تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 369 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 369

369 : تفسير الصفحة رقم 369 من القرآن الكريم

** فَجُمِعَ السّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مّعْلُومٍ * وَقِيلَ لِلنّاسِ هَلْ أَنتُمْ مّجْتَمِعُونَ * لَعَلّنَا نَتّبِعُ السّحَرَةَ إِن كَانُواْ هُمُ الْغَالِبِينَ * فَلَمّا جَآءَ السّحَرَةُ قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَإِنّ لَنَا لأجْراً إِن كُنّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنّكُمْ إِذاً لّمِنَ الْمُقَرّبِينَ * قَالَ لَهُمْ مّوسَىَ أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مّلْقُونَ * فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزّةِ فِرْعَونَ إِنّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ * فَأَلْقَىَ مُوسَىَ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَأُلْقِيَ السّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُواْ آمَنّا بِرَبّ الْعَالَمِينَ * رَبّ مُوسَىَ وَهَارُونَ
ذكر الله تعالى هذه المناظرة الفعلية بين موسى عليه السلام والقبط في سورة الأعراف, وفي سورة طه, وفي هذه السورة, وذلك أن القبط أرادوا أن يطفئوا نور الله بأفواههم, فأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون, وهذا شأن الكفر والإيمان ما تواجها وتقابلا إلا غلبه الإيمان {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون} {وقل جاء الحق وزهق الباطل} الاَية, ولهذا لما جاء السحرة وقد جمعوهم من أقاليم بلاد مصر, وكانوا إذ ذاك من أسحر الناس وأصنعهم وأشدهم تخييلاً في ذلك, وكان السحرة جمعاً كثيراً وجماً غفيراً, قيل: كانوا اثني عشر ألفاً, وقيل خمسة عشر ألفاً, وقيل سبعة عشر ألفاً, وقيل تسعة عشر ألفاً, وقيل بضعة وثلاثين ألفاً, وقيل ثمانين ألفاً, وقيل غير ذلك, والله أعلم بعدتهم. قال ابن إسحاق: وكان أمرهم راجعاً إلى أربعة منهم وهم رؤساؤهم, وهم: سابور, وعاذور, وحطحط, ويصفى, واجتهد الناس في الاجتماع ذلك اليوم, وقال قائلهم {لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين} ولم يقولوا نتبع الحق سواء كان من السحرة أو من موسى, بل الرعية على دين ملكهم {فلما جاء السحرة} أي إلى مجلس فرعون, وقد ضربوا له وطاقاً, وجمع خدمه وحشمه ووزراءه ورؤساء دولته وجنود مملكته, فقام السحرة بين يدي فرعون يطلبون منه الإحسان إليهم والتقرب إليه إن غلبوا, أي هذا الذي جمعتنا من أجله, فقالوا {أئن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين * قال نعم وإنكم إذاً لمن المقربين} أي وأخص مما تطلبون أجعلكم من المقربين عندي وجلسائي, فعادوا إلى مقام المناطرة {قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى * قال بل ألقو} وقد اختصر هذا ههنا, فقال لهم موسى {ألقوا ما أنتم ملقون * فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون} وهذا كما تقول الجهلة من العوام إذا فعلوا شيئاً هذ بثواب فلان, وقد ذكر الله تعالى في سورة الأعراف أنهم {سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم}. وقال في سورة طه {فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ـ إلى قوله ـ ولا يفلح الساحر حيث أتى} وقال ههنا {فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون} أي تخطفه وتجمعه من كل بقعة وتبتلعه فلم تدع منه شيئاً. قال الله تعالى: {فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون ـ إلى قوله ـ رب موسى وهارون} فكان هذا أمراً عظيماً جداً, وبرهاناً قاطعاً للعذر, وحجة دامغة, وذلك أن الذي استنصر بهم وطلب منهم أن يغلبوا, غلبوا وخضعوا, وآمنوا بموسى في الساعة الراهنة, سجدوا لله رب العالمين الذي أرسل موسى وهارون بالحق وبالمعجزة الباهرة, فغلب فرعون غلباً لم يشاهد العالم مثله, وكان وقحاً جريئاً, عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين, فعدل إلى المكابرة والعناد ودعوى الباطل, فشرع يتهددهم ويتوعدهم ويقول {إنه لكبيركم الذي علمكم السحر} وقال {إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة} الاَية.

** قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنّهُ لَكَبِيرُكُمُ الّذِي عَلّمَكُمُ السّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لاُقَطّعَنّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ وَلاُصَلّبَنّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُواْ لاَ ضَيْرَ إِنّآ إِلَىَ رَبّنَا مُنقَلِبُونَ * إِنّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبّنَا خَطَايَانَآ أَن كُنّآ أَوّلَ الْمُؤْمِنِينَ تهددهم فلم يقطع ذلك فيهم, وتوعدهم فما زادهم إلا إيماناً وتسليماً, وذلك إنه قد كشف عن قلوبهم حجاب الكفر, وظهر لهم الحق بعلمهم ما جهل قومهم من أن هذا الذي جاء به موسى لا يصدر عن بشر إلا أن يكون الله قد أيده به, وجعله له حجة ودلالة على صدق ما جاء به من ربه, ولهذا لما قال لهم فرعون {آمنتم له قبل أن آذن لكم ؟} أي كان ينبغي أن تستأذنوني فيما فعلتم, ولا تفتاتوا علي في ذلك, فإن أذنت لكم فعلتم, وإن منعتكم امتنعتم فإذني أنا الحاكم المطاع {إنه لكبيركم الذي علمكم السحر} وهذه مكابرة يعلم كل أحد بطلانها, فإنهم لم يجتمعوا بموسى قبل ذلك اليوم, فكيف يكون كبيرهم الذي أفادهم صناعة السحر ؟ هذا لا يقوله عاقل.
ثم توعدهم فرعون بقطع الأيدي والأرجل والصلب فقالوا {لا ضير} أي لاحرج, ولا يضرنا ذلك, ولا نبالي به {إنا إلى ربنا منقلبون} أي المرجع إلى الله عز وجل, وهو لا يضيع أجر من أحسن عملاً, ولا يخفى عليه ما فعلت بنا, وسيجزينا على ذلك أتم الجزاء, ولهذا قالوا {إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايان} أي ما قارفنا من الذنوب وما أكرهتنا عليه من السحر {أن كنا أول المؤمنين} أي بسبب أنا بادرنا قومنا من القبط إلى الإيمان. فقتلهم كلهم.

