تفسير الطبري تفسير الصفحة 346 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 346
347
345
 الآية : 60 - 61
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَالّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنّهُمْ إِلَىَ رَبّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَـَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ }.
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: والّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا والذين يعطون أهل سُهْمان الصدقة ما فرض الله لهم فـي أموالهم. ما آتَوْا يعنـي: ما أعطوهم إياه من صدقة, ويؤدّون حقوق الله علـيهم فـي أموالهم إلـى أهلها. وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ يقول: خائفة من أنهم إلـى ربهم راجعون, فلا ينـجيهم ما فعلوا من ذلك من عذاب الله, فهم خائفون من الـمرجع إلـى الله لذلك, كما قال الـحسن: إن الـمؤمن جمع إحسانا وشفقة.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19332ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن ابن أبجر, عن رجل, عن ابن عمر: يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ قال: الزكاة.
19333ـ حدثنـي مـحمد بن عمارة, قال: حدثنا عبـيد الله بن موسى, قال أخبرنا إسرائيـل, عن أبـي يحيى, عن مـجاهد: وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ قال: الـمؤمن ينفق ماله وقلبه وَجِلٌ.
19334ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن أبـي الأشهب, عن الـحسن, قال: يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ قال: يعملون ما عملوا من أعمال البرّ, وهم يخافون ألاّ ينـجيهم ذلك من عذاب ربهم.
19335ـ حدثنا القاسم, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عبـاس: يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ قال: الـمؤمن ينفق ماله ويتصدّق وقلبه وَجِل أنه إلـى ربه راجع.
19336ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن عُلَـية, عن يونس, عن الـحسن أنه كان يقول: إن الـمؤمن جمع إحسانا وشفقة, وإن الـمنافق جمع إساءة وأمنا. ثم تلا الـحسن: إنّ الّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبّهِمْ مُشْفِقُونَ إلـى: وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أنّهُمْ إلـى رَبّهِمْ رَاجِعُونَ وقال الـمنافق: إنـما أوتـيته علـى علـم عندي.
19337ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا الـحسين بن واقد, عن يزيد, عن عكرمة: يُؤْتُونَ ما آتَوْا قال: يُعطون ما أعطوا. وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ يقول: خائفة.
19338ـ حدثنا خلاد بن أسلـم, قال: حدثنا النضر بن شميـل, قال: أخبرنا إسرائيـل, قال: أخبرنا سالـم الأفطس, عن سعيد بن جبـير, فـي قوله: وَالّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ قال: يفعلون ما يفعلون وهم يعلـمون أنهم صائرون إلـى الـموت وهي من الـمبشّرات.
19339ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قَتادة: يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُم وَجِلَةٌ قال: يُعْطُون ما أعطَوا ويعملون ما عملوا من خير, وقلوبهم وجلة خائفة.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قَتادة, مثله.
19340ـ حدثنا علـيّ, قال: ثنـي معاوية, عن ابن عبـاس, قوله: وَالّذِينَ يَأْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ يقول: يعملون خائفـين.
19341ـ قال: حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: وَالّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ قال: يعطون ما أعطوا فَرَقا من الله ووجلاً من الله.
19342ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: يُؤْتُونَ ما آتَوْا ينفقون ما أنفقوا.
19343ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ قال: يعطون ما أعطوا وينفقون ما أنفقوا ويتصدّقون بـما تصدّقوا وقلوبهم وجلة, اتقاء لسخط الله والنار.
وعلـى هذه القراءة, أعنـي علـى: وَالّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا قرأه الأمصار, وبه رسوم مصاحفهم وبه نقرأ, لإجماع الـحجة من القرّاء علـيه ووفـاقه خطّ مصاحف الـمسلـمين.
ورُوي عن عائشة رضي الله عنها فـي ذلك, ما:
19344ـ حدثناه أحمد بن يوسف, قال: حدثنا القاسم, قال: حدثنا علـيّ بن ثابت, عن طلـحة بن عمر, عن أبـي خـلف, قال: دخـلت مع عبـيد بن عمير علـى عائشة, فسألها عبـيد: كيف نقرأ هذا الـحرف وَالّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا؟ فقالت: «يَأْتُونَ ما أتَوْا».
