تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 380 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 380

380 : تفسير الصفحة رقم 380 من القرآن الكريم

** فَلَمّا جَآءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ آتَانِي اللّهُ خَيْرٌ مّمّآ آتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنّهُم بِجُنُودٍ لاّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنّهُم مّنْهَآ أَذِلّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ
ذكر غير واحد من المفسرين من السلف وغيرهم أنها بعثت إليه بهدية عظيمة من ذهب وجواهر ولاَلىء وغير ذلك. وقال بعضهم: أرسلت بلبنة من ذهب, والصحيح أنها أرسلت إليه بآنية من ذهب. قال مجاهد وسعيد بن جبير وغيرهما: أرسلت جواري في زي الغلمان, وغلمان في زي الجواري فقالت: إن عرف هؤلاء من هؤلاء فهو نبي, قالوا: فأمرهم سليمان فتوضؤا, فجعلت الجارية تفرغ على يدها من الماء وجعل الغلام يغترف فميزهم بذلك, وقيل بل جعلت الجارية تغسل باطن يدها قبل ظاهرها والغلام بالعكس, وقيل بل جعلت الجواري يغسلن من أكفهن إلى مرافقهن, والغلمان من مرافقهم إلى كفوفهم ولا منافاة بين ذلك كله, والله أعلم. وذكر بعضهم أنها أرسلت إليه بقدح ليملأه ماء رواء لا من السماء ولا من الأرض, فأجرى الخيل حتى عرقت ثم ملأه من ذلك, وبخرزة وسلك ليجعله فيها ففعل ذلك والله أعلم أكان ذلك أم لا, وأكثره مأخوذ من الإسرائيليات, والظاهر أن سليمان عليه السلام, لم ينظر إلى ما جاءوا به بالكلية, ولا اعتنى به, بل أعرض عنه. وقال منكراً عليهم {أتمدونن بمال ؟} أي أتصانعونني بمال لأترككم على شرككم وملككم ؟ {فما آتاني الله خير مما آتاكم} أي الذي أعطاني الله من الملك والمال والجنود خير مما أنتم فيه {بل أنتم بهديتكم تفرحون} أي أنتم الذين تنقادون للهدايا والتحف, وأما أنا فلا أقبل منكم إلا الإسلام أو السيف.
قال الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه: أمر سليمان الشياطين فموهوا له ألف قصر من ذهب وفضة, فلما رأت رسلها ذلك, قالوا: ما يصنع هذا بهديتنا, وفي هذا جواز تهيؤ الملوك وإظهارهم الزينة للرسل والقصاد {ارجع إليهم} أي بهديتهم {فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم به} أي لا طاقة لهم بقتالهم {ولنخرجنهم منها أذلة} أي ولنخرجنهم من بلدتهم أذلة {وهم صاغرون} أي مهانون مدحورون. فلما رجعت إليها رسلها بهديتها وبما قال سليمان سمعت وأطاعت هي وقومها, وأقبلت تسير إليه في جنودها خاضعة ذليلة, معظمة لسليمان ناوية متابعته في الإسلام, ولما تحقق سليمان عليه السلام قدومهم عليه, ووفودهم إليه فرح بذلك وسره.

** قَالَ يَأَيّهَا الْمَلاُ أَيّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مّن الْجِنّ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مّقَامِكَ وَإِنّي عَلَيْهِ لَقَوِيّ أَمِينٌ * قَالَ الّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الْكِتَابِ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَـَذَا مِن فَضْلِ رَبّي لِيَبْلُوَنِيَ أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنّ رَبّي غَنِيّ كَرِيمٌ
قال محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان قال: فلما رجعت إليها الرسل بما قال سليمان قالت: قد والله عرفت ما هذا بملك, وما لنا به من طاقة وما نصنع بمكابرته شيئاً, وبعثت إليه: إني قادمة عليك بملوك قومي لأنظر ما أمرك وما تدعونا إليه من دينك, ثم أمرت بسرير ملكها الذي كانت تجلس عليه. وكان من ذهب مفصص بالياقوت والزبرجد واللؤلؤ, فجعل في سبعة أبيات بعضها في بعض, ثم أقفلت عليه الأبواب ثم قالت لمن خلفت على سلطانها: احتفظ بما قبلك وسرير ملكي, فلا يخلص إليه أحد من عباد الله, و لايرينه أحد حتى آتيك ثم شخصت إلى سليمان في اثني عشر ألف قيل من ملوك اليمن تحت يدي كل قيل منهم ألوف كثيرة فجعل سليمان يبعث الجن يأتونه بمسيرها ومنتهاها كل يوم وليلة حتى إذا دنت جمع من عنده من الجن والإنس ممن تحت يده فقال: {يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين}.
