تفسير الطبري تفسير الصفحة 380 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 380
381
379
 الآية : 35 -37
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِنّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ * فَلَمّا جَآءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ آتَانِي اللّهُ خَيْرٌ مّمّآ آتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنّهُم بِجُنُودٍ لاّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنّهُم مّنْهَآ أَذِلّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ }.
ذكر أنها قالت: إنـي مرسلة إلـي سلـيـمان, لتـختبره بذلك وتعرفه به, أملك هو, أم نبـيّ؟ وقالت: إن يكن نبـيا لـم يقبل الهدية, ولـم يرضه منا, إلا أن نتبعه علـى دينه, وإن يكن ملكا قبل الهدية وانصرف. ذكر الرواية عمن قال ذلك:
20507ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قالت: وإنّـي مُرْسلَةٌ إلَـيْهِمْ بِهَدِيّةٍ فَناظِرَةٌ بِـمَ يَرْجِعُ الـمُرْسَلُونَ قال: وبعثت إلـيه بوصائف ووصفَـاء, وألبستْهم لبـاسا واحدا حتـى لا يعرف ذكر من أنثى, فقالت: إن زيّـل بـينهم حتـى يعرف الذكر من الأنثى, ثم ردّ الهدية فإنه نبـيّ, وبنبغي لنا أن نترك ملكنا, ونتّبع دينه, ونلـحق به.
20508ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد قوله: وإنّـي مُرْسِلَةٌ إلَـيْهِمْ بِهَدِيّةٍ قال: بجوارٍ لبـاسهم لبـاس الغلـمان, وغلـمان لبـاسهم لبـاس الـجواري.
20509ـ حدثنا القامس, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, قال: قولها: وَإنّـي مُرْسِلَةٌ إلَـيْهِمْ بِهَدِيّةٍ قال: مئتـي غلام ومئتـي جارية. قال ابن جُرَيج, قال مـجاهد: قوله بِهَدِيّةٍ قال: جوار ألبستهنّ لبـاس الغلـمان, وغلـمان ألبستهم لبـاس الـجواري.
قال ابن جُرَيج: قال (مـجاهد): قالت: فإن خـلّص الـجواري من الغلـمان, وردّ الهدية فإنه نبـيّ, وينبغي لنا أن نتّبعه.
قال ابن جُرَيج, قال مـجاهد: فخـلّص سلـيـمان بعضهم من بعض, ولـم يقبل هديتها.
20510ـ قال: ثنا الـحسين, قال: حدثنا سفـيان, عن معمر, عن ثابت الـيُثانـيّ, قال: أهدت له صفـائح الذهب فـي أوعية الديبـاج فلـما بلغ ذلك سلـيـمان أمر الـجنّ فموّهوا له الاَجرّ بـالذهب, ثم أمر به فألقـي فـي الطرق فلـما جاءوا فرأوه ملقـى ما يُـلتفت إلـيه, صغر فـي أعينهم ما جاءوا به.
20511ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: إنّ الـمُلُوكَ إذَا دَخَـلُوا قَرْيَةً أفْسَدُوها... الاَية, وقالت: إن هذا الرجل إن كان إنـما همته الدنـيا فسنرضيه, وإن كان إنـما يريد الدين فلن يقبلَ غيره وإنّـي مُرْسِلَةٌ إلَـيْهِمْ بِهَدِيّةٍ فَناظرَةٌ بِـمَ يَرْجِعُ الـمُرْسَلُونَ.
20512ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن بعض أهل العلـم, عن وهب بن منبه, قال: كانت بلقـيس امرأة لبـيبة أديبة فـي بـيت ملك, لـم تـملك إلا لبقايا من مضى من أهلها, إنه قد سيست وساست حتـى أحكمها ذلك, وكان دينها ودين قومها فـيـما ذُكر الزنديقـية فلـما قرأت الكتاب سمعت كتابـا لـيس من كتب الـملوك التـي كانت قبلها, فبعثت إلـى الـمَقَاولة من أهل الـيـمن, فقالت لهم: يا أيّها الـمَلاُ إنّـي أُلْقِـيَ إلـيّ كِتابٌ كَرِيـمٌ, إنّهُ مِنْ سُلَـيْـمانَ وَإنّهُ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيـمِ, ألاّ تَعْلُوا عَلـيّ وأْتُونِـي مُسْلِـمِينَ إلـى قوله بِـمَ يَرْجِعُ الْـمُرْسَلُونَ ثم قالت: إنه قد جاءنـي كتاب لـم يأتنـي مثله من ملك من الـملوك قبله, فإن يكن الرجل نبـيا مرسلاً فلا طاقة لنا به ولا قوّة, وإن يكن الرجل ملكا يكاثر, فلـيس بأعزّ منا, ولا أعدّ. فهيّأت هدايا مـما يُهدَى للـملوك, مـما يُفتنون به, فقالت: إن يكن ملكا فسيقبل الهدية ويرغب فـي الـمال, وإن يكن نبـيا فلـيس له فـي الدنـيا حاجة, ولـيس إياها يريد, إنـما يريد أن ندخـل معه فـي دينه ونتبعه علـى أمره, أو كما قالت.
20513ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: وإنّـي مُرْسِلَةٌ إلَـيْهِمْ بِهَدِيّةٍ بعثت بوصائف ووصفـاء, لبـاسهم لبـاس واحد, فقالت: إن زيّـل بـينهم حتـى يعرف الذكر من الأنثى, ثم ردّ الهدية فهو نبـيّ, وينبغي لنا أن نتّبعه, وندخـل فـي دينه فزيّـل سلـيـمان بـين الغلـمان والـجواري, وردّ الهدية, فقال: أتُـمِدّونَنِ بِـمَالٍ فَمَا آتانِـيَ اللّهُ خَيْرٌ مِـمّا آتاكمْ.
20514ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: كان فـي الهدايا التـي بعثت بها وصائف ووصفـاء يختلفون فـي ثـيابهم, لتـميـيز الغلـمان من الـجواري, قال: فدعا بـماء, فجعل الـجواري يتوضأن من الـمرفق إلـى أسفل, وجعل الغلـمان يتوضئون من الـمرفق إلـى فوق. قال: وكان أبـي يحدثنا هذا الـحديث.
20515ـ حدثنا عبد الأعلـى, قال: حدثنا مروان بن معاوية, قال: حدثنا إسماعيـل, عن أبـي صالـح وَإنّـي مُرْسِلةٌ إلَـيْهِمْ بِهَدِيّةٍ قال: أرسلت بلبنة من ذهب, وقالت: إن كان يريد الدنـيا علـمته, وإن كان يريد الاَخرة علـمته.
