سورة الفرقان | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير الطبري تفسير الصفحة 366 من المصحف
تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 366
367
365
الآية : 68 - 71
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَالّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إِلَـَهَا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلاّ بِالْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلاّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَـَئِكَ يُبَدّلُ اللّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً * وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنّهُ يَتُوبُ إِلَى اللّهِ مَتاباً }.
يقول تعالـى ذكره: والذين لا يعبدون مع الله إلها آخر, فـيشركون فـي عبـادتهم إياه, ولكنهم يخـلصون له العبـادة ويفردونه بـالطاعة وَلاَ يَقْتُلُونَ النّفْسَ الّتِـي حَرّمَ اللّهُ قتلها إلاّ بِـالـحَقّ إما بكفر بـالله بعد إسلامها, أو زنا بعد إحصانها, أو قتل نفس, فتقتل بها وَلاَ يَزْنُونَ فـيأتون ما حرّم الله علـيهم إتـيانه من الفروج وَمَنْ يَفْعَلْ ذلكَ يقول: ومن يأت هذه الأفعال, فدعا مع الله إلها آخر, وقتل النفس التـي حرّم الله بغير الـحقّ, وزنى يَـلْقَ أثاما يقول: يـلق من عقاب الله عقوبة ونكالاً, كما وصفه ربنا جلّ ثناؤه, وهو أنه يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَوْمَ القِـيامَةِ ويَخْـلُدْ فِـيهِ مُهانا. ومن الأثام قول بَلْعَاءَ بن قـيس الكنانـي:
جَزَى اللّهُ ابْنَ عُرْوَةَ حيْثُ أمْسَىعُقُوقا والعُقُوقُ لَهُ أَثامُ
يعنـي بـالأثام: العقاب.
وقد ذُكر أن هذه الاَية نزلت علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل قوم من الـمشركين أرادوا الدخول فـي الإسلام, مـمن كان منه فـي شركه هذه الذنوب, فخافوا أن لا ينفعهم مع ما سلف منهم من ذلك إسلام, فـاستفتَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي ذلك, فأنزل الله تبـارك وتعالـى هذه الاَية, يعلـمهم أن الله قابل توبة من تاب منهم. ذكر من قال ذلك:
20123ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, قال: ثنـي يعلـى بن مسلـم عن سعيد بن جُبـير, عن ابن عبـاس, أن ناسا من أهل الشرك قَتَلُوا فأكثروا, فأتوا مـحمدا صلى الله عليه وسلم, فقالوا: إن الذي تدعونا إلـيه الـحسن, لو تـخبرنا أن لـما عملنا كفـارة, فنزلت: وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلها آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النّفْسَ التـي حَرّمَ اللّهُ إلاّ بـالـحَقّ, وَلا يَزْنُونَ, ونزلت: قُلْ يا عِبـادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا عَلـى أنْفُسِهمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ... إلـى قوله: مِنْ قَبْلِ أنْ يَأْتِـيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وأنْتُـمْ لا تَشْعُرُونَ قال ابن جُرَيج: وقال مـجاهد مثل قول ابن عبـاس سواء.
20124ـ حدثنا عبد الله بن مـحمد الفريابـي, قال: حدثنا سفـيان, عن أبـي معاوية, عن أبـي عمرو الشيبـانـي, عن عبد الله, قال: سألت النبـيّ صلى الله عليه وسلم: ما الكبـائر؟ قال: «أنْ تَدْعُوَ لِلّهِ نِدّا وَهُوَ خَـلَقَك وأنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مِنْ أجْلِ أنْ يأكُلَ مَعَكَ, وأَنْ تَزْنِـيَ بِحَلِـيـلَةِ جارِكَ», وقرأ علـينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من كتاب الله: وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلها آخَرَ, وَلا يَقْتُلُونَ النّفْسَ الّتِـي حَرّمَ اللّهُ إلاّ بـالـحَقّ, وَلا يَزْنُونَ.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو عامر, قال: حدثنا سفـيان عن الأعمش ومنصور, عن أبـي وائل عن عمرو بن شُرَحْبِـيـلِ, عن عبد الله, قال: قلت: يا رسول الله, أيّ الذنب أعظم؟ قال: «أنْ تَـجْعَلَ لِلّهِ ندّا وَهُوَ خَـلَقَكَ», قلت: ثم أيّ؟ قال: «أنْ تَقْتُل وَلَدَكَ خَشْيَةَ أنْ يأكُلَ مَعَكَ», قلت: ثم أيّ؟ قال: «ثُمّ أنْ تُزَانِـيَ حَلِـيـلَةَ جارِكَ», فأنزل تصديق قول النبـيّ صلى الله عليه وسلم: وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلها آخَرَ, وَلا يَقْتُلُونَ النّفْسَ التـي حَرّمَ اللّهُ إلاّ بـالـحَقّ, وَلا يَزْنُونَ»... الاَية.
حدثنا سلـيـمان بن عبد الـجبـار, قال: حدثنا علـيّ بن قادم, قال: حدثنا أسبـاط بن نصر الهمدانـي, عن منصور عن أبـي وائل, عن أبـي ميسرة, عن عبد الله بن مسعود, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم, نـحوه.
حدثنـي عيسى بن عثمان بن عيسى الرملـيّ, قال: ثنـي عمي يحيى بن عيسى, عن الأعمش, عن سفـيان, عن عبد الله قال: جاء رجل إلـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أيّ الذنب أكبر؟ ثم ذكر نـحوه.
حدثنـي أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا عامر بن مدرك, قال: حدثنا السريّ, يعنـي ابن إسماعيـل قال: حدثنا الشعبـيّ, عن مسروق, قال: قال عبد الله: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم, فـاتبعته, فجلس علـى نَشَز من الأرض, وقعدت أسفل منه, ووجهي حيال ركبتـيه, فـاغتنـمت خـلوته, وقلت: بأبـي وأمي يا رسول الله, أيّ الذنوب أكبر؟ قال: «أنْ تَدْعُوَ لِلّهِ نِدّا وَهُوَ خَـلَقَكَ». قلت: ثم مَهْ؟ قال: «أنْ تَقْتُلَ وَلَدَكِ كَرَاهِيَةَ أنْ يَطْعَمَ مَعَكَ». قلت: ثم مَهْ؟ قال: «أنْ تُزانِـيَ حَلِـيـلَةَ جارِكَ», ثم تلا هذه الاَية: «وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلها آخَرَ»... إلـى آخر الاَية.
20125ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا طَلْق بن غنام, عن زائدة, عن منصور, قال: ثنـي سعيد بن جُبـير, أو حُدثت عن سعيد بن جُبـير, أن عبد الرحمن بن أبْزى أمره أن يسأل ابن عبـاس عن هاتـين الاَيتـين التـي فـي النساء وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمنا مُتَعَمّدا... إلـى آخر الاَية, والاَية التـي فـي الفرقان وَمَنْ يَفْعَلْ ذلكَ يَـلْقَ أثاما... إلـى ويَخْـلُدْ فِـيهِ مُهانا قال ابن عبـاس: إذا دخـل الرجل فـي الإسلام, وعلـم شرائعه وأمره, ثم قتل مؤمنا متعمدا, فلا توبة له. والتـي فـي الفرقان, لـما أنزلت قال الـمشركون من أهل مكة: فقد عدلنا بـالله, وقتلنا النفس التـي حرّم الله بغير الـحقّ, فما ينفعنا الإسلام؟ قال: فنزلت إلاّ مَنْ تابَ قال: فمن تاب منهم قُبل منه.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن منصور, قال: ثنـي سعيد بن جُبـير, أو قال: حدثنـي الـحكم عن سعيد بن جُبـير, قال: أمرنـي عبد الرحمن بن أبزى, فقال: سل ابن عبـاس, عن هاتـين الاَيتـين, ما أمرهما عن الاَية التـي فـي الفرقان وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلَهَا آخَرَ, وَلا يَقْتُلُونَ النّفْسَ الّتِـي حَرّمَ اللّهُ... الاَية, والتـي فـي النساء وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّـمُ. فسألت ابن عبـاس عن ذلك, فقال: لـما أنزل الله التـي فـي الفرقان, قال مشركو أهل مكة: قد قتلنا النفس التـي حرّم الله, ودعونا مع الله إلها آخر, فقال: إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ وَعمِلَ عَمَلاً صالِـحا... الاَية. فهذه لأولئك. وأما التـي فـي النساء وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّـمُ... الاَية, فإن الرجل إذا عرف الإسلام, ثم قتل مؤمنا متعمدا, فجزاؤه جهنـم, فلا توبة له. فذكرته لـمـجاهد, فقال: إلا من ندم.
حدثنا مـحمد بن وعوف الطائي, قال: حدثنا أحمد بن خالد الذهنـيّ, قال: حدثنا شيبـان, عن منصور بن الـمعتـمر, قال: ثنـي سعيد بن جُبـير, قال لـي سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى: سل ابن عبـاس عن هاتـين الاَيتـين عن قول الله: وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلَها آخرَ... إلـى مَنْ تابَ, وعن قوله وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا... إلـى آخر الاَية. قال: فسألت عنها ابن عبـاس, فقال: أنزلت هذه الاَية فـي الفرقان بـمكة إلـى قوله ويَخْـلُدْ فِـيهِ مُهانا فقال الـمشركون: فما يغنـي عنا الإسلام, وقد عدلنا بـالله, وقتلنا النفس التـي حرّم الله, وأتـينا الفواحش, قال: فأنزل الله إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ وَعمِلَ عَمَلاً صَالِـحا... إلـى آخر الاَية, قال: وأما من دخـل فـي الإسلام وعقَله, ثم قتل, فلا توبة له.
20126ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا ابن أبـي عديّ, عن شعبة, عن أبـي بشر, عن سعيد بن جُبـير, عن ابن عبـاس, قال فـي هذه الاَية وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلَها آخَرَ, وَلا يَقْتُلُونَ النّفْسَ التـي حَرّم اللّهُ إلاّ بـالـحَقّ... الاَية, قال: نزلت فـي أهل الشرك.
حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن منصور, عن سعيد بن جُبـير, قال: أمرنـي عبد الرحمن بن أبزى أن أسأل ابن عبـاس عن هذه الاَية وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلَها آخَرَ, فذكر نـحوه.
20127ـ حدثنـي عبد الكريـم بن عمير, قال: حدثنا إبراهيـم بن الـمنذر, قال: حدثنا عيسى بن شعيب بن ثَوْبـان, مولًـى لبنـي الديـل من أهل الـمدينة, عن فُلَـيح الشماس, عن عبـيد بن أبـي عبـيد, عن أبـي هريرة, قال: صلـيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العَتَـمة, ثم انصرفت فإذا امرأة عند بـابـي, ثم سلـمت, ففتـحت ودخـلت, فبـينا أنا فـي مسجدي أصلـي, إذ نقرت البـاب, فأذنت لها, فدخـلت فقالت: إنـي جئتك أسألك عن عمل عملت, هل لـي من توبة؟ فقالت: إنـي زنـيت وولدتُ, فقتلته, فقلت: لا, ولا نعمت العين ولا كرامة. فقامت وهي تدعو بـالـحسرة تقول: يا حسرتاه, أخُـلِقَ هذا الـحسن للنار؟ قال: ثم صلـيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح من تلك اللـيـلة, ثم جلسنا ننتظر الإذن علـيه, فأذن لنا, فدخـلنا, ثم خرج من كان معي, وتـخـلفت, فقال: «ما لَكَ يا أبـا هُرَيْرَةَ, ألَكَ حاجَةٌ؟» فقلت له: يا رسول الله صلـيت معك البـارحة, ثم انصرفت. وقصصت علـيه ما قالت الـمرأة, فقال النبـيّ صلى الله عليه وسلم: «ما قُلْتَ لَهَا؟» قال: قلت لها: لا والله ولا نعمت العين ولا كرامة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بئْسَ ما قُلْتَ أمَا كُنْتَ تَقْرأُ هَذِهِ الاَيَةَ»: وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلَهَا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النّفْسَ التـي حَرّمَ اللّهُ إلاّ بـالـحَقّ... الاَية إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ وعَمِلَ عَمَلاً صَالِـحا» فقال أبو هريرة: فخرجت, فلـم أترك بـالـمدينة حصنا ولا دارا إلا وقـفت علـيه, فقلت: إن تكن فـيكم الـمرأة التـي جاءت أبـا هريرة اللـيـلة, فلتأتنـي ولتبشر فلـما صلـيت مع النبـيّ صلى الله عليه وسلم العشاء, فإذا هي عند بـابـي, فقلت: أبشري, فإنـي دخـلت علـى النبـيّ, فذكرت له ما قلتِ لـي, وما قلت لك, فقال: «بئس ما قلت لها, أما كنت تقرأ هذه الاَية؟» فقرأتها علـيها, فخرّت ساجدة, فقالت: الـحمد لله الذي جعل مَخْرجا وتوبة مـما عملت, إن هذه الـجارية وابنها حرّان لوجه الله, وإنـي قد تبت مـما عملت.
20128ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا جعفر بن سلـيـمان, عن عمرو بن مالك, عن أبـي الـجوزاء, قال: اختلفت إلـى ابن عبـاس ثلاث عشرة سنة, فما شيء من القرآن إلا سألته عنه, ورسولـي يختلف إلـى عائشة, فما سمعته ولا سمعت أحدا من العلـماء يقول: إن الله يقول لذنب: لا أغفره.
وقال آخرون: هذه الاَية منسوخة بـالتـي فـي النساء. ذكر من قال ذلك:
20129ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنـي الـمغيرة بن عبد الرحمن الـحرّانـي, عن أبـي الزناد, عن خارجة بن زيد أنه دخـل علـى أبـيه وعنده رجلٍ من أهل العراق, وهو يسأله عن هذه الاَية التـي فـي تبـارك الفرقان, والتـي فـي النساء وَمَنْ يَقتُلْ مُؤمِنا مُتَعَمّدا فقال زيد بن ثابت: قد عرفت الناسخة من الـمنسوخة, نسختها التـي فـي النساء بعدها بستة أشهر.