وقال قتادة: لما بلغ سليمان أنها جاثية وكان قد ذكر له عرشها فأعجبه.وكان من ذهب وقوائمه لؤلؤ وجوهر. وكان مستراً بالديباج والحرير, وكانت عليه تسعة مغاليق, فكره أن يأخذه بعد إسلامهم. وقد علم نبي الله أنهم متى أسلموا تحرم أموالهم ودماؤهم, فقال {يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين} وهكذا قال عطاء الخراساني والسدي وزهير بن محمد {قبل أن يأتوني مسلمين} فتحرم علي أموالهم بإسلامهم {قال عفريت من الجن} قال مجاهد: أي مارد من الجن, قال شعيب الجبائي: وكان اسمه كوزن, وكذا قال محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان, وكذا قال أيضاً وهب بن منبه. قال أبو صالح وكان كأنه جبل {أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك} قال ابن عباس رضي الله عنه: يعني قبل أن تقوم من مجلسك.
وقال مجاهد: مقعدك, وقال السدي وغيره: كان يجلس للناس للقضاء والحكومات وللطعام, من أول النهار إلى أن تزول الشمس {وإني عليه لقوي أمين} قال ابن عباس: أي قوي على حمله أمين على ما فيه من الجوهر, فقال سليمان عليه الصلاة والسلام أريد أعجل من ذلك, ومن ههنا يظهر أن سليمان أراد بإحضار هذا السرير إظهار عظمة ما وهب الله له من الملك, وما سخر له من الجنود الذي لم يعطه أحد قبله ولا يكون لأحد من)بعده, وليتخذ ذلك حجة على نبوته عند بلقيس وقومها لأن هذا خارق عظيم أن يأتي بعرشها كما هو من بلادها قبل أن يقدموا عليه, هذا وقد حجبته بالأغلاق والأقفال والحفظة. فلما قال سليمان أريد أعجل من ذلك {قال الذي عنده علم من الكتاب} قال ابن عباس وهو آصف كاتب سليمان, وكذا روى محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان أنه آصف بن برخياء. وكان صديقاً يعلم الاسم الأعظم
وقال قتادة: كان مؤمناً من الإنس واسمه آصف, وكذا قال أبو صالح والضحاك وقتادة أنه كان من الإنس, زاد قتادة من بني إسرائيل. وقال مجاهد كان اسمه أسطوم. وقال قتادة في رواية عنه كان اسمه بليخا, وقال زهير بن محمد هو رجل من الإنس يقال له ذو النور. وزعم عبد الله بن لهيعة أنه الخضر, وهو غريب جداً.
وقوله: {أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك} أي ارفع بصرك وانظر, مد بصرك مما تقدر عليه, فإنك لا يكل بصرك إلا وهو حاضر عندك, وقال وهب بن منبه: امدد بصرك فلا يبلغ مداه حتى آتيك به, فذكروا أنه أمره أن ينظر نحو اليمن التي فيها هذا العرش المطلوب ثم قام فتوضأ ودعا الله تعالى. قال مجاهد: قال يا ذا الجلال والإكرام. وقال الزهري قال: يا إلهنا وإله كل شيء إلهاً واحداً لا إله إلا أنت ائتني بعرشها. قال: فمثل بين يديه, قال مجاهد وسعيد بن جبير ومحمد بن إسحاق وزهير بن محمد وغيرهم: لما دعا الله تعالى وسأله أن يأتيه بعرش بلقيس وكان في اليمن وسليمان عليه السلام ببيت المقدس غاب السرير وغاص في الأرض ثم نبع من بين يدي سليمان.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لم يشعر سليمان إلا وعرشها يحمل بين يديه, قال وكان هذا الذي جاء به من عباد البحر فلما عاين سليمان وملؤه ذلك ورآه مستقراً عنده {قال هذا من فضل ربي} أي هذا من نعم الله عليّ {ليبلوني} أي ليختبرني {أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه} كقوله: {من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليه} وكقوله: {ومن عمل صالحاً فلأنفسهم يمهدون}.