وكأنها تأوّلت فـي ذلك والذين يفعلون ما يفعلون من الـخيرات وهم وجلون من الله. وكأنها تأوّلت فـي ذلك: والذين يفعلون ما يفعلون من الـخيرات وهم وجلون من الله, كالذي:
19345ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا الـحكم بن بشير, قال: حدثنا عمر بن قـيس, عن عبد الرحمن بن سعيد بن وهب الهمدانـي, عن أبـي حازم, عن أبـي هريرة, قال: قالت عائشة: يا رسول الله «وَالّذِينَ يَأْتُونَ مَا أتَوْا وَقُلوبُهُم وَجِلَةٌ» هو الذي يذنب الذنب وهو وجل منه؟ فقال: «لا, وَلَكِنْ مَنْ يَصُومُ وَيُصَلّـي ويَتَصَدّقُ وَهُوَ وَجِلٌ».
19346ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن إدريس, عن مالك بن مِغْول, عن عبد الرحمن بن سعيد بن وهب, أن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله الّذِينَ يَأْتُونَ ما أتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أهم الذين يُذنبون وهم مشفقون وَيَصُومُونَ وَهُمْ مُشْفِقُونَ؟
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن إدريس, قال: حدثنا لـيث, عن مغيث, عن رجل من أهل مكة, عن عائشة, قالت: قلت: يا رسول الله: الّذِينَ يَأْتُونَ ما أتَوْا وَقلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ قال: فذكر مثل هذا.
حدثنا سفـيان بن وكيع, قال: حدثنا أبـي, عن مالك بن مغول, عن عبد الرحمن بن سعيد, عن عائشة أنها قالت: يا رسول الله الّذِينَ يَأْتُونَ ما أتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أهو الرجل يزنى ويسرق ويشرب الـخمر؟ قال: «لا يا ابْنَةَ أبـي بَكْرٍ أو يا ابْنَةَ الصّدّيقِ وَلَكِنّهُ الرّجُلُ يَصُومُ وَيُصَلّـي وَيَتَصَدّقُ, وَيخافُ أنْ لا يُقْبَلَ مِنْهُ».
19347ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي جرير, عن لـيث بن أبـي سلـيـم, وهشيـم عن العوّام بن حَوْشب جميعا, عن عائشة, أنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا ابْنَةَ أبـي بَكْرٍ أو يا بْنَةَ الصّدّيقِ هُمُ الّذِينَ يُصَلّونَ وَيَفْرَقُونَ أنْ لا يُتَقَبّلَ منْهُمْ». و «أنّ» من قوله: أنّهُمْ إلـى رَبّهِمْ رَاجِعُونَ: فـي موضع نصب, لأن معنى الكلام: وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ من أنهم, فلـما حذفت «مِنْ» اتصل الكلام قبلها, فنصبت. وكان بعضهم يقول: هو فـي موضع خفض, وإن لـم يكن الـخافض ظاهرا.
وقوله: أُولَئِكَ يُسارِعُونَ فِـي الـخَيْرَاتِ يقول تعالـى ذكره: هؤلاء الذين هذه الصفـات صفـاتهم, يبـادرون فـي الأعمال الصالـحة ويطلبون الزلفة عند الله بطاعته. كما:
19348ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: أُولَئكَ يُسارِعُونَ فِـي الـخَيْرَاتِ.
وقوله: وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ كان بعضهم يقول: معناه: سبقت لهم من الله السعادة, فذلك سبوقهم الـخيرات التـي يعملونها. ذكر من قال ذلك:
19349ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: وَهُمْ لَها سَابِقُونَ يقول: سبقت لهم السعادة.
19350ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَهُمْ لَهَا سابِقُونَ, فتلك الـخيرات.
وكان بعضهم يتأوّل ذلك بـمعنى: وهم إلـيها سابقون. وتأوّله آخرون: وهم من أجلها سابقون.
