم أخذوا بما تشابه منه فهلكوا عند ذلك. ثم قال منكراً على الكافرين من قريش: {أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون} أي أفهم لا يعرفون محمداً وصدقه وأمانته وصيانته التي نشأ بها فيهم أي أفيقدرون على إنكار ذلك والمباهتة فيه, ولهذا قال جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه للنجاشي ملك الحبشة: أيها الملك إن الله بعث فينا رسولاً نعرف نسبه وصدقه وأمانته, وهكذا قال المغيرة بن شعبة لنائب كسرى حين بارزهم وكذلك قال أبو سفيان صخر بن حرب لملك الروم هرقل حين سأله وأصحابه عن صفات النبي صلى الله عليه وسلم ونسبه وصدقه وأمانته, وكانوا بعد كفاراً لم يسلموا, ومع هذا لم يمكنهم إلا الصدق فاعترفوا بذلك. وقوله: {أم يقولون به جنة} يحكي قول المشركين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تقول القرآن أي افتراه من عنده أو أن به جنوناً لا يدري ما يقول, وأخبر عنهم أن قلوبهم لا تؤمن به وهم يعلمون بطلان ما يقولونه في القرآن فإنه قد أتاهم من كلام الله ما لا يطاق ولا يدافع وقد تحداهم وجميع أهل الأرض أن يأتوا بمثله إن استطاعوا ولا يستطيعون أبد الاَبدين ولهذا قال: {بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون} يحتمل أن تكون هذه جملة حالية أي في حالة كراهة أكثرهم للحق ويحتمل أن تكون خبرية مستأنفة والله أعلم.
وقال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لقي رجلاً فقال له «أسلم» فقال الرجل: إنك لتدعوني إلى أمر أنا له كاره, فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «وإن كنت كارها». وذكر لنا أنه لقي رجلاً فقال له «أسلم» فتصعده ذلك, وكبر عليه, فقال له نبي الله صلى الله عليه وسلم «أرأيت لو كنت في طريق وعر وعث, فلقيت رجلاً تعرف وجهه وتعرف نسبه, فدعاك إلى طريق واسع سهل, أكنت تتبعه ؟» قال: نعم. قال «فو الذي نفس محمد بيده إنك لفي أوعر من ذلك الطريق لو قد كنت عليه, وإني لأدعوك لأسهل من ذلك لو دعيت إليه» وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لقي رجلاً فقال له «أسلم» فتصعده ذلك, فقال له نبي الله صلى الله عليه وسلم: «أرأيت لو كان فتيان أحدهما إذا حدثك صدقك, وإذا ائتمنته أدى إليك, أهو أحب إليك أم فتاك الذي إذا حدثك كذبك وإذا ائتمنته خانك ؟» قال: بل فتاي الذي إذا حدثني صدقني وإذا ائتمنته أدى إلي, فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم «كذاكم أنتم عند ربكم».
وقوله: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن} قال مجاهد وأبو صالح والسدي: الحق هو الله عز وجل, والمراد لو أجابهم الله إلى ما في أنفسهم من الهوى, وشرع الأمور على وفق ذلك لفسدت السموات والأرض ومن فيهن أي لفساد أهوائهم واختلافها, كما أخبر عنهم في قولهم: {لولا نُزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} ثم قال: {أهم يقسمون رحمة ربك} وقال تعالى: {قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق} الاَية. وقال تعالى: {أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقير} ففي هذا كله تبين عجز العباد واختلاف آرائهم وأهوائهم, وأنه تعالى هو الكامل في جميع صفاته وأقواله وأفعاله وشرعه وقدره وتدبيره لخلقه, تعالى وتقدس, فلا إله غيره ولا رب سواه, ولهذا قال: {بل أتيناهم بذكرهم} أي القرآن {فهم عن ذكرهم معرضون}.