وقوله: {ومن كفر فإن ربي غني كريم} أي هو غني عن العباد وعبادتهم كريم أي كريم في نفسه وإن لم يعبده أحد فإن عظمته ليست مفتقرة إلى أحد, وهذا كما قال موسى {إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد} وفي صحيح مسلم «يقول الله تعالى: يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً. يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله, ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه».

** قَالَ نَكّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِيَ أَمْ تَكُونُ مِنَ الّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ * فَلَمّا جَآءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنّا مُسْلِمِينَ * وَصَدّهَا مَا كَانَت تّعْبُدُ مِن دُونِ اللّهِ إِنّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ * قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصّرْحَ فَلَمّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنّهُ صَرْحٌ مّمَرّدٌ مّن قَوارِيرَ قَالَتْ رَبّ إِنّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ
لما جيء سليمان عليه السلام بعرش بلقيس قبل قدومها أمر به أن يغير بعض صفاته ليختبر معرفتها وثباتها عند رؤيته هل تقدم على أنه عرشها أو أنه ليس بعرشها فقال {نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون} قال ابن عباس نزع منه فصوصه ومرافقه, وقال مجاهد أمر به فغير ما كان فيه أحمر جُعل أصفر, وما كان أصفر جعل أحمر, وما كان أخضر جعل أحمر غير كل شيء عن حاله. وقال عكرمة زادوا فيه ونقصوا وقال قتادة جعل أسفله أعلاه ومقدمه مؤخره وزادوا فيه ونقصوا {فلما جاءت قيل أهكذا عرشك} أي عرض عليها عرشها وقد غير ونكر وزيد فيه ونقص منه فكان فيها ثبات وعقل, ولها لب ودهاء وحزم, فلم تقدم على أنه هو لبعد مسافته عنها ولا أنه غيره لما رأت من آثاره وصفاته وإن غير وبدل ونكر فقالت {كأنه هو} أي يشبهه ويقاربه. وهذا غاية في الذكاء والحزم.
وقوله: {وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين} قال مجاهد يقوله سليمان, وقوله تعالى: {وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين} هذا من تمام كلام سليمان عليه السلام في قول مجاهد وسعيد بن جبير رحمهما الله أي قال سليمان {وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين} وهي كانت قد صدها أي منعها من عبادة الله وحده {ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين} وهذا الذي قاله مجاهد وسعيد: حسنٌ وقاله ابن جرير أيضاً, ثم قال ابن جرير ويحتمل أن يكون في قوله {وصده} ضمير يعود إلى سليمان أو إلى الله عز وجل تقديره ومنعها {ما كانت تعبد من دون الله} أي صدها عن عبادة غير الله {إنها كانت من قوم كافرين} (قلت): ويؤيد قول مجاهد أنها إنما أظهرت الإسلام بعد دخولها إلى الصرح كما سيأتي.