20130ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, قال: قال الضحاك بن مزاحم: هذه السورة بـينها وبـين النساء وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا ثمان حجج. وقال ابن جُرَيج: وأخبرنـي القاسم بن أبـي بزة أنه سأل سعيد بن جُبـير: هل لـمن قتل مؤمنا متعمدا توبة؟ فقال: لا, فقرأ علـيه هذه الاَية كلها, فقال سعيد بن جُبـير: قرأتها علـى ابن عبـاس كما قرأتها علـيّ, فقال: هذه مكية, نسختها آية مدنـية, التـي فـي سورة النساء. وقد أتـينا علـى البـيان عن الصواب من القول فـي هذه الاَية التـي فـي سورة النساء بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع. وبنـحو الذي قلنا فـي الأثام من القول, قال أهل التأويـل, إلا أنهم قالوا: ذلك عقاب يعاقب الله به من أتـى هذه الكبـائر بواد فـي جهنـم يُدعى أثاما. ذكر من قال ذلك:
20131ـ حدثنـي أحمد بن الـمقدام, قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان, قال: سمعت أبـي يحدّث, عن قَتادة, عن أبـي أيوب الأزدي, عن عبد الله بن عمرو, قال: الأثام: وادٍ فـي جهنـم.
20132ـ حدثنا مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله الله: يَـلْقَ أثاما قال: واديا فـي جهنـم.
20133ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, حدثنا ابن حميد قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا الـحسين, عن يزيد, عن عكرِمة, فـي قوله وَمَنْ يَفْعَلْ ذلكَ يَـلْقَ أثاما قال: واديا فـي جهنـم فـيه الزناة.
20134ـ حدثنـي العبـاس بن أبـي طالب, قال: حدثنا مـحمد بن زياد, قال: حدثنا شرقِـيّ بن قطاميّ, عن لقمان بن عامر الـخزاعيّ, قال: جئت أبـا أُمامة صديّ بن عجلان البـاهلـي, فقلت: حدثنـي حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: فدعا لـي بطعام, ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَوْ أنّ صَخْرَةً زِنَةَ عَشْرِ عَشْرَاوَاتٍ قُذِفَ بِها مِنْ شَفِـيرِ جَهَنّـمَ ما بَلَغَتْ قَعْرَها خَمْسِينَ خَرِيفـا, ثُمّ تَنْتَهي إلـى غَيَ وأثامٍ». قلت: وما غيّ وأثام؟ قال: بِئْرَانِ فِـي أسْفَلِ جَهَنّـمَ يَسِيـلُ فِـيهِما صَدِيدُ أهْلِ النّارِ, وهما اللذان ذكر الله فـي كتابه أضَاعُوا الصّلاَةَ وَاتّبَعُوا الشّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَـلْقَوْنَ غَيّا, وقوله فـي الفرقان: وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلكَ يَـلْقَ أثاما.
20135ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: يَـلْقَ أثاما قال: الأثام الشرّ, وقال: سيكفـيك ما وراء ذلك: يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِـيَامَةِ, ويَخْـلُدْ فِـيهِ مُهَانا.
20136ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, فـي قوله: يَـلْقَ أثاما قال: نكالاً قال: قال: إنه وادٍ فـي جهنـم.
20137ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن هشيـم, قال: أخبرنا زكريا بن أبـي مريـم قال: سمعت أبـا أمامة البـاهلـي يقول: إن ما بـين شفـير جهنـم إلـى قعرها مسيرة سبعين خريفـا بحجر يهوي فـيها أو بصخرة تهوي, عظمها كعشر عشراوات سمان, فقال له رجل: فهل تـحت ذلك من شيء؟ قال: نعم غيّ وأثام.
قوله: يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَوْمَ القِـيامَةِ. اختلفت القرّاء فـي قراءته, فقرأته عامة قرّاء الأمصار سوى عاصم يُضَاعَفْ جزما ويَخْـلُدْ جزما. وقرأه عاصم: يضَاعَفُ رفعا وَيَخْـلُدُ رفعا كلاهما علـى الابتداء, وأن الكلام عنده قد تناهى عند: يَـلْقَ أثاما ثم ابتدأ قوله: يُضَاعَفُ لهُ العَذَابُ.
والصواب من القراءة عندنا فـيه: جزم الـحرفـين كلـيهما: يضاعفْ, ويخـلدْ, وذلك أنه تفسير للأثام لا فعل له, ولو كان فعلاً له كان الوجه فـيه الرفع, كما قال الشاعر:
مَتـى تأْتِهِ تَعْشُو إلـى ضَوْءِ نارِهِتَـجِدْ خيرَ نارٍ عِنْدَها خَيْرُ مُوقِدِ
فرفع تعشو, لأنه فعل لقوله تأته, معناه: متـى تأته عاشيا.
وقوله: ويَخْـلُدْ فِـيهِ مُهانا ويبقـى فـيه إلـى ما لا نهاية فـي هوان. وقوله: إلاّ مَنْ تَابَ وآمَنَ وعَمِلَ عَمَلاً صَالِـحا يقول تعالـى ذكره: ومن يفعل هذه الأفعال التـي ذكرها جلّ ثناؤه يـلقَ أثاما إلاّ مَنْ تابَ يقول: إلا من راجع طاعة الله تبـارك وتعالـى بتركه ذلك, وإنابته إلـى ما يرضاه الله وآمَنَ يقول: وصدق بـما جاء به مـحمد نبـيّ الله وعَمِلَ عَمَلاً صَالِـحا يقول: وعمل بـما أمره الله من الأعمال, وانتهى عما نهاه الله عنه.)
قوله: فَأُولَئِكَ يُبَدّلُ اللّهُ سَيّئاتِهِمْ حَسَناتٍ. اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك, فقال بعضهم: معناه: فأولئك يبدّل الله بقبـائح أعمالهم فـي الشرك, مـحاسن الأعمال فـي الإسلام, فـيبدله بـالشرك إيـمانا, وبقـيـل أهل الشرك بـالله قـيـل أهل الإيـمان به, وبـالزناعفة وإحصانا. ذكر من قال ذلك:
20138ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: فأُولَئِكَ يُبَدّلُ اللّهُ سَيّئاتِهِمْ حَسَناتٍ قال: هم الـمؤمنون كانوا قبل إيـمانهم علـى السيئات, فرغب الله بهم عن ذلك, فحوّلهم إلـى الـحسنات, وأبدلهم مكان السيئات حسنات.
20139ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِـحا... إلـى آخر الاَية, قال: هم الذي يتوبون فـيعملون بـالطاعة, فـيبدّل الله سيئاتهم حسنات حين يتوبون.
20140ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يعقوب, عن سعيد, قال: نزلت وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلَها آخَرَ... إلـى آخر الاَية, فـي وَحْشِيّ وأصحابه, قالوا: كيف لنا بـالتوبة, وقد عبدنا الأوثان, وقتلنا الـمؤمنـين, ونكحنا الـمشركات, فأنزل الله فـيهم: إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ وعَمِلَ عَمَلاً صَالِـحا, فأُولَئِكَ يُبَدّلُ اللّهُ سَيّئاتِهِمْ حَسَناتٍ, فأبدلهم الله بعبـادة الأوثان عبـادة الله, وأبدلهم بقتالهم مع الـمشركين, قتالاً مع الـمسلـمين للـمشركين, وأبدلهم بنكاح الـمشركات نكاح الـمؤمنات.
20141ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: قال ابن جُرَيج, قال ابن عبـاس, فـي قوله: فَأُولَئِكَ يُبَدّلُ اللّهُ سَيّئاتِهِمْ حَسَناتٍ قال: بـالشرك إيـمانا, وبـالقتل إمساكا, وبـالزنا إحصانا.
20142ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلهَا آخَرَ وهذه الاَية مكية نزلت بـمكة وَمَنْ يَفْعَلْ ذلكَ يعنـي: الشرك, والقتل, والزنا جميعا. لـمّا أنزل الله هذه الاَية قال الـمشركون من أهل مكة: يزعم مـحمد أن من أشرك وقتل وزنى فله النار, ولـيس له عند الله خير, فأنزل الله: إلاّ مَنْ تابَ من الـمشركين من أهل مكة, فَأُولَئِكَ يُبَدّلُ اللّهُ سَيّئاتِهِمْ حَسَناتٍ يقول: يبدّل الله مكان الشرك والقتل والزنا: الإيـمان بـالله, والدخول فـي الإسلام, وهو التبديـل فـي الدنـيا. وأنزل الله فـي ذلك. يا عِبـادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا علـى أنْفُسِهِمْ يعنـيهم بذلك لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ, إنّ اللّهَ يَغْفِرُ الذّنُوبَ جَمِيعا يعنـي ما كان فـي الشرك. يقول الله لهم: أنـيبوا إلـى ربكم وأسلـموا له, يدعوهم إلـى الإسلام, فهاتان الاَيتان مكيتان, والتـي فـي النساء وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا... الاَية, هذه مدنـية, نزلت بـالـمدينة, وبـينها وبـين التـي نزلت فـي الفرقان ثمان سنـين, وهي مبهمة لـيس منها مخرج.
20143ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا أبو تُـمَيْـلة, قال: حدثنا أبو حمزة, عن جابر, عن مـجاهد, قال: سُئل ابن عبـاس عن قول الله جلّ ثناؤه: يُبَدّلُ اللّهُ سَيِئاتِهمْ حَسَناتٍ فقال:
بُدّلْنَ بَعْدَ حَرّهِ خَريفـاوَبَعْدَ طُولِ النّفَسِ الوَجِيفـا
20144ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلَهَا آخَرَ... إلـى قوله يَخْـلُدْ فِـيهِ مُهانا: فقال الـمشركون: ولا والله ما كان هؤلاء الذين مع مـحمد إلا معنا, قال: فأنزل الله: إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ. قال: تاب من الشرك, قال: وآمن بعقاب الله ورسوله وعَمِلَ عَمَلاً صَالِـحا, قال: صدّق, فأُولَئِكَ يُبَدّلُ اللّهُ سَيّئاتِهِمْ حَسَناتٍ قال: يبدّل الله أعمالهم السيئة التـي كانت فـي الشرك بـالأعمال الصالـحة حين دخـلوا فـي الإيـمان.
وقال آخرون: بل معنى ذلك, فأولئك يبدّل الله سيئاتهم فـي الدنـيا حسنات لهم يوم القـيامة. ذكر من قال ذلك:
20145ـ حدثنـي أحمد بن عمرو البصريّ, قال: حدثنا قريش بن أنس أبو أنس, قال: ثنـي صالـح بن رستـم, عن عطاء الـخراسانـي, عن سعيد بن الـمسيب فَأُولَئِكَ يُبَدّلُ اللّهُ سَيّئاتِهِمْ حَسَناتٍ قال: تصير سيئاتهم حسنات لهم يوم القـيامة.
20146ـ حدثنا الـحسن بن عرفة, قال: حدثنا مـحمد بن حازم أبو معاوية, عن الأعمش, عن الـمعرور بن سويد, عن أبـي ذرّ, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّـي لأَعْرِفُ آخِرَ أهْلِ النّارِ خُرُوجا مِنَ النّارِ, وآخِرَ أهْلِ النّارِ دُخُولاً الـجَنّةَ, قال: يُؤْتَـى بِرَجُلٍ يَوْمَ القِـيامَةِ, فَـيُقالُ: نَـحّوا كِبـارَ ذُنُوبِهِ وَسَلُوهُ عَنْ صِغارِها, قال: فَـيُقالُ لَهُ: عَمِلْتَ كَذَا وكَذَا, وَعملْتَ كَذَا وكَذَا, قال: فَـيَقُولُ: يا رَبّ لَقَدْ عَمِلْتُ أشْياءَ ما أرَاها هَا هُنا, قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتـى بدت نواجذه, قال: فَـيُقالُ لَهُ: لَكَ مَكانَ كُلّ سَيّئَةِ حَسَنَةٌ».
قال أبو جعفر: وأولَـى التأويـلـين بـالصواب فـي ذلك تأويـل من تأوّله: فأولئك يبدّل الله سيئاتهم: أعمالهم فـي الشرك, حسنات فـي الإسلام, بنقلهم عما يسخطه الله من الأعمال إلـى ما يرضى.
وإنـما قلنا ذلك أولـى بتأويـل الاَية, لأن الأعمال السيئة قد كانت مضت علـى ما كانت علـيه من القُبح, وغير جائز تـحويـل عين قد مضت بصفة, إلـى خلاف ما كانت علـيه, إلا بتغيـيرها عما كانت علـيه من صفتها فـي حال أخرى, فـيجب إن فعل ذلك كذلك, أن يصير شرك الكافر الذي كان شركا فـي الكفر بعينه إيـمانا يوم القـيامة بـالإسلام ومعاصيه كلها بأعيانها طاعة, وذلك ما لا يقوله ذو حجا.
وقوله: وكانَ اللّه غَفُورا رَحِيـما يقول تعالـى ذكره: وكان الله ذا عفو عن ذنوب من تاب من عبـاده, وراجع طاعته, وذا رحمة به أن يعاقبه علـى ذنوبه بعد توبته منها. قوله: وَمَنْ تابَ يقول: ومن تاب من الـمشركين, فآمن بـالله ورسوله وعَمِلَ صَالِـحا يقول: وعمل بـما أمره الله فأطاعه, فإن الله فـاعل به من إبداله سَيِىء أعماله فـي الشرك, بحسنها فـي الإسلام, مثل الذي فعل من ذلك, بـمن تاب وآمن وعمل صالـحا قبل نزول هذه الاَية من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
20147ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَمَنْ تابَ وعَمِلَ صَالِـحا فإنّه يَتُوبُ إلـى اللّهِ مَتابـا قال: هذا للـمشركين الذين قالوا لـما أنزلت وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلهَا آخَرَ... إلـى قوله وكانَ اللّهُ غَفُورا رَحِيـما لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما كان هؤلاء إلا معنا, قال: وَمَنْ تَابَ وعَمِلَ صَالِـحا فإن لهم مثل ما لهؤلاء فإنّهُ يَتُوبُ إلـى اللّهِ مَتابـا لـم تـخطر التوبة علـيكم.