وقوله: فَناظِرَةٌ بِـمَ يَرْجِعُ الْـمُرْسَلُونَ تقول: فأنظر بأيّ شيء من خبره وفعله فـي هديتـي التـي أرسلها إلـيه ترجع رسلـي, أبقبول وانصراف عنا, أم بردّ الهدية والثبـات علـى مطالبتنا بـاتبـاعه علـى دينه؟ وأسقطت الألف من «ما» فـي قوله بِـمَ وأصله: بـما, لأن العرب إذا كانت «ما» بـمعنى: أي, ثم وصلوها بحرف خافض أسقطوا ألفها تفريقا بـين الاستفهام وغيره, كما قال جلّ ثناؤه عَمّ يَتَساءَلونَ و قَالُوا: فِـيـمَ كُنْتُـمْ, وربـما أثبتوا فـيها الألف, كما قال الشاعر:
عَلامَا قَامَ يَشْتُـمُنِـي لَئِيـمٌكَخِنْزِيرٍ تَـمَرّغَ فِـي تُرَابِ
وقالت وإنّى مُرْسِلَةٌ إلَـيْهِمْ وإنـما أرسلت إلـى سلـيـمان وحده علـى النـحو الذي بـيّنا فـي قوله: عَلـى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ.
وقوله: فَلَـمّا جاءَ سُلَـيْـمانَ قالَ أتُـمِدّونَنِ بِـمَالٍ.
إن قال قائل: وكيف قـيـل: فَلَـمّا جاءَ سُلَـيْـمانَ فجعل الـخبر فـي مـجيء سلـيـمان عن واحد, وقد قال قبل ذلك فَناظِرَةٌ بِـمَ يَرْجِعُ الـمُرْسَلُونَ فإن كان الرسول كان واحدا, فكيف قـيـل بِـمَ يَرْجِعُ الـمُرْسَلُونَ وإن كانوا جماعة فكيف قـيـل: فَلَـمّا جَاءَ سُلـيْـمَانَ؟ قـيـل: هذا نظير ما قد بـيّنا قبل من إظهار العرب الـخبر فـي أمر كان من واحد علـى وجه الـخبر, عن جماعة إذا لـم يقصد قصد الـخبر عن شخص واحد بعينه, يُشار إلـيه بعينه, فسمي فـي الـخبر. وقد قـيـل: إن الرسول الذي وجّهته ملكة سبأ إلـى سلـيـمان كان أمرأً واحدا, فلذلك قال: فلَـمّا جاءَ سُلَـيْـمانَ يُراد به: فلـما جاء الرسول سلـيـمان واستدلّ قائلو ذلك علـى صحة ما قالوا من ذلك بقوله سلـيـمان للرسول: ارْجِعْ إلَـيْهِمْ وقد ذكر أن ذلك فـي قراءة عبد الله. فلـما جاءوا سلـيـمان علـى الـجمع, وذلك للفظ قوله: بِـمَ يَرْجِعُ الـمُرْسَلُونَ فصلـح الـجمع للفظ والتوحيد للـمعنى.
وقوله: قال أتُـمِدّونَنِ بِـمَالٍ يقول: قال سلـيـمان لـما جاء الرسول من قبل الـمرأة بهداياها: أتـمدوننِ بـمال. واختلف القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأه بعض قرّاء أهل الـمدينة «أتُـمِدّنَنِـي» بنونـين, وإثبـات الـياء. وقرأه بعض الكوفـيـين مثل ذلك, غير أنه حذف الـياء من آخر ذلك وكسر النون الأخيرة. وقرأه بعض قرّاء البصرة بنونـين, وإثبـات الـياء فـي الوصل وحذفها فـي الوقـف. وقرأه بعض قرّاء الكوفة بتشديد النون وإثبـات الـياء. وكلّ هذه القراءات متقاربـات وجميعها صواب, لأنها معروفة فـي لغات العرب, مشهورة فـي منطقها.)
وقوله: فَمَا آتانِـيَ اللّهُ خَيْرٌ مـمّا آتاكُمْ يقول: فما آتانـي الله من الـمال والدنـيا أكثر مـما أعطاكم منها وأفضل بَلْ أنْتُـمْ بِهَدِيّتِكُمْ تَفْرَحُونَ يقول: ما أفرح بهديتكم التـي أهديتـم إلـيّ, بل أنتـم تفرحون بـالهدية التـي تُهدى إلـيكم, لأنكم أهل مفـاخرة بـالدنـيا, ومكاثرة بها, ولـيست الدنـيا وأموالها من حاجتـي, لأن لله تعالـى ذكره قد مكّننـي منها وملّكنـي فـيها ما لـم يُـمَلّك أحدا ارْجِعْ إلَـيْهِمْ وهذا قول سلـيـمان لرسول الـمرأة ارْجِعْ إلَـيْهِمْ فَلَنَأْتِـيَنّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها لا طاقة لهم بها ولا قدرة لهم علـى دفعهم عما أرادوا منهم. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
20516ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن بعض أهل العلـم, عن وهب بن منبه, قال: لـما أتت الهدايا سلـيـمان فـيها الوصائف والوُصفـاء, والـخيـل العراب, وأصناف من أصناف الدنـيا, قال للرسل. الذين جاءوا به: أتُـمِدّونَنِ بِـمَالٍ فَمَا آتَانِـيَ خَيْرٌ مِـمّا آتاكُمْ بَلْ أنْتُـمْ بِهَدِيّتِكُمْ تَفْرَحُونَ لأنه لا حاجة لـي بهديتكم, ولـيس رأيـي فـيه كرأيكم, فـارجعوا إلـيها بـما جئتـم به من عندها, فَلَنَأْتِـيَنّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها.
20517ـ حدثنا عمرو بن عبد الـحميد, قال: حدثنا مروان بن معاوية, عن إسماعيـل بن أبـي خالد, عن أبـي صالـح فـي قوله: فَلَنَأْتِـيَنّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها قال: لا طاقة لهم بها.
وقوله وَلَنُـخْرِجَنّهُمْ مِنْهَا أذِلّةً وَهُمْ صَاغرُونَ يقول: ولنـخرجنّ من أرسلكم من أرضهم أذلة وهم صاغرون إن لـم يأتونـي مسلـمين. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
20518ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن بعض أهل العلـم, عن وهب بن منبه: وَلَنُـخْرِجَنّهُمْ مِنْها أذِلّةً وَهُمْ صَاغرونَ, أو لتأتـينـي مسلـمة هي وقومها.