وأولـى الأقوال فـي ذلك عندي بـالصواب القول الذي قاله ابن عبـاس, من أنه سبقت لهم من الله السعادة قبل مسارعتهم فـي الـخيرات, ولـما سبق لهم من ذلك سارعوا فـيها.
وإنـما قلت ذلك أولـى التأويـلـين بـالكلام لأن ذلك أظهر معنـيـيه, وأنه لا حاجة بنا إذا وجهنا تأويـل الكلام إلـى ذلك, إلـى تـحويـل معنى «اللام» التـي فـي قوله: وَهُمْ لَهَا إلـى غير معناها الأغلب علـيها.

الآية : 62
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَلاَ نُكَلّفُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: ولا نكلف نفسا إلاّ ما يَسَعها ويصلـح لها من العبـادة ولذلك كلّفناها ما كلفناها من معرفة وحدانـية الله, وشرعنا لها ما شرعنا من الشرائع. وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بـالـحَقّ يقول: وعندنا كتاب أعمال الـخـلق بـما عملوا من خير وشرّ يَنْطِقُ بِـالْـحَقّ وَهُمْ لا يُظْلَـمُونَ يقول: يبـين بـالصدق عما عملوا من عمل فـي الدنـيا, لا زيادة علـيه ولا نقصان, ونـحن موفو جميعهم أجورهم, الـمـحسن منهم بإحسانه والـمسيء بإساءته. وَهُمْ لا يُظْلَـمُونَ يقول: وهم لا يظلـمون, بأن يزاد علـى سيئات الـمسيء منهم ما لـم يعمله فـيعاقب علـى غير جُرْمه, وينقص الـمـحسن عما عمل من إحسانه فـينقص عما له من الثواب.
الآية : 63
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مّنْ هَـَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مّن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: ما الأمر كما يحسب هؤلاء الـمشركون, من أن إمدادناهم بـما نـمدّهم به من مال وبنـين, بخير نسوقه بذلك إلـيهم والرضا منا عنهم ولكن قلوبهم فـي غمرة عمى عن هذا القرآن. وعنى بـالغمرة: ما غمر قلوبهم فغطاها عن فهم ما أودع الله كتابه من الـمواعظ والعبر والـحجج. وعنى بقوله: مِنْ هَذَا من القرآن.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19351ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: فِـي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا قال: فـي عَمًى من هذا القرآن.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, فـي قوله: فِـي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا قال: من القرآن.
وقوله: ولَهُمْ أعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلكَ هُمْ لَهَا عامِلُونَ يقول تعالـى ذكره: ولهؤلاء الكفـار أعمال لا يرضاها الله من الـمعاصي. مِنْ دُونِ ذَلِكَ يقول: من دون أعمال أهل الإيـمان بـالله وأهل التقوى والـخشية له.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19352ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن مـحمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبـي بَزة, عن مـجاهد: ولَهُمْ أعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلكَ هُمْ لَهَا عامِلُونَ قال: الـخطايا.
19353ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: ولَهُمْ أعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلكَ قال: الـحق.
حدثنا علـيّ بن سهل, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, قوله: ولَهُمْ أعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلك قال: خطايا من دون ذلك الـحقّ.
19354ـ قال: حدثنا حجاج, عن أبـي جعفر, عن الربـيع بن أنس, عن أبـي العالـية, فـي قوله: ولَهُمْ أعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلكَ... الاَية, قال: أعمال دُون الـحق.
19355ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قَتادة, قال: ذكر الله الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة, ثم قال للكفـار: بَلْ قُلُوبُهُمْ فِـي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا ولَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلكَ هُمْ لَهَا عامِلُونَ قال: من دون الأعمال التـي منها قوله: مِنْ خَشْيَة رَبّهِمْ مُشْفِقُونَ والذين, والذين.
19356ـ حدثنـي القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا عيسى بن يونس, عن العلاء بن عبد الكريـم, عن مـجاهد, قال: أعمال لا بدّ لهم من أن يعملوها.