الآية : 72
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَالّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزّورَ وَإِذَا مَرّواْ بِاللّغْوِ مَرّوا كِراماً }.
اختلف أهل التأويـل فـي معنى الزور الذي وصف الله هؤلاء القوم بأنهم لا يشهدونه, فقال بعضهم: معناه الشرك بـالله. ذكر من قال ذلك:
20148ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو عامر, قال: حدثنا سفـيان, عن جويبر, عن الضحاك, فـي قوله: لا يَشْهَدُونَ الزّورَ قال: الشرك.
20149ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله وَالّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزّورَ قال: هؤلاء الـمهاجرون, قال: والزّور قولهم لاَلهتهم, وتعظيـمهم إياها.
وقال آخرون: بل عُنِـي به الغناء. ذكر من قال ذلك:
20150ـ حدثنـي علـي بن عبد الأعلـى الـمـحاربـيّ قال: حدثنا مـحمد بن مروان, عن لـيث, عن مـجاهد فـي قوله: وَالّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزّورَ قال: لا يسمعون الغِناء.
وقال آخرون: هو قول الكذب. ذكر من قال ذلك:
20151ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, قوله: وَالّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزّورَ قال: الكذب.
قال أبو جعفر: وأصل الزّور تـحسين الشيء, ووصفه بخلاف صفته, حتـى يخيّـل إلـى من يسمعه أو يراه, أنه خلاف ما هو به, والشرك قد يدخـل فـي ذلك, لأنه مـحسّن لأهله, حتـى قد ظنوا أنه حقّ, وهو بـاطل, ويدخـل فـيه الغناء, لأنه أيضا مـما يحسنه ترجيع الصوت, حتـى يستـحلـي سامعُه سماعَه, والكذب أيضا قد يدخـل فـيه, لتـحسين صاحبه إياه, حتـى يظنّ صاحبه أنه حقّ, فكل ذلك مـما يدخـل فـي معنى الزّور.
فإذا كان ذلك كذلك, فأولـى الأقوال بـالصواب فـي تأويـله أن يقال: والذين لا يشهدون شيئا من البـاطل, لا شركا, ولا غناء, ولا كذبـا ولا غيره, وكلّ ما لزمه اسم الزور, لأن الله عمّ فـي وصفه إياهم, أنهم لا يشهدون الزور, فلا ينبغي أن يُخَصّ من ذلك شيء إلا بحجة يجب التسلـيـم لها, من خبر أو عقل.
وقوله: وَإذَا مَرّوا بـاللّغْوِ مَرّوا كِرَاما اختلف أهل التأويـل فـي معنى اللغو الذي ذُكر فـي هذا الـموضع, فقال بعضهم: معناه: ما كان الـمشركون يقولونه للـمؤمنـين, ويكلـمونهم به من الأذى. ومرورهم به كراما: إعراضهم عنهم وصفحهم. ذكر من قال ذلك:
20152ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: وَإذَا مَرّوا بـاللّغْوِ مَرّوا كِرَاما قال: صفحوا.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, قوله وَإذَا مَرّوا بـاللّغْوِ مَرّوا كِرَاما قال: إذا أوذوا مرّوا كراما, قال: صفحوا.
وقال آخرون: بل معناه: مرّوا بذكر النكاح, كفوا عنه. ذكر من قال ذلك:
20153ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا العوّام بن حوشب, عن مـجاهد وَإذَا مَرّوا بـاللّغْوِ مَرّوا كِرَاما قال: إذا ذكروا النكاح كَفّوا عنه.
حدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الأشيب, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا العوّام بن حوشب, عن مـجاهد, وَإذَا مَرّوا كِرَاما قال: كانوا إذا أتوا علـى ذكر النكاح كفوا عنه.
20154ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا الـمعتـمر, عن أبـي مخزوم, عن سيار وَإذَا مَرّوا بـاللّغْوِ مَرّوا كِرَاما إذا مرّوا بـالرفَث كفّوا.
وقال آخرون: إذا مرّوا بـما كان الـمشركون فـيه من البـاطل مرّوا منكرين له. ذكر من قال ذلك:
20155ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَإذَا مَرّوا بـاللّغْوِ مَرّوا كِرَاما قال: هؤلاء الـمهاجرون, واللغو ما كانوا فـيه من البـاطل, يعنـي الـمشركين وقرأ: فَـاجْتَنِبُوا الرّجْسَ مِنَ الأَوْثانِ.
وقال آخرون: عُنى بـاللغو ها هنا: الـمعاصي كلها. ذكر من قال ذلك:
20156ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن الـحسن, فـي قوله: وَإذَا مَرّوا بـاللّغْوِ مَرّوا كِرَاما قال: اللغو كله: الـمعاصي.
قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب عندي, أن يقال: إن الله أخبر عن هؤلاء الـمؤمنـين الذين مدحهم بأنهم إذا مرّوا بـاللغو مرّوا كراما, واللغو فـي كلام العرب هو كل كلام أو فعل بـاطل لا حقـيقة له ولا أصل, أو ما يستقبح فسبّ الإنسان الإنسان بـالبـاطل الذي لا حقـيقة له من اللّغو. وذكر النكاح بصريح اسمه مـما يُستقبح فـي بعض الأماكن, فهو من اللغو, وكذلك تعظيـم الـمشركين آلهتهم من البـاطل الذي لا حقـيقة لـما عظموه علـى نـحو ما عظموه, وسماع الغناء مـما هو مستقبح فـي أهل الدين, فكل ذلك يدخـل فـي معنى اللغو, فلا وجه إذ كان كل ذلك يـلزمه اسم اللغو, أن يقال: عُنـي به بعض ذلك دون بعض, إذ لـم يكن لـخصوص ذلك دلالة من خبر أو عقل. فإذا كان ذلك كذلك, فتأويـل الكلام: وإذا مرّوا بـالبـاطل فسمعوه أو رأوه, مرّوا كراما مرورهم كراما فـي بعض ذلك بأن لا يسمعوه, وذلك كالغناء. وفـي بعض ذلك بأن يعرضوا عنه ويصفحوا, وذلك إذا أوذوا بإسماع القبـيح من القول. وفـي بعضه بأن يَنْهَوْا عن ذلك, وذلك بأن يروا من الـمنكر ما يغيّر بـالقول فـيغيروه بـالقول. وفـي بعضه بأن يضاربوا علـيه بـالسيوف, وذلك بأن يروا قوما يقطعون الطريق علـى قوم, فـيستصرخهم الـمراد ذلك منهم, فـيصرخونهم, وكلّ ذلك مرورهم كراما. وقد:
20157ـ حدثنـي ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا مـحمد بن مسلـم, عن إبراهيـم بن ميسرة, قال: مرّ ابن مسعود بلهو مسرعا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنْ أصْبَحَ ابْنُ مَسْعُودٍ لَكَرِيـما».
وقـيـل: إن هذه الاَية مكية. ذكر من قال ذلك:
20158ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, قال: سمعت السديّ يقول: وَإذَا مَرّوا بـاللّغْوِ مَرّوا كِرَاما قال: هي مكية, وإنـما عنى السديّ بقوله هذا إن شاء الله, أن الله نسخ ذلك بأمره الـمؤمنـين بقتال الـمشركين بقوله: فَـاقْتُلُوا الـمُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُـمُوهُمْ وأمرهم إذا مرّوا بـاللّغو الذي هو شرك, أن يُقاتلوا أمراءه, وإذا مرّوا بـاللغو, الذي هو معصية لله أن يغيروه, ولـم يكونوا أمروا بذلك بـمكة, وهذا القول نظير تأويـلنا الذي تأوّلناه فـي ذلك.
الآية : 73
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَالّذِينَ إِذَا ذُكّرُواْ بِآيَاتِ رَبّهِمْ لَمْ يَخِرّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً }.
يقول تعالـى ذكره: والذين إذا ذكّرهم مذكر بحجج الله, لـم يكونوا صُما لا يسمعون, وعميا لا يبصرونها. ولكنهم يقاظُ القلوب, فهماء العقول, يفهمون عن الله ما يذكّرهم به, ويفهمون عنه ما ينبههم علـيه, فـيوعون مواعظة آذانا سمعته, وقلوبـا وعته. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
20159ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله: لَـمْ يَخِرّوا عَلَـيْها صُمّا وعُمْيانا فلا يسمعون, ولا يبصرون, ولا يفقهون حقا.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, قوله وَالّذِينَ إذَا ذُكّرُوا بآياتِ رَبّهِمْ لَـمْ يَخِرّوا عَلَـيْها صُمّا وعُمْيانا قال: لا يفقهون, ولا يسمعون, ولا يبصرون.
20160ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا ابن عُلَـية, عن ابن عون, قال: قلت للشعبـيّ: رأيت قوما قد سجدوا, ولـم أعلـم ما سجدوا منه, أسجد؟ قال: وَالّذِينَ إذَا ذُكّرُوا بآيات رَبّهِمْ لَـمْ يَخِرّوا عَلَـيْها صُمّا وعُمْيانا.
20161ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله وَالّذِينَ إذَا ذُكّرُوا بآياتِ رَبّهِمْ لَـمْ يَخِرّوا عَلَـيْها صُمّا وعُمْيانا قال: هذا مثل ضربه الله لهم, لـم يَدَعوها إلـى غيرها, وقرأ قول الله: إنّـمَا الـمُؤْمِنُونَ الّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهمْ... الاَية.
فإن قال قائل: وما معنى قوله يَخِرّوا عَلَـيْها صُمّا وعُمْيانا أَو يَخرّ الكافرون صُمّا وعُمْيانا إذا ذُكروا بآيات الله, فُـيْنَفـى عن هؤلاء ما هو صفة للكفـار؟ قـيـل: نعم, الكافر إذا تُلـيت علـيه آيات الله خرّ علـيها أصمّ وأعمى, وخَرّه علـيها كذلك, إقامته علـى الكفر, وذلك نظير قول العرب: سَبَبْتُ فلانا, فقام يبكي, بـمعنى فظلّ يبكي, ولا قـيام هنالك, ولعله أن يكون بكى قاعدا وكما يقال: نهيت فلانا عن كذا, فقعديشتـمنـي ومعنى ذلك: فجعل يشتـمنـي, وظلّ يشتـمنـي, ولا قعود هنالك, ولكن ذلك قد جرى علـى ألسن العرب, حتـى قد فهموا معناه. وذكر الفرّاء أنه سمع العرب تقول: فعد يشتـمنـي, كقولك: قام يشتـمنـي, أقبل يشتـمنـي قال: وأنشد بعض بنـي عامر:
لا يُقْنعُ الـجارِيَةَ الـخِضَابُ وَلا الوِشاحان وَلا الـجِلْبـابُ
مِن دونِ أن تَلْتَقِـيَ الأرْكابُ وَيَقْعُدَ الأَيْرُ لَهُ لُعابُ
بـمعنى: يصير, فكذلك قوله: لَـمْ يَخِرّوا عَلَـيْها صُمّا وعُمْيانا إنـما معناه: لـم يَصَمّوا عنها, ولا عموا عنها, ولـم يصيروا علـى بـاب ربهم صُمّا وعمْيانا, كما قال الراجز:
وَيَقْعُدَ الهَنُ لهُ لُعابُ بـمعنى: ويصير.
الآية : 74
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَالّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرّيّاتِنَا قُرّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتّقِينَ إِمَاماً }.
يقول تعالـى ذكره: والذين يرغبون إلـى الله فـي دعائهم ومسألتهم بأن يقولوا: رَبّنا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرّيّاتِنَا ما تقرّ به أعيننا من أن تريناهم يعملون بطاعتك. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
20162ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله هَبْ لَنا مِنْ أزْوَاجِنا وَذُرّيّاتِنا قُرّةَ أعْيُنٍ يعنون: من يعمل لك بـالطاعة, فتقرّ بهم أعيننا فـي الدنـيا والاَخرة.
20163ـ حدثنـي أحمد بن الـمقدام, قال: حدثنا حزم, قال: سمعت كثـيرا سأل الـحسن, قال: يا أبـا سعيد, قول الله هَبْ لَنا مِن أزْوَاجِنا وَذُرّيّاتِنا قُرّةَ أعْيُنٍ فـي الدنـيا والاَخرة, قال: لا بل فـي الدنـيا, قال: وما ذاك؟ قال: الـمؤمن يرى زوجته وولده يطيعون الله.
20164ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان, عن أبـيه, قال: قرأ حضرمي: رَبّنا هَبْ لَنا مِنْ أزْوَاجنا وَذُرّيّاتِنا قُرّةَ أعْيُنٍ قال: وإنـما قرّة أعينهم أن يروهم يعملون بطاعة الله.
20165ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا ابن الـمبـارك, عن ابن جُرَيج فـيـما قرأنا علـيه فـي قوله: هَبْ لَنا مِنْ أزْوَاجِنا وَذُرّيّاتِنا قُرّةَ أعْيُنٍ قال: يعبدونك فـيحسنون عبـادتك, ولا يجرون الـجرائر.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: قال ابن جُرَيج, قوله رَبّنا هَبْ لَنا مِنْ أزْوَاجِنا وَذُرّيّاتِنا قُرّةَ أعْيُنٍ قال: يعبدونك يحسنون عبـادتك, ولا يجرّون علـينا الـجرائر.