الآية : 38-40
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَ يَأَيّهَا الْمَلاُ أَيّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مّن الْجِنّ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مّقَامِكَ وَإِنّي عَلَيْهِ لَقَوِيّ أَمِينٌ * قَالَ الّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الْكِتَابِ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَـَذَا مِن فَضْلِ رَبّي لِيَبْلُوَنِيَ أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنّ رَبّي غَنِيّ كَرِيمٌ }.
اختلف أهل العلـم فـي الـحين الذي قال فـيه سلـيـمان يا أيها الـمَلأُ أيّكُمْ يَأْتِـينِـي بِعَرْشِها فقال بعضهم: قال ذلك حين أتاه الهدهد بنبأ صاحبة سبأ, وقال له: جئْتُكَ مِنْ سَبأ بِنَبأٍ يَقِـينٍ وأخبره أن لها عرشا عظيـما, فقال له سلـيـمان صلى الله عليه وسلم: سَنَنْظُرُ أصَدَقْتَ أمْ كُنْتَ مِنَ الكاذِبِـينَ فكان اختبـاره صدقه من كذبه بأن قال لهؤلاء: أيكم يأتـينـي بعرش هذه الـمرأة قبل أن يأتونـي مسلـمين. وقالوا إنـما كتب سلـيـمان الكتاب مع الهدهد إلـى الـمرأة بعد ما صحّ عنده صدق الهدهد بـمـجيء العالـم بعرضها إلـيه علـى ما وصفه به الهدهد, قالوا: ولولا ذلك كان مـحالاً أن يكتب معه كتابـا إلـى من لا يدري, هل هو فـي الدنـيا أم لا؟ قالوا: وأخرى أنه لو كان كتب مع الهدهد كتابـا إلـى الـمرأة قبل مـجيء عرشها إلـيه, وقبل علـمه صدق الهدهد بذلك, لـم يكن لقوله له سَنَنْظُرُ أصَدَقْتَ أمْ كُنْتَ مِنَ الكاذبِـينَ معنى, لأنه لا يُـلِـم بخبره الثانـي من إبلاغه إياها الكتاب, أو ترك إبلاغه إياها ذلك, إلا نـحو الذي علـم بخبره الأوّل حين قال له: جئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبإٍ يَقِـينٍ قالوا: وإن لـم يكن فـي الكتاب معهم امتـحان صدقه من كذبه, وكان مـحالاً أن يقول نبـيّ الله قولاً لا معنى له وقد قال: سَنَنْطُرُ أصَدَقْتَ أمْ كُنْتَ مِنَ الكاذِبِـينَ علـم أن الذي امتـحن به صدق الهدهد من كذبه هو مصير عرش الـمرأة إلـيه, علـى ما أخبره به الهدهد الشاهد علـى صدقه, ثم كان الكتاب معه بعد ذلك إلـيها. ذكر من قال ذلك:
20519ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قال: إن سلـيـمان أوتـي ملكا, وكان لا يعلـم أن أحدا أوتـي ملكا غيره فلـما فقد الهدهد سأله: من أين جئت؟ ووعده وعيدا شديدا بـالقتل والعذاب, قال: جِئْتُكَ مِنْ سَبأٍ بِنَبأٍ يَقِـينٍ قال له سلـيـمان: ما هذا النبأ؟ قال الهدهد: إنّى وَجَدْتٌ امْرأةً بسبأ تَـمْلِكُهُمْ, وأُوتِـيَتْ مِنْ كُلّ شَيْءٍ, ولَهَا عَرْشٌ عَظِيـمٌ فلـما أخبر الهدهد سلـيـمان أنه وجد سلطانا, أنكر أن يكون لأحد فـي الأرض سلطان غيره, فقال لـمن عنده من الـجنّ والإنس: يا أيّها الـمَلأّ أيّكُمْ يَأْتِـينِـي بعَرْشِها قَبْلَ أنْ يَأْتُونِـي مُسْلِـمِينَ؟ قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الـجِنّ أنا آتِـيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ, وإنّـي عَلَـيْهِ لَقَوِيّ أمِينٌ قال سلـيـمان: أريد أعجل من ذلك قالَ الّذِي عِنْدَهُ عِلْـمٌ مِنَ الكِتابِ وهو رجل من الإنس عنده علـم من الكتاب فـيه اسم الله الأكبر, الذي إذا دعي به أجاب: أنا آتِـيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ إلَـيْكَ طَرْفُكَ فدعا بـالاسم وهو عنده قائم, فـاحتـمل العرش احتـمالاً حتـى وُضع بـين يدي سلـيـمان, والله صنع ذلك فلـما أتـى سلـيـمان بـالعرش وهم مشركون, يسجدون للشمس والقمر, أخبره الهدهد بذلك, فكتب معه كتابـا ثم بعثه إلـيهم, حتـى إذا جاء الهدهد الـملكة ألقـى إلـيها الكتاب قالَتْ يا أيّها الـمَلأُ إنّـي أُلْقِـيَ إلـيّ كِتابٌ كَرِيـمٌ... إلـى وأْتُونِـي مُسْلِـمِينَ فقالت لقومها ما قالت وإنّـي مُرْسِلَةٌ إلَـيْهِمْ بِهَدِيّةٍ فَناظِرَةٌ بِـمَ يَرْجِعُ الـمُرْسَلُونَ قال: وبعثت إلـيه بوصائف ووصفـاء, وألبستهم لبـاسا واحدا, حتـى لا يعرف ذكر من أنثى, فقالت: إن زيّـل بـينهم حتـى يعرف الذكر من الأنثى, ثم ردّ الهدية, فإنه نبـيّ, وينبغي لنا أن نترك ملكنا ونتّبع دينه ونلـحق به, فردّ سلـيـمان الهدية وزيّـل بـينهم, فقال: هؤلاء غلـمان, وهؤلاء جَوَارٍ, وقال: أتُـمِدونَنِ بِـمَالٍ فَمَا آتانِـيَ اللّهُ خَيْرٌ مِـمّا أتاكُمْ بَلْ أنْتُـمْ بِهَدِيّتِكُمْ تفْرَحُونَ... إلـى آخر الاَية.
20520ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: إنّـي وَجَدْتُ امْرأةً تَـمْلِكُهُمْ... الاَية قال: وأنكر سلـيـمان أن يكون لأحد علـى الأرض سلطان غيره, قال لـمن حوله من الـجنّ والإنس: أيّكُمْ يَأْتِـينِـي بعَرْشِها... الاَية.