19357ـ حدثنا علـيّ بن سهل, قال: حدثنا زيد بن أبـي الزرقاء, عن حماد بن سلـمة, عن حميد, قال: سألت الـحسن عن قول الله: ولَهُمْ أعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلكَ هُمْ لَهَا عامِلُونَ قال: أعمال لـم يعملوها سيعملونها.
19358ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: ولَهُمْ أعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلكَ هُمْ لَهَا عامِلُونَ قال: لـم يكن له بدّ من أن يستوفـي بقـية عمله, ويَصْلَـى به.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرّزاق, عن الثوريّ, عن العلاء بن عبد الكريـم, عن مـجاهد, فـي قوله: ولَهُمْ أعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلكَ هُمْ لَهَا عامِلُونَ قال: أعمال لا بدّ لهم من أن يعملوها.
حدثنا عمرو, قال: حدثنا مروان بن معاوية, عن العلاء بن عبد الكريـم, عن مـجاهد, فـي قول الله تبـارك وتعالـى: ولَهُمْ أعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلكَ قال: أعمال لا بدّ لهم من أن يعملوها.
الآية : 64 - 65
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { حَتّىَ إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأرُونَ * لاَ تَجْأرُواْ الْيَوْمَ إِنّكُمْ مّنّا لاَ تُنصَرُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: ولهؤلاء الكفـار من قريش أعمال من دون ذلك هم لها عاملون, إلـى أن يؤخذ أهل النّعمة والبطر منهم بـالعذاب. كما:
19359ـ حدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: إذَا أخَذْنا مُتْرَفِـيهِمْ بـالعَذابِ, قال: الـمُتْرَفُون: العظماء. إذَا هُمْ يَجْئَرُونَ يقول: فإذا أخذناهم به جأروا, يقول: ضجّوا واستغاثوا مـما حلّ بهم من عذابنا.
ولعلّ الـجُؤار: رفع الصوت, كما يجأر الثور ومنه قول الأعشى:
يُرَاوِحُ مِنْ صَلَوَاتِ الـمَلِـيكِ طَوْرا سُجُودا وَطَوْرا جُؤَارَ
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19360ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس: إذَا هُمْ يَجأَرُونَ يقول: يستغيثون.
19361ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا يحيى وعبد الرحمن, قالا: حدثنا سفـيان, عن علقمة بن قردد, عن مـجاهد, فـي قوله: حتـى إذَا أخَذْنا مُتْرَفِـيهم بـالعَذَابِ إذَا هُمْ يَجْأَرُونَ قال: بـالسيوف يوم بدر.
19362ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن أبـي جعفر, عن الربـيع بن أنس, فـي قوله: إذَا هُمْ يَجْأَرُونَ قال: يجزعون.
19363ـ قال: حدثنا حجاج, عن ابن جُرَيج: حتـى إذَا أخَذْنا مُتْرَفِـيهمْ بـالعَذَابِ قال: عذاب يوم بدر. إذَا هُمْ يَجْأَرُونَ قال: الذين بـمكة.
19364ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: حتّـى إذَا أخَذْنا مُتْرَفِـيهِمْ بـالعَذَابِ يعنـي أهل بدر, أخذهم الله بـالعذاب يوم بدر.
19365ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: سمعت ابن زيد يقول فـي قوله: إذَا هُمْ يَجْأَرُونَ قال: يجزعون.
وقوله: لا تَـجْأَرُوا الـيَوْمَ يقول: لا تضجّوا وتستغيثوا الـيوم وقد نزل بكم العذاب الذي لا يدفع عن الذين ظلـموا أنفسهم, فإن ضجيجكم غير نافعكم ولا دافع عنكم شيئا مـما قد نزل بكم من سخط الله. إنّكُمْ مِنّا لا تُنْصَرُونَ يقول: إنكم من عذابنا الذي قد حلّ بكم لا تستنقذون, ولا يخـلصكم منه شيء.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19366ـ حدثنا القاسم, قال حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن أبـي جعفر, عن الربـيع بن أنس: لا تَـجْأَرُوا الـيَوْمَ: لا تـجزعوا الـيوم.