20166ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله وَالّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنا هَبْ لَنا مِنْ أزْوَاجِنا وَذُرّيّاتِنا قُرّةَ أعْيُنٍ قال: يسألون الله لأزواجهم وذرياتهم أن يهديهم للإسلام.
20167ـ حدثنا مـحمد بن عون, قال: حدثنا مـحمد بن إسماعيـل بن عياش, قال: ثنـي أبـي, عن صفوان بن عمرو, عن عبد الرحمن بن جُبـير بن نُفَـير, عن أبـيه, قال: جلسنا إلـى الـمقداد بن الأسود, فقال: لقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علـى أشدّ حالة بُعث علـيها نبـيّ من الأنبـياء فـي فترة وجاهلـية, ما يرون دينا أفضل من عبـادة الأوثان, فجاء بفرقان فَرَق به بـين الـحقّ والبـاطل, وفَرّق بـين الوالد وولده, حتـى إنْ كان الرجل لـيرى ولده ووالده وأخاه كافرا وقد فتـح الله قـفل قلبه بـالإسلام, فـيعلـم أنه إن مات دخـل النار, فلا تقرّ عينه, وهو يعلـم أن حبـيبه فـي النار, وإنها للتـي قال الله: وَالّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنا هَبْ لَنا مِنْ أزْوَاجِنا وَذُرّيّاتِنا قُرّةَ أعْيُنٍ... الاَية.
حدثنـي ابن عون, قال: ثنـي علـيّ بن الـحسن العسقلانـيّ, عن عبد الله بن الـمبـارك, عن صفوان, عن عبد الرحمن بن جُبـير بن نُفَـير, عن أبـيه, عن الـمقداد, نـحوه.
وقـيـل: هب لنا قرّة أعين, وقد ذكر الأزواج والذريات وهم جمع, وقوله: قُرّة أعْيُنٍ واحدة, لأن قوله: قرّة أعين مصدر من قول القائل: قرّت عينك قرّة, والـمصدر لا تكاد العرب تـجمعه.
وقوله: وَاجْعَلْنا للْـمُتّقِـينَ إماما اختلف أهل التأويـل فـي تأويـله, فقال بعضهم: معناه: اجعلنا أثمة يَقتَدِي بنا من بعدنا. ذكر من قال ذلك:
20168ـ حدثنـي ابن عبد الأعلـى بن واصل, قال: ثنـي عون بن سلام, قال: أخبرنا بشر بن عمارة عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس, فـي قوله: وَاجْعَلْنا للـمْتّقِـينَ إماما يقول: أئمة يُقتدى بنا.
حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله وَاجْعَلْنا للْـمُتّقِـينَ إماما أثمة التقوى ولأهله يقتدى بنا. قال ابن زيد: كما قال لإبراهيـم: إنـي جاعِلُكَ للنّاس إماما.
وقال آخرون: بل معناه: واجعلنا للـمتقـين إماما: نأتـمّ بهم, ويأتـمّ بنا من بعدنا. ذكر من قال ذلك:
20169ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا مؤمل, قال: حدثنا ابن عيـينة, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله: وَاجْعَلْنا للْـمُتّقِـين إماما قال: أئمة نقتدي بـمن قبلنا, ونكون أئمة لـمن بعدنا.
20170ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا ابن عيـينة, عن أبن أبـي نـجيح, عن مـجاهد وَاجْعَلْنا للـمُتّقِـينَ إماما قال: اجعلنا مؤتـمين بهم, مقتدين بهم.
قال أبو جعفر: وأولـى القولـين فـي ذلك بـالصواب قول من قال: معناه: واجعلنا للـمتقـين الذين يتقون معاصيك, ويخافون عقابك إماما يأتـمون بنا فـي الـخيرات, لأنهم إنـما سألوا ربهم أن يجعلهم للـمتقـين أئمة, ولـم يسألوه أن يجعل الـمتقـين لهم إماما, وقال وَاجْعَلْنا للْـمُتّقِـينَ إماما ولـم يقل أئمة. وقد قالوا: واجعلنا وهم جماعة, لأن الإمام مصدر من قول القائل: أمّ فلان فلانا إماما, كما يقال: قام فلان قـياما, وصام يوم كذا صياما. ومن جمع الإمام أئمة, جعل الإمام اسما, كما يقال: أصحاب مـحمد إمام, وأئمة للناس. فمن وحّد قال: يأتـمّ بهم الناس. وهذا القول الذي قلناه فـي ذلك قول بعض نـحويّـي أهل الكوفة. وقال بعض أهل البصرة من أهل العربـية: الإمام فـي قوله: للْـمُتّقِـينَ إماما جماعة, كما تقول: كلهم عُدُول. قال: ويكون علـى الـحكاية, كما يقول القائل إذا قـيـل له: من أميركم: هؤلاء أميرنا. واستشهد لذلك بقول الشاعر:
يا عاذِلاتـي لا تُرِدْنَ مَلامَتِـي إنّ العَوَاذلَ لَسْنَ لـي بأمِيرِ
الآية : 75
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أُوْلَـَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقّوْنَ فِيهَا تَحِيّةً وَسَلاَماً }.
يقول تعالـى ذكره: هؤلاء الذين وصفت صفتهم من عبـادي, وذلك من ابتداء قوله: وَعِبـادُ الرّحْمَنِ الّذِينَ يَـمْشُونَ علـى الأرْضِ هَوْنا... إلـى قوله: وَالّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنا هَبْ لَنا مِنْ أزْوَاجِنا... الاَية يُجْزَوْنَ يقول: يُثابون علـى أفعالهم هذه التـي فعلوها فـي الدنـيا الغُرْفَةَ وهي منزلة من منازل الـجنة رفـيعة بِـمَا صَبرُوا يقول: بصبرهم علـى هذه الأفعال, ومقاساة شدتها. وقوله: وَيُـلَقّوْنَ فِـيها تَـحِيّةً وَسَلاما اختلفت القرّاء فـي قراءته, فقرأته عامة قرّاء أهل الـمدينة والبصرة: وَيُـلَقّوْنَ مضمومة الـياء, مشدّدة القاف, بـمعنى: وتتلقاهم الـملائكة فـيها بـالتـحية. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة: «ويَـلْقَوْنَ» بفتـح الـياء, وتـخفـيف القاف.
والصواب من القول فـي ذلك أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان فـي قَرَأَة الأمصار, بـمعنى واحد, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب, غير أن أعجب القراءتـين إلـيّ أن أقرأ بها «وَيَـلْقَوْنَ فِـيها» بفتـح الـياء, وتـخفـيف القاف, لأن العرب إذا قالت ذلك بـالتشديد, قالت: فلان يُتَلَقّـى بـالسلام وبـالـخير, ونـحن نَتَلقاهم بـالسلام, قرنته بـالـياء, وقلـما تقول: فلان يُـلَقّـى السلام, فكان وجه الكلام, لو كان بـالتشديد, أن يقال: ويُتَلَقّون فـيها بـالتـحية والسلام. وإنـما اخترنا القراءة بذلك, كما تـجيز: أخذت بـالـخطام, وأخذتُ الـخطام. وقد بـيّنا معنى التـحية والسلام فـيـما مضى قبل, فأغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.
الآية : 76 - 77
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً * قُلْ مَا يَعْبَاُ بِكُمْ رَبّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ فَقَدْ كَذّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً }.
يقول تعالـى ذكره: أولئك يجزون الغرفة بـما صبروا, خالدين فـي الغرفة, يعنـي أنهم ماكثون فـيها, لابثون إلـى غير أمد, حسنت تلك الغرفة قرارا لهم ومقاما. يقول: وإقامة. وقوله: قُلْ ما يَعْبَأُ بِكُمْ ربّـي يقول جلّ ثناؤه لنبـيه: قل يا مـحمد لهؤلاء الذين أرسلت إلـيهم: أيّ شيء يَعُدّكم, وأيّ شيء يصنع بكم ربـي؟ يقال منه: عبأت به أعبأ عبئا, وعبأت الطيب أعبؤه: إذا هيأته, كما قال الشاعر:
كأنّ بِنَـحْرِهِ وبِـمَنْكِبَـيْهِعَبِـيرا بـاتَ يَعْبَؤُهُ عَرُوسُ
يقول: يهيئه ويعمله يعبؤُه عبـا وعبوءا, ومنه قولهم: عَبّأت الـجيش بـالتشديد والتـخفـيف فأنا أعبئه: أُهَيّئُهُ. والعِبءُ: الثقل. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
20171ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: قُلْ ما يَعْبأُ بِكُمْ رَبّـي يصنع لولا دعاؤكم.
20172ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله قُلْ ما يَعْبَأُ بِكُمْ رَبّـي قال: يعبأ: يفعل. وقوله: لَوْلا دُعاؤُكُمْ يقول: لولا عبـادة من يعبده منكم, وطاعة من يطيعه منكم. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
20173ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: ما يَعْبَأُ بِكُمْ رَبّـي لَوْلا دُعاؤُكُمْ يقول: لولا إيـمانكم, وأخبر الله الكفـار أنه لا حاجة له بهم إذ لـم يخـلقهم مؤمنـين, ولو كان له بهم حاجة لـحبب إلـيهم الإيـمان كما حبّبه إلـى الـمؤمنـين.
20174ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله لَوْلا دُعاؤُكُمْ قال: لولا دعاؤكم إياه لتعبدوه وتطيعوه.
وقوله فَقَدْ كَذّبْتُـمْ يقول تعالـى ذكره لـمشركي قريش قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقد كذّبتـم أيها القوم رسولكم الذي أرسل إلـيكم وخالفتـم أمر ربكم الذي أمر بـالتـمسك به. لو تـمسكتـم به, كان يعبأ بكم ربـي فسوف يكون تكذيبكم رسول ربكم, وخلافكم أمر بـارئكم, عذابـا لكم ملازما, قتلاً بـالسيوف وهلاكا لكم مفنـيا يـلـحق بعضكم بعضا, كما قال أبو ذُؤَيب الهُذَلـيّ:
فَفـاجأَهُ بِعادِيَةٍ لِزَامٍكمَا يَتَفَجّرُ الـحَوْضُ اللّقِـيفُ
يعنـي بـاللزام: الكبـير الذي يتبع بعضه بعضا, وبـاللقـيف: الـمتساقط الـحجارة الـمتهدّم, ففعل الله ذلك بهم, وصدقهم وعده, وقتلهم يوم بدر بأيدي أولـيائه, وألـحق بعضهم ببعض, فكان ذلك العذاب اللزام. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
20175ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, قال: أخبرنـي مولـى لشقـيق بن ثور أنه سمع سلـمان أبـا عبد الله, قال: صلـيت مع ابن الزّبـير فسمعته يقرأ: فقد كذب الكافرون.
20176ـ حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, قال: حدثنا سعيد بن أدهم السدوسيّ, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة, عن عبد الـمـجيد, قال: سمعت مسلـم بن عمار, قال: سمعت ابن عبـاس يقرأ هذا الـحرف: فقد كذب الكافرون فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاما.
حدثنا مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قُلْ ما يَعْبَأُ بِكُمْ رَبّـي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذّبْتُـمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاما يقول: كذب الكافرون أعداء الله.
20177ـ حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا عبد الأعلـى, قال: حدثنا داود, عن عامر, عن ابن مسعود, قال: فسوف يـلقون لزاما يوم بدر.
20178ـ حدثنـي أبو السائب, قال: حدثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن مسلـم, عن مسروق, قال: قال عبد الرحمن: خمس قد مضين: الدخان, واللزام, والبطشة, والقمر, والروم.
20179ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قَتادة, قوله فَسَوْفَ يكُونُ لِزَاما قال أُبَـيّ بن كعب: هو القتل يوم بدر.
20180ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن عمرو, عن مغيرة, عن إبراهيـم, قال: اللزام: يوم بدر.
20181ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا ابن علـية, عن لـيث, عن مـجاهد فَسَوْفَ يكُونُ لِزَاما قال: هو يوم بدر.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فَسَوْفَ يكُونُ لِزَاما قال: يوم بدر.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, مثله.
قال: ثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو سفـيان, عن مَعْمر, عن منصور, عن سفـيان, عن ابن مسعود, قال: اللزام: القتل يوم بدر.
20182ـ حُدثت عن الـحسين قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: فَقَدْ كَذّبْتُـمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاما الكفـار كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, وبـما جاء به من عند الله, فسوف يكون لزاما, وهو يوم بدر.
20183ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن مغيرة, عن إبراهيـم, عن عبد الله, قال: قد مضى اللزام, كان اللزام يوم بدر, أسروا سبعين, وقتلوا سبعين.
وقال آخرون: معنى اللزام: القتال. ذكر من قال ذلك:
20184ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاما قال: فسوف يكون قتالاً اللزام: القتال.
وقال آخرون: اللزام: الـموت. ذكر من قال ذلك:
20185ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس فَسَوْفَ يكُونُ لِزَاما قال: موتا.
وقال بعض أهل العلـم بكلام العرب: معنى ذلك: فسوف يكون جزاء يـلزم كل عامل ما عمل من خير أو شرّ. وقد بـيّنا الصواب من القول فـي ذلك. وللنصب فـي اللزام وجه آخر غير الذي قلناه, وهو أن يكون فـي قوله يَكُون مـجهول, ثم ينصب اللزام علـى الـخبر كما قـيـل:
إذَا كان طَعْنا بَـيْنَهُمْ وقتالاً وقد كان بعض من لا علـم له بأقوال أهل العلـم يقول فـي تأويـل ذلك: ما يعبأ بكم ربـي لولا دعاؤكم ما تَدْعون من دونه من الاَلهة والأنداد, وهذا قول لا معنى للتشاغل به لـخروجه عن أقوال أهل العلـم من أهل التأويـل.
آخر (تفسير) سورة الفرقان, والـحمد لله وحده.