وقال آخرون: بل إنـما اختبر صدقَ الهدهدِ سلـيـمانُ بـالكتاب, وإنـما سأل من عنده إحضاره عرش الـمرأة بعد ما خرجت رسلها من عنده, وبعد أن أقبلت الـمرأة إلـيه. ذكر من قال ذلك:
20521ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن بعض أهل العلـم, عن وهب بن منبه, قال: لـما رجعت إلـيها الرسل بـما قال سلـيـمان: قالت: والله عرفت ما هذا بـملك, وما لنا به طاقة, وما نصنع بـمكاثرته شيئا, وبعثت: إنـي قادمة علـيك بـملوك قومي, حتـى أنظر ما أمرك, وما تدعو إلـيه من دينك. ثم أمرت بسرير ملكها, الذي كانت تـجلس علـيه, وكان من ذهب مفصص بـالـياقوت والزبرجد واللؤلؤ, فجعل فـي سبعة أبـيات بعضها فـي بعض, ثم أقـفلت علـيه الأبواب. وكانت إنـما يخدمها النساء, معها ستّ مئة امرأة يخدمنها ثم قالت لـمن خـلفت علـى سلطانها, احتفظ بـما قِبَلك, وبسرير ملكي, فلا يخـلص إلـيه أحد من عبـاد الله, ولا يرينه أحد حتـى أتـيك ثم شخصت إلـى سلـيـمان فـي اثنـي عشر ألف قَـيْـلٍ معها من ملوك الـيـمن, تـحت يد كلّ قَـيْـلٍ منهم ألوف كثـيرة, فجعل سلـيـمان يبعث الـجنّ,. فـيأتونه بـمسيرها ومنتهاها كلّ يوم ولـيـلة, حتـى إذا دنت جمع مَن عنده من الـجنّ والإنس مـمن تـحت يده, فقال: يا أيّها الـمَلأُ أيّكُمْ يَأْتِـينِـي بِعَرْشِها قَبْلَ أنْ يأْتُونِـي مُسْلِـمِينَ.
وتأويـل الكلام: قال سلـيـمان لأشراف من حضره من جنده من الـجنّ والإنس: يا أيّها الـمَلأُ أيّكُمْ يَأْتِـينِـي بِعَرْشِها يعنـي سريرها. كما:
20522ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد قوله: أيّكُمْ يَأْتِـينِـي بعَرْشِها قال: سرير فـي أريكة.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, قال: عرشها سرير فـي أريكة. قال ابن جُرَيج: سرير من ذهب, قوائمه من جوهر ولؤلؤ.
20523ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن بعض أهل العلـم, عن وهب بن منبه أيّكُمْ يَأْتِـينِـي بعَرْشِها: بسريرها.
وقال ابن زيد فـي ذلك ما:
20524ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: أيكُمْ يَأْتِـينِـي بعَرْشِها قال: مـجلسها.
واختلف أهل العلـم فـي السبب الذي من أجله خصّ سلـيـمان مسألة الـملأ من جنده إحضار عرش هذه الـمرأة من بـين أملاكها قبل إسلامها, فقال بعضهم: إنـما فعل ذلك لأنه أعجبه حين وصف له الهدهد صفته, وخشي أن تسلـم فـيحرُم علـيه مالها, فأراد أن يأخذ سريرها ذلك قبل أن يحرُم علـيه أخذه بإسلامها. ذكر من قال ذلك:
20525ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو سفـيان, عن معمر, عن قَتادة, قال: أخبر سلـيـمانَ الهدهدُ أنها قد خرجت لتأتـيه, وأخبر بعرشها فأعجبه. كان من ذهب وقوائمه من جوهر مكلّل بـاللؤلؤ, فعرف أنهم إن جاءوه مسلـمين لـم تـحلّ لهم أموالهم, فقال للـجنّ: أيّكُمْ يَأْتِـينِـي بِعَرْشِها قَبْلَ أنْ يَأتونِـي مُسْلِـمِينَ.
وقال آخرون: بل فعل ذلك سلـيـمان لـيعاتبها به, ويختبر به عقلها, هل تثبته إذا رأته, أم تنكره؟ ذكر من قال ذلك:
20526ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: أعلـم الله سلـيـمان أنها متأتـيه, فقال: أيّكُمْ يَأْتِـينِـي بِعَرْشِها قَبْلَ أنْ يَأْتُونِـي مُسْلِـمِينَ حتـى يعاتبها, وكانت الـملوك يتعاتبون بـالعلـم.
واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله قَبْلَ أن يَأْتُونِـي مُسْلِـمِينَ فقال بعضهم: معناه: قبل أن يأتونـي مستسلـمين طوعا. ذكر من قال ذلك:
20527ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله وقبْل أنْ يَأْتُونِـي مُسْلِـمِينَ يقول: طائعين.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: قبل أن يأتونـي مسلـمين الإسلام الذي هو دين الله. ذكر من قال ذلك:
20528ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: قال ابن جُرَيج أيّكُمْ يَأْتِـينِـي بِعَرْشِها قَبْلَ أنْ يَأْتُونِـي مُسْلِـمِينَ بحرمة الإسلام فـيـمنعهم وأموالهم, يعنـي الإسلام يـمنعهم.
قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال بـالصواب فـي السبب الذي من أجله خصّ سلـيـمان بسؤاله الـملأ من جنده بإحضاره عرش هذه الـمرأة دون سائر ملكها عندنا, لـيجعل ذلك حجة علـيها فـي نبوّته, ويعرّفها بذلك قُدرة الله وعظيـم شأنه, أنها خـلّفته فـي بـيت فـي جوف أبـيات, بعضها فـي جوف بعض, مغلق مقـفل علـيها, فأخرجه الله من ذلك كله, بغير فتـح أغلاق وأقـفـال, حتـى أوصله إلـى وَلِـيّة من خـلقه, وسلـمه إلـيه, فكان لها فـي ذلك أعظم حجة, علـى حقـيقة ما دعا لها إلـيه سلـيـمان, وعلـى صدق سلـيـمان فـيـما أعلـمها من نبوّته.
فأما الذي هو أولـى التأويـلـين فـي قوله قَبْلَ أنْ يَأْتُونِـي مُسْلِـمِينَ بتأويـله, فقول ابن عبـاس الذي ذكرناه قبل, من أن معناه طائعين, لأن الـمرأة لـم تأت سلـيـمان إذ أتته مسلـمة, وإنـما أسلـمت بعد مقدمها علـيه وبعد مـحاورة جرت بـينهما ومساءلة.)