وقوله: {قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيه} وذلك أن سليمان عليه السلام أمر الشياطين فبنوا لها قصراً عظيماً من قوارير أي من زجاج وأجري تحته الماء فالذي لا يعرف أمره يحسب أنه ماء ولكن الزجاج يحول بين الماشي وبينه. واختلفوا في السبب الذي دعا سليمان عليه السلام إلى اتخاذه فقيل: إنه لما عزم على تزوجها واصطفائها لنفسه, ذكر له جمالها وحسنها لكن في ساقيها هلب عظيم ومؤخر أقدامها كمؤخر الدابة. فساءه ذلك فاتخذ هذا ليعلم صحته أم لا ؟ هكذا قول محمد بن كعب القرظي وغيره. فلما دخلت وكشفت عن ساقيها رأى أحسن الناس ساقاً وأحسنهم قدماً ولكن رأى على رجليها شعراً لأنها ملكة وليس لها زوج فأحب أن يذهب ذلك عنها فقيل لها الموسى فقالت لا أستطيع ذلك. وكره سليمان ذلك وقال للجن: اصنعوا شيئاً غير الموسى يذهب بهذا الشعر فصنعوا له النورة. وكان أول من اتخذت له النورة, قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة ومحمد بن كعب القرظي والسدي وابن جريج وغيرهم.
وقال محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان ثم قال لها: ادخلي الصرح ليريها ملكاً هو أعز من ملكها وسلطاناً هو أعظم من سلطانها فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها لا تشك أنه ماء تخوضه فقيل لها إنه صرح ممرد من قوارير, فلما وقفت على سليمان دعاها إلى عبادة الله وحده وعاتبها في عبادة الشمس من دون الله, وقال الحسن البصري: لما رأت العلجة الصرح عرفت والله أن قد رأت ملكاً أعظم من ملكها, وقال محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم عن وهب بن منبه قال: أمر سليمان بالصرح وقد عملته له الشياطين من زجاج كأنه الماء بياضاً ثم أرسل الماء تحته ثم وضع له فيه سريره فجلس عليه وعكفت عليه الطير والجن والإنس ثم قال لها ادخلي الصرح ليريها ملكاً هو أعز من ملكها وسلطاناً هو أعظم من سلطانها {فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيه} لا تشك أنه ماء تخوضه, قيل لها {إنه صرح ممرد من قوارير}.
فلما وقفت على سليمان دعاها إلى عبادة الله عز وجل وحده وعاتبها في عبادتها الشمس من دون الله فقالت بقول الزنادقة فوقع سليمان ساجداً إعظاماً لما قالت وسجد معه الناس فسقط في يديها حين رأت سليمان صنع ما صنع فلما رفع سليمان رأسه قال ويحك ماذا قلت ؟ قالت أنسيت ما قلت ؟ فقالت {رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين} فأسلمت وحسن إسلامها. وقد روى الإمام أبو بكر بن أبي شيبة في هذا أثراً غريباً عن ابن عباس فقال: حدثنا الحسين بن علي عن زائدة حدثني عطاء بن السائب حدثنا مجاهد ونحن في الأزد قال حدثنا ابن عباس قال: كان سليمان عليه السلام يجلس على سريره ثم توضع كراسي حوله فيجلس عليها الإنس ثم يجلس الجن ثم الشياطين ثم تأتي الريح فترفعهم ثم تظلهم الطير ثم يغدون قدر ما يشتهي الراكب أن ينزل شهراً ورواحها شهرٌ, قال فبينما هو ذات يوم في مسير له إذ تفقد الطير ففقد الهدهد فقال {ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين * لأعذبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين} قال: وكان عذابه إياه أن ينتفه ثم يلقيه في الأرض فلا يمتنع من نملة ولا من شيء من هوام الأرض.
قال عطاء وذكر سعيد بن جبير عن ابن عباس مثل حديث مجاهد {فمكث غير بعيد ـ فقرأ حتى انتهى إلى قوله ـ سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين * اذهب بكتابي هذ} وكتب بسم الله الرحمن الرحيم, إلى بلقيس {أن لا تعلوا علي وائتوني مسلمين} فلما ألقى الهدهد الكتاب إليها ألقي في روعها أنه كتاب كريم وأنه من سليمان وأن لا تعلوا علي وائتوني مسلمين قالوا نحن أولوا قوة قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون, فلما جاءت الهدية سليمان قال: أتمدونني بمال ارجع إليهم فلما نظر إلى الغبار أخبرنا ابن عباس قال وكان بين سليمان وبين ملكة سبأ ومن معها حين نظر إلى الغبار كما بيننا وبين الحيرة, قال عطاء ومجاهد حينئذ في الأزد.