19367ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا الربـيع بن أنس: لا تَـجْأَرُوا الـيَوْمَ لا تـجزعوا الاَن حين نزل بكم العذاب, إنه لا ينفعكم, فلو كان هذا الـجزع قبلُ نفعكم.


الآية : 66 - 67
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَىَ عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَىَ أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ }.
يقول تعالـى ذكره لهؤلاء الـمشركين من قريش: لا تضجوا الـيوم وقد نزل بكم سخط الله وعذابه, بـما كسبت أيديكم واستوجبتـموه بكفركم بآيات ربكم. قَد كانَتْ آيَاتِـي تُتْلَـى عَلَـيْكُمْ يعنـي: آيات كتاب الله, يقول: كانت آيات كتابـي تقرأ علـيكم فتكذّبون بها وترجعون مولّـين عنها إذا سمعتـموها, كراهية منكم لسماعها. وكذلك يقال لكلّ من رجع من حيث جاء: نكص فلان علـى عقبه.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19368ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد: فَكُنْتُـمْ عَلـى أعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ قال: تستأخرون.
19369ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: فَكُنْتُـمْ عَلـى أعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ يقول: تدبرون.
19370ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: قَدْ كانَتْ آياتـي تُتْلَـى عَلَـيْكُمْ, فَكُنْتُـمْ عَلـى أعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ يعنـي أهل مكة.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن. قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قول الله: تَنْكِصُونَ قال: تستأخرون.
وقوله: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ يقول: مستكبرين بحرم الله, يقولون: لا يظهر علـينا فـيه أحد, لأنا أهل الـحرم.
وبنـحو الذي قلنا فـي تأويـل ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19371ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, فـي قوله: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ يقول: مستكبرين بحرم البـيت أنه لا يظهر علـينا فـيه أحد.
19372ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ قال: بـمكة بـالبلد.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, نـحوه.
19373ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا هَوْذة, قال: حدثنا عوف, عن الـحسن: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ قال: مستكبرين بحرمي.
19374ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا يحيى, عن سفـيان, عن حصين, عن سعيد بن جبـير, فـي قوله: مُسْتَكْبِرِبنَ بِهِ بـالـحرم.
19375ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قَتادة: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ قال: مستكبرين بـالـحرم.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرّزاق, عن معمر, عن قَتادة, مثله.
19376ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ قال: بـالـحرم.
وقوله: سامِرا يقول: تَسْمُرون بـاللـيـل. ووحد قوله: سامِرا وهو بـمعنى السّمّار, لأنه وضع موضع الوقت. ومعنى الكلام: وتهجُرون لـيلاً, فوضع السامر موضع اللـيـل, فوحّد لذلك. وقد كان بعض البصريـين يقول: وُحّد ومعناه الـجمع, كما قـيـل: طفل فـي موضع أطفـال. ومـما يبـين عن صحة ما قلنا فـي أنه وضع موضع الوقت فوحّد لذلك, قول الشاعر.
مِنْ دُونِهمْ إنْ جئْتَهُمْ سَمَراعَزْفُ القِـيانِ ومَـجْلِسٌ غَمْر
فقال: «سمرا» لأن معناه: إن جئتهم لـيلاً وهم يسمُرون, وكذلك قوله: سامِرا.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19377ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: سامِرا يقول: يَسْمُرون حول البـيت.
19378ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: سامِرا قال: مـجلسا بـاللـيـل.
حدثنـي القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد: سامِرا قال: مـجالس.
19379ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا يحيى, قال: حدثنا سفـيان, عن حُصين, عن سعيد بن جُبـير: سامِرا قال: تَسْمُرون بـاللـيـل.
19380ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: سامِرا قال: كانوا يسمرون لـيـلتهم ويـلعبون: يتكلـمون بـالشعر والكهانة وبـما لا يدرون.
19381ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: سامِرا قال: يعنـي سَمَر اللـيـل.
