تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 366 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 366

366 : تفسير الصفحة رقم 366 من القرآن الكريم

** وَالّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إِلَـَهَا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلاّ بِالْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلاّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَـَئِكَ يُبَدّلُ اللّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً * وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنّهُ يَتُوبُ إِلَى اللّهِ مَتاباً
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش عن شقيق عن عبد الله هو ابن مسعود قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أكبر ؟ قال «أن تجعل لله نداً وهو خلقك» قال: ثم أي ؟ قال «أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك» قال: ثم أي ؟ قال: «أن تزاني حليلة جارك» قال عبد الله: وأنزل الله تصديق ذلك {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر} الاَية, وهكذا رواه النسائي عن هناد بن السري عن أبي معاوية به, وقد أخرجه البخاري ومسلم من حديث الأعمش ومنصور زاد البخاري وواصل ثلاثتهم عن أبي وائل شقيق بن سلمة عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل عن ابن مسعود به, فالله أعلم, ولفظهما عن ابن مسعود قال: قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم ؟ الحديث, طريق غريب.
قال ابن جرير: حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, حدثنا عامر بن مدرك, حدثنا السري يعني ابن إسماعيل, حدثنا الشعبي عن مسروق قال: قال عبد الله, خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فاتبعته, فجلس على نشز من الأرض, وقعدت أسفل منه ووجهي حيال ركبتيه, واغتنمت خلوته وقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله, أي الذنب أكبر ؟ قال «أن تدعو لله نداً وهو خلقك» قلت: ثم مه ؟ قال «أن تقتل ولدك كراهية أن يطعم معك» قلت: ثم مه ؟ قال «أن تزاني حليلة جارك» ثم قرأ {والذين لا يدعون مع الله} الاَية, وقال النسائي: حدثنا قتيبة بن سعيد, حدثنا جرير عن منصور عن هلال بن يساف عن سلمة بن قيس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع «ألا إنما هي أربع» فما أنا بأشح عليهن مني منذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم, «لا تشركوا بالله شيئاً, ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق, ولا تزنوا, ولا تسرقوا».
وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن المديني رحمه الله, حدثنا محمد بن فضيل بن غزوان, حدثنا محمد بن سعد الأنصاري, سمعت أبا طيبة الكلاعي, سمعت المقداد بن الأسود رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه «ما تقولون في الزنا ؟» قالوا: حرمه الله ورسوله, فهو حرام إلى يوم القيامة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه «لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره». قال «فما تقولون في السرقة ؟» قالوا: حرمها الله ورسوله, فهي حرام, قال «لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره». وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا عمار بن نصر, حدثنا بقية عن أبي بكر بن أبي مريم عن الهيثم بن مالك الطائي, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحل له».
وقال ابن جريج: أخبرني يعلى عن سعيد بن جبير أنه سمع ابن عباس يحدث أن ناساً من أهل الشرك قتلوا فأكثروا, وزنوا فأكثروا, ثم أتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن, لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة, فنزلت {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر} الاَية, ونزلت {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم} الاَية. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا ابن أبي عمر, حدثنا سفيان عن عمرو عن أبي فاختة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل «إن الله ينهاك أن تعبد المخلوق وتدع الخالق, وينهاك أن تقتل ولدك وتغذو كلبك, وينهاك أن تزني بحليلة جارك». قال سفيان: وهو قوله {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر} الاَية.
وقوله تعالى: {ومن يفعل ذلك يلق أثام} روي عن عبد الله بن عمرو أنه قال: أثاماً: واد في جهنم. وقال عكرمة {يلق أثام} أودية في جهنم يعذب فيها الزناة. وكذا روي عن سعيد بن جبير ومجاهد. وقال قتادة {يلق أثام} نكالاً, كنا نحدث أنه واد في جهنم.