** وَأَوْحَيْنَآ إِلَىَ مُوسَىَ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِيَ إِنّكُم مّتّبِعُونَ * فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ * إِنّ هَـَؤُلآءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ * وَإِنّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ * فَأَخْرَجْنَاهُمْ مّن جَنّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِيَ إِسْرَائِيلَ
لما طال مقام موسى عليه السلام ببلاد مصر, وأقام بها حجج الله وبراهينه على فرعون وملئه, وهم مع ذلك يكابرون ويعاندون, لم يبق لهم إلا العذاب والنكال, فأمر الله تعالى موسى عليه السلام أن يخرج ببني إسرائيل ليلاً من مصر, وأن يمضي بهم حيث يؤمر, ففعل موسى عليه السلام ما أمره به ربه عز وجل, خرج بهم بعد ما استعاروا من قوم فرعون حلياً كثيراً, وكان خروجه بهم فيما ذكره غير واحد من المفسرين وقت طلوع القمر, وذكر مجاهد رحمه الله أنه كسف القمر تلك الليلة, فالله أعلم, وأن موسى عليه السلام سأل عن قبر يوسف عليه السلام, فدلته امرأة عجوز من بني إسرائيل عليه, فاحتمل تابوته معهم, ويقال: إنه هو الذي حمله بنفسه عليهما السلام, وكان يوسف عليه السلام قد أوصى بذلك, إذا خرج بنو إسرائيل أن يحملوه معهم.
وقد ورد في ذلك حديث رواه ابن أبي حاتم رحمه الله فقال: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا عبد الله بن عمر بن أبان بن صالح, حدثنا ابن فضيل عن يونس بن أبي إسحاق, عن ابن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى قال: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعرابي فأكرمه, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «تعاهدنا ؟» فأتاه الأعرابي, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما حاجتك ؟» قال: ناقة برحلها وأعنز يحتلبها أهلي, فقال «أعجزت أن تكون مثل عجوز بني إسرائيل ؟» فقال له أصحابه: وما عجوز بني إسرائيل يا رسول الله ؟ قال «إن موسى عليه السلام لما أراد أن يسير ببني إسرائيل أضل الطريق, فقال لبني إسرائيل: ما هذا ؟ فقال له علماء بني إسرائيل: نحن نحدثك أن يوسف عليه السلام لما حضرته الوفاة أخذ علينا موثقاً من الله أن لا نخرج من مصر حتى ننقل تابوته معنا, فقال لهم موسى: فأيكم يدري أين قبر يوسف ؟ قالوا: ما يعلمه إلا عجوز لبني إسرائيل, فأرسل إليها فقال لها: دليني على قبر يوسف, فقالت: والله لا أفعل حتى تعطيني حكمي, فقال لها: وما حكمك ؟ قالت: حكمي أن أكون معك في الجنة, فكأنه ثقل عليه ذلك, فقيل له: أعطها حكمها ـ قال ـ فانطلقت معهم إلى بحيرة ـ مستنقع ماء ـ فقالت لهم: انضبوا هذا الماء, فلما أنضبوه قالت: احفروا, فلما حفروا استخرجوا قبر يوسف, فلما احتملوه إذا الطريق مثل ضوء النهار» وهذا حديث غريب جداً, والأقرب أنه موقوف, والله أعلم, فلما أصبحوا وليس في ناديهم داع ولا مجيب, غاظ ذلك فرعون, واشتد غضبه على بني إسرائيل لما يريد الله به من الدمار, فأرسل سريعاً في بلاده حاشرين, أي من يحشر الجند ويجمعه كالنقباء والحجاب, ونادى فيهم {إن هؤلاء} يعني بني إسرائيل {لشرذمة قليلون} أي لطائفة قليلة {وإنهم لنا لغائظون} أي كل وقت يصل منهم إلينا ما يغيظنا {وإنا لجميع حاذرون} أي نحن كل وقت نحذر من غائلتهم, وإني أريد أن أستأصل شأفتهم, وأبيد خضراءهم, فجوزي في نفسه وجنده بما أراد لهم, قال الله تعالى: {فأخرجناهم من جنات وعيون * وكنوز ومقام كريم} أي فخرجوا من هذا النعيم إلى الجحيم, وتركوا تلك المنازل العالية والبساتين والأنهار والأموال والأرزاق, والملك والجاه الوافر في الدنيا {كذلك وأورثناها بني إسرائيل} كما قال تعالى: {وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيه} الاَية, وقال تعالى: {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين} الاَيتين.