قال سليمان أيكم يأتيني بعرشها ؟ قال وبين عرشها وبين سليمان حين نظر إلى الغبار مسيرة شهرين {قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك} قال: وكان لسليمان مجلس يجلس فيه للناس كما يجلس الأمراء ثم يقوم. فقال: {أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك} قال سليمان أريد أعجل من ذلك, فقال الذي عنده علم من الكتاب أنا أنظر في كتاب ربي ثم آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك قال فنظر إليه سليمان فلما قطع كلامه رد سليمان بصره فنبع عرشها من تحت قدم سليمان من تحت كرسي كان سليمان يضع عليه رجله ثم يصعد إلى السرير, قال فلما رأى سليمان عرشها قال {هذا من فضل ربي} الاَية {قال نكروا لها عرشه} فلما جاءت قيل أهكذا عرشك ؟ قالت كأنه هو قال فسألته حين جاءته عن أمرين قالت لسليمان أريد ماء ليس من أرض ولا سماء. وكان سليمان إذا سئل عن شيء سأل الإنس ثم الجن ثم الشياطين قال: فقالت الشياطين هذا هين أجر الخيل ثم خذ عرقها ثم املأ منه الاَنية. قال فأمر بالخيل فأجريت ثم أخذ عرقها فملأ منه الاَنية, قال وسألت عن لون الله عز وجل, قال فوثب سليمان عن سريره فخر ساجداً فقال: يا رب لقد سألتني عن أمر إنه ليتعاظم في قلبي أن أذكره لك, فقال: ارجع فقد كفيتكهم قال فرجع إلى سريره قال ما سألت عنه ؟ قالت ما سألتك إلا عن الماء فقال لجنوده ما سألت عنه ؟ فقالوا ما سألتك إلا عن الماء, قال ونسوه كلهم. قال وقالت الشياطين إن سليمان يريد أن يتخذها لنفسه فإن اتخذها لنفسه ثم ولد بينهما ولد لم ننفك من عبوديته, قال فجعلوا صرحاً ممرداً من قوارير فيه السمك قال فقيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها فإذا هي شعراء. فقال سليمان هذا قبيح فما يذهبه ؟ قالوا يذهبه الموسى فقال أثر الموسى قبيح قال فجعلت الشياطين النورة. قال فهو أول من جعلت له النورة, ثم قال أبو بكر بن أبي شيبة ما أحسنه من حديث (قلت): بل هو منكر غريب جداً ولعله من أوهام عطاء بن السائب على ابن عباس, والله أعلم.
والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب مما وجد في صحفهم كروايات كعب ووهب سامحهما الله تعالى فيما نقلاه إلى هذه الأمة من أخبار بني إسرائيل من الأوابد والغرائب والعجائب مما كان وما لم يكن ومما حرف وبدل ونسخ. وقد أغنانا الله سبحانه عن ذلك بما هو أصح منه وأنفع وأوضح وأبلغ ولله الحمد والمنة. أصل الصرح في كلام العرب هو القصر وكل بناء مرتفع, قال الله سبحانه وتعالى إخباراً عن فرعون لعنه الله أنه قال لوزيره هامان {ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب} الاَية. والصرح قصر في اليمن عالي البناء, والممرد المبني بناء محكماً أملس {من قوارير} أي زجاج, وتمريد البناء تمليسه, ومارد: حصن بدومة الجندل, والغرض أن سليمان عليه السلام اتخذ قصراً عظيماً منيفاً من زجاج لهذه الملكة ليريها عظمة سلطانه وتمكنه, فلما رأت ما آتاه الله وجلالة ما هو فيه وتبصرت في أمره انقادت لأمر الله تعالى وعرفت أنه نبي كريم, وملك عظيم, وأسلمت لله عز وجل وقالت {رب إني ظلمت نفسي} أي بما سلف من كفرها وشركها وعبادتها وقومها للشمس من دون الله {وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين} أي متابعة لدين سليمان في عبادته لله وحده لا شريك له الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً.