سورة الفرقان | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 366 من المصحف
قوله: 68-"والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر" لما فرغ من ذكر إتيانهم بالطاعات شرع في بيان اجتنابهم للمعاصي فقال: والذين لا يدعون مع الله سبحانه رباً من الأرباب. والمعنى: لا يشركون به شيئاً، بل يوحدونه ويخلصون له العبادة والدعوة "ولا يقتلون النفس التي حرم الله" أي حرم قتلها "إلا بالحق" أي بما يحق أن تقتل به النفوس من كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس "ولا يزنون" أي يستحلون الفروج المحرمة بغير نكاح، ولا ملك يمين "ومن يفعل ذلك" أي شيئاً مما ذكر "يلق" في الآخرة "أثاماً" والأثام في كلام العرب العقاب. قال الفراء: آثمه الله يؤثمه أثاماً وآثاماً: أي جازاه جزاء الإثم. وقال عكرمة ومجاهد: إن أثاماً واد في جهنم جعله الله عقاباً للكفرة. وقال السدي: جبل فيها. وقرىء يليق بضم الياء وتشديد القاف. قال أبو مسلم: والأثام والإثم واحد، والمراد هنا جزاء الآثام فأطلق اسم الشيء على جزائه.
وقرأ الحسن يلق أياماً جمع يوم: يعني شدائد، والعرب تعبر عن ذلك بالأيام، وما أظن هذه القراءة تصح عنه 69-"يضاعف له العذاب" قرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي "يضاعف" "ويخلد" بالجزم، وقرأ ابن كثير " يضاعف " بتشديد العين وطرح الألف والجزم، وقرأ طلحة بن سليمان نضعف بضم النون وكسر العين المشددة والجزم، وهي قراءة أبي جعفر وشيبة. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر بالرفع في الفعلين على الاستئناف. وقرأ طلحة بن سليمان وتخلد بالفوقية خطاباً للكافر. وروي عن أبي عمر أنه قرأ ويخلد بضم الياء التحتية وفتح اللام. قال أبو علي الفارسي وهي غلط من جهة الرواية، ووجه الجزم في يضاعف أنه بدل من يلق لاتحادهما في المعنى، ومثله قول الشاعر: إن علي الله أن تبايعا تؤخذ كرهاً أو تجيء طائعا والضمير في قوله: "يخلد فيه" راجع إلى العذاب المضاعف: أي يخلد في العذاب المضاعف "مهاناً" ذليلاً حقيراً.
70-"إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً" قيل هو استثناء متصل، وقيل منقطع. قال أبو حيان: لا يظهر الاتصال لأن المستثنى منه محكوم عليه بأنه يضاعف له العذاب، فيصير التقدير: إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً فلا يضاعف له العذاب، ولا يلزم من انتفاء التضعيف انتفاء العذاب غير المضعف. قال: والأولى عندي أن تكون منقطعاً: أي لكن من تاب. قال القرطبي: لا خلاف بين العلماء أن الاستثناء عام في الكافر والزاني. واختلفوا في القاتل من المسلمين. وقد تقدم بيانه في النساء والمائدة، والإشارة بقوله: "فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات" إلى المذكورين سابقاً، ومعنى تبديل السيئات حسنات أنه يمحو عنهم المعاصي ويثبت لهم مكانها طاعات. قال النحاس: من أحسن ما قيل في ذلك أنه يكتب موضع كافر مؤمن، وموضع عاص مطيع. قال الحسن: قوم يقولون التبديل في الآخرة، وليس كذلك إنما التبديل في الدنيا يبدل الله لهم إيماناً مكان الشرك، وإخلاصاً من الشك، وإحصاناً من الفجور. قال الزجاج: ليس يجعل مكان السيئة الحسنة، ولكن يجعل مكان السيئة التوبة والحسنة مع التوبة. وقيل إن السيئات تبدل بحسنات، وبه قال جماعة من الصحابة ومن بعدهم. وقيل التبديل عبارة عن الغفران: أي يغفر الله لهم تلك السبئات، لا أن يبدلها حسنات، وقيل المراد بالتبديل: أن يوفقه لأضداد ما سلف منه "وكان الله غفوراً رحيماً" هذه الجملة مقررة لما قبلها من التبديل .
71-"ومن تاب وعمل صالحاً فإنه يتوب إلى الله متاباً" أي من تاب عما اقترف وعمل عملاً صالحاً بعد ذلك، فإنه يتوب بذلك إلى الله متاباً: أي يرجع إليه رجوعاً صحيحاً قوياً. قال القفال: يحتمل أن تكون الآية الأولى فيمن تاب من المشركين، ولهذا قال: "إلا من تاب وآمن" ثم عطف عليه من تاب من المسلمين وأتبع توبته عملاً صالحاً، فله حكم التائبين أيضاً. وقيل أي من تاب بلسانه ولم يحقق التوبة بفعله، فليست تلك التوبة نافعة، بل من تاب وعمل صالحاً فحقق توبته بالأعمال الصالحة، فهو الذي تاب إلى الله متاباً: أي تاب حق التوبة، وهي النصوح، ولذلك أكد بالمصدر، ومعنى الآية: من أراد التوبة وعزم عليها فليتب إلى الله، فالخبر في معنى الأمر كذا قيل لئلا يتحد الشرط والجزاء فإنه لا يقال ممن تاب فإنه يتوب ثم وصف سبحانه هؤلاء التائبين العاملين للصالحات.