وقال بعضهم فـي ذلك, ما:
19382ـ حدثنا به ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة: سامِرا يقول: سامرا من أهل الـحرم آمنا لا يخاف, كانوا يقولون: نـحن أهل الـحرم لا يَخافون.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرّزاق, عن معمر, عن قتادة: سامِرا يقول: سامرا من أهل مكة آمنا لا يخاف, قال: كانوا يقولون: نـحن أهل الرحم لا نـخاف.
وقوله: تَهْجُرُونَ اختلفت القرّاء فـي قراءته, فقرأته عامة قرّاء الأمصار: تَهْجُرُونَ بفتـح التاء وضم الـجيـم. ولقراءة من قرأ ذلك كذلك وجهان من الـمعنى: أحدهما أن يكون عنى أنه وصفهم بـالإعراض عن القرآن أو البـيت, أو رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفضه. والاَخر: أن يكون عنى أنهم يقولون شيئا من القول كما يهجُر الرجل فـي منامه, وذلك إذا هَذَى فكأنه وصفهم بأنهم يقولون فـي القرآن ما لا معنى له من القول, وذلك أن يقولوا فـيه بـاطلاً من القول الذي لا يضرّه. وقد جاء بكلا القولـين التأويـل من أهل التأويـل. ذكر من قال: كانوا يُعْرِضون عن ذكر الله والـحقّ ويهجُرونه:
19383ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: تَهْجُرُونَ قال: يهجُرون ذكر الله والـحقّ.
19384ـ حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا عبد الصمد, قال: حدثنا شعبة, عن السديّ, عن أبـي صالـح, فـي قوله: سامرا تَهْجُرُونَ قال: السبّ.
ذكر من قال: كانوا يقولون البـاطل والسيّىء من القول فـي القرآن:
19385ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا يحيى, قال: حدثنا سفـيان, عن حصين, عن سعيد بن جُبـير: تَهْجرُونَ قال: يهجُرون فـي البـاطل.
قال: حدثنا يحيى, عن سفـيان, عن حصين, عن سعيد بن جبـير: سامِرا تَهْجُرُونَ قال: يسمرون بـاللـيـل يخوضون فـي البـاطل.
19386ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: تَهْجُرُونَ قال: بـالقول السيىء فـي القرآن.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, مثله.
19387ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: تهْجُرُونَ قال: الهَذَيان الذي يتكلـم بـما لا يريد, ولا يعقل كالـمريض الذي يتكلـم بـما لا يدري. قال: كان أبـيّ يقرؤها: سامِرا تَهْجُرُونَ.
وقرأ ذلك آخرون: «سامرا تُهْجِرُونَ» بضم التاء وكسر الـجيـم. ومـمن قرأ ذلك كذلك من قرّاء الأمصار نافع بن أبـي نعيـم, بـمعنى: يُفْحِشون فـي الـمنطق, ويقولون الـخَنَا, من قولهم: أهجر الرجل: إذا أفحش فـي القول. وذكر أنهم كانوا يسُبّون رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:
19388ـ حدثنا علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس: «تُهْجِرُونَ» قال: تقولون هُجْرا.
19389ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا عبد الـمؤمن, عن أبـي نَهِيك, عن عكرِمة, أنه قرأ: «سامِرا تَهْجِرُونَ»: أي تسبّون.
19390ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا هوذة, قال: حدثنا عون, عن الـحسن, فـي قوله: «سامِرا تُهْجِرُونَ» رسولـي.
حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قَتادة, قال: قال الـحسن: «تُهْجِرُونَ» رسول الله صلى الله عليه وسلم.
19391ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرّزاق, عن معمر, عن قتادة: «تُهْجِرُونَ» يقول: يقولون سوءا.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرّزاق, قال: أخبرنا معمر, قال: قال الـحسن: «تُهْجِرُونَ» كتاب الله ورسوله.
19392ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: «تُهْجِرُونَ»يقول: يقولون الـمنكر والـخَنَا من القول, كذلك هَجْر القول.