نهاية تفسير الإمام الطبري لسورة الفرقان
367
365
الآية : 68 - 71
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَالّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إِلَـَهَا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلاّ بِالْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلاّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَـَئِكَ يُبَدّلُ اللّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً * وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنّهُ يَتُوبُ إِلَى اللّهِ مَتاباً }.
يقول تعالـى ذكره: والذين لا يعبدون مع الله إلها آخر, فـيشركون فـي عبـادتهم إياه, ولكنهم يخـلصون له العبـادة ويفردونه بـالطاعة وَلاَ يَقْتُلُونَ النّفْسَ الّتِـي حَرّمَ اللّهُ قتلها إلاّ بِـالـحَقّ إما بكفر بـالله بعد إسلامها, أو زنا بعد إحصانها, أو قتل نفس, فتقتل بها وَلاَ يَزْنُونَ فـيأتون ما حرّم الله علـيهم إتـيانه من الفروج وَمَنْ يَفْعَلْ ذلكَ يقول: ومن يأت هذه الأفعال, فدعا مع الله إلها آخر, وقتل النفس التـي حرّم الله بغير الـحقّ, وزنى يَـلْقَ أثاما يقول: يـلق من عقاب الله عقوبة ونكالاً, كما وصفه ربنا جلّ ثناؤه, وهو أنه يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَوْمَ القِـيامَةِ ويَخْـلُدْ فِـيهِ مُهانا. ومن الأثام قول بَلْعَاءَ بن قـيس الكنانـي:
جَزَى اللّهُ ابْنَ عُرْوَةَ حيْثُ أمْسَىعُقُوقا والعُقُوقُ لَهُ أَثامُ
يعنـي بـالأثام: العقاب.
وقد ذُكر أن هذه الاَية نزلت علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل قوم من الـمشركين أرادوا الدخول فـي الإسلام, مـمن كان منه فـي شركه هذه الذنوب, فخافوا أن لا ينفعهم مع ما سلف منهم من ذلك إسلام, فـاستفتَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي ذلك, فأنزل الله تبـارك وتعالـى هذه الاَية, يعلـمهم أن الله قابل توبة من تاب منهم. ذكر من قال ذلك:
20123ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, قال: ثنـي يعلـى بن مسلـم عن سعيد بن جُبـير, عن ابن عبـاس, أن ناسا من أهل الشرك قَتَلُوا فأكثروا, فأتوا مـحمدا صلى الله عليه وسلم, فقالوا: إن الذي تدعونا إلـيه الـحسن, لو تـخبرنا أن لـما عملنا كفـارة, فنزلت: وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلها آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النّفْسَ التـي حَرّمَ اللّهُ إلاّ بـالـحَقّ, وَلا يَزْنُونَ, ونزلت: قُلْ يا عِبـادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا عَلـى أنْفُسِهمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ... إلـى قوله: مِنْ قَبْلِ أنْ يَأْتِـيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وأنْتُـمْ لا تَشْعُرُونَ قال ابن جُرَيج: وقال مـجاهد مثل قول ابن عبـاس سواء.
20124ـ حدثنا عبد الله بن مـحمد الفريابـي, قال: حدثنا سفـيان, عن أبـي معاوية, عن أبـي عمرو الشيبـانـي, عن عبد الله, قال: سألت النبـيّ صلى الله عليه وسلم: ما الكبـائر؟ قال: «أنْ تَدْعُوَ لِلّهِ نِدّا وَهُوَ خَـلَقَك وأنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مِنْ أجْلِ أنْ يأكُلَ مَعَكَ, وأَنْ تَزْنِـيَ بِحَلِـيـلَةِ جارِكَ», وقرأ علـينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من كتاب الله: وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلها آخَرَ, وَلا يَقْتُلُونَ النّفْسَ الّتِـي حَرّمَ اللّهُ إلاّ بـالـحَقّ, وَلا يَزْنُونَ.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو عامر, قال: حدثنا سفـيان عن الأعمش ومنصور, عن أبـي وائل عن عمرو بن شُرَحْبِـيـلِ, عن عبد الله, قال: قلت: يا رسول الله, أيّ الذنب أعظم؟ قال: «أنْ تَـجْعَلَ لِلّهِ ندّا وَهُوَ خَـلَقَكَ», قلت: ثم أيّ؟ قال: «أنْ تَقْتُل وَلَدَكَ خَشْيَةَ أنْ يأكُلَ مَعَكَ», قلت: ثم أيّ؟ قال: «ثُمّ أنْ تُزَانِـيَ حَلِـيـلَةَ جارِكَ», فأنزل تصديق قول النبـيّ صلى الله عليه وسلم: وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلها آخَرَ, وَلا يَقْتُلُونَ النّفْسَ التـي حَرّمَ اللّهُ إلاّ بـالـحَقّ, وَلا يَزْنُونَ»... الاَية.
حدثنا سلـيـمان بن عبد الـجبـار, قال: حدثنا علـيّ بن قادم, قال: حدثنا أسبـاط بن نصر الهمدانـي, عن منصور عن أبـي وائل, عن أبـي ميسرة, عن عبد الله بن مسعود, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم, نـحوه.
حدثنـي عيسى بن عثمان بن عيسى الرملـيّ, قال: ثنـي عمي يحيى بن عيسى, عن الأعمش, عن سفـيان, عن عبد الله قال: جاء رجل إلـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أيّ الذنب أكبر؟ ثم ذكر نـحوه.
حدثنـي أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا عامر بن مدرك, قال: حدثنا السريّ, يعنـي ابن إسماعيـل قال: حدثنا الشعبـيّ, عن مسروق, قال: قال عبد الله: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم, فـاتبعته, فجلس علـى نَشَز من الأرض, وقعدت أسفل منه, ووجهي حيال ركبتـيه, فـاغتنـمت خـلوته, وقلت: بأبـي وأمي يا رسول الله, أيّ الذنوب أكبر؟ قال: «أنْ تَدْعُوَ لِلّهِ نِدّا وَهُوَ خَـلَقَكَ». قلت: ثم مَهْ؟ قال: «أنْ تَقْتُلَ وَلَدَكِ كَرَاهِيَةَ أنْ يَطْعَمَ مَعَكَ». قلت: ثم مَهْ؟ قال: «أنْ تُزانِـيَ حَلِـيـلَةَ جارِكَ», ثم تلا هذه الاَية: «وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلها آخَرَ»... إلـى آخر الاَية.
20125ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا طَلْق بن غنام, عن زائدة, عن منصور, قال: ثنـي سعيد بن جُبـير, أو حُدثت عن سعيد بن جُبـير, أن عبد الرحمن بن أبْزى أمره أن يسأل ابن عبـاس عن هاتـين الاَيتـين التـي فـي النساء وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمنا مُتَعَمّدا... إلـى آخر الاَية, والاَية التـي فـي الفرقان وَمَنْ يَفْعَلْ ذلكَ يَـلْقَ أثاما... إلـى ويَخْـلُدْ فِـيهِ مُهانا قال ابن عبـاس: إذا دخـل الرجل فـي الإسلام, وعلـم شرائعه وأمره, ثم قتل مؤمنا متعمدا, فلا توبة له. والتـي فـي الفرقان, لـما أنزلت قال الـمشركون من أهل مكة: فقد عدلنا بـالله, وقتلنا النفس التـي حرّم الله بغير الـحقّ, فما ينفعنا الإسلام؟ قال: فنزلت إلاّ مَنْ تابَ قال: فمن تاب منهم قُبل منه.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن منصور, قال: ثنـي سعيد بن جُبـير, أو قال: حدثنـي الـحكم عن سعيد بن جُبـير, قال: أمرنـي عبد الرحمن بن أبزى, فقال: سل ابن عبـاس, عن هاتـين الاَيتـين, ما أمرهما عن الاَية التـي فـي الفرقان وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلَهَا آخَرَ, وَلا يَقْتُلُونَ النّفْسَ الّتِـي حَرّمَ اللّهُ... الاَية, والتـي فـي النساء وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّـمُ. فسألت ابن عبـاس عن ذلك, فقال: لـما أنزل الله التـي فـي الفرقان, قال مشركو أهل مكة: قد قتلنا النفس التـي حرّم الله, ودعونا مع الله إلها آخر, فقال: إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ وَعمِلَ عَمَلاً صالِـحا... الاَية. فهذه لأولئك. وأما التـي فـي النساء وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّـمُ... الاَية, فإن الرجل إذا عرف الإسلام, ثم قتل مؤمنا متعمدا, فجزاؤه جهنـم, فلا توبة له. فذكرته لـمـجاهد, فقال: إلا من ندم.
حدثنا مـحمد بن وعوف الطائي, قال: حدثنا أحمد بن خالد الذهنـيّ, قال: حدثنا شيبـان, عن منصور بن الـمعتـمر, قال: ثنـي سعيد بن جُبـير, قال لـي سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى: سل ابن عبـاس عن هاتـين الاَيتـين عن قول الله: وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلَها آخرَ... إلـى مَنْ تابَ, وعن قوله وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا... إلـى آخر الاَية. قال: فسألت عنها ابن عبـاس, فقال: أنزلت هذه الاَية فـي الفرقان بـمكة إلـى قوله ويَخْـلُدْ فِـيهِ مُهانا فقال الـمشركون: فما يغنـي عنا الإسلام, وقد عدلنا بـالله, وقتلنا النفس التـي حرّم الله, وأتـينا الفواحش, قال: فأنزل الله إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ وَعمِلَ عَمَلاً صَالِـحا... إلـى آخر الاَية, قال: وأما من دخـل فـي الإسلام وعقَله, ثم قتل, فلا توبة له.
20126ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا ابن أبـي عديّ, عن شعبة, عن أبـي بشر, عن سعيد بن جُبـير, عن ابن عبـاس, قال فـي هذه الاَية وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلَها آخَرَ, وَلا يَقْتُلُونَ النّفْسَ التـي حَرّم اللّهُ إلاّ بـالـحَقّ... الاَية, قال: نزلت فـي أهل الشرك.
حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن منصور, عن سعيد بن جُبـير, قال: أمرنـي عبد الرحمن بن أبزى أن أسأل ابن عبـاس عن هذه الاَية وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلَها آخَرَ, فذكر نـحوه.
20127ـ حدثنـي عبد الكريـم بن عمير, قال: حدثنا إبراهيـم بن الـمنذر, قال: حدثنا عيسى بن شعيب بن ثَوْبـان, مولًـى لبنـي الديـل من أهل الـمدينة, عن فُلَـيح الشماس, عن عبـيد بن أبـي عبـيد, عن أبـي هريرة, قال: صلـيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العَتَـمة, ثم انصرفت فإذا امرأة عند بـابـي, ثم سلـمت, ففتـحت ودخـلت, فبـينا أنا فـي مسجدي أصلـي, إذ نقرت البـاب, فأذنت لها, فدخـلت فقالت: إنـي جئتك أسألك عن عمل عملت, هل لـي من توبة؟ فقالت: إنـي زنـيت وولدتُ, فقتلته, فقلت: لا, ولا نعمت العين ولا كرامة. فقامت وهي تدعو بـالـحسرة تقول: يا حسرتاه, أخُـلِقَ هذا الـحسن للنار؟ قال: ثم صلـيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح من تلك اللـيـلة, ثم جلسنا ننتظر الإذن علـيه, فأذن لنا, فدخـلنا, ثم خرج من كان معي, وتـخـلفت, فقال: «ما لَكَ يا أبـا هُرَيْرَةَ, ألَكَ حاجَةٌ؟» فقلت له: يا رسول الله صلـيت معك البـارحة, ثم انصرفت. وقصصت علـيه ما قالت الـمرأة, فقال النبـيّ صلى الله عليه وسلم: «ما قُلْتَ لَهَا؟» قال: قلت لها: لا والله ولا نعمت العين ولا كرامة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بئْسَ ما قُلْتَ أمَا كُنْتَ تَقْرأُ هَذِهِ الاَيَةَ»: وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلَهَا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النّفْسَ التـي حَرّمَ اللّهُ إلاّ بـالـحَقّ... الاَية إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ وعَمِلَ عَمَلاً صَالِـحا» فقال أبو هريرة: فخرجت, فلـم أترك بـالـمدينة حصنا ولا دارا إلا وقـفت علـيه, فقلت: إن تكن فـيكم الـمرأة التـي جاءت أبـا هريرة اللـيـلة, فلتأتنـي ولتبشر فلـما صلـيت مع النبـيّ صلى الله عليه وسلم العشاء, فإذا هي عند بـابـي, فقلت: أبشري, فإنـي دخـلت علـى النبـيّ, فذكرت له ما قلتِ لـي, وما قلت لك, فقال: «بئس ما قلت لها, أما كنت تقرأ هذه الاَية؟» فقرأتها علـيها, فخرّت ساجدة, فقالت: الـحمد لله الذي جعل مَخْرجا وتوبة مـما عملت, إن هذه الـجارية وابنها حرّان لوجه الله, وإنـي قد تبت مـما عملت.
20128ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا جعفر بن سلـيـمان, عن عمرو بن مالك, عن أبـي الـجوزاء, قال: اختلفت إلـى ابن عبـاس ثلاث عشرة سنة, فما شيء من القرآن إلا سألته عنه, ورسولـي يختلف إلـى عائشة, فما سمعته ولا سمعت أحدا من العلـماء يقول: إن الله يقول لذنب: لا أغفره.
وقال آخرون: هذه الاَية منسوخة بـالتـي فـي النساء. ذكر من قال ذلك:
20129ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنـي الـمغيرة بن عبد الرحمن الـحرّانـي, عن أبـي الزناد, عن خارجة بن زيد أنه دخـل علـى أبـيه وعنده رجلٍ من أهل العراق, وهو يسأله عن هذه الاَية التـي فـي تبـارك الفرقان, والتـي فـي النساء وَمَنْ يَقتُلْ مُؤمِنا مُتَعَمّدا فقال زيد بن ثابت: قد عرفت الناسخة من الـمنسوخة, نسختها التـي فـي النساء بعدها بستة أشهر.