فقال: 72- "والذين لا يشهدون الزور" أي لا يشهدون الشهادة الكاذبة، أو لا يحضرون الزور والزور، هو الكذب والباطل ولا يشاهدونه وإلى الثاني ذهب جمهور المفسرين. قال الزجاج: الزور في اللغة الكذب ولا كذب فوق الشرك بالله. قال الواحدي: أكثر المفسرين على أن الزور هاهنا بمعنى الشرك. والحاصل أن يشهدون إن كان من الشهادة ففي الكلام مضاف محذوف: أي لا يشهدون شهادة الزور وإن كان من الشهود الحضور كما ذهب إليه الجمهور فقد اختلفوا في معناه، فقال قتادة: لا يساعدون أهل الباطل على باطلهم وقال محمد بن الحنفية لا يحضرون اللهو والغناء وقال ابن جريح: الكذب. وروي عن مجاهد أيضاً والأولى عدم التخصيص بنوع من أنواع الزور، بل المراد الذين لا يحضرون ما يصدق عليه اسم الزور كائناً من كان " وإذا مروا باللغو مروا كراما " أي معرضين عنه غير ملتفتين إليه، واللغوا كل ساقط من قول أو فعل. قال الحسن: اللغو المعاصي كلها، وقيل المراد مروا بذوي اللغو، يقال: فلان يكرم عما يشينه: أي يتنزه ويكرم نفسه عن الدخول في اللغو والاختلاط بأهله.
73- "والذين إذا ذكروا بآيات ربهم" أي بالقرآن، أو بما فيه موعظة وعبرة "لم يخروا عليها صماً وعمياناً" أي لم يقعوا عليها حال كونهم صماً وعمياناً، ولكنهم أكبوا عليها سامعين مبصرين وانتفعوا بها. قال ابن قتيبة: المعنى لم يتغافلوا عنها، كأنهم صم لم يسمعوها، وعمي لم يبصروها. قال ابن جرير: ليس ثم خرور، بل كما يقال قعد يبكي، وإن كان غير قاعد. قال ابن عطية: كأن المستمع للذكر قائم، فإذا أعرض عنه كان ذلك خروراً، وهو السقوط على غير نظام. قيل المعنى: إذا تليت عليهم آيات الله وجلت قلوبهم، فخروا سجداً وبكياً، ولم يخروا عليها صماً وعمياناً. قال الفراء: أي لم يقعدوا على حالهم الأول كأن لم يسمعوا. قال في الكشاف: ليس بنفي للخرور، وإنما هو إثبات له ونفي للصمم والعمى، وأراد أن النفي متوجه إلى القيد لا إلى المقيد.
74- "والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين" من ابتدائية، أو بيانية. قرأ نافع وابن كثير وابن عباس والحسن "وذرياتنا" بالجمع وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وطلحة وعيسى " وذرياتنا " بالإفراد، والذرية تقع على الجمع، كما في قوله: "ذرية ضعافاً" وتقع على الفرد كما في قوله: ذرية طيبة، وانتصاب قرة أعين على المفعولية، يقال قرت عينه قرة. قال الزجاج: يقال أقر الله عينك: أي صادف فؤادك ما يحبه. وقال المفضل: في قرة العين ثلاثة أقوال: أحدها برد دمعها، لأنه دليل السرور والضحك كما أن حرة دليل الحزن والغم. والثاني نومها، لأنه يكون مع فراغ الخاطر وذهاب الحزن. والثالث حصول الرضى "واجعلنا للمتقين إماماً" أي قدوة يقتدى بنا في الخير، وإنما قال: إماماً، ولم يقل أئمة، لأنه أريد به الجنس: كقوله: "ثم نخرجكم طفلاً" قال الفراء: قال إماماً، ولم يقل أئمة، كما قال للاثنين "إنا رسول رب العالمين" يعني أنه من الواحد الذي أريد به الجمع. وقال الأخفش: الإمام جمع أم من أم يأم، جمع على فعال، نحو صاحب وصحاب، وقائم وقيام. وقيل إن إماماً مصدر، يقال أم فلان فلاناً إماماً، مثل الصيام والقيام. وقيل أرادوا: اجعل كل واحد منا إماماً، وقيل أرادوا: اجعلنا إماماً واحداً لاتحاد كلمتنا، وقيل إنه من الكالم المقلوب، وأن المعنى: واجعل المتقين لنا إماماً، وبه قال مجاهد. وقيل إن هذا الدعاء صادر عنهم بطريق الانفراد، وأن عبارة كل واحد منهم عند الدعاء: واجعلني للمتقين إماماً، ولكنها حكيت عبارات الكل بصيغة المتكلم مع الغير لقصد الإيجاز كقوله: "يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً" وفي هذا إبقاء إماماً على حاله، ومثل ما في الآية قول الشاعر: يا عاذلاتي لا تزدن ملامتي إن العواذل ليس لي بأمين أي أمناء. قال القفال: وعندي أن الإمام إذا ذهب به مذهب الاسم وحد كأنه قيل: اجعلنا حجة للمتقين، ومثله البينة: يقال هؤلاء بينة فلان. قال النيسابوري: قيل في الآية دلالة على أن الرياسة الدينية مما يجب أن تطلب ويرغب فيها، والأقرب أنهم سألوا الله أن يبلغهم في الطاعة المبلغ الذي يشار إليهم ويقتدى بهم.