وقوله: قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الـجِنّ يقول تعالـى ذكره: قال رئيس من الـجنّ مارد قويّ. وللعرب فـيه لغتان: عفريت, وعفرية فمن قال: عفرية, جمعه: عفـاري ومن قال: عفريت, جمعه: عفـاريت. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
20529ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: قال ابن جُرَيج, قال مـجاهد: قال عِفْرِيتٌ مِنَ الـجِنّ قال: مارد من الـجنّ أنا آتِـيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ.
20530ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو سفـيان, عن معمر, عن قَتادة وغيره, مثله.
20531ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو سفـيان, عن معمر, عن بعض أصحابه قالَ عِفْرِيتٌ قال: داهية.
20532ـ قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, قال: أخبرنـي وهب بن سلـيـمان, عن شعيب الـجبـائي قال: العفريت الذي ذكره الله اسمه: كوزن.
20533ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن بعض أهل العلـم, قَالَ عِفْرِيتٌ اسمه: كوزن.
وقوله: أنا آتِـيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ يقول: أنا آتـيك بعرشها قبل أن تقوم من مقعدك هذا. وكان فما ذُكر قاعدا للقضاء بـين الناس, فقال: أنا أتـيك به قبل أن تقوم من مـجلسك هذا الذي جلست فـيه للـحكم بـين الناس. وذكر أنه كان يقعد إلـى انتصاف النهار. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
20534ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
20535ـ قال: ثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو سفـيان, عن معمر, عن قَتادة وغيره, مثله, قال: وكان يقضي قال: قبل أن تقوم من مـجلسك الذي تقضي فـيه.
20536ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن بعض أهل العلـم, عن وهب بن منبه أنا آتِـيكَ بِهِ قَبْلَ أن تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ يعنـي مـجلسه.
وقوله وإنّـي عَلَـيْهِ لَقَوِيّ أمِينٌ علـى ما فـيه من الـجواهر, ولا أخون فـيه. وقد قـيـل: أمين علـى فرج الـمرأة. ذكر من قال ذلك:
20537ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, فـي قوله وإنّـي عَلَـيْهِ لَقَوِيّ أمِينٌ يقول: قويّ علـى حمله, أمين علـى فرج هذه.
قوله: قَالَ الّذِي عِنْدَه عِلْـمٌ مِنَ الكِتابِ يقول جلّ ثناؤه: قال الذي عنده علـم من كتاب الله, وكان رجلاً فـيـما ذكر من بنـي آدم, فقال بعضهم: اسمه بلـيخا. ذكر من قال ذلك:
20538ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا أبو عثمة, قال: حدثنا شعبة, عن بشر, عن قَتادة, فـي قوله قالَ الّذي عنْدَه عِلْـمٌ مِنَ الكِتابِ قال: كان اسمه بلـيخا.
20539ـ حدثنا يحيى بن داود الواسطي, قال: حدثنا أبو أسامة, عن إسماعيـل, عن أبـي صالـح, فـي قوله الّذِي عِنْدَهُ عِلْـمٌ مِنَ الكِتابِ رجل من الإنس.
20540ـ حدثنا ابن عرفة, قال: حدثنا مروان بن معاوية الفزاريّ, عن العلاء بن عبد الكريـم, عن مـجاهد, فـي قول الله: قالَ الّذِي عِنْدَه عِلْـمٌ مِنَ الكِتابِ أنا آتِـيكَ بِهِ قال: أنا أنظر فـي كتاب ربـي, ثم آتـيك به قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ إلَـيْكَ طَرْفُكَ قال: فتكلـم ذلك العالـم بكلام دخـل العرش تـحت الأرض حتـى خرج إلـيهم.
20541ـ حدثنا ابن عرفة, قال: ثنـي حماد بن مـحمد, عن عثمان بن مطر, عن الزهريّ, قال: دعا الذي عنده علـم من الكتاب: يا إلهنا وإله كلّ شيء إلها واحدا, لا إله إلا أنت, ائتنـي بعرشها, قال: فمثل بـين يديه.
20542ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو سفـيان, عن معمر, عن قَتادة قالَ الّذِي عِنْدَهُ عِلْـمٌ مِنَ الكِتابِ قال: رجل من بنـي آدم أحسبه قال: من بنـي إسرائيـل, كان يعلـم اسم الله الذي إذا دعي به أجاب.
20543ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله الّذِي عِنْدَهُ عِلْـمٌ مِنَ الكِتابِ قال: الاسم الذي إذا دعي به أجاب, وهو: يا ذا الـجلال والإكرام.
20544ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول: قال سلـيـمان لـمن حوله: أيّكُمْ يَأْتِـينِـي بِعَرْشِها قَبْلِ أنْ يَأْتُونِـي مُسْلِـمِينَ فقال عفريت أنا آتِـيكَ بِهِ قَبْلَ أن تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ قال سلـيـمان: أريد أعجل من ذلك, فقال رجل من الإنس عنده علـم من الكتاب, يعنـي اسم الله إذا دعي به أجاب.
20545ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الـجِنّ أنا آتِـيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ, وإنّـي عَلَـيْهِ لَقَوِيّ أمِينٌ لا آتـيك بغيره, أقول غيره أمثله لك. قال: وخرج يومئذٍ رجل عابد فـي جزيرة من البحر, فلـما سمع العفريت قالَ أنا آتِـيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ إلَـيْكَ طَرْفُكَ قال: ثم دعا بـاسم من أسماء الله, فإذا هو يحمل بـين عينـيه, وقرأ: فَلَـمّا رآهُ مُسْتَقرّا عنْدَهُ قالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبّـي... حتـى بلغ إنّ رَبّـي غَنِـيّ كَرِيـمٌ.
20546ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, قال: قال رجل من الإنس. قال: وقال مـجاهد: الذي عنده علـم من الكتاب: علـم اسم الله.
وقال آخرون: الذي عنده علـم من الكتاب, كان آصف. ذكر من قال ذلك:
20547ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق قَالَ عِفْرِيتٌ لسلـيـمان أنا آتِـيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ, وإنّـي عَلَـيْهِ لَقَوِيّ أمِينٌ فزعموا أن سلـيـمان بن داود قال: أبتغي أعجل من هذا, فقال آصف بن برخيا, وكان صدّيقا يعلـم الاسم الأعظم الذي إذا دعي الله به أجاب, وإذا سئل به أعطى: أنا يا نبـيّ الله آتِـيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ إلَـيْكَ طَرْفُكَ.