وقوله: {أم تسألهم خرج} قال الحسن: أجراً. وقال قتادة: جعلاً {فخراج ربك خير} أي أنت لا تسألهم أجرة ولا جعلاً ولا شيئاً على دعوتك إياهم إلى الهدى, بل أنت في ذلك تحتسب عند الله جزيل ثوابه, كما قال: {قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله} وقال: {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين} وقال: {قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى} وقال: {وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجر}.
وقوله: {وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم * وإن الذين لا يؤمنون بالاَخرة عن الصراط لناكبون} قال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى, حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه فيما يرى النائم ملكان, فقعد أحدهما عند رجليه, والاَخر عند رأسه, فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه: اضرب مثل هذا ومثل أمته, فقال: إن مثل هذا ومثل أمته كمثل قوم سفر انتهوا إلى رأس مفازة, فلم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة ولا ما يرجعون به, فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجل في حلة حبرة, فقال: أرأيتم إن أوردتكم رياضا معشبة وحياضاً رواء تتبعوني ؟ فقالوا: نعم, قال: فانطلق بهم وأوردهم ر ياضاً معشبة وحياضاً رواء, فأكلوا وشربوا وسمنوا, فقال لهم: ألم ألفكم على تلك الحال فجعلتم لي إن وردت بكم رياضاً معشبة وحياضاً رواء أن تتبعوني ؟ قالوا: بلى, قال: فإن بين أيديكم رياضاً أعشب من هذه وحياضاً هي أروى من هذه فاتبعوني, قال: فقالت طائفة: صدق والله لنتبعنه, وقالت طائفة: قد رضينا بهذا نقيم عليه.
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا زهير, حدثنا يونس بن محمد, حدثنا يعقوب بن عبد الله الأشعري, حدثنا حفص بن حميد عن عكرمة عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني ممسك بحجزكم هلم عن النار هلم عن النار, وتغلبونني تقاحمون فيها تقاحم الفراش والجنادب, فأوشك أن أرسل حجزكم وأنا فرطكم على الحوض, فتردون علي معاً وأشتاتاً أعرفكم بسيماكم وأسمائكم, كما يعرف الرجل الغريب من الإبل في إبله, فيذهب بكم ذات اليمين وذات الشمال, فأناشد فيكم رب العالمين أي رب قومي أي رب أمتي, فيقال: يا محمد إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك, إنهم كانوا يمشون بعدك القهقرى على أعقابهم, فلأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء ينادي: يا محمد يا محمد, فأقول لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغت, ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل بعيراً له رغاء ينادي: يا محمد يا محمد, فأقول: لا أملك لك شيئاً قد بلغت, ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل فرساً لها حمحمة فينادي: يا محمد يا محمد, فأقول: لا أملك لك شيئاً قد بلغت, ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل سقاء من أدم ينادي: يا محمد يا محمد, فأقول: لا أملك لك شيئاً قد بلغت» وقال علي بن المديني: هذا حديث حسن الإسناد إلا أن حفص بن حميد مجهول, لا أعلم روى عنه غير يعقوب بن عبد الله الأشعري القمي (قلت) بل قد روى عنه أيضاً أشعث بن إسحاق, وقال فيه يحيى بن معين: صالح, ووثقه النسائي وابن حبان.
وقوله: {وإن الذين لا يؤمنون بالاَخرة عن الصراط لناكبون} أي لعادلون جائرون منحرفون, تقول العرب: نكب فلان عن الطريق إذا زاغ عنها. وقوله: {ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون} يخبر تعالى عن غلظهم في كفرهم بأنه لو أزاح عنهم الضر وأفهمهم القرآن لما انقادوا له ولا ستمروا على كفرهم وعنادهم وطغيانهم, كما قال تعالى {ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} وقال: {ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا ياليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنون * بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ـ إلى قوله ـ بمبعوثين} فهذا من باب علمه تعالى بما لا يكون ولو كان كيف يكون, قال الضحاك عن ابن عباس: كل ما فيه {لو} فهو مما لا يكون أبداً.
الصفحة رقم 346 من المصحف تحميل و استماع mp3