والإشارة بقوله: 75- "أولئك يجزون الغرفة بما صبروا" إلى المتصفين بتلك الصفات، وهو مبتدأ وخبره ما بعده، والجمل مستأنفة. وقيل إن أولئك وما بعده خبر لقوله: "وعباد الرحمن" كذا قال الزجاج، والغرفة: الدرجة الرفيعة، وهي أعلى منازل الجنة وأفضلها، وهي في الأصل لكل بناء مرتفع، والجمع غرف. وقال الضحاك: الغرفة الجنة، والباء في بما صبروا سببية، وما مصدرية: أي يجزون الغرفة بسبب صبرهم على مشاق التكليف "ويلقون فيها تحية وسلاماً" قرأ أبو بكر والمفضل والأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وخلف "يلقون" بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف، واختار هذه القراءة الفراء، قال: لأن العرب تقول: فلان يلقي بالسلام والتحية والخير، وقل ما يقولون يلقي. وقرأ الباقون بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم لقوله: "ولقاهم نضرة وسروراً" والمعنى: أنه يحيي بعضهم بعضاً ويرسل إليهم الرب سبحانه بالسلام، قيل التحية البقاء الدائم والملك العظيم، وقيل هي بمعنى السلام، وقيل إن الملائكة تحييهم وتسلم عليهم، والظاهر أن هذه التحية والسلام هي من الله سبحانه لهم، ومن ذلك قوله سبحانه: "تحيتهم يوم يلقونه سلام" وقيل معنى التحية: الدعاء لهم بطول الحياة. ومعنى السلام: الدعاء لهم بالسلامة من الآفات.
وانتصاب 76- "خالدين فيها" على الحال: أي مقيمين فيها من غير موت "حسنت مستقراً ومقاماً" أي حسنت الغرفة مستقراً يستقرون فيه، ومقاماً يقيمون به، وهذا في مقابل ما تقدم من قوله: "ساءت مستقراً ومقاماً".
77- "قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم" بين سبحانه أنه غني عن طاعة الكل، وإنما كلفهم لينتفعوا بالتكليف، يقال ما عبأت بفلان: أي ما باليت به ولا له عندي قدر، وأصل يعبأ من العبء، وهو الثقل. قال الخليل: ما أعبأ بفلان: أي ما أصنع به، كأنه يستقله ويستحقره، ويدعي أن وجوده وعدمه سواء، وكذا قال أبو عبيدة. قال الزجاج: ما يعبأ بكم ربي يريد: أي وزن يكون لكم عنده. والعبء: الثقل عندي أن موضع ما نصب والتقدير: أي: عبء يعبأبكم أي: أي مبالاة يبالي بكم "لولا دعاؤكم": أي لولا دعاؤكم إياه لتعبدوه، وعلى هذا فالمصدر الذي هو الدعاء مضاف إلى مفعوله، وهو اختيار الفراء، وفاعله محذوف، وجواب لولا محذوف: تقديره لولا دعاؤكم لم يعبأ بكم، ويؤيد هذا قوله: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" والخطاب لجميع الناس، ثم خص الكفار منهم فقال "فقد كذبتم" وقرأ ابن الزبير فقد كذب الكافرون وفي هذه القراءة دليل بين على أن الخطاب لجميع الناس. وقيل إن المصدر مضاف إلى الفاعل: أي لولا استغاثتكم إليه في الشدائد. وقيل المعنى: ما يعبأ بكم: أي بمغفرة ذنوبكم لولا دعاؤكم الآلهة معه. وحكى ابن جني أن ابن عباس قرأ كقراءة ابن الزبير. وحكى الزهراوي والنحاس أن ابن مسعود قرأ كقراءتهما، وممن قال بأن الدعاء مضاف إلى الفاعل القتيبي والفارسي قالا: والأصل لولا دعاؤكم الآلهة معه. وحكى ابن جني أن ابن عباس قرأ كقراءة ابن الزبير. وحكى الزهراوي والنحاس أن ابن مسعود قرأ كقراءتهما، وممن قال بأن الدعاء محذوف تقديره على هذا الوجه: لولا دعاؤكم لم يعذبكم، ويكون معنى فقد كذبتم على الوجه الأول فقد كذبتم بما دعيتم إليه، وعلى الوجه الثاني: فقد كذبتم بالتوحيد. ثم قال سبحانه "فسوف يكون لزاماً" أي فسوف يكون جزاء التكذيب لازماً لكم، وجمهور المفسرين على أن المراد باللزام هنا: ما لزم المشركين يوم بدر، وقالت طائفة: هو عذاب الآخرة. قال أبو عبيدة: لزاماً فيصلاً: أي فسوف فيصلاً بينكم وبين المؤمنين. قال الزجاج: فسوف يكون تكذيبكم لزاماً يلزمكم فلا تعطون التوبة، وجمهور القراء على كسر اللام من لزاماً، وأنشد أبو عبيدة لصخر: فاما ينجوا من خسف أرض فقد لقيا حتوفهما لزاما قال ابن جرير لزاماً: عذاباً دائماً وهلاكاً مفنياً يلحق بعضكم ببعض، كقول أبي ذؤيب: ففاجأه بعادية لزام كما يتفجر الحوض اللفيف يعني باللزام الذي يتبع بعضه بعضاً، وباللفيف المتساقط من الحجارة المنهدمة. وحكى أبو حاتم عن أبي زيد قال: سمعت أبا السماك يقرأ لزاماً بفتح اللام. قال أبو جعفر يكون مصدر لزم، والكسر أولى. وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال:" سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أكبر؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك"، فأنزل الله تصديق ذلك "والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون". وأخرجا وغيرهما أيضاً عن ابن عباس أن ناساً من أهل الشرك قد قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزلت "والذين لا يدعون" الآية، ونزلت "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم" الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو في قوله: "يلق أثاماً" قال: واد في جهنم. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: لما نزلت "والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر" الآية اشتد ذلك على المسلمين، فقالوا: ما منا أحد إلا أشرك وقتل وزنى، فأنزل الله "يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم" الآية، يقول لهؤلاء الذين أصابوا هذا في الشرك، ثم نزلت هذه الآية " إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات " فأبدلهم الله بالكفر الإسلام، وبالمعصية الطاعة، وبالإنكار المعرفة، وبالجهالة العلم. وأخرج ابن المنذر والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: قرأناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سنين "والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً" ثم نزلت "إلا من تاب وآمن" فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرح بشيء قط فرحه بها، وفرحه بـ "إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً" وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: "فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات" قال: هم المؤمنون الذين كانوا من قبل إيمانهم على السيئات، فرغب الله بهم عن ذلك فحولهم إلى الحسنات، فأبدلهم مكان السيئات الحسنات. وأخرج أحمد وهناد وابن جرير والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤتى الرجل يوم القيامة، فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، فيعرض عليه صغارها وينحى عنه كبارها، فيقال: عملت يوم كذا كذا، وهو يقر، ليس ينكر، وهو مشفق من الكبائر أن تجيء، فيقال: أعطوه بكل سيئة عملها حسنة" والأحاديث في تكفير السيئات وتبديلها بالحسنات كثيرة. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "والذين لا يشهدون الزور" قال: إن الزور كان صنماً بالمدينة يلعبون حوله كل سبعة أيام، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مروا به مروا كراماً لا ينظرون إليه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين" قال: يعنون من يعمل بالطاعة فتقر به أعيننا في الدنيا والآخرة "واجعلنا للمتقين إماماً" قال: أئمة هدىً يهتدى بنا ولا تجعلنا أئمة ضلالة، لأنه قال لأهل السعادة "وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا" ولأهل الشقاوة "وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار". وأخرج الحكيم الترمذي عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "أولئك يجزون الغرفة" قال: الغرفة من ياقوتة حمراء، أو زبرجدة خضراء، أو درة بيضاء، ليس فيها فصم ولا وصم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم" يقول: لولا إيمانكم، فأخبر الله أنه لا حاجة له بهم إذا لم يخلقهم مؤمنين. ولو كانت له بهم حاجة لحبب إليهم الإيمان كما حببه إلى المؤمنين "فسوف يكون لزاماً" قال: موتاً. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن الأنباري عنه أنه كان يقرأ -فقد كذب الكافرون، فسوف يكون لزاماً- وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن الزبير أنه قرأها كذلك. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه "فسوف يكون لزاماً" قال: القتل يوم بدر، وفي الصحيحين عنه قال: خمس قد مضين: الدخان والقمر واللزوم والبطشة واللزام.
فتح القدير - صفحة القرآن رقم 366
365قوله: 68-"والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر" لما فرغ من ذكر إتيانهم بالطاعات شرع في بيان اجتنابهم للمعاصي فقال: والذين لا يدعون مع الله سبحانه رباً من الأرباب. والمعنى: لا يشركون به شيئاً، بل يوحدونه ويخلصون له العبادة والدعوة "ولا يقتلون النفس التي حرم الله" أي حرم قتلها "إلا بالحق" أي بما يحق أن تقتل به النفوس من كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس "ولا يزنون" أي يستحلون الفروج المحرمة بغير نكاح، ولا ملك يمين "ومن يفعل ذلك" أي شيئاً مما ذكر "يلق" في الآخرة "أثاماً" والأثام في كلام العرب العقاب. قال الفراء: آثمه الله يؤثمه أثاماً وآثاماً: أي جازاه جزاء الإثم. وقال عكرمة ومجاهد: إن أثاماً واد في جهنم جعله الله عقاباً للكفرة. وقال السدي: جبل فيها. وقرىء يليق بضم الياء وتشديد القاف. قال أبو مسلم: والأثام والإثم واحد، والمراد هنا جزاء الآثام فأطلق اسم الشيء على جزائه.
وقرأ الحسن يلق أياماً جمع يوم: يعني شدائد، والعرب تعبر عن ذلك بالأيام، وما أظن هذه القراءة تصح عنه 69-"يضاعف له العذاب" قرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي "يضاعف" "ويخلد" بالجزم، وقرأ ابن كثير " يضاعف " بتشديد العين وطرح الألف والجزم، وقرأ طلحة بن سليمان نضعف بضم النون وكسر العين المشددة والجزم، وهي قراءة أبي جعفر وشيبة. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر بالرفع في الفعلين على الاستئناف. وقرأ طلحة بن سليمان وتخلد بالفوقية خطاباً للكافر. وروي عن أبي عمر أنه قرأ ويخلد بضم الياء التحتية وفتح اللام. قال أبو علي الفارسي وهي غلط من جهة الرواية، ووجه الجزم في يضاعف أنه بدل من يلق لاتحادهما في المعنى، ومثله قول الشاعر: إن علي الله أن تبايعا تؤخذ كرهاً أو تجيء طائعا والضمير في قوله: "يخلد فيه" راجع إلى العذاب المضاعف: أي يخلد في العذاب المضاعف "مهاناً" ذليلاً حقيراً.
70-"إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً" قيل هو استثناء متصل، وقيل منقطع. قال أبو حيان: لا يظهر الاتصال لأن المستثنى منه محكوم عليه بأنه يضاعف له العذاب، فيصير التقدير: إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً فلا يضاعف له العذاب، ولا يلزم من انتفاء التضعيف انتفاء العذاب غير المضعف. قال: والأولى عندي أن تكون منقطعاً: أي لكن من تاب. قال القرطبي: لا خلاف بين العلماء أن الاستثناء عام في الكافر والزاني. واختلفوا في القاتل من المسلمين. وقد تقدم بيانه في النساء والمائدة، والإشارة بقوله: "فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات" إلى المذكورين سابقاً، ومعنى تبديل السيئات حسنات أنه يمحو عنهم المعاصي ويثبت لهم مكانها طاعات. قال النحاس: من أحسن ما قيل في ذلك أنه يكتب موضع كافر مؤمن، وموضع عاص مطيع. قال الحسن: قوم يقولون التبديل في الآخرة، وليس كذلك إنما التبديل في الدنيا يبدل الله لهم إيماناً مكان الشرك، وإخلاصاً من الشك، وإحصاناً من الفجور. قال الزجاج: ليس يجعل مكان السيئة الحسنة، ولكن يجعل مكان السيئة التوبة والحسنة مع التوبة. وقيل إن السيئات تبدل بحسنات، وبه قال جماعة من الصحابة ومن بعدهم. وقيل التبديل عبارة عن الغفران: أي يغفر الله لهم تلك السبئات، لا أن يبدلها حسنات، وقيل المراد بالتبديل: أن يوفقه لأضداد ما سلف منه "وكان الله غفوراً رحيماً" هذه الجملة مقررة لما قبلها من التبديل .
71-"ومن تاب وعمل صالحاً فإنه يتوب إلى الله متاباً" أي من تاب عما اقترف وعمل عملاً صالحاً بعد ذلك، فإنه يتوب بذلك إلى الله متاباً: أي يرجع إليه رجوعاً صحيحاً قوياً. قال القفال: يحتمل أن تكون الآية الأولى فيمن تاب من المشركين، ولهذا قال: "إلا من تاب وآمن" ثم عطف عليه من تاب من المسلمين وأتبع توبته عملاً صالحاً، فله حكم التائبين أيضاً. وقيل أي من تاب بلسانه ولم يحقق التوبة بفعله، فليست تلك التوبة نافعة، بل من تاب وعمل صالحاً فحقق توبته بالأعمال الصالحة، فهو الذي تاب إلى الله متاباً: أي تاب حق التوبة، وهي النصوح، ولذلك أكد بالمصدر، ومعنى الآية: من أراد التوبة وعزم عليها فليتب إلى الله، فالخبر في معنى الأمر كذا قيل لئلا يتحد الشرط والجزاء فإنه لا يقال ممن تاب فإنه يتوب ثم وصف سبحانه هؤلاء التائبين العاملين للصالحات.
فقال: 72- "والذين لا يشهدون الزور" أي لا يشهدون الشهادة الكاذبة، أو لا يحضرون الزور والزور، هو الكذب والباطل ولا يشاهدونه وإلى الثاني ذهب جمهور المفسرين. قال الزجاج: الزور في اللغة الكذب ولا كذب فوق الشرك بالله. قال الواحدي: أكثر المفسرين على أن الزور هاهنا بمعنى الشرك. والحاصل أن يشهدون إن كان من الشهادة ففي الكلام مضاف محذوف: أي لا يشهدون شهادة الزور وإن كان من الشهود الحضور كما ذهب إليه الجمهور فقد اختلفوا في معناه، فقال قتادة: لا يساعدون أهل الباطل على باطلهم وقال محمد بن الحنفية لا يحضرون اللهو والغناء وقال ابن جريح: الكذب. وروي عن مجاهد أيضاً والأولى عدم التخصيص بنوع من أنواع الزور، بل المراد الذين لا يحضرون ما يصدق عليه اسم الزور كائناً من كان " وإذا مروا باللغو مروا كراما " أي معرضين عنه غير ملتفتين إليه، واللغوا كل ساقط من قول أو فعل. قال الحسن: اللغو المعاصي كلها، وقيل المراد مروا بذوي اللغو، يقال: فلان يكرم عما يشينه: أي يتنزه ويكرم نفسه عن الدخول في اللغو والاختلاط بأهله.
73- "والذين إذا ذكروا بآيات ربهم" أي بالقرآن، أو بما فيه موعظة وعبرة "لم يخروا عليها صماً وعمياناً" أي لم يقعوا عليها حال كونهم صماً وعمياناً، ولكنهم أكبوا عليها سامعين مبصرين وانتفعوا بها. قال ابن قتيبة: المعنى لم يتغافلوا عنها، كأنهم صم لم يسمعوها، وعمي لم يبصروها. قال ابن جرير: ليس ثم خرور، بل كما يقال قعد يبكي، وإن كان غير قاعد. قال ابن عطية: كأن المستمع للذكر قائم، فإذا أعرض عنه كان ذلك خروراً، وهو السقوط على غير نظام. قيل المعنى: إذا تليت عليهم آيات الله وجلت قلوبهم، فخروا سجداً وبكياً، ولم يخروا عليها صماً وعمياناً. قال الفراء: أي لم يقعدوا على حالهم الأول كأن لم يسمعوا. قال في الكشاف: ليس بنفي للخرور، وإنما هو إثبات له ونفي للصمم والعمى، وأراد أن النفي متوجه إلى القيد لا إلى المقيد.
74- "والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين" من ابتدائية، أو بيانية. قرأ نافع وابن كثير وابن عباس والحسن "وذرياتنا" بالجمع وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وطلحة وعيسى " وذرياتنا " بالإفراد، والذرية تقع على الجمع، كما في قوله: "ذرية ضعافاً" وتقع على الفرد كما في قوله: ذرية طيبة، وانتصاب قرة أعين على المفعولية، يقال قرت عينه قرة. قال الزجاج: يقال أقر الله عينك: أي صادف فؤادك ما يحبه. وقال المفضل: في قرة العين ثلاثة أقوال: أحدها برد دمعها، لأنه دليل السرور والضحك كما أن حرة دليل الحزن والغم. والثاني نومها، لأنه يكون مع فراغ الخاطر وذهاب الحزن. والثالث حصول الرضى "واجعلنا للمتقين إماماً" أي قدوة يقتدى بنا في الخير، وإنما قال: إماماً، ولم يقل أئمة، لأنه أريد به الجنس: كقوله: "ثم نخرجكم طفلاً" قال الفراء: قال إماماً، ولم يقل أئمة، كما قال للاثنين "إنا رسول رب العالمين" يعني أنه من الواحد الذي أريد به الجمع. وقال الأخفش: الإمام جمع أم من أم يأم، جمع على فعال، نحو صاحب وصحاب، وقائم وقيام. وقيل إن إماماً مصدر، يقال أم فلان فلاناً إماماً، مثل الصيام والقيام. وقيل أرادوا: اجعل كل واحد منا إماماً، وقيل أرادوا: اجعلنا إماماً واحداً لاتحاد كلمتنا، وقيل إنه من الكالم المقلوب، وأن المعنى: واجعل المتقين لنا إماماً، وبه قال مجاهد. وقيل إن هذا الدعاء صادر عنهم بطريق الانفراد، وأن عبارة كل واحد منهم عند الدعاء: واجعلني للمتقين إماماً، ولكنها حكيت عبارات الكل بصيغة المتكلم مع الغير لقصد الإيجاز كقوله: "يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً" وفي هذا إبقاء إماماً على حاله، ومثل ما في الآية قول الشاعر: يا عاذلاتي لا تزدن ملامتي إن العواذل ليس لي بأمين أي أمناء. قال القفال: وعندي أن الإمام إذا ذهب به مذهب الاسم وحد كأنه قيل: اجعلنا حجة للمتقين، ومثله البينة: يقال هؤلاء بينة فلان. قال النيسابوري: قيل في الآية دلالة على أن الرياسة الدينية مما يجب أن تطلب ويرغب فيها، والأقرب أنهم سألوا الله أن يبلغهم في الطاعة المبلغ الذي يشار إليهم ويقتدى بهم.
والإشارة بقوله: 75- "أولئك يجزون الغرفة بما صبروا" إلى المتصفين بتلك الصفات، وهو مبتدأ وخبره ما بعده، والجمل مستأنفة. وقيل إن أولئك وما بعده خبر لقوله: "وعباد الرحمن" كذا قال الزجاج، والغرفة: الدرجة الرفيعة، وهي أعلى منازل الجنة وأفضلها، وهي في الأصل لكل بناء مرتفع، والجمع غرف. وقال الضحاك: الغرفة الجنة، والباء في بما صبروا سببية، وما مصدرية: أي يجزون الغرفة بسبب صبرهم على مشاق التكليف "ويلقون فيها تحية وسلاماً" قرأ أبو بكر والمفضل والأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وخلف "يلقون" بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف، واختار هذه القراءة الفراء، قال: لأن العرب تقول: فلان يلقي بالسلام والتحية والخير، وقل ما يقولون يلقي. وقرأ الباقون بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم لقوله: "ولقاهم نضرة وسروراً" والمعنى: أنه يحيي بعضهم بعضاً ويرسل إليهم الرب سبحانه بالسلام، قيل التحية البقاء الدائم والملك العظيم، وقيل هي بمعنى السلام، وقيل إن الملائكة تحييهم وتسلم عليهم، والظاهر أن هذه التحية والسلام هي من الله سبحانه لهم، ومن ذلك قوله سبحانه: "تحيتهم يوم يلقونه سلام" وقيل معنى التحية: الدعاء لهم بطول الحياة. ومعنى السلام: الدعاء لهم بالسلامة من الآفات.
وانتصاب 76- "خالدين فيها" على الحال: أي مقيمين فيها من غير موت "حسنت مستقراً ومقاماً" أي حسنت الغرفة مستقراً يستقرون فيه، ومقاماً يقيمون به، وهذا في مقابل ما تقدم من قوله: "ساءت مستقراً ومقاماً".
77- "قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم" بين سبحانه أنه غني عن طاعة الكل، وإنما كلفهم لينتفعوا بالتكليف، يقال ما عبأت بفلان: أي ما باليت به ولا له عندي قدر، وأصل يعبأ من العبء، وهو الثقل. قال الخليل: ما أعبأ بفلان: أي ما أصنع به، كأنه يستقله ويستحقره، ويدعي أن وجوده وعدمه سواء، وكذا قال أبو عبيدة. قال الزجاج: ما يعبأ بكم ربي يريد: أي وزن يكون لكم عنده. والعبء: الثقل عندي أن موضع ما نصب والتقدير: أي: عبء يعبأبكم أي: أي مبالاة يبالي بكم "لولا دعاؤكم": أي لولا دعاؤكم إياه لتعبدوه، وعلى هذا فالمصدر الذي هو الدعاء مضاف إلى مفعوله، وهو اختيار الفراء، وفاعله محذوف، وجواب لولا محذوف: تقديره لولا دعاؤكم لم يعبأ بكم، ويؤيد هذا قوله: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" والخطاب لجميع الناس، ثم خص الكفار منهم فقال "فقد كذبتم" وقرأ ابن الزبير فقد كذب الكافرون وفي هذه القراءة دليل بين على أن الخطاب لجميع الناس. وقيل إن المصدر مضاف إلى الفاعل: أي لولا استغاثتكم إليه في الشدائد. وقيل المعنى: ما يعبأ بكم: أي بمغفرة ذنوبكم لولا دعاؤكم الآلهة معه. وحكى ابن جني أن ابن عباس قرأ كقراءة ابن الزبير. وحكى الزهراوي والنحاس أن ابن مسعود قرأ كقراءتهما، وممن قال بأن الدعاء مضاف إلى الفاعل القتيبي والفارسي قالا: والأصل لولا دعاؤكم الآلهة معه. وحكى ابن جني أن ابن عباس قرأ كقراءة ابن الزبير. وحكى الزهراوي والنحاس أن ابن مسعود قرأ كقراءتهما، وممن قال بأن الدعاء محذوف تقديره على هذا الوجه: لولا دعاؤكم لم يعذبكم، ويكون معنى فقد كذبتم على الوجه الأول فقد كذبتم بما دعيتم إليه، وعلى الوجه الثاني: فقد كذبتم بالتوحيد. ثم قال سبحانه "فسوف يكون لزاماً" أي فسوف يكون جزاء التكذيب لازماً لكم، وجمهور المفسرين على أن المراد باللزام هنا: ما لزم المشركين يوم بدر، وقالت طائفة: هو عذاب الآخرة. قال أبو عبيدة: لزاماً فيصلاً: أي فسوف فيصلاً بينكم وبين المؤمنين. قال الزجاج: فسوف يكون تكذيبكم لزاماً يلزمكم فلا تعطون التوبة، وجمهور القراء على كسر اللام من لزاماً، وأنشد أبو عبيدة لصخر: فاما ينجوا من خسف أرض فقد لقيا حتوفهما لزاما قال ابن جرير لزاماً: عذاباً دائماً وهلاكاً مفنياً يلحق بعضكم ببعض، كقول أبي ذؤيب: ففاجأه بعادية لزام كما يتفجر الحوض اللفيف يعني باللزام الذي يتبع بعضه بعضاً، وباللفيف المتساقط من الحجارة المنهدمة. وحكى أبو حاتم عن أبي زيد قال: سمعت أبا السماك يقرأ لزاماً بفتح