وقوله: أنا آتِـيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ إلَـيْكَ طَرْفُكَ اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك, فقال بعضهم: معناه: أنا آتـيك به قبل أن يصل إلـيك من كان منك علـى مدّ البصر. ذكر من قال ذلك:
20548ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي إبراهيـم, قال: حدثنا إسماعيـل بن أبـي خالد, عن سعيد بن جُبَـير قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ إلَـيْكَ طَرْفُكَ قال: من قبل أن يرجع إلـيك أقصى من ترى, فذلك قوله قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ إلَـيْكَ طَرْفُكَ.
20549ـ قال: ثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو سفـيان, عن معمر, قال: قال غير قَتادة قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ إلَـيْكَ طَرْفُكَ قبل أن يأتـيك الشخص من مدّ البصر.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: من قبل أن يبلغ طرفك مداه وغايته. ذكر من قال ذلك:
20550ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن بعض أهل العلـم عن وهب بن منبه قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ إلَـيْكَ طَرْفُكَ تـمدّ عينـيك فلا ينتهي طرفك إلـى مداه حتـى أمثله بـين يديك. قال: ذلك أريد.
20551ـ حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا عثام, عن إسماعيـل, عن سعيد بن جُبَـير, قال: أخبرت أنه قال: ارفع طرفك من حيث يجيء, فلـم يرجع إلـيه طرفه حتـى وضع العرش بـين يديه.
20552ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا يحيى, قال: حدثنا سفـيان, عن عطاء, عن مـجاهد, فـي قوله قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ إلَـيْكَ طَرْفُكَ قال: مدّ بصره.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ إلَـيْكَ طَرْفُكَ قال: إذا مدّ البصر حتـى يردّ الطرف خاسئا.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ إلَـيْكَ طَرْفُكَ قال: إذا مدّ البصر حتـى يحسر الطرف.
قال أبو جعفر: وأولـى القولـين فـي ذلك بـالصواب قول من قال: قبل أن يرجع إلـيك طرفك من أقصى أثره, وذلك أن معنى قوله يَرَتَدّ إلَـيْكَ يرجع إلـيك البصر, إذا فتـحت العين غير راجع, بل إنـما يـمتدّ ماضيا إلـى أن يتناهى ما امتدّ نوره. فإذا كان ذلك كذلك, وكان الله إنـما أخبرنا عن قائل ذلك أنا آتِـيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ يَرْتَدّ لـم يكن لنا أن نقول: أنا آتـيك به قبل أن يرتدّ راجعا إلَـيْكَ طَرْفُكَ من عند منتهاه.
وقوله: فَلَـمّا رآه مُسْتَقِرّا عِنْدَهُ يقول: فلـما رأى سلـيـمان عرش ملكة سبأ مستقرّا عنده. وفـي الكلام متروك استغنـي بدلالة ما ظهر عما ترك, وهو: فدعا الله, فأتـى به فلـما رآه سلـيـمان مستقرّا عنده.
وذُكر أن العالـم دعا الله, فغار العرش فـي الـمكان الذي كان به, ثم نبع من تـحت الأرض بـين يدي سلـيـمان. ذكر من قال ذلك:
20553ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـيـمة, عن ابن إسحاق, عن بعض أهل العلـم, عن وهب بن منبه, قال: ذكروا أن آصِف بن برخيا توضأ, ثم ركع ركعتـين, ثم قال: يا نبـيّ الله, امدد عينك حتـى ينتهي طرفك, فمدّ سلـيـمان عينه ينظر إلـيه نـحو الـيـمن, ودعا آصف فـانـخرق بـالعرش مكانه الذي هو فـيه, ثم نبع بـين يدي سلـيـمان فَلَـمّا رَآهُ سلـيـمان مُسْتَقِرّا عِنْدَهَ قالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبّـي لِـيَبْلُوَنِـي... الاَية.
20554ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن سعيد بن جُبَـير, عن ابن عبـاس, قال: نبع عرشها من تـحت الأرض.
وقوله: قالَ هَذَا مِنْ فَضِلِ رَبّـي لِـيَبْلُوَنِـي يقول: هذا البصر والتـمكن والـملك والسلطان الذي أنا فـيه حتـى حمل إلـيّ عرش هذه فـي قدر ارتداد الطرف من مأرب إلـى الشام, من فضل ربـي الذي أفْضَلَه علـيّ وعطائه الذي جاد به علـيّ, لـيبلونـي, يقول: لـيختبرنـي ويـمتـحننـي, أأشكر ذلك من فعله علـيّ, أم أكفر نعمته علـيّ بترك الشكر له؟
وقد قـيـل: إن معناه: أأشكر علـى عرش هذه الـمرأة إذ أُتـيت به, أم أكفر إذ رأيت من هو دونـي فـي الدنـيا أعلـم منـي؟ ذكر من قال ذلك:
20555ـ حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, قال: أخبرنـي عطاء الـخراسانـي, عن ابن عبـاس, فـي قوله: فَلَـمّا رآهُ مُسْتَقِرّا عِنْدَهُ قالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبّـي لِـيَبْلُوَنِـي أأشْكُرُ علـى السرير إذ أُتـيت به أمْ أكْفُرُ إذ رأيت من هو دونـي فـي الدنـيا أعلـم منـي؟.
وقوله: وَمَنْ شَكَرَ فإنّـمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ يقول: ومن شكر نعمة الله علـيه, وفضله علـيه, فإنـما يشكر طلب نفع نفسه, لأنه لـيس بنفع بذلك غير نفسه, لأنه لا حاجة لله إلـى أحد من خـلقه, وإنـما دعاهم إلـى شكره تعريضا منه لهم للنفع, لا لاجتلاب منه بشكرهم إياه نفعا إلـى نفسه, ولا دفع ضرّ عنها. وَمَنْ كَفَرَ فإنّ رَبّـي غَنِـيّ كَرِيـمٌ يقول: ومن كفر نعمه وإحسانه إلـيه, وفضله علـيه, لنفسه ظلـم, وحظّها بخَس, والله غنّـي عن شكره, لا حاجة به إلـيه, لا يضرّه كفر من كفر به من خـلقه, كريـمٌ, ومِن كرمه إفضاله علـى من يكفر نعمه, ويجعلها وصلة يتوصل بها إلـى معاصيه.

الآية : 41
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَ نَكّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِيَ أَمْ تَكُونُ مِنَ الّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: قال سلـيـمان لـما أتـى عرش بلقـيس صاحبة سبأ, وقدمت هي علـيه, لـجنده: غيّروا لهذه الـمرأة سريرها. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
20556ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو سفـيان, عن معمر, عن قَتادة, قوله نَكّرُوا لَهَا عَرْشَها قال: غيروا.