وقد ذكر لنا أن لقمان كان يقول: يا بني, إياك والزنا, فإن أوله مخافة وآخره ندامة, وقد ورد في الحديث الذي رواه ابن جرير وغيره عن أبي أمامة الباهلي موقوفاً ومرفوعاً: أن غيا وآثاماً بئران في قعر جهنم, أجارنا الله منهما بمنه وكرمه. وقال السدي {يلق أثام} جزاء, وهذا أشبه بظاهر الاَية, وبهذا فسره بما بعده مبدلاً منه, وهو قوله تعالى: {يضاعف له العذاب يوم القيامة} أي يكرر عليه ويغلظ {ويخلد فيه مهان} أي حقيراً ذليلاً. وقوله تعالى: {إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالح} أي جزاؤه على ما فعل من هذه الصفات القبيحة ما ذكر {إلا من تاب} أي في الدنيا إلى الله عز وجل من جميع ذلك, فإن الله يتوب عليه, وفي ذلك دلالة على صحة توبة القاتل, ولا تعارض بين هذه وبين آية النساء {ومن يقتل مؤمناً متعمد} الاَية, فإن هذه وإن كانت مدنية إلا أنها مطلقة, فتحمل على من لم يتب لأن هذه مقيدة بالتوبة, ثم قد قال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} الاَية. قد ثبتت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصحة توبة القاتل, كما ذكر مقرراً من قصة الذي قتل مائة رجل ثم تاب, فقبل الله توبته, وغير ذلك من الأحاديث. وقوله تعالى: {فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيم} في معنى قوله {يبدل الله سيئاتهم حسنات} قولان (أحدهما) أنهم بدلوا مكان عمل السيئات بعمل الحسنات. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الاَية, قال: هم المؤمنون كانوا من قبل إيمانهم على السيئات, فرغب الله بهم عن ذلك, فحولهم إلى الحسنات, فأبدلهم مكان السيئات الحسنات, وروي عن مجاهد عن ابن عباس أنه كان ينشد عند هذه الاَية:
بدلن بعد حرهِ خريفاوبعد طول النفس الوجيفا
يعني تغيرت تلك الأحوال إلى غيرها, وقال عطاء بن أبي رباح: هذا في الدنيا, يكون الرجل على هيئة قبيحة ثم يبدله الله بها خيراً. وقال سعيد بن جبير: أبدلهم الله بعبادة الأوثان عبادة الرحمن, وأبدلهم بقتال المسلمين قتال المشركين, وأبدلهم بنكاح المشركات نكاح المؤمنات. وقال الحسن البصري: أبدلهم الله بالعمل السيء العمل الصالح, وأبدلهم بالشرك إخلاصاً, وأبدلهم بالفجور إحصاناً, وبالكفر إسلاماً, وهذا قول أبي العالية وقتادة وجماعة آخرين.
(والقول الثاني) أن تلك السيئات الماضية تنقلب بنفس التوبة النصوح حسنات, وما ذلك إلا لأنه كلما تذكر ما مضى ندم واسترجع واستغفر, فينقلب الذنب طاعة بهذا الاعتبار, فيوم القيامة وإن وجده مكتوباً عليه, فإنه لا يضره وينقلب حسنة في صحيفته, كما ثبتت السنة بذلك, وصحت به الاَثار المروية عن السلف رضي الله عنهم, وهذا سياق الحديث. قال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني لأعرف آخر أهل النار خروجاً منالنار, وآخر أهل الجنة دخولاً إلى الجنة, يؤتى برجل فيقول نحوا كبار ذنوبه وسلوه عن صغارها, قال: فيقال له: عملت يوم كذا, كذا وكذا, وعملت يوم كذا, كذا وكذا, فيقول: نعم لا يستطيع أن ينكر من ذلك شيئاً, فيقال: فإن لك بكل سيئة حسنة, فيقول: يا رب عملت أشياء لا أراها ههنا» قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه, انفرد بإخراجه مسلم.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثني هاشم بن يزيد, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثني أبي, حدثني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا نام ابن آدم قال الملك للشيطان: أعطني صحيفتك, فيعطيه إياها, فما وجد في صحيفته من حسنة محا بها عشر سيئات من صحيفة الشيطان وكتبهن حسنات, فإذا أراد أحدكم أن ينام فليكبر ثلاثاً وثلاثين تكبيرة, ويحمد أربعاً وثلاثين تحميدة, ويسبح ثلاثاً وثلاثين تسبيحة فتلك مائة».
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو سلمة وعارم, قالا: حدثنا ثابت يعني ابن يزيد أبو زيد, حدثنا عاصم عن أبي عثمان عن سلمان قال: يعطى الرجل يوم القيامة صحيفته فيقرأ أعلاها, فإذا سيئاته, فإذا كاد يسوء ظنه نظر في أسفلها فإذا حسناته, ثم ينظر في أعلاها فإذا هي قد بدلت حسنات. وقال أيضاً: حدثنا أبي, حدثنا هشام بن عمار, حدثنا سليمان بن موسى الزهري أبو داود, حدثنا أبو العنبس عن أبيه عن أبي هريرة قال: ليأتين الله عز وجل بأناس يوم القيامة رأوا أنهم قد استكثروا من السيئات, قيل: من هم يا أبا هريرة ؟ قال: الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات. وقال أيضاً: حدثنا أبي, حدثنا عبد الله بن أبي زياد, حدثنا سيار, حدثنا جعفر, حدثنا أبو حمزة عن أبي الضيف ـ قلت: وكان من أصحاب معاذ بن جبل ـ قال يدخل أهل الجنة الجنة على أربعة أصناف المتقين ثم الشاكرين ثم أصحاب اليمين قالت: لم سموا أصحاب اليمين ؟ قال: لأنهم قد عملوا الحسنات والسيئات, فأعطوا كتبهم بأيمانهم فقرؤوا سيئاتهم حرفاً حرفاً, وقالوا: يا ربنا هذه سيئاتنا, فأين حسناتنا ؟ فعند ذلك محا الله السيئات وجعلها حسنات, فعند ذلك قالوا: {هاؤم اقرءوا كتابيه} فهم أكثر أهل الجنة.
وقال علي بن الحسين زين العابدين {يبدل الله سيئاتهم حسنات} قال: في الاَخرة, وقال مكحول: يغفرها لهم فيجعلها حسنات, رواهما ابن أبي حاتم, وروى ابن جرير عن سعيد بن المسيب مثله. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي, حدثنا الوليد بن مسلم, حدثنا أبو جابر, أنه سمع مكحولاً يحدث قال: جاء شيخ كبير هرم قد سقط حاجباه على عينيه, فقال: يا رسول الله, رجل غدر وفجر ولم يدع حاجة ولا داجة إلا اقتطفها بيمينه, لو قسمت خطيئته بين أهل الأرض لأوبقتهم, فهل له من توبة ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «أأسلمت ؟» فقال: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأن محمداً عبده ورسوله, فقال النبي «فإن الله غافر لك ما كنت كذلك, ومبدل سيئاتك حسنات» فقال: يا رسول الله وغدراتي وفجراتي ؟ فقال «وغدراتك وفجراتك» فولى الرجل يهلل ويكبر.
وروى الطبراني من حديث أبي المغيرة عن صفوان بن عمر عن عبد الرحمن بن جبير عن أبي فروة شطب أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: أرأيت رجلاً عمل الذنوب كلها ولم يترك حاجة ولا داجة, فهل له من توبة ؟ فقال «أسلمت ؟» فقال: نعم, قال: «فافعل الخيرات واترك السيئات, فيجعلها الله لك خيرات كلها» قال: وغدراتي وفجراتي ؟ قال «نعم» فما زال يكبر حتى توارى. ورواه الطبراني من طريق أبي فروة الرهاوي عن ياسين الزيات, عن أبي سلمة الحمصي عن يحيى بن جابر عن سلمة بن نفيل مرفوعاً. وقال أيضاً: حدثنا أبو زرعة, حدثنا إبراهيم بن المنذر, حدثنا عيسى بن شعيب بن ثوبان عن فليح الشماس عن عبيد بن أبي عبيد, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاءتني امرأة فقالت: هل لي من توبة ؟ إني زنيت, وولدت وقتلته, فقلت: لا, ولا نعمت العين ولا كرامة, فقامت وهي تدعو بالحسرة, ثم صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الصبح, فقصصت عليه ما قالت المرأة وما قلت لها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بئسما قلت, أما تقرأ هذه الاَية ؟» {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ـ إلى قوله ـ إلا من تاب} الاَية, فقرأتها عليها, فخرت ساجدة وقالت: الحمد الله الذي جعل لي مخرجاً, هذا حديث غريب من هذا الوجه, وفي رجاله من لا يعرف, والله أعلم. وقد رواه ابن جرير من حديث إبراهيم بن المنذر الحزامي بسنده بنحوه, وعنده: فخرجت تدعو بالحسرة وتقول: يا حسرتا أخلق هذا الحسن للنار ؟ وعنده أنه لما رجع من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, تطلّبها في جميع دور المدينة فلم يجدها, فلما كان من الليلة المقبلة جاءته, فأخبرها بما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرت ساجدة وقالت: الحمد لله الذي جعل لي مخرجاً وتوبة مما عملت, وأعتقت جارية كانت معها وابنتها, وتابت إلى الله عز وجل.
ثم قال تعالى مخبراً عن عموم رحمته بعباده, وأنه من تاب إليه منهم تاب عليه من أي ذنب كان جليلاً أو حقيراً, كبيراً أو صغيراً, فقال تعالى: {ومن تاب وعمل صالحاً فإنه يتوب إلى الله متاب} أي فإن الله يقبل توبته, كما قال تعالى: {ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيم} الاَية, وقال تعالى: {ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده} الاَية, وقال تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} الاَية, أي لمن تاب إليه.

** وَالّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزّورَ وَإِذَا مَرّواْ بِاللّغْوِ مَرّوا كِراماً * وَالّذِينَ إِذَا ذُكّرُواْ بِآيَاتِ رَبّهِمْ لَمْ يَخِرّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً * وَالّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرّيّاتِنَا قُرّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتّقِينَ إِمَاماً
وهذه أيضاً من صفات عباد الرحمن أنهم لا يشهدون الزور, قيل: هو الشرك وعبادة الأصنام, وقيل الكذب والفسق والكفر واللغو والباطل, وقال محمد بن الحنفية: هو اللغو والغناء. وقال أبو العالية وطاوس وابن سيرين والضحاك والربيع بن أنس وغيرهم: هي أعياد المشركين. وقال عمرو بن قيس, هي مجالس السوء والخنا. وقال مالك عن الزهري: شرب الخمر لا يحضرونه ولا يرغبون فيه, كما جاء في الحديث «من كان يؤمن بالله واليوم الاَخر, فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر» وقيل المراد بقوله تعالى: {لا يشهدون الزور} أي شهادة الزور, وهي الكذب متعمداً على غيره, كما في الصحيحين عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟» ثلاثاً, قلنا: بلى يا رسول الله. قال «الشرك بالله وعقوق الوالدين» وكان متكئاً, فجلس فقال «ألا وقول الزور, ألا وشهادة الزور» فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت. والأظهر من السياق أن المراد لا يشهدون الزور أي لا يحضرونه, ولهذا قال تعالى: {وإذا مروا باللغو مروا كرام} أي لا يحضرون الزور, وإذا اتفق مرورهم به مروا ولم يتدنسوا منه بشيء, ولهذا قال {مروا كرام}.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سيعد الأشج, حدثنا أبو الحسن العجلي عن محمد بن مسلم, أخبرني إبراهيم بن ميسرة أن ابن مسعود مر بلهو معروضاً, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لقد أصبح ابن مسعود وأمسى كريماً» وحدثنا الحسين بن محمد بن سلمة النحوي, حدثنا حبان, أخبرنا عبد الله, أخبرنا محمد بن مسلم, أخبرني ميسرة قال: بلغني أن ابن مسعود مر بلهو معرضاً فلم يقف, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لقد أصبح ابن مسعود وأمسى كريماً». ثم تلا إبراهيم بن ميسرة {وإذا مروا باللغو مروا كرام}.
وقوله تعالى: {والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعميان} وهذه أيضاً من صفات المؤمنين {الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون} بخلاف الكافر, فإنه إذا سمع كلام الله لا يؤثر فيه ولا يتغير عما كان عليه بل يبقى مستمراً على كفره وطغيانه وجهله وضلاله, كما قال تعالى: {وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون * وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم} فقوله {لم يخروا عليها صماً وعميان} أي بخلاف الكافر الذي إذا سمع آيات الله فلا تؤثر فيه, فيستمر على حاله كأن لم يسمعها أصم أعمى.
قال مجاهد قوله {لم يخروا عليها صماً وعميان} قال: لم يسمعوا ولم يبصروا ولم يفقهوا شيئاً. وقال الحسن البصري رضي الله عنه: كم من رجل يقرؤها ويخر عليها أصم أعمى. وقال قتادة: قوله تعالى {والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعميان} يقول: لم يصموا عن الحق ولم يعموا فيه, فهم والله قوم عقلوا عن الحق وانتفعوا بما سمعوا من كتابه. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أسيد بن عاصم, حدثنا عبد الله بن حمران, حدثنا ابن عون قال سألت الشعبي قلت: الرجل يرى القوم سجوداً ولم يسمع ما سجدوا, أيسجد معهم ؟ قال: فتلا هذه الاَية: يعني أنه لا يسجد معهم, لأنه لم يتدبر أمر السجود, ولا ينبغي للمؤمن أن يكون إمعة بل يكون على بصيرة من أمره ويقين واضح بين.