20130ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, قال: قال الضحاك بن مزاحم: هذه السورة بـينها وبـين النساء وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا ثمان حجج. وقال ابن جُرَيج: وأخبرنـي القاسم بن أبـي بزة أنه سأل سعيد بن جُبـير: هل لـمن قتل مؤمنا متعمدا توبة؟ فقال: لا, فقرأ علـيه هذه الاَية كلها, فقال سعيد بن جُبـير: قرأتها علـى ابن عبـاس كما قرأتها علـيّ, فقال: هذه مكية, نسختها آية مدنـية, التـي فـي سورة النساء. وقد أتـينا علـى البـيان عن الصواب من القول فـي هذه الاَية التـي فـي سورة النساء بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع. وبنـحو الذي قلنا فـي الأثام من القول, قال أهل التأويـل, إلا أنهم قالوا: ذلك عقاب يعاقب الله به من أتـى هذه الكبـائر بواد فـي جهنـم يُدعى أثاما. ذكر من قال ذلك:
20131ـ حدثنـي أحمد بن الـمقدام, قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان, قال: سمعت أبـي يحدّث, عن قَتادة, عن أبـي أيوب الأزدي, عن عبد الله بن عمرو, قال: الأثام: وادٍ فـي جهنـم.
20132ـ حدثنا مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله الله: يَـلْقَ أثاما قال: واديا فـي جهنـم.
20133ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, حدثنا ابن حميد قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا الـحسين, عن يزيد, عن عكرِمة, فـي قوله وَمَنْ يَفْعَلْ ذلكَ يَـلْقَ أثاما قال: واديا فـي جهنـم فـيه الزناة.
20134ـ حدثنـي العبـاس بن أبـي طالب, قال: حدثنا مـحمد بن زياد, قال: حدثنا شرقِـيّ بن قطاميّ, عن لقمان بن عامر الـخزاعيّ, قال: جئت أبـا أُمامة صديّ بن عجلان البـاهلـي, فقلت: حدثنـي حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: فدعا لـي بطعام, ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَوْ أنّ صَخْرَةً زِنَةَ عَشْرِ عَشْرَاوَاتٍ قُذِفَ بِها مِنْ شَفِـيرِ جَهَنّـمَ ما بَلَغَتْ قَعْرَها خَمْسِينَ خَرِيفـا, ثُمّ تَنْتَهي إلـى غَيَ وأثامٍ». قلت: وما غيّ وأثام؟ قال: بِئْرَانِ فِـي أسْفَلِ جَهَنّـمَ يَسِيـلُ فِـيهِما صَدِيدُ أهْلِ النّارِ, وهما اللذان ذكر الله فـي كتابه أضَاعُوا الصّلاَةَ وَاتّبَعُوا الشّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَـلْقَوْنَ غَيّا, وقوله فـي الفرقان: وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلكَ يَـلْقَ أثاما.
20135ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: يَـلْقَ أثاما قال: الأثام الشرّ, وقال: سيكفـيك ما وراء ذلك: يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِـيَامَةِ, ويَخْـلُدْ فِـيهِ مُهَانا.
20136ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, فـي قوله: يَـلْقَ أثاما قال: نكالاً قال: قال: إنه وادٍ فـي جهنـم.
20137ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن هشيـم, قال: أخبرنا زكريا بن أبـي مريـم قال: سمعت أبـا أمامة البـاهلـي يقول: إن ما بـين شفـير جهنـم إلـى قعرها مسيرة سبعين خريفـا بحجر يهوي فـيها أو بصخرة تهوي, عظمها كعشر عشراوات سمان, فقال له رجل: فهل تـحت ذلك من شيء؟ قال: نعم غيّ وأثام.
قوله: يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَوْمَ القِـيامَةِ. اختلفت القرّاء فـي قراءته, فقرأته عامة قرّاء الأمصار سوى عاصم يُضَاعَفْ جزما ويَخْـلُدْ جزما. وقرأه عاصم: يضَاعَفُ رفعا وَيَخْـلُدُ رفعا كلاهما علـى الابتداء, وأن الكلام عنده قد تناهى عند: يَـلْقَ أثاما ثم ابتدأ قوله: يُضَاعَفُ لهُ العَذَابُ.
والصواب من القراءة عندنا فـيه: جزم الـحرفـين كلـيهما: يضاعفْ, ويخـلدْ, وذلك أنه تفسير للأثام لا فعل له, ولو كان فعلاً له كان الوجه فـيه الرفع, كما قال الشاعر:
مَتـى تأْتِهِ تَعْشُو إلـى ضَوْءِ نارِهِتَـجِدْ خيرَ نارٍ عِنْدَها خَيْرُ مُوقِدِ
فرفع تعشو, لأنه فعل لقوله تأته, معناه: متـى تأته عاشيا.
وقوله: ويَخْـلُدْ فِـيهِ مُهانا ويبقـى فـيه إلـى ما لا نهاية فـي هوان. وقوله: إلاّ مَنْ تَابَ وآمَنَ وعَمِلَ عَمَلاً صَالِـحا يقول تعالـى ذكره: ومن يفعل هذه الأفعال التـي ذكرها جلّ ثناؤه يـلقَ أثاما إلاّ مَنْ تابَ يقول: إلا من راجع طاعة الله تبـارك وتعالـى بتركه ذلك, وإنابته إلـى ما يرضاه الله وآمَنَ يقول: وصدق بـما جاء به مـحمد نبـيّ الله وعَمِلَ عَمَلاً صَالِـحا يقول: وعمل بـما أمره الله من الأعمال, وانتهى عما نهاه الله عنه.)
قوله: فَأُولَئِكَ يُبَدّلُ اللّهُ سَيّئاتِهِمْ حَسَناتٍ. اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك, فقال بعضهم: معناه: فأولئك يبدّل الله بقبـائح أعمالهم فـي الشرك, مـحاسن الأعمال فـي الإسلام, فـيبدله بـالشرك إيـمانا, وبقـيـل أهل الشرك بـالله قـيـل أهل الإيـمان به, وبـالزناعفة وإحصانا. ذكر من قال ذلك:
20138ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: فأُولَئِكَ يُبَدّلُ اللّهُ سَيّئاتِهِمْ حَسَناتٍ قال: هم الـمؤمنون كانوا قبل إيـمانهم علـى السيئات, فرغب الله بهم عن ذلك, فحوّلهم إلـى الـحسنات, وأبدلهم مكان السيئات حسنات.
20139ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِـحا... إلـى آخر الاَية, قال: هم الذي يتوبون فـيعملون بـالطاعة, فـيبدّل الله سيئاتهم حسنات حين يتوبون.
20140ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يعقوب, عن سعيد, قال: نزلت وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلَها آخَرَ... إلـى آخر الاَية, فـي وَحْشِيّ وأصحابه, قالوا: كيف لنا بـالتوبة, وقد عبدنا الأوثان, وقتلنا الـمؤمنـين, ونكحنا الـمشركات, فأنزل الله فـيهم: إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ وعَمِلَ عَمَلاً صَالِـحا, فأُولَئِكَ يُبَدّلُ اللّهُ سَيّئاتِهِمْ حَسَناتٍ, فأبدلهم الله بعبـادة الأوثان عبـادة الله, وأبدلهم بقتالهم مع الـمشركين, قتالاً مع الـمسلـمين للـمشركين, وأبدلهم بنكاح الـمشركات نكاح الـمؤمنات.
20141ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: قال ابن جُرَيج, قال ابن عبـاس, فـي قوله: فَأُولَئِكَ يُبَدّلُ اللّهُ سَيّئاتِهِمْ حَسَناتٍ قال: بـالشرك إيـمانا, وبـالقتل إمساكا, وبـالزنا إحصانا.
20142ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلهَا آخَرَ وهذه الاَية مكية نزلت بـمكة وَمَنْ يَفْعَلْ ذلكَ يعنـي: الشرك, والقتل, والزنا جميعا. لـمّا أنزل الله هذه الاَية قال الـمشركون من أهل مكة: يزعم مـحمد أن من أشرك وقتل وزنى فله النار, ولـيس له عند الله خير, فأنزل الله: إلاّ مَنْ تابَ من الـمشركين من أهل مكة, فَأُولَئِكَ يُبَدّلُ اللّهُ سَيّئاتِهِمْ حَسَناتٍ يقول: يبدّل الله مكان الشرك والقتل والزنا: الإيـمان بـالله, والدخول فـي الإسلام, وهو التبديـل فـي الدنـيا. وأنزل الله فـي ذلك. يا عِبـادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا علـى أنْفُسِهِمْ يعنـيهم بذلك لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ, إنّ اللّهَ يَغْفِرُ الذّنُوبَ جَمِيعا يعنـي ما كان فـي الشرك. يقول الله لهم: أنـيبوا إلـى ربكم وأسلـموا له, يدعوهم إلـى الإسلام, فهاتان الاَيتان مكيتان, والتـي فـي النساء وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا... الاَية, هذه مدنـية, نزلت بـالـمدينة, وبـينها وبـين التـي نزلت فـي الفرقان ثمان سنـين, وهي مبهمة لـيس منها مخرج.
20143ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا أبو تُـمَيْـلة, قال: حدثنا أبو حمزة, عن جابر, عن مـجاهد, قال: سُئل ابن عبـاس عن قول الله جلّ ثناؤه: يُبَدّلُ اللّهُ سَيِئاتِهمْ حَسَناتٍ فقال:
بُدّلْنَ بَعْدَ حَرّهِ خَريفـاوَبَعْدَ طُولِ النّفَسِ الوَجِيفـا
20144ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلَهَا آخَرَ... إلـى قوله يَخْـلُدْ فِـيهِ مُهانا: فقال الـمشركون: ولا والله ما كان هؤلاء الذين مع مـحمد إلا معنا, قال: فأنزل الله: إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ. قال: تاب من الشرك, قال: وآمن بعقاب الله ورسوله وعَمِلَ عَمَلاً صَالِـحا, قال: صدّق, فأُولَئِكَ يُبَدّلُ اللّهُ سَيّئاتِهِمْ حَسَناتٍ قال: يبدّل الله أعمالهم السيئة التـي كانت فـي الشرك بـالأعمال الصالـحة حين دخـلوا فـي الإيـمان.
وقال آخرون: بل معنى ذلك, فأولئك يبدّل الله سيئاتهم فـي الدنـيا حسنات لهم يوم القـيامة. ذكر من قال ذلك:
20145ـ حدثنـي أحمد بن عمرو البصريّ, قال: حدثنا قريش بن أنس أبو أنس, قال: ثنـي صالـح بن رستـم, عن عطاء الـخراسانـي, عن سعيد بن الـمسيب فَأُولَئِكَ يُبَدّلُ اللّهُ سَيّئاتِهِمْ حَسَناتٍ قال: تصير سيئاتهم حسنات لهم يوم القـيامة.
20146ـ حدثنا الـحسن بن عرفة, قال: حدثنا مـحمد بن حازم أبو معاوية, عن الأعمش, عن الـمعرور بن سويد, عن أبـي ذرّ, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّـي لأَعْرِفُ آخِرَ أهْلِ النّارِ خُرُوجا مِنَ النّارِ, وآخِرَ أهْلِ النّارِ دُخُولاً الـجَنّةَ, قال: يُؤْتَـى بِرَجُلٍ يَوْمَ القِـيامَةِ, فَـيُقالُ: نَـحّوا كِبـارَ ذُنُوبِهِ وَسَلُوهُ عَنْ صِغارِها, قال: فَـيُقالُ لَهُ: عَمِلْتَ كَذَا وكَذَا, وَعملْتَ كَذَا وكَذَا, قال: فَـيَقُولُ: يا رَبّ لَقَدْ عَمِلْتُ أشْياءَ ما أرَاها هَا هُنا, قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتـى بدت نواجذه, قال: فَـيُقالُ لَهُ: لَكَ مَكانَ كُلّ سَيّئَةِ حَسَنَةٌ».
قال أبو جعفر: وأولَـى التأويـلـين بـالصواب فـي ذلك تأويـل من تأوّله: فأولئك يبدّل الله سيئاتهم: أعمالهم فـي الشرك, حسنات فـي الإسلام, بنقلهم عما يسخطه الله من الأعمال إلـى ما يرضى.
وإنـما قلنا ذلك أولـى بتأويـل الاَية, لأن الأعمال السيئة قد كانت مضت علـى ما كانت علـيه من القُبح, وغير جائز تـحويـل عين قد مضت بصفة, إلـى خلاف ما كانت علـيه, إلا بتغيـيرها عما كانت علـيه من صفتها فـي حال أخرى, فـيجب إن فعل ذلك كذلك, أن يصير شرك الكافر الذي كان شركا فـي الكفر بعينه إيـمانا يوم القـيامة بـالإسلام ومعاصيه كلها بأعيانها طاعة, وذلك ما لا يقوله ذو حجا.
وقوله: وكانَ اللّه غَفُورا رَحِيـما يقول تعالـى ذكره: وكان الله ذا عفو عن ذنوب من تاب من عبـاده, وراجع طاعته, وذا رحمة به أن يعاقبه علـى ذنوبه بعد توبته منها. قوله: وَمَنْ تابَ يقول: ومن تاب من الـمشركين, فآمن بـالله ورسوله وعَمِلَ صَالِـحا يقول: وعمل بـما أمره الله فأطاعه, فإن الله فـاعل به من إبداله سَيِىء أعماله فـي الشرك, بحسنها فـي الإسلام, مثل الذي فعل من ذلك, بـمن تاب وآمن وعمل صالـحا قبل نزول هذه الاَية من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
20147ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَمَنْ تابَ وعَمِلَ صَالِـحا فإنّه يَتُوبُ إلـى اللّهِ مَتابـا قال: هذا للـمشركين الذين قالوا لـما أنزلت وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلهَا آخَرَ... إلـى قوله وكانَ اللّهُ غَفُورا رَحِيـما لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما كان هؤلاء إلا معنا, قال: وَمَنْ تَابَ وعَمِلَ صَالِـحا فإن لهم مثل ما لهؤلاء فإنّهُ يَتُوبُ إلـى اللّهِ مَتابـا لـم تـخطر التوبة علـيكم.