20557ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: فلـما أتته قالَ نَكّرُوا لَهَا عَرْشَها قال: وتنكير العرش, أنه زيد فـيه ونقص.
20558ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله نَكّرُوا لَهَا عَرْشَها قال: غيّروه.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاح, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, نـحوه.
20559ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله نَكرُوا لهَا عَرْشَها قال: مـجلسها الذي تـجلس فـيه.
20560ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول, أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول, فـي قوله نَكّرُوا لَهَا عَرْشَها أمرهم أن يزيدوا فـيه, وينقصوا منه.
وقوله: نَنْظُرْ أتَهْتَدِي يقول: ننظر أتعقل فتثبت عرشها أنه هو الذي لها أمْ تَكُونُ مِنَ الّذِينَ لا يَهْتَدُونَ يقول: من الذين لا يعقلون فلا تثبت عرشها.
وقـيـل: إن سلـيـمان إنـما نكّر لها عرشها, وأمر بـالصرح يعمل لها, من أجل أن الشياطين كانوا أخبروه أنه لا عقل لها, وأن رجلها كحافر حمار, فأراد أن يعرف صحة ما قـيـل له من ذلك. وبنـحو الذي قلنا فـي تأويـل قوله أتَهْتَدِي أمْ تَكُونُ مِنَ الّذِين لا يَهْتَدُونَ قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
20561ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس ننْظُرْ أتَهْتَدِي أمْ تَكُونُ مِنَ الّذِينَ لا يَهْتَدُونَ قال: زيد فـي عرشها ونقص منه, لـينظر إلـى عقلها, فوُجدت ثابتة العقل.
20562ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد نَنْظُرْ أتَهْتَدِي أتعرفه.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: ثنـي ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله نَنْظُرْ أتَهْتَدِي قال: تعرفه.
20563ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن بعض أهل العلـم, عن وهب بن منبه: أتَهْتَدِي أمْ تَكُونَ مِنَ الّذِينَ لا يَهْتَدُونَ: أي أتعقل, أم تكون من الذين لا يعقلون؟ ففعل ذلك لـينظر أتعرفه, أم لا تعرفه؟
الآية : 42
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَلَمّا جَآءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنّا مُسْلِمِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: لـما جاءت صاحبة سبأ سلـيـمان, أخرج لها عرشها, فقال لها: أَهَكَذَا عَرْشُكِ؟ قَالت وشبهته به: كَأنّهُ هُوَ. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
20564ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن بعض أهل العلـم, عن وهب بن منبه, قال: لـما انتهت إلـى سلـيـمان وكلـمته أخرج لها عرشها, ثم قال: أهَكَذَا عَرْشُكِ؟ قالَتْ كأنّهُ هُوَ.
20565ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو سفـيان, عن معمر, عن قَتادة فَلَـمّا جَاءَتَ قِـيـلَ أهَكَذَا عَرْشكِ؟ قالَتْ كأنّهُ هُوَ قال: شبهته, وكانت قد تركته خـلفها.
20566ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: كان أبـي يحدّثنا هذا الـحديث كله, يعنـي حديث سلـيـمان, وهذه الـمرأة فلـما جاءت قِـيـلَ أهَكَذَا عَرْشُكِ؟ قالَتْ كأنّهُ هُوَ شكّت.
وقوله: وأوتِـينا العِلْـمَ مِنْ قَبْلِها يقول تعالـى ذكره مخبرا عن قـيـل سلـيـمان, وقال سلـيـمان: وَأُوِتـينَا الْعِلْـمَ مِنْ قَبْلِهَا أي هذه الـمرأة, بـالله وبقدرته علـى ما يشاء, وَكُنّا مُسْلِـمِينَ لله من قبلها. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك, قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
20567ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله وأُوتِـينَا العِلْـمَ مِنْ قَبْلِها قال: سلـيـمان بقوله.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, مثله.
الآية : 43
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَصَدّهَا مَا كَانَت تّعْبُدُ مِن دُونِ اللّهِ إِنّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: ومنع هذه الـمرأة صاحبة سبأ ما كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ الله, وذلك عبـادتها الشمس أن تعبد الله.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
20568ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد وَصَدّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللّهِ قال: كفرها بقضاء الله غير الوثن (صدّها) أن تهتدي للـحق.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد وَصَدّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دونِ اللّهِ قال: كفرها بقضاء الله, صدها أن تهتدي للـحق.
ولو قـيـل: معنى ذلك: وصدّها سلـيـمان ما كانت تعبد من دون الله, بـمعنى: منعها وحال بـينها وبـينه, كان وجها حسنا. ولو قـيـل أيضا: وصدّها الله ذلك بتوفـيقها للإسلام, كان أيضا وجها صحيحا.
وقوله: إنّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ يقول: إن هذه الـمرأة كانت كافرة من قوم كافرين. وكسرت الألف من قوله «إنها» علـى الابتداء. ومن تأول قوله: وَصَدّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللّهِ التأويـل الذي تأولنا, كانت «ما» من قوله ما كانَتْ تَعْبُدُ فـي موضع رفع بـالصد, لأن الـمعنى فـيه لـم يصدها عن عبـادة الله جهلها, وأنها لا تعقل, إنـما صدها عن عبـادة الله عبـادتها الشمس والقمر, وكان ذلك من دين قومها وآبـائها, فـاتبعت فـيه آثارهم. ومن تأوله علـى الوجهين الاَخرين كانت «ما» فـي موضع نصب.
الآية : 44
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: حسر سورة النـمل) {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصّرْحَ فَلَمّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنّهُ صَرْحٌ مّمَرّدٌ مّن قَوارِيرَ قَالَتْ رَبّ إِنّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ }.
ذُكر أن سلـيـمان لـما أقبلت صاحبة سبأ تريده, أمر الشياطين فبنوا له صرحا, وهو كهيئة السطح من قوارير, وأجرى من تـحته الـماء لـيختبر عقلها بذلك, وفهمها علـى نـحو الذي كانت تفعل هي من توجيهها إلـيه الوصائف والوصفـاء لـيـميز بـين الذكور منهم والإناث معاتبة بذلك كذلك.