اللام. قال أبو جعفر يكون مصدر لزم، والكسر أولى. وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال:" سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أكبر؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك"، فأنزل الله تصديق ذلك "والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون". وأخرجا وغيرهما أيضاً عن ابن عباس أن ناساً من أهل الشرك قد قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزلت "والذين لا يدعون" الآية، ونزلت "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم" الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو في قوله: "يلق أثاماً" قال: واد في جهنم. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: لما نزلت "والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر" الآية اشتد ذلك على المسلمين، فقالوا: ما منا أحد إلا أشرك وقتل وزنى، فأنزل الله "يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم" الآية، يقول لهؤلاء الذين أصابوا هذا في الشرك، ثم نزلت هذه الآية " إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات " فأبدلهم الله بالكفر الإسلام، وبالمعصية الطاعة، وبالإنكار المعرفة، وبالجهالة العلم. وأخرج ابن المنذر والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: قرأناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سنين "والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً" ثم نزلت "إلا من تاب وآمن" فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرح بشيء قط فرحه بها، وفرحه بـ "إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً" وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: "فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات" قال: هم المؤمنون الذين كانوا من قبل إيمانهم على السيئات، فرغب الله بهم عن ذلك فحولهم إلى الحسنات، فأبدلهم مكان السيئات الحسنات. وأخرج أحمد وهناد وابن جرير والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤتى الرجل يوم القيامة، فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، فيعرض عليه صغارها وينحى عنه كبارها، فيقال: عملت يوم كذا كذا، وهو يقر، ليس ينكر، وهو مشفق من الكبائر أن تجيء، فيقال: أعطوه بكل سيئة عملها حسنة" والأحاديث في تكفير السيئات وتبديلها بالحسنات كثيرة. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "والذين لا يشهدون الزور" قال: إن الزور كان صنماً بالمدينة يلعبون حوله كل سبعة أيام، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مروا به مروا كراماً لا ينظرون إليه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين" قال: يعنون من يعمل بالطاعة فتقر به أعيننا في الدنيا والآخرة "واجعلنا للمتقين إماماً" قال: أئمة هدىً يهتدى بنا ولا تجعلنا أئمة ضلالة، لأنه قال لأهل السعادة "وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا" ولأهل الشقاوة "وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار". وأخرج الحكيم الترمذي عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "أولئك يجزون الغرفة" قال: الغرفة من ياقوتة حمراء، أو زبرجدة خضراء، أو درة بيضاء، ليس فيها فصم ولا وصم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم" يقول: لولا إيمانكم، فأخبر الله أنه لا حاجة له بهم إذا لم يخلقهم مؤمنين. ولو كانت له بهم حاجة لحبب إليهم الإيمان كما حببه إلى المؤمنين "فسوف يكون لزاماً" قال: موتاً. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن الأنباري عنه أنه كان يقرأ -فقد كذب الكافرون، فسوف يكون لزاماً- وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن الزبير أنه قرأها كذلك. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه "فسوف يكون لزاماً" قال: القتل يوم بدر، وفي الصحيحين عنه قال: خمس قد مضين: الدخان والقمر واللزوم والبطشة واللزام.
الصفحة رقم 366 من المصحف تحميل و استماع mp3