وأولـى القراءتـين بـالصواب فـي ذلك عندنا القراءة التـي علـيها قرّاء الأمصار, وهي فتـح التاء وضم الـجيـم, لإجماع الـحجة من القرّاء.

الآية : 68 - 70
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { أَفَلَمْ يَدّبّرُواْ الْقَوْلَ أَمْ جَآءَهُمْ مّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ الأوّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ * أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنّةٌ بَلْ جَآءَهُمْ بِالْحَقّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقّ كَارِهُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: أفلـم يتدبر هؤلاء الـمشركون تنزيـل الله وكلامه, فـيعلـموا ما فـيه من العبر, ويعرفوا حجج الله التـي احتـجّ بها علـيه فـيه؟ أمْ جاءَهُمْ ما لَـمْ يَأتِ آبـاءَهُمُ الأَوّلِـينَ؟ يقول: أم جاءهم أمر ما لـم يأت من قبلهم من أسلافهم, فـاستكبروا ذلك وأعرضوا, فقد جاءت الرسل من قبلهم, وأنزلت معهم الكتب. وقد يحتـمل أن تكون «أم» فـي هذا الـموضع بـمعنى: «بل», فـيكون تأويـل الكلام: أفلـم يدبّروا القول؟ بل جاءهم ما لـم يأت آبـاءهم الأوّلـين, فتركوا لذلك التدبر وأعرضوا عنه, إذ لـم يكن فـيـمن سلف من آبـاءهم ذلك. وقد ذُكر عن ابن عبـاس فـي نـحو هذا القول, ما:
19393ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن عكرمة, عن ابن عبـاس, فـي قوله: أفَلَـمْ يَدّبّرُوا القَوْلَ أمْ جاءَهُمْ ما لَـمْ يَأْتِ آبـاءَهُمُ الأَوّلِـينَ قال: لعمري لقد جاءهم ما لـم يأت آبـاءهم الأوّلـين, ولكن أو لـم يأتهم ما لـم يأت آبـاءهم الأوّلـين.
وقوله: أمْ لَـمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ يقول تعالـى ذكره: أم لـم يعرف هؤلاء الـمكذّبون مـحمدا, وأنه من أهل الصدق والأمانة, فَهُمْ له مُنْكِرُونَ يقول: فـينكروا قوله, أو لـم يعرفوه بـالصدق, ويحتـجوا بأنهم لا يعرفونه. يقول جلّ ثناؤه: فكيف يُكَذّبونه وهم يعرفونه فـيهم بـالصدق والأمانة. أمْ يَقُولُونَ بِهِ جنّةٌ يقول: أيقولون بـمـحمد جنون, فهو يتكلـم بـما لا معنى له ولا يُفهم ولا يَدْرِي ما يقول: بَلْ جاءَهُمْ بـالـحَقّ يقول تعالـى ذكره: فإن يقولوا ذلك فكَذِبُهم فـي قـيـلهم ذلك واضح بـيّن وذلك أن الـمـجنون يَهذِي فـيأتـي من الكلام بـما لا معنى له, ولا يعقل ولا يفهم, والذي جاءهم به مـحمد هو الـحكمة التـي لا أحكم منها والـحقّ الذي لا تـخفـى صحته علـى ذي فطرة صحيحة, فكيف يجوز أن يقال: هو كلام مـجنون؟ وقوله: وأكْثَرُهُمْ للْـحَقّ كارِهُونَ يقول تعالـى ذكره: ما بهؤلاء الكفرة أنهم لـم يعرفوا مـحمدا بـالصدق ولا أن مـحمدا عندهم مـجنون, بل قد علـموه صادقا مـحقّا فـيـما يقول وفـيـما يدعوهم إلـيه, ولكن أكثرهم للإذعان للـحقّ كارهون ولأتبـاع مـحمد ساخطون, حسدا منهم له وبغيا علـيه واستكبـارا فـي الأرض.