20569ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن بعض أهل العلـم, عن وهب بن منبه, قال: أمر سلـيـمان بـالصرح, وقد عملته له الشياطين من زجاج كأنه الـماء بـياضا, ثم أرسل الـماء تـحته, ثم وضع له فـيه سريره, فجلس علـيه, وعكفت علـيه الطير والـجنّ والإنس, ثم قال: ادْخُـلِـي الصّرْحَ لـيريها مُلكا هو أعزّ من مُلكها, وسلطانا هو أعظم من سلطانها فَلَـما رأَتْهُ حَسِبَتْهُ لّـجةً وكَشَفَتْ عَنْ ساقَـيْها لا تشكّ أنه ماء تـخوضه, قـيـل لها: ادخـلـي إنه صرح مـمرّد من قوارير فلـما وقـفت علـى سلـيـمان دعاها إلـى عبـادة الله وعاتبها فـي عبـادتها الشمس دون الله, فقالت بقول الزنادقة, فوقع سلـيـمان ساجدا إعظاما لـما قالت, وسجد معه الناس وسقط فـي يديها حين رأت سلـيـمان صنع ما صنع فلـما رفع سلـيـمان رأسه قال: ويحكِ ماذا قلت؟ قال: وأُنْسِيت ما قالت:, فقالت: رَبّ إنّـي ظَلَـمْتُ نَفْسِي وأسْلَـمْتُ مَعَ سُلَـيْـمانِ لله رَبّ العالَـمِينَ وأسلـمت, فحسُن إسلامها.
وقـيـل: إن سلـيـمان إنـما أمر ببناء الصرح علـى ما وصفه الله, لأن الـجنّ خافت من سلـيـمان أن يتزوّجها, فأرادوا أن يزهدوه فـيها, فقالوا: إن رجلها رجل حمار, وإن أمها كانت من الـجنّ, فأراد سلـيـمان أن يعلـم حقـيقة ما أخبرته الـجنّ من ذلك. ذكر من قال ذلك:
20570ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن أبـي معشر, عن مـحمد بن كعب القرظيّ, قال: قالت الـجنّ لسلـيـمان تزهّدهِ فـي بِلقـيس: إن رجلها رجل حمار, وإن أمها كانت من الـجنّ فأمر سلـيـمان بـالصرح, فعُمل, فسجن فـيه دواب البحر: الـحِيتان, والضفـادع فلـما بصرت بـالصرح قالت: ما وجد ابن داود عذابـا يقتلنـي به إلا الغرق فَحَسِبَتْهُ لُـجّةً وكَشَفَتْ عَنْ ساقَـيْها قال: فإذا (هي) أحسن الناس ساقا وقدما. قال: فضنّ سلـيـمان بساقها عن الـموسى, قال: فـاتّـخذت النّورة بذلك السبب.
وجائز عندي أن يكون سلـيـمان أمر بـاتـخاذ الصرح للأمرين الذي قاله وهب, والذي قاله مـحمد بن كعب القرضيّ, لـيختبر عقلها, وينظر إلـى ساقها وقدمها, لـيعرف صحة ما قـيـل له فـيها.
وكان مـجاهد يقول فـيـما ذكر عنه فـي معنى الصرح ما:
20571ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: الصرْحَ قال: بركة من ماء ضرب علـيها سلـيـمان قوارير ألبسها. قال: وكانت بلقـيس هلبـاء شعراء, قدمها كحافر الـحمار, وكانت أمها جنـية.
20572ـ حدثنـي أحمد بن الولـيد الرملـي, قال: حدثنا هشام بن عمار, قال: حدثنا الولـيد بن مسلـم, عن سعيد بن بشير, عن قَتادة, عن النضر بن أنس, عن بشير بن نهيك, عن أبـي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كانَ أحَدُ أبَوَيْ صَاحِبَةِ سَبإٍ جِنّبّـا».
قال: ثنا صفوان بن صالـح, قال: ثنـي الولـيد, عن سعيد بن بشير, عن قَتادة, عن بشير بن نهيك, عن أبـي هريرة, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم, ولـم يذكر النضر بن أنس.
وقوله: فَلَـما رأتْهُ حَسِبَتْهُ لُـجةً يقول: فلـما رأت الـمرأة الصرح حسبته لبـياضه واضطراب دواب الـماء تـحته لـجة بحر كشفت عن ساقـيها لتـخوضه إلـى سلـيـمان. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
20573ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو سفـيان, عن معمر, عن قَتادة قِـيـل لَهَا ادْخُـلِـي الصرْحَ فَلَـمّا رأتْهُ حَسِبَتْهُ لُـجّةً قال: وكان من قوارير, وكان الـماء من خـلفه فحسبته لـجة.
20574ـ قال: ثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, قوله حَسِبَتْهُ لُـجّةً قال: بحرا.
20575ـ حدثنا عمرو بن علـيّ, قال: حدثنا ابن سوار, قال: حدثنا روح بن القاسم, عن عطاء بن السائب, عن مـجاهد, فـي قوله: وكَشَفَتْ عَنْ ساقَـيْها فإذا هما شعراوان, فقال: ألا شيء يذهب هذا؟ قالوا: الـموسى, قال: لا, الـموسى له أثر, فأمر بـالنّورة فصنعت.
20576ـ حدثنـي أبو السائب, قال: حدثنا حفص, عن عمران بن سلـيـمان, عن عكرمة وأبـي صالـح قالا: لـما تزوّج سلـيـمان بلقـيس قالت له: لـم تـمسنـي حديدة قطّ قال سلـيـمان للشياطين: انظروا ما يُذهب الشعر؟ قالوا: النّورة, فكان أوّل من صنع النورة.
وقوله: إنّهُ صَرْحٌ مُـمَرّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ يقول جلّ ثناؤه: قال سلـيـمان لها: إن هذا لـيس ببحر, إنه صرح مـمّرد من قوارير, يقول: إنـما هو بناء مبنـيّ مشيد من قوارير. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
20577ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, مُـمَرّدً قال: مشيد.
وقوله: قالَتْ رَبّ إنّـي ظَلَـمْتُ نَفْسِي وأسْلَـمْتُ مَعَ سُلَـيْـمانَ... الاَية, يقول تعالـى ذكره: قالت الـمرأة صاحبة سبأ: ربّ إنـي ظلـمت نفسي فـي عبـادتـي الشمس, وسجودي لـما دونك وأسْلَـمْتُ مَعَ سُلَـيْـمانَ لِلّهِ تقول: وانقدت مع سلـيـمان مذعنة الله بـالتوحيد, مفردة له بـالألوهة والربوبـية دون كلّ من سواه. وكان ابن زيد يقول فـي ذلك ما:
20578ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي حَسِبَتْهُ لُـجّةً قال: إنّهُ صَرْحٌ مُـمَرّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ فعرفت أنها قد غلبت قالَتْ رَبّ إنـي ظَلَـمْتُ نَفْسِي, وأسْلَـمْتُ مَعَ سُلَـيْـمانَ لِلّهِ رَبّ العالَـمِينَ