الآية : 72
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَالّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزّورَ وَإِذَا مَرّواْ بِاللّغْوِ مَرّوا كِراماً }.
اختلف أهل التأويـل فـي معنى الزور الذي وصف الله هؤلاء القوم بأنهم لا يشهدونه, فقال بعضهم: معناه الشرك بـالله. ذكر من قال ذلك:
20148ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو عامر, قال: حدثنا سفـيان, عن جويبر, عن الضحاك, فـي قوله: لا يَشْهَدُونَ الزّورَ قال: الشرك.
20149ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله وَالّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزّورَ قال: هؤلاء الـمهاجرون, قال: والزّور قولهم لاَلهتهم, وتعظيـمهم إياها.
وقال آخرون: بل عُنِـي به الغناء. ذكر من قال ذلك:
20150ـ حدثنـي علـي بن عبد الأعلـى الـمـحاربـيّ قال: حدثنا مـحمد بن مروان, عن لـيث, عن مـجاهد فـي قوله: وَالّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزّورَ قال: لا يسمعون الغِناء.
وقال آخرون: هو قول الكذب. ذكر من قال ذلك:
20151ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, قوله: وَالّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزّورَ قال: الكذب.
قال أبو جعفر: وأصل الزّور تـحسين الشيء, ووصفه بخلاف صفته, حتـى يخيّـل إلـى من يسمعه أو يراه, أنه خلاف ما هو به, والشرك قد يدخـل فـي ذلك, لأنه مـحسّن لأهله, حتـى قد ظنوا أنه حقّ, وهو بـاطل, ويدخـل فـيه الغناء, لأنه أيضا مـما يحسنه ترجيع الصوت, حتـى يستـحلـي سامعُه سماعَه, والكذب أيضا قد يدخـل فـيه, لتـحسين صاحبه إياه, حتـى يظنّ صاحبه أنه حقّ, فكل ذلك مـما يدخـل فـي معنى الزّور.
فإذا كان ذلك كذلك, فأولـى الأقوال بـالصواب فـي تأويـله أن يقال: والذين لا يشهدون شيئا من البـاطل, لا شركا, ولا غناء, ولا كذبـا ولا غيره, وكلّ ما لزمه اسم الزور, لأن الله عمّ فـي وصفه إياهم, أنهم لا يشهدون الزور, فلا ينبغي أن يُخَصّ من ذلك شيء إلا بحجة يجب التسلـيـم لها, من خبر أو عقل.
وقوله: وَإذَا مَرّوا بـاللّغْوِ مَرّوا كِرَاما اختلف أهل التأويـل فـي معنى اللغو الذي ذُكر فـي هذا الـموضع, فقال بعضهم: معناه: ما كان الـمشركون يقولونه للـمؤمنـين, ويكلـمونهم به من الأذى. ومرورهم به كراما: إعراضهم عنهم وصفحهم. ذكر من قال ذلك:
20152ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: وَإذَا مَرّوا بـاللّغْوِ مَرّوا كِرَاما قال: صفحوا.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, قوله وَإذَا مَرّوا بـاللّغْوِ مَرّوا كِرَاما قال: إذا أوذوا مرّوا كراما, قال: صفحوا.
وقال آخرون: بل معناه: مرّوا بذكر النكاح, كفوا عنه. ذكر من قال ذلك:
20153ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا العوّام بن حوشب, عن مـجاهد وَإذَا مَرّوا بـاللّغْوِ مَرّوا كِرَاما قال: إذا ذكروا النكاح كَفّوا عنه.
حدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الأشيب, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا العوّام بن حوشب, عن مـجاهد, وَإذَا مَرّوا كِرَاما قال: كانوا إذا أتوا علـى ذكر النكاح كفوا عنه.
20154ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا الـمعتـمر, عن أبـي مخزوم, عن سيار وَإذَا مَرّوا بـاللّغْوِ مَرّوا كِرَاما إذا مرّوا بـالرفَث كفّوا.
وقال آخرون: إذا مرّوا بـما كان الـمشركون فـيه من البـاطل مرّوا منكرين له. ذكر من قال ذلك:
20155ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَإذَا مَرّوا بـاللّغْوِ مَرّوا كِرَاما قال: هؤلاء الـمهاجرون, واللغو ما كانوا فـيه من البـاطل, يعنـي الـمشركين وقرأ: فَـاجْتَنِبُوا الرّجْسَ مِنَ الأَوْثانِ.
وقال آخرون: عُنى بـاللغو ها هنا: الـمعاصي كلها. ذكر من قال ذلك:
20156ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن الـحسن, فـي قوله: وَإذَا مَرّوا بـاللّغْوِ مَرّوا كِرَاما قال: اللغو كله: الـمعاصي.
قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب عندي, أن يقال: إن الله أخبر عن هؤلاء الـمؤمنـين الذين مدحهم بأنهم إذا مرّوا بـاللغو مرّوا كراما, واللغو فـي كلام العرب هو كل كلام أو فعل بـاطل لا حقـيقة له ولا أصل, أو ما يستقبح فسبّ الإنسان الإنسان بـالبـاطل الذي لا حقـيقة له من اللّغو. وذكر النكاح بصريح اسمه مـما يُستقبح فـي بعض الأماكن, فهو من اللغو, وكذلك تعظيـم الـمشركين آلهتهم من البـاطل الذي لا حقـيقة لـما عظموه علـى نـحو ما عظموه, وسماع الغناء مـما هو مستقبح فـي أهل الدين, فكل ذلك يدخـل فـي معنى اللغو, فلا وجه إذ كان كل ذلك يـلزمه اسم اللغو, أن يقال: عُنـي به بعض ذلك دون بعض, إذ لـم يكن لـخصوص ذلك دلالة من خبر أو عقل. فإذا كان ذلك كذلك, فتأويـل الكلام: وإذا مرّوا بـالبـاطل فسمعوه أو رأوه, مرّوا كراما مرورهم كراما فـي بعض ذلك بأن لا يسمعوه, وذلك كالغناء. وفـي بعض ذلك بأن يعرضوا عنه ويصفحوا, وذلك إذا أوذوا بإسماع القبـيح من القول. وفـي بعضه بأن يَنْهَوْا عن ذلك, وذلك بأن يروا من الـمنكر ما يغيّر بـالقول فـيغيروه بـالقول. وفـي بعضه بأن يضاربوا علـيه بـالسيوف, وذلك بأن يروا قوما يقطعون الطريق علـى قوم, فـيستصرخهم الـمراد ذلك منهم, فـيصرخونهم, وكلّ ذلك مرورهم كراما. وقد:
20157ـ حدثنـي ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا مـحمد بن مسلـم, عن إبراهيـم بن ميسرة, قال: مرّ ابن مسعود بلهو مسرعا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنْ أصْبَحَ ابْنُ مَسْعُودٍ لَكَرِيـما».
وقـيـل: إن هذه الاَية مكية. ذكر من قال ذلك:
20158ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, قال: سمعت السديّ يقول: وَإذَا مَرّوا بـاللّغْوِ مَرّوا كِرَاما قال: هي مكية, وإنـما عنى السديّ بقوله هذا إن شاء الله, أن الله نسخ ذلك بأمره الـمؤمنـين بقتال الـمشركين بقوله: فَـاقْتُلُوا الـمُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُـمُوهُمْ وأمرهم إذا مرّوا بـاللّغو الذي هو شرك, أن يُقاتلوا أمراءه, وإذا مرّوا بـاللغو, الذي هو معصية لله أن يغيروه, ولـم يكونوا أمروا بذلك بـمكة, وهذا القول نظير تأويـلنا الذي تأوّلناه فـي ذلك.
الآية : 73
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَالّذِينَ إِذَا ذُكّرُواْ بِآيَاتِ رَبّهِمْ لَمْ يَخِرّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً }.
يقول تعالـى ذكره: والذين إذا ذكّرهم مذكر بحجج الله, لـم يكونوا صُما لا يسمعون, وعميا لا يبصرونها. ولكنهم يقاظُ القلوب, فهماء العقول, يفهمون عن الله ما يذكّرهم به, ويفهمون عنه ما ينبههم علـيه, فـيوعون مواعظة آذانا سمعته, وقلوبـا وعته. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
20159ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله: لَـمْ يَخِرّوا عَلَـيْها صُمّا وعُمْيانا فلا يسمعون, ولا يبصرون, ولا يفقهون حقا.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, قوله وَالّذِينَ إذَا ذُكّرُوا بآياتِ رَبّهِمْ لَـمْ يَخِرّوا عَلَـيْها صُمّا وعُمْيانا قال: لا يفقهون, ولا يسمعون, ولا يبصرون.
20160ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا ابن عُلَـية, عن ابن عون, قال: قلت للشعبـيّ: رأيت قوما قد سجدوا, ولـم أعلـم ما سجدوا منه, أسجد؟ قال: وَالّذِينَ إذَا ذُكّرُوا بآيات رَبّهِمْ لَـمْ يَخِرّوا عَلَـيْها صُمّا وعُمْيانا.
20161ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله وَالّذِينَ إذَا ذُكّرُوا بآياتِ رَبّهِمْ لَـمْ يَخِرّوا عَلَـيْها صُمّا وعُمْيانا قال: هذا مثل ضربه الله لهم, لـم يَدَعوها إلـى غيرها, وقرأ قول الله: إنّـمَا الـمُؤْمِنُونَ الّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهمْ... الاَية.
فإن قال قائل: وما معنى قوله يَخِرّوا عَلَـيْها صُمّا وعُمْيانا أَو يَخرّ الكافرون صُمّا وعُمْيانا إذا ذُكروا بآيات الله, فُـيْنَفـى عن هؤلاء ما هو صفة للكفـار؟ قـيـل: نعم, الكافر إذا تُلـيت علـيه آيات الله خرّ علـيها أصمّ وأعمى, وخَرّه علـيها كذلك, إقامته علـى الكفر, وذلك نظير قول العرب: سَبَبْتُ فلانا, فقام يبكي, بـمعنى فظلّ يبكي, ولا قـيام هنالك, ولعله أن يكون بكى قاعدا وكما يقال: نهيت فلانا عن كذا, فقعديشتـمنـي ومعنى ذلك: فجعل يشتـمنـي, وظلّ يشتـمنـي, ولا قعود هنالك, ولكن ذلك قد جرى علـى ألسن العرب, حتـى قد فهموا معناه. وذكر الفرّاء أنه سمع العرب تقول: فعد يشتـمنـي, كقولك: قام يشتـمنـي, أقبل يشتـمنـي قال: وأنشد بعض بنـي عامر:
لا يُقْنعُ الـجارِيَةَ الـخِضَابُ وَلا الوِشاحان وَلا الـجِلْبـابُ
مِن دونِ أن تَلْتَقِـيَ الأرْكابُ وَيَقْعُدَ الأَيْرُ لَهُ لُعابُ
بـمعنى: يصير, فكذلك قوله: لَـمْ يَخِرّوا عَلَـيْها صُمّا وعُمْيانا إنـما معناه: لـم يَصَمّوا عنها, ولا عموا عنها, ولـم يصيروا علـى بـاب ربهم صُمّا وعمْيانا, كما قال الراجز:
وَيَقْعُدَ الهَنُ لهُ لُعابُ بـمعنى: ويصير.
الآية : 74
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَالّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرّيّاتِنَا قُرّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتّقِينَ إِمَاماً }.
يقول تعالـى ذكره: والذين يرغبون إلـى الله فـي دعائهم ومسألتهم بأن يقولوا: رَبّنا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرّيّاتِنَا ما تقرّ به أعيننا من أن تريناهم يعملون بطاعتك. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
20162ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله هَبْ لَنا مِنْ أزْوَاجِنا وَذُرّيّاتِنا قُرّةَ أعْيُنٍ يعنون: من يعمل لك بـالطاعة, فتقرّ بهم أعيننا فـي الدنـيا والاَخرة.
20163ـ حدثنـي أحمد بن الـمقدام, قال: حدثنا حزم, قال: سمعت كثـيرا سأل الـحسن, قال: يا أبـا سعيد, قول الله هَبْ لَنا مِن أزْوَاجِنا وَذُرّيّاتِنا قُرّةَ أعْيُنٍ فـي الدنـيا والاَخرة, قال: لا بل فـي الدنـيا, قال: وما ذاك؟ قال: الـمؤمن يرى زوجته وولده يطيعون الله.
20164ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان, عن أبـيه, قال: قرأ حضرمي: رَبّنا هَبْ لَنا مِنْ أزْوَاجنا وَذُرّيّاتِنا قُرّةَ أعْيُنٍ قال: وإنـما قرّة أعينهم أن يروهم يعملون بطاعة الله.
20165ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا ابن الـمبـارك, عن ابن جُرَيج فـيـما قرأنا علـيه فـي قوله: هَبْ لَنا مِنْ أزْوَاجِنا وَذُرّيّاتِنا قُرّةَ أعْيُنٍ قال: يعبدونك فـيحسنون عبـادتك, ولا يجرون الـجرائر.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: قال ابن جُرَيج, قوله رَبّنا هَبْ لَنا مِنْ أزْوَاجِنا وَذُرّيّاتِنا قُرّةَ أعْيُنٍ قال: يعبدونك يحسنون عبـادتك, ولا يجرّون علـينا الـجرائر.