الآية : 71
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَلَوِ اتّبَعَ الْحَقّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السّمَاوَاتُ وَالأرْضُ وَمَن فِيهِنّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مّعْرِضُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: ولو عمل الربّ تعالـى ذكره بـما يهوَى هؤلاء الـمشركون وأجرى التدبـير علـى مشيئتهم وإرادتهم وترك الـحقّ الذي هم له كارهون, لفسدت السموات والأرض ومن فـيهنّ وذلك أنهم لا يعرفون عواقب الأمور والصحيحَ من التدبـير والفـاسد. فلو كانت الأمور جارية علـى مشيئتهم وأهوائهم مع إيثار أكثرهم البـاطل علـى الـحقّ, لـم تقرّ السموات والأرض ومن فـيهنّ من خـلق الله, لأن ذلك قام بـالـحقّ.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19394ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا عبد الصمد, قال: حدثنا شعبة, قال: حدثنا السديّ, عن أبـي صالـح: وَلَوِ اتّبَعَ الـحَقّ أهْوَاءَهُمْ قال: الله.
قال: حدثنا أبو معاوية, عن إسماعيـل بن أبـي خالد, عن أبـي صالـح: وَلَوِ اتّبَعَ الـحَقّ أهْوَاءَهُمْ قال: الـحقّ: هو الله.
19395ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, قوله: وَلَوِ اتّبَعَ الـحَقّ أهْوَاءَهُمْ قال: الـحقّ: الله.
وقوله: بَلْ أتَـيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل الذكر فـي هذا الـموضع, فقال بعضهم: هو بـيان الـحقّ لهم بـما أنزل علـى رجل منهم من هذا القرآن. ذكر من قال ذلك:
19396ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: بَلْ أتَـيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ يقول: بـيّنا لهم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: بل أتـيناهم بشَرَفهم وذلك أن هذا القرآن كان شَرَفـا لهم, لأنه نزل علـى رجل منهم, فأعرضوا عنه وكفروا به. وقالوا: ذلك نظير قوله وَإنّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وهذان القولان متقاربـا الـمعنى. وذلك أن الله جلّ ثناؤه أنزل هذا القرآن بـيانا بـيّن فـيه ما لـخـلقه إلـيه الـحاجة من أمر دينهم, وهو مع ذلك ذكر لرسوله صلى الله عليه وسلم وقومه وشَرَف لهم.

الآية : 72 - 73
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ * وَإِنّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ }.
يقول تعالـى ذكره: أم تسأل هؤلاء الـمشركين يا مـحمد من قومك خَراجا, يعنـي أجرا علـى ما جئتهم به من عند الله من النصيحة والـحقّ فَخَرَاجُ رَبّكَ خَيْرٌ: فأجر ربك علـى نفـاذك لأمره, وابتغاء مرضاته خير لك من ذلك, ولـم يسألهم صلى الله عليه وسلم علـى ما أتاهم به من عند الله أجرا, قال لهم كما قال الله له, وأمره بقـيـله لهم: قُلْ لا أسأَلُكُمْ عَلَـيْهِ أجْرا إلاّ الـمَوَدّةَ فِـي القُربى وإنـما معنى الكلام: أم تسألهم علـى ما جئتهم به أجرا, فنكصُوا علـى أعقابهم إذا تلوتَه علـيهم, مستكبرين بـالـحرم, فخراج ربك خير.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19397ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن الـحسن: أمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجا فخَرَاجُ رَبّكَ خَيْرٌ قال: أجرا.
حدثنا الـحسن, قال: حدثنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر عن الـحسن, مثله.
وأصل الـخراج والـخَرْج: مصدران لا يُجْمعان.
وقوله: وَهُوَ خَيْرُ الرّازِقِـينَ يقول: والله خير من أعطى عوضا علـى عمل ورزق رزقا.
وقوله: وَإنّكَ لَتَدْعُوهُمْ إلـى صِراطٍ مُسْتَقِـيـمٍ يقول تعالـى ذكره: وإنك يا مـحمد لتدعو هؤلاء الـمشركين من قومك إلـى دين الإسلام, وهو الطريق القاصد والصراط الـمستقـيـم الذي لا اعوجاج فـيه