وقوله تعالى: {والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين} يعني الذين يسألون الله أن يخرج من أصلابهم من ذرياتهم من يطيعه ويعبده وحده لا شريك له. قال ابن عباس: يعنون من يعمل بطاعة الله فتقر به أعينهم في الدنيا والاَخرة. قال عكرمة: لم يريدوا بذلك صباحة ولا جمالاً, ولكن أرادوا أن يكونوا مطيعين. وسئل الحسن البصري عن هذه الاَية فقال: أن يري الله العبد المسلم من زوجته ومن أخيه ومن حميمه طاعة الله, لا والله لا شيء أقر لعين المسلم من أن يرى ولداً أو ولد ولد أو أخاً أو حميماً مطيعا لله عز وجل. قال ابن جريج في قوله {هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين} قال: يعبدونك فيحسنون عبادتك ولا يجرون علينا الجرائر. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يعني يسألون الله تعالى لأزواجهم وذرياتهم أن يهديهم للإسلام.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يعمر بن بشر, حدثنا عبد الله بن المبارك, أخبرنا صفوان بن عمرو, حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه قال: جلسنا إلى المقداد بن الأسود يوماً, فمر به رجل فقال: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم لوددنا أنا رأينا ما رأيت وشهدنا ما شهدت, فاستغضب المقداد, فجعلت أعجب لأنه ما قال إلا خيراً, ثم أقبل إليه فقال: ما يحمل الرجل على أن يتمنى محضراً غيبه الله عنه لا يدري لو شهده كيف يكون فيه, والله لقد حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوام أكبهم الله على مناخرهم في جهنم لم يجيبوه ولم يصدقوه, أولا تحمدون الله إذ أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعرفون إلا ربكم مصدقين بما جاء به نبيكم قد كفيتم البلاء بغيركم ؟ لقد بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم على أشد حال بعث عليها نبياً من الأنبياء في فترة جاهلية, ما يرون أن ديناً أفضل من عبادة الأوثان, فجاء بفرقان فرق به بين الحق والباطل, وفرق بين الوالد وولده, إن كان الرجل ليرى والده وولده أو أخاه كافراً وقد فتح الله قفل قلبه للإيمان يعلم أنه إن هلك دخل النار, فلا تقر عينه وهو يعلم أن حبيبه في النار, وأنها التي قال الله تعالى: {والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين} وهذا إسناد صحيح, ولم يخرجوه.
وقوله تعالى: {واجعلنا للمتقين إمام} قال ابن عباس والحسن والسدي وقتادة والربيع بن أنس: أئمة يقتدى بنا في الخير. وقال غيرهم: هداة مهتدين دعاة إلى الخير, فأحبوا أن تكون عبادتهم متصلة بعبادة أولادهم وذرياتهم, وأن يكون هداهم متعدياً إلى غيرهم بالنفع, وذلك أكثر ثواباً, وأحسن مآباً, ولهذا ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له, أو علم ينتفع به من بعده, أو صدقة جارية».

** أُوْلَـَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقّوْنَ فِيهَا تَحِيّةً وَسَلاَماً * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً * قُلْ مَا يَعْبَاُ بِكُمْ رَبّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ فَقَدْ كَذّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً
لما ذكر تعالى من أوصاف عباده المؤمنين ما ذكر من الصفات الجميلة, والأقوال والأفعال الجليلة, قال بعد ذلك كله {أولئك} أي المتصفون بهذه {يجزون} يوم القيامة {الغرفة} وهي الجنة, قال أبو جعفر الباقر وسعيد بن جبير والضحاك والسدي: سميت بذلك لا رتفاعها {بما صبرو} أي على القيام بذلك {ويلقون فيه} أي في الجنة {تحية وسلام} أي يبتدرون فيها بالتحية والإكرام, ويلقون التوقير والاحترام, فلهم السلام وعليهم السلام, فإن الملائكة يدخلون عليهم من كل باب: سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار. وقوله تعالى: {خالدين فيه} أي مقيمين لا يظعنون ولا يحولون ولا يموتون ولا يزولون عنها ولا يبغون عنها حولاً, كما قال تعالى: {وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض} الاَية.
وقوله تعالى: {حسنت مستقراً ومقام} أي حسنت منظراً وطابت مقيلاً ومنزلاً, ثم قال تعالى: {قل ما يعبأ بكم ربي} أي لا يبالي ولا يكترث بكم إذا لم تعبدوه, فإنه إنما خلق الخلق ليعبدوه ويوحدوه ويسبحوه بكرة وأصيلاً. قال مجاهد وعمرو بن شعيب {قل ما يعبأ بكم ربي} يقول: ما يفعل بكم ربي. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله {قل ما يعبأ بكم ربي} الاَية, يقول: لولا إيمانكم. وأخبر تعالى الكفار أنه لا حاجة له بهم إذ لم يخلقهم مؤمنين, ولو كان له بهم حاجة لحبب إليهم الإيمان كما حببه إلى المؤمنين.
وقوله تعالى: {فقد كذبتم} أيها الكافرون {فسوف يكون لزام} أي فسوف يكون تكذيبكم لزاماً لكم, يعني مقتضياً لعذابكم وهلاككم ودماركم في الدنيا والاخرة, ويدخل في ذلك يوم بدر, كما فسره بذلك عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب ومحمد بن كعب القرظي ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم. وقال الحسن البصري {فسوف يكون لزام} أي يوم القيامة, ولا منافاة بينهما.