20166ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله وَالّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنا هَبْ لَنا مِنْ أزْوَاجِنا وَذُرّيّاتِنا قُرّةَ أعْيُنٍ قال: يسألون الله لأزواجهم وذرياتهم أن يهديهم للإسلام.
20167ـ حدثنا مـحمد بن عون, قال: حدثنا مـحمد بن إسماعيـل بن عياش, قال: ثنـي أبـي, عن صفوان بن عمرو, عن عبد الرحمن بن جُبـير بن نُفَـير, عن أبـيه, قال: جلسنا إلـى الـمقداد بن الأسود, فقال: لقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علـى أشدّ حالة بُعث علـيها نبـيّ من الأنبـياء فـي فترة وجاهلـية, ما يرون دينا أفضل من عبـادة الأوثان, فجاء بفرقان فَرَق به بـين الـحقّ والبـاطل, وفَرّق بـين الوالد وولده, حتـى إنْ كان الرجل لـيرى ولده ووالده وأخاه كافرا وقد فتـح الله قـفل قلبه بـالإسلام, فـيعلـم أنه إن مات دخـل النار, فلا تقرّ عينه, وهو يعلـم أن حبـيبه فـي النار, وإنها للتـي قال الله: وَالّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنا هَبْ لَنا مِنْ أزْوَاجِنا وَذُرّيّاتِنا قُرّةَ أعْيُنٍ... الاَية.
حدثنـي ابن عون, قال: ثنـي علـيّ بن الـحسن العسقلانـيّ, عن عبد الله بن الـمبـارك, عن صفوان, عن عبد الرحمن بن جُبـير بن نُفَـير, عن أبـيه, عن الـمقداد, نـحوه.
وقـيـل: هب لنا قرّة أعين, وقد ذكر الأزواج والذريات وهم جمع, وقوله: قُرّة أعْيُنٍ واحدة, لأن قوله: قرّة أعين مصدر من قول القائل: قرّت عينك قرّة, والـمصدر لا تكاد العرب تـجمعه.
وقوله: وَاجْعَلْنا للْـمُتّقِـينَ إماما اختلف أهل التأويـل فـي تأويـله, فقال بعضهم: معناه: اجعلنا أثمة يَقتَدِي بنا من بعدنا. ذكر من قال ذلك:
20168ـ حدثنـي ابن عبد الأعلـى بن واصل, قال: ثنـي عون بن سلام, قال: أخبرنا بشر بن عمارة عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس, فـي قوله: وَاجْعَلْنا للـمْتّقِـينَ إماما يقول: أئمة يُقتدى بنا.
حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله وَاجْعَلْنا للْـمُتّقِـينَ إماما أثمة التقوى ولأهله يقتدى بنا. قال ابن زيد: كما قال لإبراهيـم: إنـي جاعِلُكَ للنّاس إماما.
وقال آخرون: بل معناه: واجعلنا للـمتقـين إماما: نأتـمّ بهم, ويأتـمّ بنا من بعدنا. ذكر من قال ذلك:
20169ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا مؤمل, قال: حدثنا ابن عيـينة, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله: وَاجْعَلْنا للْـمُتّقِـين إماما قال: أئمة نقتدي بـمن قبلنا, ونكون أئمة لـمن بعدنا.
20170ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا ابن عيـينة, عن أبن أبـي نـجيح, عن مـجاهد وَاجْعَلْنا للـمُتّقِـينَ إماما قال: اجعلنا مؤتـمين بهم, مقتدين بهم.
قال أبو جعفر: وأولـى القولـين فـي ذلك بـالصواب قول من قال: معناه: واجعلنا للـمتقـين الذين يتقون معاصيك, ويخافون عقابك إماما يأتـمون بنا فـي الـخيرات, لأنهم إنـما سألوا ربهم أن يجعلهم للـمتقـين أئمة, ولـم يسألوه أن يجعل الـمتقـين لهم إماما, وقال وَاجْعَلْنا للْـمُتّقِـينَ إماما ولـم يقل أئمة. وقد قالوا: واجعلنا وهم جماعة, لأن الإمام مصدر من قول القائل: أمّ فلان فلانا إماما, كما يقال: قام فلان قـياما, وصام يوم كذا صياما. ومن جمع الإمام أئمة, جعل الإمام اسما, كما يقال: أصحاب مـحمد إمام, وأئمة للناس. فمن وحّد قال: يأتـمّ بهم الناس. وهذا القول الذي قلناه فـي ذلك قول بعض نـحويّـي أهل الكوفة. وقال بعض أهل البصرة من أهل العربـية: الإمام فـي قوله: للْـمُتّقِـينَ إماما جماعة, كما تقول: كلهم عُدُول. قال: ويكون علـى الـحكاية, كما يقول القائل إذا قـيـل له: من أميركم: هؤلاء أميرنا. واستشهد لذلك بقول الشاعر:
يا عاذِلاتـي لا تُرِدْنَ مَلامَتِـي إنّ العَوَاذلَ لَسْنَ لـي بأمِيرِ
الآية : 75
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أُوْلَـَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقّوْنَ فِيهَا تَحِيّةً وَسَلاَماً }.
يقول تعالـى ذكره: هؤلاء الذين وصفت صفتهم من عبـادي, وذلك من ابتداء قوله: وَعِبـادُ الرّحْمَنِ الّذِينَ يَـمْشُونَ علـى الأرْضِ هَوْنا... إلـى قوله: وَالّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنا هَبْ لَنا مِنْ أزْوَاجِنا... الاَية يُجْزَوْنَ يقول: يُثابون علـى أفعالهم هذه التـي فعلوها فـي الدنـيا الغُرْفَةَ وهي منزلة من منازل الـجنة رفـيعة بِـمَا صَبرُوا يقول: بصبرهم علـى هذه الأفعال, ومقاساة شدتها. وقوله: وَيُـلَقّوْنَ فِـيها تَـحِيّةً وَسَلاما اختلفت القرّاء فـي قراءته, فقرأته عامة قرّاء أهل الـمدينة والبصرة: وَيُـلَقّوْنَ مضمومة الـياء, مشدّدة القاف, بـمعنى: وتتلقاهم الـملائكة فـيها بـالتـحية. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة: «ويَـلْقَوْنَ» بفتـح الـياء, وتـخفـيف القاف.
والصواب من القول فـي ذلك أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان فـي قَرَأَة الأمصار, بـمعنى واحد, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب, غير أن أعجب القراءتـين إلـيّ أن أقرأ بها «وَيَـلْقَوْنَ فِـيها» بفتـح الـياء, وتـخفـيف القاف, لأن العرب إذا قالت ذلك بـالتشديد, قالت: فلان يُتَلَقّـى بـالسلام وبـالـخير, ونـحن نَتَلقاهم بـالسلام, قرنته بـالـياء, وقلـما تقول: فلان يُـلَقّـى السلام, فكان وجه الكلام, لو كان بـالتشديد, أن يقال: ويُتَلَقّون فـيها بـالتـحية والسلام. وإنـما اخترنا القراءة بذلك, كما تـجيز: أخذت بـالـخطام, وأخذتُ الـخطام. وقد بـيّنا معنى التـحية والسلام فـيـما مضى قبل, فأغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.
الآية : 76 - 77
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً * قُلْ مَا يَعْبَاُ بِكُمْ رَبّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ فَقَدْ كَذّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً }.
يقول تعالـى ذكره: أولئك يجزون الغرفة بـما صبروا, خالدين فـي الغرفة, يعنـي أنهم ماكثون فـيها, لابثون إلـى غير أمد, حسنت تلك الغرفة قرارا لهم ومقاما. يقول: وإقامة. وقوله: قُلْ ما يَعْبَأُ بِكُمْ ربّـي يقول جلّ ثناؤه لنبـيه: قل يا مـحمد لهؤلاء الذين أرسلت إلـيهم: أيّ شيء يَعُدّكم, وأيّ شيء يصنع بكم ربـي؟ يقال منه: عبأت به أعبأ عبئا, وعبأت الطيب أعبؤه: إذا هيأته, كما قال الشاعر:
كأنّ بِنَـحْرِهِ وبِـمَنْكِبَـيْهِعَبِـيرا بـاتَ يَعْبَؤُهُ عَرُوسُ
يقول: يهيئه ويعمله يعبؤُه عبـا وعبوءا, ومنه قولهم: عَبّأت الـجيش بـالتشديد والتـخفـيف فأنا أعبئه: أُهَيّئُهُ. والعِبءُ: الثقل. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
20171ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: قُلْ ما يَعْبأُ بِكُمْ رَبّـي يصنع لولا دعاؤكم.
20172ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله قُلْ ما يَعْبَأُ بِكُمْ رَبّـي قال: يعبأ: يفعل. وقوله: لَوْلا دُعاؤُكُمْ يقول: لولا عبـادة من يعبده منكم, وطاعة من يطيعه منكم. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
20173ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: ما يَعْبَأُ بِكُمْ رَبّـي لَوْلا دُعاؤُكُمْ يقول: لولا إيـمانكم, وأخبر الله الكفـار أنه لا حاجة له بهم إذ لـم يخـلقهم مؤمنـين, ولو كان له بهم حاجة لـحبب إلـيهم الإيـمان كما حبّبه إلـى الـمؤمنـين.
20174ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله لَوْلا دُعاؤُكُمْ قال: لولا دعاؤكم إياه لتعبدوه وتطيعوه.
وقوله فَقَدْ كَذّبْتُـمْ يقول تعالـى ذكره لـمشركي قريش قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقد كذّبتـم أيها القوم رسولكم الذي أرسل إلـيكم وخالفتـم أمر ربكم الذي أمر بـالتـمسك به. لو تـمسكتـم به, كان يعبأ بكم ربـي فسوف يكون تكذيبكم رسول ربكم, وخلافكم أمر بـارئكم, عذابـا لكم ملازما, قتلاً بـالسيوف وهلاكا لكم مفنـيا يـلـحق بعضكم بعضا, كما قال أبو ذُؤَيب الهُذَلـيّ:
فَفـاجأَهُ بِعادِيَةٍ لِزَامٍكمَا يَتَفَجّرُ الـحَوْضُ اللّقِـيفُ
يعنـي بـاللزام: الكبـير الذي يتبع بعضه بعضا, وبـاللقـيف: الـمتساقط الـحجارة الـمتهدّم, ففعل الله ذلك بهم, وصدقهم وعده, وقتلهم يوم بدر بأيدي أولـيائه, وألـحق بعضهم ببعض, فكان ذلك العذاب اللزام. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
20175ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, قال: أخبرنـي مولـى لشقـيق بن ثور أنه سمع سلـمان أبـا عبد الله, قال: صلـيت مع ابن الزّبـير فسمعته يقرأ: فقد كذب الكافرون.
20176ـ حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, قال: حدثنا سعيد بن أدهم السدوسيّ, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة, عن عبد الـمـجيد, قال: سمعت مسلـم بن عمار, قال: سمعت ابن عبـاس يقرأ هذا الـحرف: فقد كذب الكافرون فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاما.
حدثنا مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قُلْ ما يَعْبَأُ بِكُمْ رَبّـي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذّبْتُـمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاما يقول: كذب الكافرون أعداء الله.
20177ـ حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا عبد الأعلـى, قال: حدثنا داود, عن عامر, عن ابن مسعود, قال: فسوف يـلقون لزاما يوم بدر.
20178ـ حدثنـي أبو السائب, قال: حدثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن مسلـم, عن مسروق, قال: قال عبد الرحمن: خمس قد مضين: الدخان, واللزام, والبطشة, والقمر, والروم.
20179ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قَتادة, قوله فَسَوْفَ يكُونُ لِزَاما قال أُبَـيّ بن كعب: هو القتل يوم بدر.
20180ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن عمرو, عن مغيرة, عن إبراهيـم, قال: اللزام: يوم بدر.
20181ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا ابن علـية, عن لـيث, عن مـجاهد فَسَوْفَ يكُونُ لِزَاما قال: هو يوم بدر.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فَسَوْفَ يكُونُ لِزَاما قال: يوم بدر.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, مثله.
قال: ثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو سفـيان, عن مَعْمر, عن منصور, عن سفـيان, عن ابن مسعود, قال: اللزام: القتل يوم بدر.
20182ـ حُدثت عن الـحسين قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: فَقَدْ كَذّبْتُـمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاما الكفـار كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, وبـما جاء به من عند الله, فسوف يكون لزاما, وهو يوم بدر.
20183ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن مغيرة, عن إبراهيـم, عن عبد الله, قال: قد مضى اللزام, كان اللزام يوم بدر, أسروا سبعين, وقتلوا سبعين.
وقال آخرون: معنى اللزام: القتال. ذكر من قال ذلك:
20184ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاما قال: فسوف يكون قتالاً اللزام: القتال.
وقال آخرون: اللزام: الـموت. ذكر من قال ذلك:
20185ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس فَسَوْفَ يكُونُ لِزَاما قال: موتا.
وقال بعض أهل العلـم بكلام العرب: معنى ذلك: فسوف يكون جزاء يـلزم كل عامل ما عمل من خير أو شرّ. وقد بـيّنا الصواب من القول فـي ذلك. وللنصب فـي اللزام وجه آخر غير الذي قلناه, وهو أن يكون فـي قوله يَكُون مـجهول, ثم ينصب اللزام علـى الـخبر كما قـيـل:
إذَا كان طَعْنا بَـيْنَهُمْ وقتالاً وقد كان بعض من لا علـم له بأقوال أهل العلـم يقول فـي تأويـل ذلك: ما يعبأ بكم ربـي لولا دعاؤكم ما تَدْعون من دونه من الاَلهة والأنداد, وهذا قول لا معنى للتشاغل به لـخروجه عن أقوال أهل العلـم من أهل التأويـل.
آخر (تفسير) سورة الفرقان, والـحمد لله وحده.
نهاية تفسير الإمام الطبري لسورة الفرقان